إسلام ويب

أهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا نفي ولا تأويل، ومن ذلك إثباتهم لصفة الأصابع والأنامل، فقد ثبت ذلك في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي ذكر فيها أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا.

الأدلة على إثبات صفة الأصابع لله تعالى

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد:

فلا زلنا نتكلم عن صفات الباري تبارك وتعالى، واليوم بمشيئة الله عز وجل نتكلم عن صفة الأصابع لله تبارك وتعالى، بعد أن تكلمنا أنه ذو يدين سبحانه وتعالى، وكلتا يديه يمين لا شمال فيهما، وأما الأحاديث التي وردت تثبت أن لله يميناً وأن له شمالاً فأحاديث شاذة ضعيفة خالفت كتاب الله عز وجل، وخالفت ما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن كلتا يديه سبحانه يمين، ورددنا كل تأويل صرف لفظ اليد لله عز وجل عن ظاهرها وعن حقيقتها، والذي قلناه في صفات اليد لابد وأننا سنقوله في كل صفة ولذلك فإننا لا نعيد الكلام اعتماداً على فهمه في المرة الأولى أو الثانية.

واليوم نتكلم عن صفة الأصابع فنقول: لله عز وجل أصابع، وإذا كنا لا نعلم كيفية اليد، فإننا كذلك لا نعلم كيفية الأصابع لله عز وجل، ولكننا نثبتها له سبحانه وتعالى بلا كيف ولا حد، فلا نستطيع أن نكيف صفات المولى تبارك وتعالى، سواء كانت صفاته الفعلية، أو الخبرية الذاتية، ومعنى أنها صفة ذاتية. أي: أنها لازمة لذاته تبارك وتعالى لا تنفك عنه، أولية بأوليته دون ابتداء، وآخرية بآخريته بلا انتهاء، بخلاف -مثلاً- صفة الكلام لله عز وجل وصفة النزول، وصفة المجيء وغيرها من الصفات، فإن الله تبارك وتعالى أعلمنا أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فلا يجوز لأحد أن يقول: إنه ينزل في الثلث الأول، أو ينزل في النهار، أو ينزل في بعض الليل دون بعضه، إلا ما حدده الله تعالى ورسوله، فإذا كان الخبر يثبت أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فيمنع أن يقول أحد: أنه ينزل في منتصف الليل، أو في أول الليل أو في بعض أجزاء النهار؛ لأنه ينزل حيث أخبر، وبالطريقة التي تليق به تبارك وتعالى.

إذاً: الله تبارك وتعالى ينزل في وقت ولا ينزل في وقت آخر، ولا ينزل في بقية الليل وكذلك النهار، وإنما ينزل في الثلث الأخير من الليل، والله تبارك وتعالى يتكلم بأي كلام متى شاء، وله أن يتكلم في وقت دون وقت، لكننا لا نقول: إن لله تبارك وتعالى يد بالليل، وليست له يد بالنهار، لأنها صفة ذاتية، ومعنى ذاتية أنها ملازمة لذاته لا تنفك عنه، فيمتنع أن نقول في هذه الصفات: إنها ثابتة لله عز وجل في وقت دون وقت، وإنما هي ثابتة له في كل وقت وحين، فإن الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه يده، كما أنه لا تنفك عنه أصابعه. يعني: لا يوصف في وقت أنه ذو أصابع، ثم ننفي عنه في وقت أنه ذو أصابع، لأنها لازمة له على الدوام من الأزل وإلى الأزل، دون بداية ولا نهاية.

ذكر غير واحد من العلماء في كتبهم أن صفة الأصابع لله عز وجل ثابتة لله عز وجل، وتلقاها بالقبول أهل السنة والجماعة، ومما يؤيد ذلك: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -أي: البخاري ومسلم- وكذلك ذكره ابن عبد البر في كتابه العظيم: (التمهيد)، وقد جمع أكثر طرقه الإمام الدارقطني في رسالة صغيرة لطيفية جداً سماها: (صفات الباري تبارك وتعالى)، هذه الرسالة ليس فيها حديث إلا له تعلق بصفات الله عز وجل، والإمام الدارقطني كان على رأس طبقته ممن يدعو إلى السنة على منهج النبوة، فقد كان إماماً عظيماً جبلاً من جبال السنة والداعين إليها، الآمرين فيها بالمعروف، والناهين فيها عن المنكر، جمع في هذه الرسالة عدة أحاديث تثبت صفات المولى تبارك وتعالى.

حديث: (إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)

من هذه الأحاديث التي رواها الدارقطني في هذه الرسالة: ما أخرجه ابتداءً الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عز وجل عنه قال: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى حبر: عالم من علماء اليهود، (فقال: يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى -الذي هو التراب- على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر وتصديقاً له). وعبد الله بن مسعود راوي الحديث فهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ضحك تعجباً وتصديقاً ولا غرو في ذلك؛ لأنه حق أتى من قبل اليهودي فقبلناه، لا لأن القائل به يهودي، ولذلك لم يرده النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له لا هذا الخبر يرد؛ لأنك يهودي لا يقبل منك هذا الخبر، وإنما ضحك تعجباً وتصديقاً لمن أخبر بذلك الخبر، (ثم قرأ قول الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]). وقد روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة، فلم ينفرد به ابن مسعود، بل رواه عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس وغيرهما.

وقريب منه: حديث أبي هريرة عند مسلم والحديث متفق عليه -أخرجه الشيخان- رواه البخاري في كتاب التوحيد في صحيحه.

حديث: (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)

أيضاً: وفي معنى هذه الأحاديث المشار إليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

عند مسلم ولفظه: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال -أي النبي عليه الصلاة والسلام-: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك). والشاهد: إن قلوب العباد كقلب واحد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وهذا الحديث كذلك هو الحديث الثاني في إثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع.

حديث: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)

كذلك في معناه الحديث الثالث: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند مسلم ونصه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الميزان بيد الرحمن إن شاء يرفع أقواماً ويضع آخرين، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه). (إن شاء أقامه): أي هداه. (وإن شاء أزاغه): أي أضله.

فهذه أحاديث ثلاثة تثبت الأصابع لله تبارك وتعالى، فصفة الأصابع لم تثبت بالكتاب العزيز، ولا يلزم في إثبات صفة من الصفات أن يكون لها ذكر في القرآن الكريم، وإنما مصدر التشريع والاعتقاد كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما نعتمد على السنة وحدها إذا لم يكن هناك خبر في القرآن الكريم، وقد نطقت السنة فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وكذلك رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان وما اتفق عليه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

هذه الثلاثة الأحاديث أثبتت أن لله تبارك وتعالى أصابع، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). وبهذه الأحاديث الصحاح يثبت علماء الحديث وأهل السنة لله تعالى الأصابع، بثبوتها صفة لله تعالى خبرية؛ لأن الخبر قد ورد بها.

منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات

من القواعد المسلم بها عند أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات المولى تبارك وتعالى وأسمائه: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله، وينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.

فلابد وأن نثبت الأصابع لله عز وجل، لأنه قد ورد في السنة إثباتها. أي: نطقت السنة بإثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع، وأحاديث صفة الأصابع لله عز وجل لم تسلم من تحريف المحرفين كأي صفة من الصفات، بل تعرضوا لها مرة بالتأويل، ومرة بالتحريف، بل منهم من تعرض لها بالتعطيل، ومنهم من تعرض لها بالتمثيل. قالوا: إذا كنا نثبت لله تبارك وتعالى أصابع، فلابد وأنها تكون كأصابعنا، ولا شك أن هذا غلو شديد، وانحراف عن منهج النبوة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل؛ لأن المنهج الحق هو منهج أهل السنة وهم وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، فلا ينفون الصفة وقد أثبتها الله تعالى ورسوله، كما أنهم لا يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوقين، فلا يمثلون صفات الباري عز وجل بصفات المخلوق الجارحة، فإننا نثبت أن لله تبارك وتعالى أصابع ليست جارحة، فلا تشبه أصابعنا، إنما هي أصابع تليق بالمولى عز وجل، ونسكت على ذلك، ونؤمن به إيماناً جازماً، فأحاديث الصفات نالها ما نال غيرها من نصوص الصفات الأخرى.

وزعم بعضهم: أن صفة الأصابع تخليط من اليهود، فقالوا: نحن لا نثبت صفة الأصابع، لأنها إنما أتت من طريق اليهود، وهذا الكلام مردود عليهم، فإن الحجة ليست بقول اليهودي وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، لأن خبر بني إسرائيل إن وافق ما عندنا فلا بأس وإن خالف رددناه، وإن لم يخالف ولم يوافق فإننا لا نؤمن به ولا نكذبه. أي: لا نصدقه ولا نكذبه، فلا عبرة به عندنا، وإن قال به حبر من أحبار اليهود، والنبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً لما قال، وتصديقاً له، فإنما نأخذ الحجة من تصديق النبي عليه الصلاة والسلام لذلك الحبر.

وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) ليس فيه واحد من اليهود أو النصارى بل هو خبر مسلم قح من أوله إلى آخره، وكذلك حديث النواس بن سمعان ، وكلاهما يثبتان أن لله تبارك وتعالى أصابع، فلماذا نرد هذه الأخبار؟

ومعلوم أن اليهود مجسمة فما من بدعة وقعت في الإسلام إلا ولابد أن صاحبها إما يهودي أو نصراني أو مجوسي أو صاحب هوى وبدعة، فكل الانحرافات والبدع الخاصة بالعقيدة مصدرها اليهود والنصارى والمجوس، ثم أصحاب الأهواء الذين يميلون بأهوائهم إلى الابتداع لا إلى الاتباع.

وقالوا: أن ضحك النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الحبر ليس دليلاً على تصديقه لليهودي، بل هو دليل الكراهة والغضب والاستنكار، وهذا كلام بعيد جداً.

ومتى علم أحد من المسلمين أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أنكر أمراً ضحك له؟ وهل وجدتم دليلاً في السنة من أولها إلى آخرها أو سمع أحدكم أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سمع شيئاً يكرهه وينكره فإنه كان يضحك؟ إنما كان يغضب غضباً شديداً حتى يرى ذلك في وجهه، وإذا كان ذلك في عموم الأشياء فإنه من باب أولى في أحاديث الصفات لله عز وجل، فلابد أن يكون شديد الغضب، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت على باطل، وضحكه لا يدل على استنكاره، وإنما يدل على تعجبه وتصديقه.

هب أن المسألة مسألة عقول وأفهام، فأيهما أحسن عقلاً وأشد فهماً عبد الله بن مسعود الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، أم هؤلاء الذين صرفوا الضحك إلى الاستنكار ورد خبر ذلك الحبر؟

إن الواحد إذا ضحك ربما يضحك استهزاءً، أو سخرية، أو استنكاراً لما يسمع، أو تعجباً مما يسمع، أو موافقة وقبولاً لما يسمع، لأن التشريع لا يناط به، ولكن الذي يعلم أنني أضحك تعجباً أو استنكاراً هو الذي يراني أضحك، يعلم كيف أضحك، وعلام يدل هذا الضحك، فـعبد الله بن مسعود هو الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، فلو كان يعلم أن هذا الضحك ليس للتعجب ولا للتصديق بل هو للاستنكار ولغرابة الخبر لصرح بذلك ونقله إلينا، بل هو الذي رأى الضحك، ويعلم من حال ضحك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يستنكر ولا يستغرب وإنما قال: (ضحك النبي عليه الصلاة والسلام مما قال الحبر تعجباً وتصديقاً له). وإذا كانت المسألة مسألة فهوم وعقول فعقل عبد الله بن مسعود أرجح، وفهمه أقوى وأشد من فهم هؤلاء الذين حرفوا النص عن ظاهره لينفوا عن الله عز وجل أنه ذو أصابع.

وادعوا كذلك أن ذكر الأصابع لم يرد في القرآن أو في حديث متواتر، والرد عليهم أنه ليس بلازم قط أنها ترد في القرآن الكريم، ودعواهم في ظاهرها حق ولكن أريد بها باطل، ولو وردت لفظة الأصابع في القرآن لأولوها كما أولوا غيرها من الصفات التي وردت في القرآن، كما أولوا صفة اليد مع أنها ثابتة لله في القرآن فأولوها بالنعمة، وبالقدرة. المهم أنها لا تثبت لله عز وجل، وهذه الصفة لما لم يرد لها ذكر في الكتاب، قالوا: هذه الصفة لا نعتبرها ولا نعتد بها لأنها لم ترد في القرآن، ولأنها من حيل اليهود، وأفعال المستشرقين في الأزمنة المتأخرة، والذين تأثر بهم كثير من علماء المسلمين.

ومن الناس من كان مستشرقاً وهو لا يدري ولا يقصد أن يكون مستشرقاً ولا مستغرباً، ومن الناس من يعلم علم اليقين أنه يؤدي رسالة وقد تربى على أيدي اليهود والنصارى في بلادهم، ودفع به بين صفوف الموحدين وفي بلاد المسلمين ليؤدي الرسالة على أكمل وجه؛ لأن اليهود والنصارى قد علموا علماً يقينياً أنهم لا يستطيعون غزو المسلمين في بلادهم بالسلاح ففكروا في غزوهم ثقافياً وفكرياً.

وأنتجوا لنا عدداً كبيراً جداً، وكماً هائلاً من حثالة الناس ممن ينتسب إلى الإسلام كـطه حسين وعلي عبد الرازق ، وأحمد لطفي السيد ، وغيرهم ممن يقولون: أنهم أصحاب التنوير، وأنهم أهل التنوير. نعم هم أهل التنوير لكن على منهج الغرب لا على منهج النبوة، بل هم عند الله عز وجل من أهل الظلمة، قد حولهم الله تبارك وتعالى من الإيمان إلى الكفر أو إلى الزندقة والإلحاد وتحريف الكلم عن مواضعه، ولا تزال البقية تأتي وكل يوم يظهر لنا ملحد وجاحد لكتاب الله تارة ولأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تارة أخرى.

مذهب المعتزلة في الصفات والرد عليهم

ومن هؤلاء المعتزلة من يتفلسف ويقول: إننا لا نحتج في صفات المولى عز وجل إلا بالأحاديث المتواترة.

وهؤلاء معتزلة، بل هم شر من المعتزلة، فمعتزلة هذا الزمان شر من المعتزلة في ذلك الزمان الأول، فإنهم تأولوا هذه الصفات وهم يعتقدون أن هذا دين يتقربون به إلى الله عز وجل، أما هؤلاء الملاحدة الذين تبنوا مذهب الاعتزال في هذا الزمان فإن التسمية الحقيقية لهم أنهم ملاحدة، ولكنهم تستروا بسترا العقل وقالوا: نحن عقلانيون، نحن تابعون للعلم الحديث، نحن معتزلة ولكنهم في الحقيقة لا يجرءون على أن يصرحوا بمكنون صدورهم؛ لأنه يؤدي بهم إلى الكفر الصريح عياذاً بالله تعالى فهنا يقولون: إن هذه الصفة ليست ثابتة في الكتاب ولذلك لا نقول بها إلا إذا وردت بأحاديث متواترة.

والرد عليهم فيما يلي:

الرد الأول: أن غيرها من الصفات ثبتت في الكتاب ولم تقولوا بها؟ وهذا يدل على فساد قلوبكم، وسوء طويتكم.

الرد الثاني: أنه لا يلزم من ثبوت شيء في دين الله عز وجل أن يرد في الكتاب، بل إن الله عز وجل أمرنا أن نتبع محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأن سنته وحي من عند الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن لله أصابع، وقد صح بذلك الخبر فلم لا نقول به؟ ولم لا نعتقده؟ ولم نرد على النبي عليه الصلاة والسلام؟ تصور أنك جالس بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) أتقول له لا هذا الخبر ليس متواتراً؟ أم أين دليلك من الكتاب؟ الجواب: أنك لا يمكن أن تتكلم، ولو تكلمت بهذا الكلام الكفري بين يديه لوجدت من يؤدبك ومن يقطع رقبتك كأمثال عمر وغيره، بل هو اعتراض وتقدم بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام.

الرد الثالث: من الذي فرق في صفات المولى عز وجل بين قبول الخبر إذا جاء متواتراً ورده إذا جاء آحاد؟ من الذي قال بهذا؟ أهو النبي عليه الصلاة والسلام أم الخلفاء الأربعة أم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أم الأئمة المتبوعون إلى قيام القيامة؟ الجواب: لم يقل أحد من هؤلاء برد الخبر إذا كان في الاعتقاد إذا أتى من طريق الآحاد، بل قالوا: إذا صح الخبر فهو مذهبنا، وهو معتقدنا، وبه نقول، فإذا كان هذا الخبر قد ورد في الصحيحين بإثبات هذه الصفة لله عز وجل فلماذا لا نقول بها إذاً؟

ولذلك (أرسل النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وحده إلى اليمن، وقال: إنك تدعو قوماً أهل كتاب -يهود ونصارى- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هذا اعتقاد. وأرسل معاذاً وهو خبر آحاد، وقبله أهل اليمن ولم يردوا معاذاً ويقولوا له: اذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو اذهب إلى أبي القاسم فأخبره أننا لا نقبل هذا الكلام إلا إذا كان متواتراً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام لما استقر عنده أن خبر معاذ كاف وحده في إقامة الحجة على أهل بلد أرسله إليهم يعلمهم الاعتقاد أولاً، فلما لم يكن هذا ولا ذاك، قام أهل اليمن وقبلوا خبر معاذ وأتوا بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام مسلمين، بعضهم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسمع بالسند العالي ما أوحى الله عز وجل به إلى نبيه.

فقولهم: إن هذا الخبر ليس في القرآن مردود. إذاً: ماذا تصنع السنة؟ وما قيمتها حينئذ؟ كما أن خبرهم أو قولهم بأننا لا نقبل في إثبات الصفات إلا الأحاديث المقطوعة ويقصدون بها المتواترة، خبر كذلك أشد رداً مما سبقه.

مذهب الأشاعرة في الصفات والرد عليهم

أيضاً الذين أثبتوا هذه الأحاديث، هم أحسن حالاً ممن سبق، هؤلاء قالوا: سنسلم بأن هذه الأحاديث صحيحه، وأننا سنحتج بها في الاعتقاد، لكنهم ذهبوا مذهباً آخر، واضطربوا اضطراباً شديداً، وتحيروا وتخبطوا، فقالوا: هذه الأخبار صحيحة ولكننا سنؤولها -وهؤلاء الأشاعرة- ونصرفها عن ظاهرها، وعن المراد منها، ومحاولة التأويل بدعوى أن مثل هذه النصوص لا يراد ظاهرها؛ لأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، ومن أصول المبتدعة: تقديم العقل على النقل، لكن من أصول أهل السنة تقديم النقل على العقل، والذي خلق العقل هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، وهذا العقل منه الفاسد ومنه السليم، ونصوص الشرع منها الصحيح ومنها السقيم، فالصحيح كتاب الله عز وجل وما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، والسقيم منها: الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإذا كان الخلاف وقع بين أهل العلم فيما يتعلق بالاحتجاج بالضعيف في فضائل الأعمال، فمن باب أولى وأحرى إذا كان هذا الخبر الضعيف يثبت صفة لله عز وجل فلا نثبتها، لأنهم يشترطون في ذلك يأتي الخبر من طريق صحيح، ومن طريق الثقات.

فقولهم إنما نؤول الأصابع لأنها لا تتفق مع العقل؛ ولأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، لأنهم تصوروا أن أصابع الخالق كأصابع المخلوقين، فأرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى برفض الأدلة، وإما أن ينزهوه بتأويل الأدلة، فلما ثبتت الأدلة ثبوتاً يقينياً قالوا: إن هذه الأدلة ظاهرها غير مراد. يعني الكلام هذا على سبيل المجاز. أي: أن الكلام هذا لا يقصد به حقيقة الأصابع، فيصرفون النص عن ظاهره ويقولون بالمعنى المترتب عليه، وهو القبض وهو لا يتم إلا بالأصابع، والبسط لا يكون إلا بالأصابع وغير ذلك، والحثيات كذلك لا تكون إلا بالأصابع، أي براحة اليد وبالأصابع، فلما ثبت هذا كله لله عز وجل أردوا أن يقولوا: إن هذه الأصابع إنما هي فرع وتصور عن اليد التي هي أصلاً عندهم القوة، فالأصابع لا يراد منها الظاهر بل هي مجاز لله عز وجل، والمجاز فيما يتعلق بأمور الغيب -خاصة فيما يتعلق بالباري تبارك وتعالى- لا يجوز قط، وليس هو منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على الوجه اللائق به حقيقة لا مجازاً، فإن لله يد حقيقة، لكن لا يعلم كيفية هذه اليد إلا الله عز وجل.

أما المبتدعة قالوا: لابد من التأويل إلى ما يليق ويقبله العقل، فنقول: هذا غيب لا دخل للعقل فيه، والغيب ابتلاء من الله عز وجل، فالجنة والنار والحور العين لا نقول فيها أنها مجاز، وإلا للزم من ذلك القول بأن الله عز وجل مجاز؛ لأنه ليس ذاتاً حقيقية -حسب زعمكم- لأنكم أنكرتم الصفات اللازمة للذات، فإذا كنتم تنكرون هذه الصفات وتؤولونها بأنها مجاز لابد وأنكم تقولون في النهاية بأن الذات العلية كذلك مجاز. إذاً: في النهاية لا يوجد إله. ويصح هنا ما قاله ابن تيمية: إن المعطل يعبد عدماً، وإن الممثل يعبد صنماً. فـابن تيمية لم يقل هذا الكلام من فراغ بل هو خبر قلوب القوم لا أقوال ألسنتهم، فعلم بنور من الله عز وجل أن المعطلة الذين يعطلون الصفات ويلزم بذلك أن يعطلوا الذات يعبدون عدماً؛ لأنهم في النهاية لا يكون لهم إله؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كانوا نفوا الصفات فلابد وأن ينفوا في النهاية الذات.

والممثلة على النقيض من ذلك، فهم يثبتون أن لله تعالى يداً كأيدينا وعيناً كأعيننا، وساقاً كساقنا، وأصابع كأصابعنا، وينزل كنزولنا، ويجيء كمجيئنا، فيصورونه في النهاية شخصاً، فهم يعبدون صنماً؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

وقال آخرون: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع خلقاً يخلقهم الله عز وجل ليحملوا ما تحمله الأصابع. وهذا تأويل ساذج إذ جعلوها شيئاً حادثاً منفصلاً عن الذات، وصفات الله تبارك وتعالى ليست حادثة، لأنك لو قلت بحدوثها فيلزمك أن تقول: إن الله كان متصفاً بالنقص فكمل نفسه. وهذا كفر والعياذ بالله.

وقال آخرون: لعل المراد بالأصابع نعمة النفع والدفع، أو أثر الفضل والعدل.. إلى آخر تلك التكلفات التي نحن في غنى عن سردها؛ لأن حسن اعتقادنا في الله عز وجل أن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك فإن منهج أهل السنة في غاية الراحة والطمأنينة، ولذلك إذا أتاك أي خبر لابد وأن تسأل: من القائل به؟

بيان أنه لا تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح

ناقشني رجل فقال: يرحم الله فلاناً فإنه كان يشن الغارة على السلفيين، وهو خبر القوم، وعلم فساداً من هديهم وفساد قلوبهم. قلت: أما يرحمه الله فإنا نسأل الله أن يرحمه، وأما أنه خبر القوم، فوالله ما خبرهم ولو خبرهم لتبعهم، بل منعه كبره أن يقبل الحق وأن يتبع شباباً صغاراً في سن أولاده وهو عالم كبير في الأزهر، وكان يغتاظ أشد الغيظ إذا سمع كلمة سلفي أو كلمة سنة. قلت: أليس هو الذي رد حديث الذبابة وهو في الصحيح؟ قال: نعم. ثم قلت: أليس هو الذي رد حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم. هذا لا يليق بجناب النبوة.

قلت: النبي أعلم بجناب النبوة منك، فهو الذي أخبر أنه سحر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الطبيب الأول الذي أخبرنا أن الذبابة إذا وقعت في شراب أحدنا فليغمسها في هذا الشراب فإن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، وأنت لا تدري بأي الجناحين سقطت هذه الذبابة، فمن باب الاطمئنان ودفع الوسواس أن تغمسها، فإذا كان جناحها الذي يحمل الداء هو الذي سقط عالجه الجناح الآخر؛ لأن فيه الدواء، وإن كان الذي سقط فيه هذا الشراب هو الجناح الذي فيه الدواء فإن غمس الجناح الذي فيه الداء لا يضره، ثم إني قلت له في نهاية المناقشة: من الذي أبلغك أن أبا بكر رد هذا الكلام؟ قال: لا أحد. قلت: وعمر ؟ قال: لا. وعثمان؟ قال: لا. والشافعي ؟ قال: لا. وأبا حنيفة ؟ قال: لا، قلت: ما تقول في هؤلاء، أليس هم علماء الأمة؟ ومن الذي يقول بما تقوله الآن؟ قال: المعتزلة.

فقلت: رضيت لنفسك ولدينك أن تكون متبعاً لمنهج المعتزلة وهم الخلف. قال: لأن هذا الكلام غير معقول. قلت: العقل ليس مصدراً للتشريع، بل الكتاب والسنة حاكمان على العقل، هاديان له، مرشدان له إلى طريق الحق والخير، فأنت جعلت عقلك حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يعقل. ثم قلت: أتظن أنك العاقل الوحيد؟ قال: لا وأنت أيضاً يا شيخ عاقل؟ قلت: إذا كانت المسألة مسألة عقول فإن عقلي يقبل كل خبر جاء في كتاب الله أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام سواء علمت معناه أم لم أعلمه، علمت حقيقته أم لم أعلمها، فإن عقلي يأمرني بذلك، وأنت عقلك يرد هذا، فهل يتصور أن يكون الله عز وجل جعل العقل حاكماً على الكتاب والسنة؟ أنت اليوم عاقل وغداً لست عاقلاً، فأنت اليوم تقبل خبراً وغداً ترده، والخبر الذي تقبله بعقلك أنا أرده بعقلي والعكس بالعكس، فلا يصح أن يكون العقل المتغير الموصوف بالعجز والنقص والضعف حاكماً على الكتاب والسنة.

نعم. الله تبارك وتعالى خاطب العقل وكلفه بأعظم تكليف أن يؤمن بهذا الكتاب، وأن يتدبر في آيات الله عز وجل؛ لأن العقل المخاطب هو العقل السليم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ). لأن هؤلاء الثلاثة لا عقول لهم، ولذلك لا يقعون في دائرة التكليف، والشرع لم يكلف هذه العقول أن تمعن النظر؛ لأنها لا نظر لها، فكيف تجعل من عقلك حكماً على الكتاب والسنة؟!

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل: لا يوجد أبداً تعارض بين النقل والعقل، وإن كنا أحياناً نشعر بوجود تعارض، فالنقل الصريح في الكتاب والسنة يتفق مع العقل الصحيح السليم من كل آفة وهوى وابتداع وزيغ وانحراف عن الحق.

وإذا لم يوافق العقل الشرع فلابد أن تكون هناك علة، هذه العلة ليست في دين الله عز وجل، وإنما هذه العلة إما أن تكون بفساد العقل، وإما أن تكون في ضعف النقل كأن يكون الحديث ضعيفاً، ثم ذكر مثالاً على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: وما اكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة). وحديث آخر من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر). وهذا الحديث يحتج به الصوفية، فيقال: إن التعارض واقع بين هذين الخبرين، فإما أن يكون الجمع بينهما ممكن، وعقلي هو الذي قصر لفساد فيه وجهل فيه عن الجمع بين الدليلين، وإما أن يكون العيب في عدم ثبوت واحد منهما، فلما فتشنا علمنا أن حديث القلم هو الصحيح، وأن حديث: (نور نبيك يا جابر) حديث موضوع، فلما علمنا بوضعه استبعدناه فلم يبق لنا إلا خبر واحد: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) فليس عندي في هذه المسألة إلا خبر واحد، فلابد أنه سيتفق مع عقلي تمام الاتفاق، لأن النقل صريح، والعقل صحيح، ففي هذه الحالة ليس هناك تعارض أبداً.

ولذلك فإن ابن خزيمة إمام الأئمة رحمه الله تعالى، صاحب كتاب التوحيد وهو كتاب عظيم جداً، قال: ما من دليلين ترون أن بينهما تعارضاً فتأتوني بهما إلا جمعت لكم بينهما. لأنه يوقن أنه لا تعارض بين العقل والنقل؛ لأن المشكاة واحدة قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فلما كان كله من عند الله فلابد وأنه لا يكون فيه أي نوع من أنواع الاختلاف، فالسنة وحي، والقرآن وحي، وكله من عند الله عز وجل، والمشكاة التي نطقت به واحدة فكيف يتصور فيه تعارض وتضاد؟ هذا يستحيل ولا يجوز على الله عز وجل.

مذهب الحافظ ابن حجر في الصفات

ممن أنكر الإثبات وتكلف في معنى حديث الأصابع: الحافظ ابن حجر إمام أئمة السنة، فقد زلت قدمه في بعض الصفات فوافق فيها الأشعرية، ولا يعني ذلك أنه في موافقته للأشاعرة في بعض الصفات أنه أشعري، بدليل أنه حمل حملة شعواء في شرحه للصحيح في المجلد الثاني عشر على مذهب الأشاعرة، وأثبت أنهم من أهل القبلة لا من أهل السنة.

فأهل العلم يفرقون بين المصطلحين: أهل القبلة، وأهل السنة، فأهل القبلة: يثبت لهم الإسلام فقط وعندهم انحراف وبدع. وأما أهل السنة: فإن الاتباع والاقتداء ثابت لهم، ولذلك سموا أهل السنة والجماعة، لأنهم استنوا بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وهم الجماعة الذين اجتمعوا على الاقتداء والاتباع بالنبي عليه الصلاة والسلام.

أما الأشاعرة فإنهم فرقة من الفرق، وكذلك المعتزلة فرقة، والخوارج فرقة، والقدرية فرقة، والإباضية فرقة، والشيعة فرقة، والصوفية فرقة، وكلهم ضالون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قضى وحكم بذلك، فإننا نقضي ونحكم بما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فحكم بأنهم للنار لأجل انحرافهم وضلالهم حين ابتعدوا عن منهج السنة.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: حيث أوضح أن في تصرف هؤلاء المتأولة الطعن في ثقات الرواة، وصرفهم هذه النصوص عن ظاهرها فيه طعن للرواة الذين رووا هذا الخبر ورد الأخبار الثابتة.. إلى أن قال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي للزم فيه تقرير النبي عليه الصلاة والسلام على الباطل، وسكوته عن الإنكار وحاشاه من ذلك. يعني: إذا كان كلامهم صحيحاً فإن النبي عليه السلام أقر عبد الله بن مسعود على فهمه الباطل، ولما كان ذلك محال في حق النبي عليه الصلاة والسلام أن يسكت على باطل لابد وأننا نقول: بأن ابن مسعود فهم فهماً صحيحاً سليماً أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً وتصديقاً وليس استنكاراً كما قالت المتأولة.

ثم قال: وممن أنكر بل تشدد في الإنكار على من ادعى أن الضحك في الحديث كان على سبيل الإنكار هو ابن خزيمة ، فإنه بعد أن أورد هذا الحديث في كتابه التوحيد، قال: يا له من موقف غريب؟ هل هؤلاء يدعون أنهم أعلم بالله وما يليق به من رسول الله أو من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو من التابعين لهم بإحسان؟ فمثل هذا يحتار فيه المرء ولا يدري كيف يفسره. وعلى كل حال فهذه مواقف ثلاثة تمخضت من دراسة أحاديث الأصابع ومواقف الناس منها، وهي:

الأول: إثبات صفة الأصابع كما جاءت بها السنة، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة.

الثاني: تأويل الأحاديث الواردة والخروج بها عن ظاهرها، وهذا مذهب الأشاعرة.

الثالث: إنكار الأحاديث وردها بدعوى أنها مخالفة للأدلة العقلية القطعية في زعمهم، وهذا منهج المعتزلة والجهمية، والحق أبلج والباطل لجلج.

إثبات صفة الأنامل لله تعالى

هناك صفة أخرى لله عز وجل أحب أن أذكرها؛ لأنها تابعة لصفة الأصابع، وهي صفة (الأنامل) وإثباتها لله عز وجل، فقد ثبت فيما رواه أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه عز وجل فيما يرى النائم. وأنتم تعلمون أن الخلاف قائم في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن هذا له درس مخصوص، سيأتي بإذن الله.

أما الذي لا خلاف فيه بين الأمة أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه في المنام بدليل حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً. قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي) وهذا فيه إثبات لصفة الكف لله عز وجل. قال: (حتى وجدت برد أنامله في صدري): يعني المولى تبارك وتعالى وضع كفه التي تليق به سبحانه وتعالى بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام، ولو فسرنا الكف بالنعمة فهل يتصور أن يكون المعنى: إن الله وضع نعمته بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا بد وأن نقول: بأنها كف حقيقة على المعنى اللائق بالمولى عز وجل. قال: (حتى شعرت ببرد أنامله في صدري). فهذا الحديث يثبت لله تعالى صفتين صفة الكف وصفة الأنامل، وهو حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن أبي عاصم.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رد على الإمام الرازي صاحب التفسير لما أول قوله: (وجدت برد أنامله) بالعناية، وأنه وجد أثر تلك العناية يفسر بأن الله تعالى وضع كفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتنى به أعظم عناية، فشعر النبي عليه الصلاة والسلام بهذه العناية في صدره، فرد عليه ابن تيمية فقال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز. يعني: إذا كان الأمر كما قال الرازي فلن يكون هناك معنى جديد من أنه شعر ببرد أنامله على صدره، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب، فهل يقول كلاماً ليس له معنى، أم كلامه كله له معنى؟ فكلامه صدر عن حكمة، وعن وحي، وتشريع، فلا يتصور أبداً تخصيص أنه شعر بذلك في صدره، فلماذا ما شعر في جميع بدنه؟ إذا كانت رجلك تؤلمك فإنك تستشعر بأن الله تعالى سحب منها نعمة القوة والدفع والنزع، أما إذا كانت لا تؤلمك فإنك تستشعر بأن نعم الله تبارك وتعالى وعناية الله تبارك وتعالى تحيط بك حسياً ومعنوياً فلماذا خصص النبي عليه الصلاة والسلام أنه شعر ببرد أنامل المولى عز وجل على صدره؟ ولماذا لم يقل: في بطنه، أو في ظهره، أو قدمه، أو في عقله أو غير ذلك؟ فكونه خص الصدر لابد أن يكون ذلك لفائدة.

قال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز إذا لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه، فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نقل بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس، وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي. هذا نص من النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز صرفه، ولا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ يعني: لا يتصور أن يكون هذا البرد الذي قال به النبي صلى الله عليه وسلم هو مجرد العناية؛ لأن العناية ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الرؤيا، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسفسطائية.

ثم قال ابن تيمية الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال: (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها). وفي رواية: (برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب). يعني هذه الرؤيا كان فيها العلم، وقوله: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب). يعني علمت فيم يختصم الملأ الأعلى. لأن السؤال الأول: (أتدري فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: لا يا رب). وهذه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله عز وجل على علم ما بين السماء والأرض إلى قيام الساعة. قال: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب) فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين كتفيه وهذا معنى ثان، ويجوز هذا أيضاً عن شيء مخصوص في محل مخصوص، وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر، والشاهد من هذا الكلام كله: أن صفة الكف ثابتة لله عز وجل، وصفة الأنامل ثابتة لله عز وجل، وصفة الأصابع ثابتة لله عز وجل.

مذهب الإمام النووي في الصفات

الإمام النووي تارة يذهب مذهب الخلف في التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، وتارة يذهب مذهب السلف وينافح ويدافع عنه، وتارة ينقل مذهب السلف والخلف ولا يرجح ويسكت، وهذا بلا شك تردد عظيم جداً ينم عن أن الإمام النووي لم يتمرس في هذا المسائل تمرس أهل السنة والجماعة، ولم يكن على علم وإحاطة بمذهب السلف فيما يتعلق بصفات الباري تبارك وتعالى، كما كان الأمر عند أحمد ، وعند ابن خزيمة ، وعند ابن راهويه ، وعند يحيى بن معين ، وعند الشافعي وغيرهم من أهل العلم، ولم يكن قد بلغ في الاعتقاد هذا المبلغ، وإذا كان أحياناً يتحير ويتردد، وأحياناً يقطع بالحق، وأحياناً يميل إلى الباطل، ليس اعتقاداً أنه باطل، ولكنه تصور هذا بعقله، ووقع فيما يريد أن يفر منه.

لذلك لا نقول: إنه خلفي وإنما هو سلفي وافق المبتدعة في بعض أقوالهم، وهذه الموافقة إنما نتجت عن عدم تمكنه في دراسة الاعتقاد، بل تبعيته في الأخذ والتلقي عن الإمام المازري وعن القاضي عياض ، وهما أشعريان، خلفيان، متأولان، وهما اللذان أورداه هذه الموارد، وأخرجاه إلى حد الابتداع فيما يتعلق بالصفات، ولذلك قال النووي معلقاً على قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع)، هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيه المذهبان: مذهب الخلف، ومذهب السلف، والتأويل مذهب الخلف، والإثبات مع الإيمان به مذهب السلف. يقول: أنني قدمت أو شرحت هذا الأمر مراراً وتكراراً أن أحاديث الصفات فيها المذهبين مذهب الخلف ومذهب السلف مع التصديق الجازم على ما جاءت به دون خوض أو تأويل أو تحريف.

قال: مع اعتقادي أن الظاهر منها غير مراد، وهذا القول لا ينسب إلى أهل السنة.

نحن نقول: الظاهر منها مراد لله عز وجل على ما يليق به، فنؤمن بصفة اليد مع اعتقادنا أن الظاهر منها مراد لله حقيقة لكن على الوجه اللائق به تبارك وتعالى.

قال: (فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصبع هنا على الاقتدار). أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة في الاقتدار، فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً. أي: لا كلفة علي في قتله. وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته.

قال: (وهذا غير ممتنع). يعني جائز، وممكن، أي: هذا الكلام وجيه لا يرد، ولذلك ينبغي بل يجب على طلاب العلم أن يتفحصوا وأن يتحروا كل لفظ يقرءونه في كتب السلف أو في كتب غيرهم وإن كان فيها شر مستطير فاحذر من القراءة فيها ابتداء، وكتب السلف ممكن يقع فيها الخبط والخلط، والإمام النووي على العين والرأس، يا ليت واحد في هذا الزمن مثل النووي أو حتى نصف النووي ، وقد تعلمنا من النووي وغيره أن من خالف الكتاب والسنة فكلامه يرد على قائله، ومن وافقهما أخذ من قائله حتى وإن كان يهودياً أو نصرانياً، لحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها).

قال النووي: وقيل: يحتمل أن المعنى بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة، فمرة وافق أهل السنة، ومرة يخالف ونحن نقول: إن اليد الجارحة مستحيلة على الله عز وجل، فلو أثبت لله يداً مثل يدي الجارحة فأنا قد شبهت الخالق بالمخلوق، وهذا حرام لا يجوز ولا ينبغي، فقالوا: إن إثبات اليد لله عز وجل مجازي، والمقصود باليد: القدرة والغلبة والقوة، وإلا لترتب على ذلك أن يد المولى عز وجل مثل يد المخلوق.

ومذهب أهل السنة وسط بين الاثنين، فأثبت هذه الصفة لله على حقيقتها وعلى المراد منها ظاهراً لله عز وجل على الوجه اللائق، ولذلك فإن مذهب أهل السنة مريح جداً، فهو عبارة عن كلمات يسيرات تعتقدها، وتتعبد مولاك بها، وليس فيها تلف، وعقيدة الأنبياء والمرسلون فيما يتعلق بالإيمان لا تتغير عن بعضهم البعض.

موقف أهل السنة والجماعة من التفويض

قال النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات، وفيها القولان السابقان، والإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى. وهذا الكلام غلط، ومردود عليه؛ لأن المعنى معلوم لدى السلف.

إن أهل السنة يفرقون بين تفويض العلم، وتفويض المعنى، وتفويض الكيف، فتفويض العلم ليس مذهب أهل السنة الجماعة، لأنهم علموا يقيناً أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لأن الخبر ورد بذلك فليس عندي مجال أن أفوض علم الاستواء لله عز وجل، لأن الله عز وجل هو الذي أعلمني وأخبرني في كتابه أنه استوى.

أما تفويض معنى الاستواء لله عز وجل هو أنني لا أعرف أن الله قد أخبرني بالاستواء، ولا أعلم معنى الاستواء، وأفوضه لله عز وجل، وهذا غلط لأن الاستواء معناه: الفوقية والارتفاع والعلو، فلا يفوض العلم والمعنى، وإنما تفوض الكيفية.

وليس من اختصاصي أن أعرف كيفية استواء ربنا على العرش، وهذا من اختصاص ربنا، لأني لم أر الله عز وجل، ومن أجل أن أكيف لك الاستواء لابد أن أراه سبحانه وأنا لم أره، فيقال: فلان استوى على الكرسي بمعنى أنه تربع أو جلس مدلدلاً رجليه، واستوى عليه بمعنى علا وارتفع عليه أو استقر عليه أو استولى عليه، وهذه المعاني كلها في الاستواء لا تليق بالمولى عز وجل، وإلا في النهاية لو أن الاستواء في حق المخلوق مثل حق الخالق سيكون ربنا في النهاية جالس على الكرسي ولابس عمامة تعالى الله عن ذلك. وأصحاب الجمعية الشرعية يقولون عن السلفيين أنهم يريدون أن يجلسوا ربنا على الكرسي ويلبسونه عمامة، وهذا كلام في منتهى الإجرام في حق المولى تبارك وتعالى.

قال: (الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى). لا يا حبيبي نحن نعرف المعنى جيداً معنى أن الله له أصابع نحن نعرف الأصابع؛ لأن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما نعلم، بكلمات نعلم معناها، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما لا يقع له معنى في عقولنا، وإلا فربنا يخاطبنا بالمحال، والمخاطبة بالمحال غير واردة في الشرع وهي مسألة محل خلاف عند الأصوليين، والراجح فيها أن الله لم يخاطب عباده إلا بمعان معلومة لديهم، فمعنى الأصابع معلوم لدينا، لكن أصابع الخالق تليق بالكمال والجلال الثابت لله عز وجل.

قال: (بل نؤمن بأنها حق، وأن ظاهرها غير مراد). أي: أنه يؤمن بأنها حق، وهذا كلام جميل، يؤمن بأن الله تبارك وتعالى له أصابع على الحقيقة، وأن هذا حق وليس باطلاً.

أما قوله: (وأن ظاهرها غير مراد). هنا لابد أن يوقعك في التأويل، وينصرف النص عن ظاهره، بل نقول: إن ظاهر هذه النصوص التي أثبتت لله الأصابع مراد لله عز وجل حقيقة على المعنى اللائق به تبارك وتعالى. ومعنى (غير مراد). أي: غير معلوم لدي، ولذلك لما سئل مالك بن أنس عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: الاستواء معلوم -لأن الله أخبرنا- والكيف مجهول. إذاً: نفوض الكيف، لا العلم والمعنى، فتعمل عملاً لا يليق، بل يجب عليك أن تفوض الكيف، فتقول: لله أصابع. فالعلم قام لدي بأن لله أصابع من أجل خبر ورد ولذلك نحن نسميها صفات خبرية ذاتية؛ لأنها قد وردت في الخبر، وذاتية أي ملازمة لذات الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه، فنقول: إن لله أصابع، وأن هذه النصوص على ظاهرها، والمراد منها معلوم لدينا على الوجه اللائق لله عز وجل، ولا نعلم كيفية أصابع المولى عز وجل.

قال النووي: والثاني: التأويل. وهذا خطأ في الفهم من النووي لمعتقد أهل السنة والجماعة، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد، والتأويل ما كان يليق بالله عز وجل أبداً، ولذلك فإن النووي كان يخلط بين مذهب السلف والخلف كأنه لا يعلم كيف هذا. قال: تؤول بحسب ما يليق بها، فعلى هذا فإن المراد هو المجاز -والسلف لا يقولون بالمجاز في الصفات بل حاربوا من قال بذلك أشد المحاربة- كأن يقول القائل: فلان في قبضتي، وفلان في كفي ولا يراد به أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي. ويقال: فلان بين أصبعي أقلبه كيف شئت. أي أنه قادر على قهره والتصرف به كيف شاء. والكلام هذا يصح في لغة المخلوقين ومع المخلوقين بعضهم البعض، لكن لا يصح مع الله قط؛ لأنه لا يشبه المخلوقين لا في وحدانيته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والقدرة من أفعاله تبارك وتعالى، والتصرف من أفعاله تبارك وتعالى، فقدرة الخلق ليست كقدرة الخالق ولو أجمع الخلق أجمعون على قدرتهم وجعلوها في رجل واحد.

قال: فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده. يعني: جعل الأصابع عبارة عن التصرف؛ لأنه قاس الخالق على المخلوق، فإن الأصابع في حق المخلوق تقبض وتبسط، وتدفع وغير ذلك، فكذلك قالوا: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ليس الأمر على حقيقته وعلى ظاهره، بل هذا كلام مجاز تعبير عن قدرة الله عز وجل أنه يتصرف في عباده كيف شاء، وفي النهاية قالوا: ليس لله عز وجل أصابع، لأن إثباتنا لله عز وجل أصابع يستلزم التمثيل، وهو أن لله أصابع كأصابعنا. نقول: هذا ليس بلازم، بل قولوا كما يقول أهل السنة: إن لله تعالى أصابع تليق بجلاله وكماله، ليست كأصابعنا، وليست جارحة. قال: فإن قيل: فقدرة الله واحدة، والأصبعان بالتثنية هي قدرة الله ربنا تبارك وتعالى الواحدة؛ لأنه أثبت في كتبه أنه صاحب قدرة، قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، فهو لم يثبت لنفسه أكثر من قدرة واحدة، فإذا فسرنا يد الله بمعنى قوة الله لا يستقيم هذا التأويل مع قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]. هل يقال: أن اليد هنا بمعنى القوة، ومعنى الآية بل قوتاه، أو اليد بمعنى النعمة بل نعمتاه. هذا التأويل لا يصح حتى في أذهان الصبيان والأطفال الصغار، فهذا كلام غير صحيح.

وكذلك لا يصح أن أقول: إن قلوب العباد بين قوتين؛ لأن قوة الله تبارك وتعالى لا ينفك عنها المخلوق، سواء في السماوات أو الأرض، أو ما فوق ذلك أو ما دون ذلك، فإذا قلت أن الأصبع هنا بمعنى القوة، فقولك: إن قلوب العباد بين أصبعين. أي: بين قوتين لله عز وجل. إذاً: لابد وأنك ستقول: إنما بين الأصبعين أو ما بين القوتين ليس فيه قوة لله عز وجل، وتقول بخلو هذا المكان الذي فيه قلوب العباد، ليس فيه قوة لله عز وجل، وهذا كلام في غاية السخافة والبرودة.

قال: (فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع، والله أعلم).

أولاً: الرد على النووي عليه رحمة الله في نقل مذهب السلف، فمذهبهم إثبات المعاني وتفويض الكيف؛ لأنه خلط في هذا القول.

الثاني: التأويل المذكور للكف والأصبع، قد سبق الرد عليه عند الكلام على صفة اليد الذي تقدم في الدرس الماضي، ثم إن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تأويل ولا تعطيل، ولولا إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام ما تجاسر عقل على إثبات شيء لله عز وجل رجماً بالغيب، فالعقل الصحيح يقبل النصوص، ويأخذها مأخذ التسليم بمجرد صحتها، ولا يعمل على تشبيه الخالق بالمخلوق حتى يحكم بالاستحالة والامتناع؛ لأنه قد تلقى قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهذا نفي للمماثلة بين الخالق والمخلوق، وقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وهو لإثبات السمع والبصر وبقية الأسماء والصفات لله عز وجل لكن ليس فيه تمثيل، لأنه نفى التمثيل أولاً في الآية، وفي نفس الآية أثبت، فالآية فيها نفي وإثبات، نفي لمشابهة ومماثلة الخالق بالمخلوقين، وإثبات أنه سميع بصير، فمن صفاته أنه سميع بسمع، وبصير ببصر، فله أسماء وصفات تليق بجلاله وعظمته، ولا يعني ذلك إثبات السمع والبصر أنه يسمع كسمعي ويبصر كبصري، لأنه قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فليس شيء يشبهه، ولا شيء يماثله، ولا يعدله ولا يكافئه، فالقول بأن صفة الأصابع مجاز واستعارة ليس له نصيب من الصحة، ويناقض مذهب السلف الصالح فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم، وليس في ذلك استحالة، ولا امتناع، وما صرح به النووي عفا الله عنه من أن قوله: (أن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن) مجاز واستعارة، وأن المراد منه: أن الله عز وجل متصرف في قلوب عبادة، وأن الحديث ليس على ظاهره ليس صحيحاً فالحديث على ظاهره.

وكتب السلف في العقيدة كثيرة مثل كتاب: الشريعة للآجري، والسنة لـأحمد بن حنبل، وشرح أصول الاعتقاد، وهذا الكتاب الذي نشرح فيه، وهو (مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة).

وقد ترجم له الآجري بالإيمان، بأن قلوب الخلائق بين أصبعين من أصابع الرب عز وجل بلا كيف، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب العباد بين أصبعين) فنقول: إن قلوب العباد بين أصبعين بلا كيف، والإيمان ابتلاء يا إخواني، فنحن مكلفون بأن نؤمن بالغيب وهذه الصفات غيب.

نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الأصابع لله عز وجل للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net