إسلام ويب

لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين ليزدادوا شوقاً إليها، وعملاً لها، فهي لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وترابها الزعفران، وملاطها المسك الأذفر، وما بين مصراعي كل باب من أبوابها كما بين مكة وهجر، أو مسيرة أربعين عاماً، ولها من الأبواب ثمانية، تفتح في كل يوم خميس وإثنين. وللجنة رائحة طيبة يجدها المؤمن من مسيرة خمسمائة عام، وفيها عينان نضاختان بالمسك والعنبر.. إلى غير ذلك من النعيم المقيم للمؤمنين الصادقين.

وصف الجنة

ذكر بناء الجنة وترابها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أما بعد:

إن الدعوة إلى الله عز وجل تسير في طريقين: طريق العلم أو التأصيل العلمي، وطريق الوعظ، والوعظ يلزم عامة الناس، وأما العلم فيلزم خاصة الناس، وعلى أية حال التأصيل العلمي هو الذي يربي الشخصية العلمية المسلمة الواعية الفاهمة، وأما الوعظ فسرعان ما يزول أثره من القلوب، بل ربما في مجلس الوعظ نفسه يزول الأثر، فكثير من الناس يسمع درس الوعظ أو الخطبة أو غير ذلك ثم على باب المسجد ينفض ثوبه كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، وقد جربنا مراراً أن كثيراً من المستمعين أو الحاضرين يسمع الخطبة أو الدرس أو غير ذلك ثم يخرج فإذا سألته عما سمع كأنه لا يعرف شيئاً، غير أنه تأثر من هذا الدرس حتى إن هذا الدرس أبكاه، لكن لو سألته: كيف بكيت؟ ولمَ بكيت؟ فإنه لا يدري.

وقد سمعنا علماءنا ومشايخنا يقولون: لو أن المرء تعلم في كل يوم من أيام حياته مسألة واحدة من مسائل العلم لكان بعد عدة أعوام عالماً، أو قد تربى على التأصيل العلمي، وهذه بلا شك حقيقة ينبغي التنبه لها.

إننا وإن كنا نتكلم عن الجنة والنار فإننا نتكلم عنهما من باب الوعظ، وإلا كان ينبغي أن نبكي منذ زمن طويل مضى، وإنما نتكلم عن مسائل علمية متعلقة بالجنة والنار، ومسائل اعتقادية متعلقة بالجنة والنار، فلو قلنا الآن: تربة الجنة مما تتكون؟ فهذه مسألة علمية، وليست مسألة وعظية، فهناك فرق بين أن أقول لك: (الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران)، فأنت تلتذ بهذا الكلام وتحصل عندك اللذة، وفرق بين أن تأخذ هذا الكلام وتستقبله على أنه عقيدة، وأن الجنة وما فيها يختلف عن الدنيا وما فيها، فتكون إنساناً واعياً وحافظاً أن بناء الجنة ليس كبناء الدنيا، وأن ملاط الجنة ليس كملاط الدنيا، وأن تربة الجنة ليست كتربة الدنيا، وإنما ترابها الزعفران، فيتكون لديك تصور مبدئي عن بناء الجنة، وعما فيها من نعيم، وأن ما فيها من نعيم وإن وافق في الاسم نعيم الدنيا؛ فالحقيقة مختلفة، فهذه مسألة علمية وليست مسألة وعظية.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أدخلت الجنة) فالمسألة العلمية: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة، ولا يحل لنا أن نسأل كيف دخلها؟ وأين هي حتى يدخلها؟ لأن هذه من مسائل الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد دخل الجنة، وأنه اطلع في النار، ولا يصح أن نقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار، وربما أحد الوعاظ يخطأ في نقل ذلك، ويقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار فرأى من فيها وما فيها، ودخل الجنة ورأى ما فيها ومن فيها.. وهكذا.

لكن التقرير العلمي والتأصيل أن يقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فرأى ما فيها، ومما رأى كيت وكيت وكيت، ونقل إلينا كيت وكيت وكيت، حتى قال لـبلال : (يا بلال إني أدخلت الجنة فسمعت خشخشتك، فبم سبقتني إليها؟)، فهذا تأصيل علمي ينبغي أن يكون معلوم لدى طالب العلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -والجنابذ: هي القباب، أي: فإذا فيها قباب عالية من اللؤلؤ- وإذا ترابها المسك)، فهذا في باب ذكر تربة الجنة.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تربة الجنة)، وابن صياد هذا قيل إنه الدجال، وقيل غيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى في كتاب الفتن.

قال النبي عليه الصلاة والسلام لـابن صياد لما سأله عن تربة الجنة: (درمكة بيضاء) يعني: الدقيق الأبيض (مسك خالص).

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (علي بأعداء الله) يعني: بهم اليهود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمي اليهود: أعداء الله، فليسوا أعداء المؤمنين فحسب وإنما هم كذلك أعداء الله.

قال: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة)، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل أن يسأل اليهود، وهل اليهود يعرفون الجنة وما فيها؟ نعم يعرفونها؛ لأنه ما من نبي إلا أرسل بالحث على الجنة، وما يقرب إليها من قول أو عمل، والتحذير من النار، والتنفير عنها، وما يقرب إليها من قول أو عمل، ولا بد أن يدل أمته على الجنة، وعلى النار، على ما في هذه من نعيم، وعلى ما في هذه من شر وعذاب أليم.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة)، ولابد أن تعلموا أنتم قبل أن يأتي اليهود أن تربة الجنة عبارة عن دقيق مخلوط بالمسك الخالص.

(فجاء اليهود فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة، فنظر بعضهم إلى بعض -وهكذا اليهود دائماً لا يذكرون الحقيقة مباشرة وإنما يتبرمون- وقالوا: خبزة يا أبا القاسم!) يعني: تربة الجنة عبارة عن خبزة بيضاء، قوية، ناصعة، البياض، واسعة جداً، لا نهاية لأولها ولا لأخرها.

(فقال النبي صلى الله عليه الصلاة وسلم: الخبزة من الدرمكة)، أي: الخبزة هذه مكونة من الدرمكة، فصدق النبي عليه الصلاة والسلام.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الجنة لبنة -واللبنة هي الطوب- من ذهب، ولبنة من فضة، ترابها الزعفران، وطينها المسك).

وعن مجاهد قال: أرض الجنة من فضة، وترابها من مسك.

وقال مغيث بن سمي : الجنة ترابها المسك والزعفران.

عدد أبواب الجنة

إن معرفة عدد أبواب الجنة من مسائل الاعتقاد؛ لأنها متعلقة بالغيب، فلا يأتي أحد يقول: أبواب الجنة ليس لها نهاية، وأبواب النار أيضاً ليس لها نهاية؛ لأن العلم الشرعي يقول: إن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، انتهت القضية هكذا، وهذا يدل على أن رحمة الله واسعة، وقد سبقت غضبه، فقد جعل أبواب الجنة أزيد من أبواب النار بباب، وهذا الباب ليس بالأمر الهين، وإنما هذا الباب (ما بين مصراعيه كما بين مكة وهجر).

أي: أحد قوائم الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين مكة وهجر -وهي البحرين- وكما في رواية أخرى: (ما بين مكة وهجر، أو ما بين مكة وبصرى)، وبصرى: قرية بالشام، وكانت محل هرقل في ذلك الزمان.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل يتوضأ فيسبغ الوضوء -أي: فيتقن الوضوء ويحسنه- ثم يقول عند فراغه من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية).

وكلمة (الثمانية): استيعاب وشمول، بمعنى أنه لا باب للجنة بعد هذه الثمانية، وأبواب الجنة لا تقل عن هذه الثمانية.

ثم قال: [(فيدخل من أيها شاء)، وهناك أحاديث كثيرة جاءت في ذكر بيان أن أبواب الجنة ثمانية.

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود : (للجنة ثمانية أبواب).

وفي حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث)، والتقدير: ما من مسلم ومسلمة يموت لهما ثلاثة من الولد، (لم يبلغوا الحنث): أي لم يبلغوا الإثم والمحاسبة، والتكليف، يعني: ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم، (إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء).

فلو أن ولدك مات في هذا السن فهو من أهل الجنة، وهذا من مسائل الإجماع عند أهل العلم: أن أبناء المسلمين إذا ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم -وهو سن التكليف، والمحاسبة، والجزاء، والثواب، والعقاب- فإنهم يدخلون الجنة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أبناء المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحنث فقال: (هم في الجنة))، وسئل عن أطفال المشركين فقال أولاً: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ثم سئل بعد ذلك صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين -أي الذين ماتوا صغاراً- فقال: (هم في الجنة)، واختلف أهل العلم في مصير أطفال المشركين، فمنهم من قال: يحبسون ويمتحنون، فإن نجحوا فيه واجتازوه فإنهم يدخلون الجنة، وإلا فلا، وهذا القول بعيد ولا دليل عليه، والفريق الثاني: توقف، والفريق الثالث قال: هم في النار مع آبائهم، وأرجح الأقوال: أنهم في الجنة.

قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه -أي: يوم القيامة- يدخل من أيها شاء).

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عتبة بن عبد السلمي : (للجنة ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب).

وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة).

وقال ابن المبارك : أو كما بين مكة وبصرى، وبصرى: قرية في الشام كما قلنا، وأما هجر فهي البحرين المعروفة الآن.

وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال في خطبته: وإن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً.

فتصور أنك تمشي على عتبة الباب ما بين فكه الأيمن والأيسر أربعين عاماً، [(وليأتين عليها يوم وما منها باب إلا وهو كظيظ من الزحام) يعني: مساحة ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، ومع هذا سيكون مزدحماً جداً للداخلين، وهذه بشارة خير بإذن الله تعالى.

ذكر اليوم الذي تفتح فيه أبواب الجنة

أما الأيام التي تفتح فيها أبواب الجنة فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام بسند حسن أنه قال: (إن للجنة ثمانية أبواب، سبعة منها مغلقة، وباب منها هو باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهو باب التائبين).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس) وهو حديث صحيح، وفي رواية بزيادة: (فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)، وليس معنى ذلك أن هذين الأخوين شقيقان؛ لأن الأخوة هي أخوة الإيمان والإسلام، وهي قبل أخوة النسب.

قوله: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس)، إلا للمشرك فإنه لا ينالها قط، وكذا من كان بينهما خصومة وشحناء فإنهما يحرمان من هذا الخير وهذا الفضل حتى يصطلحا.

وليس يعني ذلك أن الإنسان يحرص على الصلح حتى ولو كان ذلك الصراع أو الشحناء بينه -وهو من أهل السنة- وبين أهل البدع أو أهل الفجور أو غير ذلك، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في قصة الثلاثة الذين خلفوا قال: باب جواز الهجر خمسين يوماً، وهي المدة التي نزل فيها توبة التائبين الثلاثة الذين تخلفوا رضي الله عنهم، فإذا كان القطع، والمنع، والهجر في الله عز وجل فإنه ممتد حتى يرجع الظالم الباغي المعتدي عن ظلمه وبغيه واعتدائه وإن طال ذلك إلى أعوام وأعوام.

ذكر حلق أبواب الجنة

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر -يعني: أول من يدفعها- حتى تقعقع) يعني: يحدث لها صوت، كما قال: (فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها)، والحديث صحيح.

ذكر حجبة الجنة وخزانها

عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة).

قوله: (من أنفق زوجين) أي: فرسين، أو بعيرين، أو خزانتين من ماله، المهم أنه ينفق زوجين من المال، وكذلك الولد، وانظر إلى تصور الجهاد في نظر الأمة الآن، أوفي نظر كثير من الأمة الآن، فالجهاد عندهم خسارة، وتدمير، وتشريد، وتقتيل، وإراقة للدماء، ولا يرون في الجهاد أي فضل البتة، وينظرون إليه على أنه شر مستطير، فيقبلون الهوان والذل، وأن يعيشوا تحت أقدام اليهود والنصارى، ولا يقبلون أن يضحوا بأبنائهم وشبابهم في سبيل الله عز وجل.

إن المجاهد عند الله له ما ليس لأحد، ولا يفوق الشهيد عند الله أحد إلا الأنبياء والمرسلون، وأما أن نعتبر أن الجهاد في سبيل الله خسارة في العدد والأرواح وغير ذلك، فهذا تصور في قمة الباطل، والسفه والغفلة عن شرع الله عز وجل.

قوله: (ابتدرته حجبة الجنة) يعني: تصور أنك تقول لابنك: يا ابني البس لأمتك وانطلق إلى الجهاد في سبيل الله، ويا ليت لا ترجع أيضاً، فهذا شيء عجيب جداً، وقد كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك، وكانت المرأة لا أقول الرجل إذا أرسلت ولدها وأتاها آت بعد انتهاء الغزو تقول: أأتيت مبشراً ومهنئاً، أم أتيت بخبر؟ فإذا قال: ما البشرى من الخبر؟ قالت: الخبر أن تخبرنا أنه قادم، والبشرى أن تخبرنا: أنه قتل في سبيل الله، فتصور المرأة تفرق بين الخبر والبشرى، وهي لا تريد الخبر وإنما تريد البشرى!

فحينئذ ينبغي للأمة أن تغير مفاهيمها وإلا فستزداد ذلاً، وهواناً، وانكساراً، وتعلو نعال اليهود على هاماتها، فلابد من التضحية، والفداء، وأنه لا سبيل قط إلى عز هذه الأمة بعد ذلها، ولا إلى رفعتها بعد خستها إلا بالجهاد في سبيل الله أبداً.

وقال عليه الصلاة والسلام: (وما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا غفر الله لهم)، وفي رواية: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعونه إلى ما عنده) أي: كلهم يقول: تعال عندي.

وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ما من مسلم ينفق من ماله زوجين في سبيل الله إلا دعته حجبة الجنة: ألا هلم، ألا هلم) أي: تعال عندي.

وقد جاء من تفسير الزوجين: إن كانوا رجالاً فرجلان، وإن كانت خيلاً ففرسان، وإذا كانت إبلاً فبعيران، حتى عد أصناف المال كلها.

وعند البخاري قال: (من أنفق زوجين من أي شيء من الأشياء)، فليحرص كل واحد منا أنه ينفق نوعين دائماً.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله عز وجل دعته حجبة الجنة، يقولون : أي فل، أي فل) يعني: يا فلان، فكلمة أي فل: ترخيم لكلمة يا فلان، فينادون عليه بالترخيم والتفخيم (أي فل! هلم هذا خير) يعني: تعال عندي فالذي عندي خير.

(قال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الذي لا توى عليه) والتوى: هي الحسرة، والندامة، والخسارة.

فـأبو بكر لما سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام أن الجنة نفسها تناديه وتقول له: (تعال هذا خير، قال: والله يا رسول الله ليس على هذا ندامة)، أي: ليس على من أنفق زوجين ندامة.

فقال: (أما إني أرجو أن تدعوك حجبة الجنة كلها يا أبا بكر) يعني: إني لأرجو أن كل حجبة الجنة يدعونك فتدخل من جميع الأبواب.

وعن أبي هريرة مرفوعاً: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟).

يعني: يا رسول الله! هل ممكن أحد يدعى من الأبواب كلها؛ لأنه صاحب صلاة، وصيام، وجهاد وغير ذلك، فهل يمكن أن يدعى من جميع الأبواب؟

(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وإني لأرجو أن تدعى يا أبا بكر منها جميعاً)، وهذا الحديث عند البخاري .

رائحة الجنة

والجنة لها رائحة طيبة كأطيب ما تكون الرائحة، ويوجد أثر هذه الرائحة من مسيرة خمسمائة عام، وقيل: من مسيرة مائة عام، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر من ذلك، والروايات كلها صحيحة، فكأن ريح الجنة يشمها من كان من أهلها على حسب عمله، وعلى حسب درجته، فمنهم من يشم رائحة الجنة على مسيرة خمسمائة عام، ومنهم من يشم رائحتها على مسيرة مائة عام، وأربعين عاماً، وغير ذلك والروايات كلها صحيحة، فإذا صحت الروايات وجب العمل بها جميعاً، وهو خير من رد بعضها، أو الحكم عليها بالشذوذ أو النكارة وغير ذلك.

والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر في رواية عن المتبرجات، وعن السلطان الظالم: (أنهما لا يشمان رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، -وفي رواية-: من مسيرة خمسمائة عام).

واحد يقول: نحن في هذا الوقت لا نشم رائحة الجنة، وما يدريك أن غيرك قد شمها منذ خمسمائة عام، وأن الله قد حرمك هذه الرائحة.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة)، والمعاهد هو الذي عقد عهداً بينه وبين المسلمين، يعني: الذي بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، أو ميثاق أو شيء من هذا، ولو أنزلنا هذا الكلام على الواقع قلنا: الدولة في مجموعها تأذن لغير المسلمين أن يدخلوا في هذه البلاد، فكوني أنا ضابط مثلاً في المطار ومخول من قبل السلطان أن أصك جواز القادم من بلاد الكفر لمدة خمسة عشر يوماً إقامة في البلد عندي، فهذا إذن وعهد، وميثاق، فلا يجوز لي أن أتعرض له بالقتل أو الضرب أو التشريد أو غير ذلك بعد أن أذنت له بالدخول، فلو تعرضت له لكان عقابي هذا الحديث (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة، وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاماً).

وهذا من الزجر والوعيد الشديد، ومن المعلوم والمقطوع به شرعاً أن الأموال، والأعراض شيء واحد، فمن استحل الأموال استحل الأعراض، ومن استحل الأعراض استحل الأموال.

وقد وجه إلي وأنا في أمريكا سؤال يقول السائل: أنا أعمل في المحل الفلاني، وأسرق نسبة عظيمة جداً من المال استحلالاً. فقلت له: لو أن امرأة صاحب المحل أتت المحل هل تستحل أنت عرضها -لأن العلماء لم يفرقوا بين العرض وبين المال- والذي يستحل هذا يستحل ذلك؟ فقال: نعم وما المانع في ذلك، قلت: الذي يستحل المال يجب عليه أن يستحل العرض؛ لأنهما متفقان، ومبرمان في عقد واحد.

فأموال الكفار، ودماء وأعراض الكفار لا تكون حلالاً إلا إذا رفعت راية الجهاد بين معسكر الإيمان والكفر، هذا في النزال العام، وفي النزال الخاص لا يجوز التعرض بالأذى في المال، والنفس للكفار المعاهدين إلا إذا بغوا ونقضوا العهد، فحينئذ إما أن ينذرهم الإمام -أي: السلطان- أن يخرجوا من البلد، أو يعتذروا عما بدر منهم، ويردوا المظالم إلى أهلها من المسلمين، وإما أن يقع النزال الخاص في داخل البلد، وأحكام أهل الذمة كثيرة جداً لكني أردت بالمناسبة أقول: إن للجنة ريحاً وهذه الريح الطيبة، الزكية، يشمها المؤمن، لكن هناك حوائل وموانع من شم هذه الريح، منها: التعرض للمعاهد بالأذى في نفسه، وماله، وعرضه كما في الحديث: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذا قيد واستثناء فمن قتله بحق فإنه لا تنطبق عليه العقوبة، وأما بغير حق فتنطبق عليه العقوبة، وهذا كلام الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام).

ومعنى: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: نسب نفسه إلى غير أبيه، قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وهذه الآية نزلت ناسخة للتبني الذي كان معروفاً في الجاهلية، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تبنى زيد بن حارثة، أما ولده أسامة، فليس داخلاً في التبني، وإنما كان مولى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما زيد فكان ابن محمد عليه الصلاة والسلام بالتبني، حتى كان الناس يقولون: زيد بن محمد ، حتى نزل قول الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، يعني: انسبوهم لآبائهم ما داموا معروفين، وإن لم يكونوا معروفين: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [الأحزاب:5]، فيكون هذا أخانا في الله، وليس لقيطاً، هو مسلم موحد، فيكون أخانا في الله، وتنتهي القضية هكذا.

الحرج المترتب على تبني اللقطاء

وبعض الناس يتمنى الولد؛ لأنه لم يخلف، فيأخذ له طفلاً من اللقطاء، ويربيه وينسبه إليه، فهذا حرام منهي عنه، وفيه حرج كبير جداً من عدة أوجه:

الوجه الأول: أن هذا الولد لو كبر وبلغ فسيطلع على امرأتك، وهذا حرام؛ لأن هذه المرأة أجنبية عنه.

الأمر الثاني: أنك لو نسبته إليك لكان مشاركاً في الميراث، فلو أنك مت أو ماتت زوجتك فلابد أن يرثها، وهذا ميراث بغير حق.

والأعجب من ذلك أن رجلاً تبنى ولداً وفتاة، والولد أحب الفتاة على أعظم ما يحب الرجل المرأة، فأراد أن يتزوجها لأنه يعلم أنها ليست أخته، ويعلم القصة كلها من أنهما منسوبان إليه زوراً وبهتاناً، فطلب أن يتزوج هذه البنت، فاعترض المتبني وقال: هي أختك، لمجرد النسب، ولو بالباطل والزور، فتزوجها الولد رغماً عنه بغير ولاية ولا شهود إلا المأذون الذي عقد، ثم ذهب الرجل ورفع قضية في المحكمة، وحكمت المحكمة بالتفريق بين الرجل وامرأته، وهذا ظلم، وهذا من المفاسد العظيمة جداً المبنية على مخالفة شرع عز وجل.

قوله: (فمن ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة) يعني: من نسب إلى غير أبيه وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، أما إذا كان لا يعلم فلا حرج على من تبناه، والإسلام قد نهى عن التبني.

وكذلك المرأة تنسب نفسها للرجل، فهذا بلاء عظيم جداً، ومن الأخلاقيات الأوربية: أن تسمى فلانة فلان؛ على اسم زوجها.

وكذلك الذي يتبرأ من ولده، فلو أن رجلاً مثلاً يضرب ابنه؛ لأنه غضبان منه ومن حركاته وتصرفاته، ويقول له: أنت لست ابني ولا أعرفك، فهذا الكلام شرعاً غير منضبط، لكن هذا الكلام مما جرت به العادة، وجرى به اللسان، ولا يقصد المتكلم حقيقة الكلام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهو من باب جريان عادة العرب، أو ألسنة العرب بالكلام دون القصد لعقد اليمين.

معنى قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66]، قال: نضاختان بالمسك والعنبر على دور الجنة، كما تضخ السماء المطر على دور أهل الدنيا.

ومعلوم أن كل ما في الدنيا لا يتوافق مع ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، والحقيقة مختلفة، والماهية متباينة تماماً، فلا نسبة قط بين ما في الجنة وما في الدنيا أبداً: لا في المنظر، ولا في الجمال، ولا في الحلاوة، ولا في الطعم، فكل ذلك مختلف.

فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66] أي: تضخ المسك والعنبر على بيوت الجنة، وعلى قصور الجنة، مثل السماء لما تضخ علينا المطر في الدنيا.

وعن ابن عباس قال: نضاختان بالخير، والبركة، وبالمسك، والكافور.

صفة أرض الجنة

عن مجاهد قال : أرض الجنة من ورق -أي: من فضة- وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وفضة، وأفنانها -وهي الأغصان- لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:14]، يعني: مهدت وعبدت للآكلين، نزل الغصن إليك وأنت نائم، وأنت مضطجع، وأنت قائم، وأنت قاعد، فينزل عليك الغصن إذا اشتهيت حتى يكون بين يديك، فتأكل منه ما شئت.

ذكر نهار الجنة ونورها وسرج أهل الجنة

الجنة ليس فيها نهار وليل وبكرة وعشياً؛ لأنه ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن الله عز وجل لما ذكر البكرة والعشي في القرآن، وكذلك ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام؛ إنما ذلك من باب تقريب الفكرة إلى الأذهان، أي: قدر ما يكون بين الإبكار والعشي في الدنيا، لكن في الحقيقة ليس في الجنة شمس ولا قمر، وبالتالي لا ظلمة فيها مطلقاً؛ لأن ذلك لازم عن خفاء الشمس.

فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض) يعني: أقل من الظفر لو بدا وظهر في الجنة لظهر النور الخفاق في السماوات والأرض، قال: (ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم).

وعن محمد بن كعب القرظي قال: (رؤي في الجنة كهيئة البرق فقيل: ما هذا؟ قال: رجل من أهل عليين تحول من غرفة إلى غرفة).

في الحديث: (هي قناديل معلقة بالعرش تضيء لأهل الجنة، لا يطفأ نورها، ولا يقصر عنها أبصارهم من النظر)، وهو حديث ضعيف.

قلنا من قبل: إن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم أخو الموت.

ذكر بكر الجنة وعشيها:

عن الضحاك قال في قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]، (ولهم رزقهم فيها): أي في الجنة بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] يعني: على قدر ما كانوا يأكلون في الصباح وفي المساء.

قال: جعل الله تعالى لأهل الجنة ساعات تدور كما تدور أيام الدنيا في غير شمس، ولا قمر، ولا ليل ولانهار إلا نور الآخرة، وجعل فيها البكرة، والمقيل، والعشي؛ لأن البكرة والمقيل والعشي ألذ ما يكون للناس في الدنيا، فجعل الله تعالى لهم مثلها في الجنة وزيادة، فأراد الله تعالى أن يشهي أولياءه ويلذذهم بالرزق ليأتيهم غدوة وعشية.

وعن ابن عباس قال: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون بالنعيم على مقادير ذلك بالليل والنهار في الدنيا.

يعني: لو أن الإنسان ينتظر المساء حتى يأتي وقت الطعام، فإذا قدم له التذ به، وإنسان يقوم بعد صلاة الصبح يريد أن يفطر؛ فإذا قدم له الطعام والحليب وغير ذلك اشتهاه والتذ به، فكذلك أهل الجنة بغير قياس.

وعن قتادة في قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]، قال: لهم رزقهم فيها كل ساعة.

والساعة في لغة الشرع: هي المدة من الزمان، أي: ليست ستين دقيقة.

قال: والبكرة والعشي ساعاتان من الساعات ليس ثم ليل -يعني ليس هناك ليل- وإنما هو ضوء ونور.

وعن مجاهد في نفس الآية قال: ليس فيها بكرة ولا عشي، ولكنهم يؤتون به على ما يحبون من البكرة والعشي.

ذكر عدد درجات الجنة

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض).

ودرجات الجنة مائة درجة، وبعض أهل العلم قال: لا يعلم درجات الجنة إلا الله، وهذا القول استنباطاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (يقال لتالي القرآن وقارئه: اقرأ وارق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فقال: درجات الجنة بعدد آيات القرآن الكريم؛ لأن ظاهر الحديث يقول هكذا، وبالتالي ليست درجات الجنة معلومة، لأن آيات القرآن الكريم محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من يعد الآيتين آية واحدة، ومنهم من يعد الآيتين آيتين، وهذا أمر مقارب.

وهل المقصود أنه يقرأ آخر ختمة له، أم أن ذلك في حياته كلها، فإذا فرغ من القرآن بدأ القرآن مرة أخرى، فعدت له درجات، ولا تزال في مزيد وارتفاع؟ هذا محل نزاع بين أهل العلم.

فالذي يقول: درجات الجنة غير معروفة، فقوله هذا من جهة المفهوم لا المنطوق، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لقارئ القرآن: (اقرأ، وارتق، ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية)، فهو فهم من النص ألا نهاية لدرجات الجنة، وأنه لا يعلمها إلا الله، وهذا هو مفهوم.

وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، فهذا منطوق، والمنطوق هو ما جاء في الكتاب أو السنة، والمنطوق مقدم على المفهوم، لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فدل هذا القيد على أن الأصل في درجات الجنة أنها مائة درجة بغير زيادة ولا نقصان، وأنها للمجاهدين من باب التشريف، وأن لهم في كل درجة من درجات الجنة، فدرجات الجنة لا تزيد على العدد المذكور.

هذا كلام أهل العلم من أهل الأصول فيما يتعلق بالقضية المتنازع فيها، والتي يحكمها المنطوق والمفهوم، فلو تعارض المنطوق مع المفهوم قدم المنطوق واعتمدنا عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام)، وفي رواية قال: (كما بين السماء والأرض).

ذكر أسنان أهل الجنة وميلادهم وقامتهم

أسنان: جمع سن وهو العمر، فالذي يدخل الجنة يكون في سن ثلاث وثلاثين سنة، فمن مات قبل سن ثلاث وثلاثين -كمن كان طفلاً صغيراً- فإنه سيدخل الجنة وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وهؤلاء الأطفال حول أبويهم.

وما المانع أن الطفل يأخذ بيد أبويه وعمره ثلاث وثلاثون سنة إذاً، وسيكون أبوه أيضاً في نفس السن، فإذا كان آدم عليه السلام سيكون في هذا السن؛ فكذلك غيره، والسقط يدخل الجنة على سن ثلاث وثلاثين سنة.

والسقط هو ما نفخ فيه الروح.

وهذه المسألة محل نزاع، هل نفخ الروح بعد أربعة أشهر أم بعد أربعين يوماً؟ والذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك،ثم يكون مضغة مثل ذلك)، وكما في رواية صحيحة عند مسلم في الصحيح (إن أحدكم يخلق في بطن أمه نطفة، ثم يكون ذلك مثل ذلك علقة، ثم يكون ذلك مثل ذلك مضغة، ثم يرسل إليه ملك) إلى آخر الحديث.. والذي يترجح لدي أن الروح تنفخ بعد الأربعين يوماً لا بعد مائة وعشرين يوماً.

والسقط لا يصلى عليه، والصلاة عليه مستحبة وليست واجبة، ولا يوجد فيها خلاف.

والله تعالى قد أعطى القدرة لأهل الجنة أن يعرفوا أملاكهم، وقصورهم، وزوجاتهم، فيدخلون عليها مباشرة، ويعرفون أملاكهم بالجنة أكثر من معرفتهم بيوتهم في الدنيا، دون أن يعتدوا على أملاك أحد، أو أن يعتدي عليهم أحد.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، على خلق آدم طول ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع).

ومعنى (جرداً) أي: لا شعر في أبدانهم، (مرداً): أي لا شعر في لحاهم، والغلام الأمرد: هو الذي لا شعر في لحيته، والأجرد: الذي لا شعر في بدنه كله، فيدخل أهل الجنة الجنة جرداً، لا شعر في أبدانهم، ولا شعر في لحاهم.

قال: (بيضاً) وهو احتراز من السواد، (جعاداً) أي: أصحاب الشعر المجعد، وفيه إشارة إلى أن معظم أهل الجنة من العرب.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً) يعني: شعرهم مجعد، وهذه صفة مدح، خلافاً للعجم الذين شعرهم سايح وهو ليس لائقاً للرجال، وأخيراً لما اكتشفوا أن الجعودة أفضل من النعومة في هذا الوقت ذهبوا إلى الكوافير من أجل تجعيد شعورهم.

قال: (أبناء ثلاث وثلاثين)، يعني: يدخلون الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، أبناء ثلاث وثلاثين، وهذا نص قاطع أنه لا يوجد أحد سيدخل الجنة إلا وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

(على خلق آدم) أي: على صورة آدم أنه في السماء (ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع)، والحديث صحيح.

وفي رواية: (يبعث الناس يوم القيامة في صورة آدم جرداً، مرداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، ثم يؤتى بهم بشجرة بالجنة -يعني: يذهبون إلى شجرة في الجنة- فيكسون منها، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم).

وعن المقداد بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة ما بين السقط إلى الشيخ الفاني) يعني: ابتداء من السقط حتى الشيخ الهرم الفاني: أي: الكبير الذي أفنى عمره وطال، فيحشرون جميعاً وهم: (أبناء ثلاث وثلاثين سنة).

قال: (المؤمنون منهم في خلق آدم عليه السلام، وقلب أيوب، وحسن يوسف عليه السلام، مرد مكحلون، ذوي أفانين)، يعني: شعورهم كاللمة، أو الجمة قد بلغت أكتافهم.

صفة رجال أهل الجنة

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والذي أنزل الكتاب على محمد، إن أهل الجنة ليزدادون جمالاً وحسناً، كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرماً.

أي: وكبراً في السن، فهم يزدادون في الجنة جمالاً وحسناً، فالمرء يزداد جمالاً حتى تخبره امرأته من الحور العين في حالة رؤية المولى عز وجل، حينما يقتبسون من نوره سبحانه وتعالى.

وعن داود بن عامر بن سعد -وهو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم).

وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مسورون بالذهب والفضة، مكللون بالدر) أي: عليهم أكاليل من در، والإكليل: هو ما احتف بالشيء من جانبه، قال: (عليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة، عليهم تاج كتاج الملوك، شباب جرد، مكحلون)، فهذه صفات رجال أهل الجنة.

اشتهاء الولد في الجنة

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من أهل الجنة ليولد له كما يشتهي، فيكون حمله، وفصاله، وشبابه في ساعة واحدة)، وهذا شيء عجيب.

قوله: (كما يشتهي): أي: كما يحلم، فإذا اشتهى الولد أتاه الولد في لحظة واحدة، وفي برهة من الزمان، فيكون حمله، وفصاله، وكل هذا في لحظة واحدة، لكن القضية أنه لا يشتهي ذلك أبداً، لأن هذا أمر يتنافى مع ملذات ونعيم الجنة.

وابن القيم يقول: كيف يشتهي الرجل في الجنة الولد؟! وإذا اشتهاه أتاه في ساعة واحدة، وبعضهم قال: إن إسناد الحديث صحيح وأخشى أن يكون منكراً. يقصد أن المتن فيه نكارة؛ لأن هذا شيء غير معلوم عند أهل العلم، فرد عليه أكثر من واحد، ومنهم ابن القيم فقال: الحديث صحيح، لكن الأمر محمول على أنه لو اشتهى مع أنه لن يشتهي.

كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها)، لكنه لم يأمر بذلك، ولو كان له أن يأمر لأمر بذلك، لكنه لم يأمر، وليس هذا له عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله منعه أن يأمرنا بذلك.

وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، أو عند كل صلاة)، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك إلا أمر استحباب، لا وجوب، وأنتم تعلمون أن استعمال السواك ليس واجباً وإنما هو سنة ومستحب، وغير ذلك من الروايات.

ذكر ما يستقبلون به من الكرامات عند مصيرهم إلى الجنة ودخولها

ورد حديث عن علي بن أبي طالب ، وهو حديث موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تعلم إلا من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال: (يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً -أي: أفواجاً ودفعات- حتى إذا أتوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما -أي: ذهبوا إلى أحدهما- كأنما أمروا فشربوا منها، فأذهبت ما في بطونهم من قذر، وأذى أو بأس، ثم عمدوا إلى الأخرى) أي: ذهبوا إلى العين الثانية: (فتطهروا منها، فجرت عليهم أبشارهم بنضرة النعيم، فلم يغيروا ولم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم، كأنما دهنوا بالدهان).

يعني: تطيبوا بالعطر (ثم انتهوا إلى خزنة الجنة) أي: ذهبوا إلى خزنة الجنة، (فقالوا: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، ثم تلقاهم أو تلقتهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم -أي: بالأقارب الأحماء- يقدم من غيبته يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، ثم ينطلق غلام من بين أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين) يعني: الولد الصغير يذهب سريعاً إلى الحور العين (يقول لهن: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا).

ومعلوم أن المرء يدعى يوم القيامة باسم أبيه؛ والعوام يظنون أن الواحد ينادى عليه يوم القيامة باسم أمه، وهذا غلط، وهذه مسألة اعتقادية، فالمرء ينادى باسمه واسم أبيه، حتى وإن نسب إلى غير أبيه، يعني: وإن كان ولد زنا، فإنه يدعى باسمه واسم أبيه الحقيقي صاحب الماء.

فالغلام يذهب إلى زوجته من الحور العين ويقول لها: زوجك أتى، قال: (فيقول : قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا، فيقولون -أي: الحور العين-: أنت رأيته؟ فيقول: أنا رأيته ، وهو ذا يأتي، فيستخف إحداهن الفرح) يعني: الفرح يأخذ الواحدة منهن أخذاً لا تستطيع أن تصبر، تريد أن ترى زوجها وحبيبها، (حتى تقوم على أسكفة الباب) يعني: حتى تقف على عتبة القصر، (فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه) أي: إذا ذهب إلى بيته في الجنة نظر إلى الأساس الذي بني منه هذا البيت، قال: (فإذا جندل اللؤلؤ، فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره) يعني: لولا أن ربنا كاتب له البقاء لذهب بصره من فرط فرحته، وذهول ما ينظر إليه.

(فإذا نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره، ثم طأطأ رأسه فنظر إلى أزواجه، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فنظر إلى تلك النعمة، ثم اتكأ فقال: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ثم ينادي مناد: تحيون فلا تموتون أبداً، وتقيمون فلا تظعنون أبداً، وتصحون فلا تمرضون) هكذا الحديث في ذكر الكرامة التي يقابل بها أهل الجنة.

رضوان الله على أهل الجنة

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا، وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فأعظم نعيم الجنة بعد رؤية المولى عز وجل هو الرضوان الذي يحل عليهم.

(إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: هل تشتهون شيئاً فأزيدكموه؟ قالوا: يا ربنا وهل بقي شيء إلا وقد نلناه؟ فيقول: نعم؛ رضائي، فلا أسخط عليكم أبداً).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى لأهل الجنة: سلوني، فيقولون: نسألك الرضا، فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، ثم يقول: سلوني، فيقولون بأجمعهم: نسألك الرضا، فيشهد لهم على الرضا، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي عند كل عبد منيته، ثم يعقبها عليهم: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [2] للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net