اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الباب الرابع عشر: مثل المؤمن كالزرع، ومثل الكافر كشجر الأرز:
الأرز هو شجر الصنوبر أو ما يشبهه.
وفي رواية: [(تفيئه)]، أي: تميله، فهما لفظان معناهما واحد.
والفيء: هو ظل القائم إذا زالت الشمس، فلو جعلت شيئاً عمودياً على الأرض في وقت الظهيرة فإنه لا يكون له ظل إلا إذا زالت الشمس، والفيء هو ظل ما بعد الزوال، وأما ما قبل الزوال فلا يسمى فيئاً.
ومعنى الحديث: أن الريح تجعل للزرع فيئاً وظلاً لأنها تؤثر في صفاته، فتحركه وتميله.
قال: [ (ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء) ].
والبلاء: سمة في الإيمان دائماً؛ ولذلك يضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للأنبياء وهم أفضل الخلق على الإطلاق، ومع هذا فهم أكثر الناس بلاءً؛ لإثبات السنة الكونية في أهل الصلاح، وأهل العلم، وأهل الاستقامة: أن البلاء يصب عليهم صباً، فإما أن تكون عندهم هفوات من الذنوب؛ فتكفرها هذه البلايا، وإما ألا يكون عندهم معصية ولا هفوة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الله تعالى يبتليهم حتى يرفع درجتهم.
الأولى: إن كان العبد صاحب ذنب؛ فالله تعالى يرسل إليه البلاء ليغفر له ذنبه، وأنتم تعلمون أن كل هم أو غم أو نصب أو وصب ينزل بالمرء إلا كفر الله تعالى به من خطاياه.
الثانية: فإن لم يكن له خطيئة، وقل أن يكون عبد كذلك، وربما ينزل البلاء وحجمه أعظم من حجم الذنب، فيغفر الذنب، ويرفع الدرجات.
قال: [ (ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُستحصد) ].
يعني: تختلع من جذورها، فالمنافق تنزل عليه البلايا لكنها لا تكفر ذنبه، ولا درجة له حتى ترفعها.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يعقد مقارنة بين المؤمن والكافر، أو المنافق، والمنافق كافر، فبعض النصوص ذكرت أنه منافق، والبعض الآخر ذكرت أنه كافر، فالمقارنة والموازنة الآن بين المؤمن وبين الكافر.
وإن المؤمن ليبتلى، ثم يبتلى، ثم يزاد له في البلاء، ثم يصب عليه البلاء صباً؛ حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، فليس نزول البلاء علامة بغض الله لهذا العبد، كما أن الصحة والعافية والسعة في الرزق والمال والدنيا ليست علامات على محبة الله لهذا العبد، بل ربما تكون على عكس ذلك، ففي هذا الحديث الموازنة بين العبد المؤمن وبين العبد الكافر.
فالعبد المؤمن ينزل عليه البلاء دائماً، فكلما قام من بلاء وقع في بلاء آخر، وكلما نجا من مصيبة وقع في مصيبة أخرى، وهذا هو حال المؤمن عند الله عز وجل.
وأما المنافق فربما لا يصيبه شيء من ذلك، فيعيش في عافية وصحة ورغد من العيش؛ حتى إذا أخذه الله تعالى لم يفلته، بل يستأصل شأفته مرة واحدة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز)، لأنها ثابتة في الأرض، لا يؤثر فيها الهواء ولا الرياح ولا شيء من هذا، حتى يأتيها الحاصد فيحصدها مرة واحدة.
قال: (لا تهتز حتى تُستحصد، أو تَستحصد).
فشجرة الأرز لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة، كالزرع الذي انتهى يبسه، وأما الزرع فإن الرياح تميله يمنة ويسرة.. فوق وتحت.
[ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع).. ].
الخامة: هي القصبة اللينة، أو العود اللين، فإذا أتته الرياح تؤثر فيه يمنة ويسرة.. فوق وتحت. [ (تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى) ].
تصرعها، يعني: تخفضها الريح مرة، فمثلاً أعواد القمح تأتي الريح بها هكذا مرة، وتأتي بها هكذا مرة، بخلاف شجرة الأرز التي هي الصنوبر؛ فإنها صلبة جامدة منتصبة غير نائمة، لا تؤثر فيها الرياح.
قال: [ (حتى تهيج) ]، يعني: حتى تيبس، ويأتي أوان قطافها وجمعها. [ (ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها، لا يفيئها شيء) ]، ومعنى (المجذبة)، أي: الثابتة في الأرض المنتصبة، التي لا تتأثر بالرياح، ولا غيرها.
قال: [ (حتى يكون انجعافها مرة واحدة) ].
(انجعافها) يعني: حصادها وانقلاعها من الأرض مرة واحدة.
وفي رواية: [ (ومثل الكافر كمثل الأرزة) ] بدل: (مثل المنافق)، والمعنى واحد؛ لأن المنافق كافر؛ لأنه أظهر الإسلام، أو عمل بمقتضيات الإسلام الظاهرة، ولكنه لم يعمل بمقتضياته الباطنة، بمعنى: أنه أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وعمل بجوارحه، فظاهره الإسلام، ولكنه ليس مسلماً في الحقيقة.
قال العلماء: معنى هذا الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله؛ وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته، مكفر لسيئاته إن كانت عنده سيئات، ورافع لدرجاته إن لم يكن عنده سيئات.
وأما الكافر فقليل الآلام في نفسه وأهله وماله؛ ولذلك تجد الواحد من الكفار، خاصة في أوربا أو أمريكا تراه مثل العجل، كما قال ربنا عنهم: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، فهو يمسك السندوتش بيده اليمين، والعصير بيده الشمال، والكوب العصير فيه حوالي خمسة لتر، حتى إنك تتعجب وتقول: هل يستطيع أن يشرب هذا الكوب كله؟ فقد ألفوا أن يأكلوا هذا السندوتش، وأن يشربوا هذا المشروب.
فهم في الطول، وجمال المنظر، وجمال الشعر والعين وغير ذلك بالمحل المعروف لدى الجميع، ولكن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بأنهم قليلو الآلام في أبدانهم وأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وإن وقع أو نزل بالكافر أو بالمنافق بلاء فإنه لا يكفر من سيئاته؛ لأن الكفر عائق دون الكفارة.. والكفر عائق دون تكفير ذنوبه، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة، وإذا كان في نعيم ففي مقابل عمله الصالح في الدنيا، فالله تعالى ينعم عليه حتى يأتي يوم القيامة وليس له أجر.
أن الله تعالى لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده؛ لم يرد الله تعالى من ذلك إنفاذه، بل كان للابتلاء والاختبار، ولو أن هذا الأمر أراد الله تعالى إنفاذه كان لا بد أن ينفذ، ولم يدرك الله إسماعيل بهذا الكبش الفداء.
وكذلك موسى عليه السلام لما فقأ عين ملك الموت، عندما قال ربنا لملك الموت: انزل فاقبض روح عبدي فلان، كان هذا أمر للابتلاء والاختبار، ولذلك لم يتمكن ملك الموت من قبض نفس موسى عليه السلام في أول مرة، ولو أن الله تعالى أراد بهذا الأمر أولاً الإنفاذ دون الابتلاء؛ فإنه كان لا بد أن ينفذ.
فالابتلاء يراد به الاختبار، فالمصائب التي تنزل بالعبد المقصد منها النظر هل يصبر العبد أو لا يصبر؟ وهل يشكر أو لا يشكر؟ وهل يحمد الله تعالى على ما نزل به من ضر أو لا يفعل؟ وهل يتضجر؟ وهل يسخط؟.. وغير ذلك.
وأما البلاء فإن البلاء ينزل على المؤمن والكافر.
اختلف العلماء هل النخل من جنس الشجر، أو ليس من جنسه؟ وهل يطلق على غير نخل البلح أو التمر، أو الرطب، ولو من باب المجاز، أم أن كل ذلك أشجار إلا نخل البلح أو الرطب؛ فإنه يطلق عليه نخل؟
والراجح: أن لفظ النخلة يطلق مجازاً على الأشجار، كما أن نخلة البلح يطلق عليها شجرة أحياناً، وهذا قد ورد في لسان العرب مراراً.
وفي رواية: [ (مثل المؤمن فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي) ]، أي: اختلفت أقوال الناس: فقيل: هي شجر الزيتون.. شجر الرمان.. شجر المانجو.. شجر الخوخ.. شجر كذا شجر كذا، أي: اختلفت أقوالهم وتضاربت أي شجرة هي؟ خاصة: وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن من الشجر شجرة)، ولم يقل: نخلة، ولو قال: نخلة؛ لأجاب عنه أصغر أهل المجلس؛ لأن الغالب أن النخلة عند الإطلاق تطلق على نخل البلح؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما استخدم التمويه في هذا السؤال؛ حتى يختبر ذكاء وأفهام الحاضرين، فقال: [(إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله : ووقع في نفسي أنها النخلة)].
أي: حدثتني نفسي أنها النخلة، [(فاستحييت)] أي: لصغر سنه، وكان كبار الصحابة موجودين، وكان فيهم أبو بكر وعمر، ولم يجيبا على هذا السؤال، أفيطلع عبد الله بن عمر ابن العشر سنوات يجيب على هذا السؤال؟!
فسبب استحيائه أن أكابر الناس سناً وفضلاً وعلماً كانوا موجودين، وهم أعلم بحال البادية وأشجارها، وحال الحيطان والبساتين، ومع هذا لم يجيبوا بشيء، ولا أظن أن أبا بكر وعمر امتنعا عن الجواب لأنهما لم يعلما ذلك، وإنما لعلمهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما طرح هذا السؤال ليستحث أفهام الحاضرين، أو بعض الحاضرين.
ولذلك ربما يسأل عالم سؤالاً في مجلس من المجالس، وفيه من أهل العلم من فيه، فإذا أراد أحد أهل العلم أن يجيب على السؤال قال السائل: أنت تعلم أني ما قصدتك، وإنما قصدت أن يتعلم من لم يكن متعلماً، يعني: قصدت أن يجيب غبراء أهل المسجد وعامة أهل المجلس، وأما أنت فيقيناً أنك تعلم ذلك، وأن هذا السؤال ليس موجهاً إليك؛ ولذلك لا يسمع منه الإجابة، فربما يكون كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام امتنعوا عن ذلك لهذا السبب.
فـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنما فهم أنهما لم يجيبا، أو أن الكبار لم يجيبوا عن هذا السؤال؛ فاستحيا لأنهم لم يجيبوا، كما أنه استحيا أن يتقدم بين يدي كبار الصحابة بالجواب.
يعني: يا ليتك يا عبد الله! قلت: إنها النخلة، ولم تبال بالأكابر الموجودين.
وفي هذا جواز ضرب الأمثال والأشباه، واستحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في الفكر والذكر والاعتناء بطلب العلم.
كما أن فيه توقير الكبار؛ لفعل عبد الله بن عمر، حيث إنه لم يتكلم في حضرة الكبار، خلافاً لما يفعله كثير من الإخوة، فلو أن سائلاً سأل أحد أهل العلم فإنك تجد أن كثيراً ممن يقف ويلتف حول الشيخ المفتي يجيب عن المسألة بجواب يختلف عن جواب صاحبه، والمفتي لم يتكلم ولم يجب بشيء في المسألة، ويسمع من هذا ومن ذاك، ولا يرضى لا بإجابة هذا ولا بإجابة ذاك، وفي هذا من سوء الأدب ما فيه.
وفيه سرور الإنسان بنجابة ولده وذكائه وتوقده وحسن فهمه، فقول عمر رضي الله عنه: (لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا) أراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه، ويعلم حسن فهمه ونجابته.
ثم آخر شيء منها: نواها ينتفع به علفاً للأبل، ثم جمال نباتها، وحسن هيئتها، فهي منافع كلها وخير وجمال.
كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته، ومكارم أخلاقه، ومواظبته على صلاته وصيامه وقراءته، وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات، وغير ذلك؛ فهذا هو الوجه الصحيح في تشبيه النخلة بالمسلم.
كما أن المؤمن نفعه دائم، مثل النخلة التي لا يسقط ورقها، أي: لا يقل نفعها، فنفعها دائماً على مدار العام والعمر، وكذلك المؤمن دائم النفع وكثير النفع ونفعه متعدٍ.
فجماهير المحدثين على أن سنن النسائي في المرتبة والقوة بعد الصحيحين، وقبل سنن أبي داود ؛ لأن النسائي له شرط في كتابه أسدُّ وأشدُّ وأقوى من شرط أبي داود ، بل من شرط البخاري ومسلم ، لكنه يخالف ذلك كثيراً، وعلى أية حال: هو لم يشترط على نفسه الصحة، ولم يسم كتابه بالصحيح.
قال: [ عن أبي الخليل الضبعي عن مجاهد -وهو مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: (أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن؛ فجعل القوم يذكرون شجراً من شجر البوادي، قال ابن عمر : وألقي في نفسي أو رُوعي) ]، وليس رَوعي؛ والرُّوع بضم الراء هو النفس، وأما الرَّوع فهو الرعب والفزع.
[ (قال ابن عمر : وألقي في نفسي أو رُوعي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها) ] يعني: يهم أن يقول: هذه النخلة، [ (فإذا أسنان القوم) ] يعني: أكبر الناس سناً [ (فأهاب أن أتكلم) ] يعني: كلما أراد أن يتكلم ويقول: يا رسول الله! هي النخلة، يرى أسنان القوم فيرجع عن ذلك، ويهاب أن يتكلم في حضرتهم، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ (هي النخلة) ].
يعني: في طول الرحلة هذه لم يسمعه يحدث إلا بحديث واحد.
[ قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار).. فذكر الحديث بطوله ].
الجمَّار: هو عبارة عن شحم لين يكون في داخل النخل، وهو مما يؤكل، وهذا الجمار يسمى كذلك: كثر بالثاء، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في ثمر ولا كثر) أي: لا قطع لليد في ذلك.
فإذا نزلت في بستان أحد الناس وأكلت من ثمره حتى ولو زاد المأكول عن ربع دينار؛ فإنه لا تقطع يدك فيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً).
وفي رواية: (لا قطع في أقل من ربع دينار).
فتبين أن حد السرقة الذي يستوجب قيام الحد على السارق أن يكون ربع دينار، يعني: حوالي خمسين جنيهاً مصرياً، والدينار من الذهب، فلا قطع في أقل من خمسين جنيه.
فمن نزل أرضاً فيها بستان وأكل منه ما قيمته ربع دينار فصاعداً لا قطع عليه، لكنه لا يحمل معه شيئاً؛ لأن الشرع نهانا أن نحمل شيئاً من أرض الغير إلا بإذن صاحب الأرض، فإذا لم يكن صاحب الأرض موجوداً، أو لا إذن؛ فيحل لي أن آكل من هذه الأرض، شريطة ألا أحمل معي، لا أنا ولا من معي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا قطع في ثمر ولا كثر) يعني: لو أن واحداً في هذا الوقت أخذ هذا الكثر أو هذا الجمار من النخل، حتى وإن زاد ثمنه عن ربع دينار عن دينار، فلا قطع فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجمار مشاعاً للناس.
وفي هذا جواز انتشار الأمر والتحدث عن أهل المعاصي والفسوق؛ ولا يقوم مقام الحد؛ لأن الحد يحتاج إلى رؤية، فالمعصية هنا ثبتت في انتشارها وذيوعها بالقرائن.
فيجوز أن أقول: هذا الأخ إنسان مشبوه، وأحذر منه أصحابه الذين لا يعلمون عنه شيئاً من ذلك، وهو معلن بفسقه، ومقصر في عبادته، ولا يبالي بذلك؛ فيجوز أن نجهر في وجه هذا العاصي أو الفاسق.
فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد أحذر من فلان، فقد كان يحضر معنا الجماعة وفجأة قطع الجماعة، وكان يقرأ القرآن ويختمه في كل شهر، أو في أقل من ذلك أو أكثر، وصارت له مدة من الزمان لم يفعل شيئاً من ذلك، وكان مصاحباً لأهل الإيمان والتقى المعروفين بالصلاح وغير ذلك، وترك صحبتهم بغير عذر، ثم صاحب الفسَّاق، وصاحب فلاناً وفلاناً، ثم في آخر الأمر يدخل بيتاً مشبوهاً، وقد بحثنا فلم نجده دخل شقة من الشقق التي في العمارة إلا هذه، فهذه كلها قرائن، وأنا لا أثبت أنه زان، ولكني أثبت أنه قد انحرف.
ولذلك لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام بجمار قال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم).
إذاً: فلابد للمستمع أن يربط السؤال بالقرينة مباشرة، لماذا الجمار بالذات عندما وضع أمام النبي عليه الصلاة والسلام قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ذلك، والجمار لا يطلع في أي شجرة من الأشجار إلا في شجر النخل؟
إذاً: ففي هذا الحديث إثبات جواز.. بل استحباب واستحسان الاعتماد على القرائن في إثبات صحة الأمر أو نفيه.
قال: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها) ]، يعني: لا يسقط ورقها. [ (قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، فقال عمر : لئن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا) ].
إن مع كل إنسان قريناً.. بل قرينان: قرين من الشيطان، وقرين من الملائكة، فهما قرينان يتدافعانه، والمرء أحياناً يشعر في نفسه بالقرينين، فمثلاً قد تمشي في الشارع فترى امرأة جميلة، فيدعوك قرين السوء إلى النظر إليها، ويمنعك واعظ الإيمان والتقوى في قلبك، والذي يحركه ويذكره فيك قرين الخير من الملائكة، فهو الذي ينهاك عن ذلك، فأنت أحياناً تشعر بالصراع الداخلي أمام المعصية، فتارة تقبل عليها وأنت نادم متحسر مستح، تتمنى لو أن الله تعالى صرفك عن ذلك، وهذا التحسر والندم وتمني الانصراف عن هذه المعصية إنما هو بدافع من الملك القرين الذي معك.
قال: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق : أخبرنا، وقال عثمان : حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي- عن الأعمش -سليمان بن مهران الكوفي- عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي -من واسط في العراق، ولكنه نزل مكة، وتتلمذ على يد جابر بن عبد الله الأنصاري- عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) ].
يعني: أن الشيطان مل وتعب من أن يوقع الموحدين في جزيرة العرب في الشرك، وأن يسجدوا له، أو يصلوا له، أو غير ذلك.
[ (ولكن بالتحريش بينهم) ]، يعني: هو لما أيس من الشرك رضي منهم بالتحريش.
فهو يجتهد عليه بالشرك، فإن وجد هذا الباب مغلقاً في وجهه، وأن العبد عنده من التوحيد ما يحرسه ويحميه في هذا الباب؛ اجتهد عليه في باب البدعة؛ لأن البدعة هي الطريق إلى الشرك، فهو لما فشل أن يوقعه في الشرك مباشرة؛ لف له من طريق خلفي؛ ليوقعه في الشرك أيضاً، وهو باب البدع.
فإذا عجز أن يدخل للعبد من باب البدع، فهو صاحب سنة قائم بها وعليها، وحريص على نفسه أن يقع في شيء من هذا؛ اجتهد عليه في باب المعاصي.
فالمحاور ثلاثة:
المحول الأول: الشرك.
الثاني: البدعة.
الثالث: المعصية الكبيرة والصغيرة.
ومعنى هذا الحديث: أنه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والبغضاء والحروب والفتن وغيرها.
فأحسن واحد عند إبليس هو أعظمهم فتنة للناس، وأعظم فتنة بلا شك هي الشرك.
وفي هذا الحديث أمور:
أولاً: أن العرش هو سرير الملك، فيقال: عرش الملك الفلاني، أي: كرسي الملك الذي يجلس عليه، ومقعده الخاص به، ومعناه: أن مركز إبليس هو البحر، فيجلس على سطح الماء، ثم يوزع سراياه وبعوثه وجيوشه في نواحي الأرض.
قال: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة)].
يعني: يدني منه ويقرب منه أعظم الأبالسة والشياطين فتنة.
[ (يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؛ فيقول: ما صنعت شيئاً) ]. يعني: ما جئت به، وما أنت فخور به لا يساوي شيئاً.
قال: [ (ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت!) ].
يعني: أنت أحسن واحد؛ ولذلك العلماء يقولون: الأصل في النكاح الدوام، وأن الطلاق مكروه إلا لعلة، فأما أن نأخذ الكراهة من حديثه عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، فهذا حديث ضعيف، والحديث السابق يحل محل الحديث الضعيف ويغني عنه.
[ قال الأعمش: أراه قال: (فيلتزم) يعني: يحضنه ويقبله ويدنيه ويقربه منه؛ لأنه استطاع بحيله وألاعيبه أن يفرق بين الرجل وبين امرأته.
قال: [ حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -و معقل بن عبيد الله الجزري أبو عبد الله العبسي- عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة) ].
[ (قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي! إلا أن الله أعانني عليه فأسلم؛ فلا يأمرني إلا بخير)].
من العلماء من قال: (فأسلم) من الإسلام، أي: أن الله تعالى أعان نبيه على قرينه من الشيطان حتى أسلم، أي: دخل في الإسلام؛ فهو حينئذ لا يأمره إلا بخير، هذا على تقدير فتح الميم في كلمة: (أسلم)، فحينئذ هو لا يأمرني إلا بخير، وهذا هو الراجح من الكلام.
وهناك تقدير ثان: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ)، أي: فأسلمُ من شروره، أي: من السلامة، لا من الإسلام، أي: فإنني حينئذ أسلم من شروره.
ومنهم من قال: (أسلم)، بمعنى استسلم، خاصة وأن بعض الروايات -ومنها رواية عند البخاري - أنه قال: (إلا أن الله أعانني عليه فاستسلم)، ومعنى (استسلم): انقاد وأذعن وأسلم إسلاماً حقيقياً، وليس إسلاماً ظاهرياً كإسلام الكثير من الناس.
وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين، ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم بأن القرين وهو الشيطان معنا؛ لنحترز منه بقدر الإمكان، والأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، فلا يصيبه شيء من ذلك.
وفي رواية أخرى قال: [ (وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) ]، أي: ما منا من أحد إلا ومعه قرينان: قرين من الجن، وقرين من الملائكة.
قال: [ وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت عروة بن الزبير : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه) ]، أي: أصابتها الغيرة. [ (فجاء فرأى ما أصنع، فقال مالك يا عائشة ! أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟) ].
وهذا الحديث لعله هو المتمم لحديث: (أحشيا رابية)، (فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة عائشة إلى المقابر ظنت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى إحدى نسائه، فخرجت خلفه وتبعته حتى أتى المقابر في ظلمة الليل، فرأى كالشبح، قالت: فدنوت منه حتى أتى المقابر فرفع يديه وظل يدعو لأهل البقيع..
فأسرع النبي عليه الصلاة والسلام خلف هذا الشبح، حتى دخل في بيت عائشة ، فوجدها قد نامت في فراشها، ولكن فراشها يرتفع وينخفض)، وليس هذا شأن إنسان نائم، ولذلك أيقن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرك فوراً أن عائشة هي الشبح الذي كان قد رآه في الطريق، (فنهزها في صدرها نهزة وقال: أحشيا رابية، أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟) ]، يعني: هل أنت متصورة أنني سأظلمك فأتركك وأذهب عند غيرك؟!
فلعل هذا الحديث من هذا الباب.
قال: [ (قالت: يا رسول الله! أومعي شيطان) ]، أي: هل زوجة النبي وبنت الصديق معها شيطان؟! [ (قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم) ].
أي: على تقدير الروايتين: حتى أسلمَ.. أو أسلمُ.
إن الذي يدخل النار إنما يدخلها بعمله، والذي يدخل الجنة إنما يدخلها برحمة الله، والعمل سبب في ذلك، الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق علم أن من عباده من يدخل الجنة، ومن عباده من يدخل النار، ولذلك خلق الله تعالى الجنة وخلق النار، فجعل لأهل الجنة قسماً، وجعل لأهل النار قسماً.
وقال: (يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت).
فالله عز وجل علم ذلك أزلاً، وأما العمل الذي يعمله الإنسان فلا يستحق به النعيم في الجنة، ولو قلت: أنا رجل أصلي وأصوم وأزكي وأعمل كل الطاعات، وأترك كل المعاصي، فنقول: إن العمل وحده لا يكفي لدخول الجنة.
ولو عمِّر عبد ستين عاماً، وكتب الله تعالى له عبادة ستين عاماً منذ أن ولد وإلى أن مات، وأنه من أهل الطاعات، ولم يقترف ذنباً قط؛ فالمعادلة التي يعرفها الناس: أنه يتنعم ستين سنة ثم يخرج، حتى وإن خرج لا إلى نعيم ولا عذاب، وهذا الأصل، ولما يعمل شخص لك خدمة، فإنك ستعمل له أنت أيضاً خدمة، فإذا قال لك: أنا خدمتك، فإنك تقول له: وأنا أيضاً قد خدمتك، وانتهت القضية على هذا، لكن تصور لو أن عبداً كافراً نطق بالشهادتين ثم مات بعدها فوراً، ولم يدرك صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً ولا شيئاً من الطاعات مطلقاً، فإنه يدخل الجنة، ويتنعم فيها نعيماً أبدياً سرمدياً لا نهاية له، لأنه قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ثم مات بعدها مباشرة، فهل كلمته هذه تساوي ذلك النعيم السرمدي الأبدي؟
الجواب: لا، لأن هذا العمل أو هذه الكلمة كانت سبباً في نجاته من النار ودخوله الجنة، وأما النعيم الذي يلقاه الإنسان في الجنة فهو فوق عناء الطاعة، وصبره على الامتناع عن المعاصي وغير ذلك، فهو مجرد سبب، وأما التنعم فهذا فضل الله تعالى.
ولو أراد الله تعالى أن يرزقك الولد من غير زواج لفعل؛ لأنه على كل شيء قدير، ولو أراد الله تبارك وتعالى أن يشبعك بغير طعام، وأن يرويك بغير شراب لفعل، فهو مريد لذلك، وقادر عليه سبحانه وتعالى.
ولذلك أحياناً الإنسان قد يأكل ولا يشبع، وقد يشرب الماء ولا يرتوي، وقد يرتوي ثم هو سرعان ما يشعر بأنه قد عطش مرة أخرى.
إذاً: فالسبب قد يتخلف، فشخص يذاكر طوال السنة لأجل أن ينجح، لكن لا يلزم أن ينجح، مع أنه هنا قد حصل سبب النجاح والتفوق، فقد يمرض في ليلة من ليالي الامتحان، فيتخلف عن الامتحان، أو يذهب إلى الامتحان ولم يفتح عليه.
وكذلك الإنجاب يحتاج إلى نكاح، ويحتاج إلى رجل وامرأة، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من غير امرأة، خلقها من ضلع آدم.
وكذلك خلق الله تعالى عيسى من امرأة بغير نكاح ولا رجل، مع أن الأسباب لا بد منها، لكن ذلك ليس بلازم في قدرة الله عز وجل، فلا يدخل أحدنا عمله الجنة، وإنما العمل سبب لدخول الجنة.
وعند الحاكم (أن رجلاً عبد الله خمسمائة سنة، فلما جيء به بين يدي الله قال: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي يا رب!).
فلما حصلت الموازنة بين نعمة الله عليه، وبين عبادته، وضعوا نعمة البصر فقط في كفة، والعبادة كلها في كفة ثانية؛ طاشت هذه العبادة، وغلبتها وثقلت بها نعمة واحدة من نعم الله وهي نعمة البصر، ثم إن الذي قوى ذلك على العبادة هو الله عز وجل، فلا منة على الله، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
يعني: إذا لم تبلغوا الكمال في العبادة فلا أقل من أن تقتربوا منه؛ ولذلك جاء في رواية: [ (فسددوا وقاربوا) ].
والسداد هو سداد التوفيق، أو قمة التوفيق في العبادة، يعني: احرصوا على أن تبلغوا أعلى درجات الكمال في العبادة والعلم والعمل، فإن لم تبلغوا هذه المرتبة؛ فلا أقل من أن تجتهدوا في الوصول إليها.
قال: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني ربي برحمته) ].
معنى (يتغمدني) أي: يعمني ويشملني برحمة منه وفضل ومغفرة كما في روايات مختلفة، وفي رواية: [ (إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة) ].
[ وقال ابن عون بيده هكذا وأشار على رأسه (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة) ].
أي: يعمني، وأشار إلى رأسه للدلالة على أن المغفرة والرحمة تعم جميع البدن.
وفي رواية: [ (ليس أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتداركني الله منه برحمة) ].
ومعظم الروايات هي كهذه الرواية، وفي رواية بالزيادة [ (ولكن سددوا وقاربوا، وأبشروا) ]، (سددوا) أي: ابلغوا السداد، فإن لم تستطيعوا فلا أقل من أن تقتربوا منه، وإذا بلغتم مرحلة السداد أو الاقتراب من السداد؛ فأبشروا برحمة من الله وفضل.
قال: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، قال: ولا أنا إلا برحمة من الله).
وفي حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) -أي: الذي يديم عليه صاحبه- وفي رواية: (أحب العمل إلى الله ما ديم عليه) ] أي: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً.
وماذا ينفعك عملك طول الليل وأنت قائم تصلي، أو تقرأ القرآن، وقبيل الفجر غلبك النوم فنمت؟ وأي الأعمال أحب إلى الله: أن تنام ثم تقوم فتدرك الفجر وهو الفرض، أو أن تصلي النافلة على هذه الشاكلة، وعلى هذا النحو حتى يفوتك الفرض؟ فأحب الأعمال إلى الله العبادة، والاقتصاد في العبادة لا يقال إلا للمجتهد الذي أنهك نفسه.
فالذي يصلي ركعتين فقط يومياً في قيام ليل، والوتر بعد ذلك، ويداوم على ذلك؛ فهذا أحب إلى الله عز وجل من إنسان يصلي إحدى عشرة ركعة في ليلة، ويترك الصلاة لمدة أسبوع أو شهر، فالأول مداوم وإن كان عمله قليلاً، فهو أحب إلى الله تعالى.
وهذا الحديث يبين أن العمل ما هو إلا سبب لدخول الجنة، لكن في حقيقة الأمر: ليس هذا السبب كفيلاً بدخول الجنة، والله تعالى هو الذي جعله سبباً لدخول الجنة، كما جعل العمل السيئ سبباً لدخول النار.
والعلماء يقولون: إن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في التوحيد. فالذي يقول: أنا أريد ولداً، يقال له: تزوج، فيقول: لا أريد أن أتزوج، فربنا قادر على أن يأتي لي بولد من غير أن أتزوج، يقال له: هذا كلام صحيح، ونحن نؤمن معك على أن الله تعالى قادر على ذلك، بل على ما هو أعز وأصعب من ذلك، فلو أراد الله تبارك وتعالى أن يجمع الدنيا والآخرة فيجعلها في هذا الكأس لفعل، وهذا هو التوحيد، لكن الله تبارك وتعالى بين لنا أنه لا يفعل ذلك، مع أنه الذي قضى في كتابه أنه على كل شيء قدير.
وكلمة: (شيء) تفيد العموم، فالدنيا شيء، والآخرة شيء، والجنة شيء، والنار شيء، فلو أراد الله جمع ذلك كله في أقل من هذا الكأس لفعل.
فإذا قال شخص: أنا عملت العمل الفلاني، ولا بد أن تكون نتيجته كذا، فهذا كلام غير صحيح؛ لأن المرء يتزوج ولا ينجب، مع أن الزواج هو السبب الموصل إلى الإنجاب وإلى الولد، ولا يلزم منه الولد، فقد تصبح المرأة عقيمة.. أو الرجل عقيماً، أو لا عقم عند الرجل ولا عند المرأة لكن لا ولد، مع أن المرأة لا شيء فيها يمنع من الحمل، والرجل لا بأس فيه، إذاً: السبب قائم، ونتائجه غير لازمة.
وقد تكون المرأة عندها عقم، ومع هذا لما طلقت من هذا وتزوجت بآخر أنجبت، مع أن العلة كانت عندها.
إذاً: فالاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد.
فالثواب والعقاب، والجنة والنار، والواجب والمحرم، والمكروه وغير ذلك، يثبت عند المعتزلة بالعقل، فما حرمه العقل فهو الحرام، وما أحله العقل فهو الحلال، وما أوجبه العقل فهو الواجب، وما أباحه العقل فهو المباح، لأن العقل عند المعتزلة قاض وحاكم على النص، فالعقل أصل والنص فرع.
وأما أهل السنة والجماعة فليسوا كذلك، فالثواب عندهم لا يثبت إلا بنص، فالنص عندهم هو الأصل، ولا بد أن يتمشى العقل مع النص، وإذا حصل خلل وعدم توافق واتزان بين العقل والنص فالعلة في أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن النص غير ثابت، وإما أن العقل لم يدرك مراد الله تعالى بالنص، والعقل قاصر، فإذا أدرك معنى هذا النص؛ فربما عجز عن إدراك المراد من النص الثاني، وغير ذلك.
فالإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع.
والشرع عبارة عن: قال الله.. قال رسوله، وقد أجمع أهل العلم على أن أدلة الشرع هي: القرآن والسنة والإجماع.
ومذهب أهل السنة والجماعة أيضاً أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، تعالى الله عن ذلك، خلافاً للمعتزلة فهم يقولون: بل هذا واجب على الله، ويستدلون بحديث معاذ بن جبل الذي يقول فيه: (أتدري ما حق الله على العباد؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا حق.
ثم قال: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن يدخلهم الجنة).
فالمعتزلة يقولون: إذا وحد العبد ربه؛ يجب على الله أن يدخله الجنة.
فهم يوجبون على الله عز وجل، وأما أهل السنة فلا يقولون بهذا الوجوب، بل يقولون: لا يحل لعبد أن يوجب على الله تعالى شيئاً، وأما قضية أن الله أوجب على نفسه ذلك فهذه قضية ثانية، ولذلك يقول: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟).
والذي أثبت هذا الحق على نفسه هو الله عز وجل، وأما المعتزلة فيقولون: للعبد أن يوجب على الله تعالى ما هو الأصلح.
وهذه المسألة محل نزاع عند المعتزلة، هل يجب على الله الصالح أم الأصلح؟
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن عملها كتبت سيئة)، وأما إذا عمل حسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
فالمعتزلة يقولون: العشر حسنات في مقابل الحسنة هذا صالح، لكن الأصلح منه: سبعمائة، وإذا كانت الحسنات للحسنة التي عملها العبد تتراوح ما بين عشر وسبعين؛ فيجب على الله تعالى أن يعطيه السبعين؛ لأن السبعين هي الأصلح للعبد.
والذي قرره ربنا في باب الحسنات: أن الحسنة هي الحسنة نفسها، لكن ربنا جعل أدناها عشراً، والله تبارك وتعالى بعدله جعل السيئة بسيئة.
وأيضاً تفضل على عبده أنه إذا هم بها فلم يعملها؛ كتبت له حسنة، مع أنه في باب المباح لا له ولا عليه، ومع هذا تمنن الله تبارك وتعالى وتحبب إليه بأن جعل ذلك له حسنة مع أنه لم يعملها.
فقول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله عز وجل؛ يلزم منه أن يعطي في مقابل الحسنة سبعمائة حسنة، ومذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء تعالى الله عن ذلك، بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار؛ كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعَّمهم وأدخلهم الجنة؛ فهو فضل منه، وإن عذبهم فليس بظالم لهم، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك؛ لأنه ملكه، يفعل فيه ما يشاء، ولكنه أخبر -وخبره الصدق- أنه لا يفعل ذلك.
فعندما يأتي شخص ويقول: أليس في ملك ربنا يوم القيامة أن يتوب على الكافرين ويدخلهم الجنة؟
الجواب: نعم بيده ذلك؛ لأن الملك ملكه، فهو بيده كل شيء يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، لكن الله تبارك وتعالى الذي بيده كل شيء هو الذي أخبر أنه لا يغفر لهؤلاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فما دون الشرك كالكبائر والصغائر والبدع ما لم تبلغ مرحلة الكفر، فكل ذلك في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وأما الشرك فإن الله تعالى قضى في كتابه، وأخبر رسوله في سنته أنه لا يغفره ألبتة، مع أنه بإمكانه أن يغفره كبقية الذنوب، لكن الله تعالى استثناه من عموم المغفرة، فالأخبار تحتاج منا إلى تصديق، والآيات تحتاج منا إلى تنفيذ وعمل، فالله تعالى أخبر أنه لا يغفر للمشرك؛ فيجب علينا تصديق ذلك الخبر.
ولو أنعم على الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر -وخبره صدق- أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين والكفار ويخلدهم في النار؛ عدلاً منه سبحانه.
وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل لا بالشرع، هذا واجب، فهذا حرام، وهذا مكروه، وهذا جائز، فيوجبون ثواب الأعمال، بل يوجبون الأصلح ويمنعون خلافه، وهذا من اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع.
وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته، فإن الله تعالى يقول: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، ويقول: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] أي: بسبب ما كنتم تعملون، إذاً: فالأعمال عبارة عن أسباب، وأما التوفيق للأعمال والهداية بالإخلاص فيها وقبولها؛ فبرحمة الله تعالى وفضله، فيصح عندنا أن المرء لا يدخل الجنة بمجرد العمل، فقد يعمل الإنسان عملاً بغير إخلاص، ويصح أنه يدخل الجنة بسببها، وذلك برحمة الله، والذي هداك لهذه الأعمال، ووفقك إليها هو الله تعالى.
قال: [ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه)، وفي رواية: (تورمت قدماه)]، وفي رواية: [ (انفطرت أو تفطرت قدماه) ].
ومعنى: (تفطرت)، أي: تشققت بسبب طول العبادة، صلى الله عليه وسلم.
[ (فقيل له: أتكلف هذا) ]، يعني: لم تتكلف هذا؟ [ (وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) ].
يعني: ألا أقابل نعم الله تعالى علي بالشكر والحمد!
[ وعن المغيرة قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) .
وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة : يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: يا عائشة ، أفلا أكون عبداً شكوراً) ].
قال القاضي عياض : الشكر: معرفة إحسان المحسن، والتحدث به، يعني: أنت أحسنت إلي؛ فمن باب شكري لك على هذا الإحسان أن أذكر هذا الإحسان للناس، فالتحدث بإحسان المحسنين من أبواب الشكر، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكراً؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد لله تعالى: هو اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته.
وأما شكر الله تعالى لأفعال عباده، ولعبادة العباد فذلك بأن يجازيهم عليها إحساناً ومعروفاً وتوفيقاً وسداداً، وأن يضاعف لهم الثواب، وأن يثني عليهم بما أنعم عليهم؛ لأن الله تعالى هو المعطي سبحانه، والشكور من أسماء الله سبحانه وتعالى.
قال: [ عن شقيق أبي وائل الكوفي قال: (كنا جلوساً عند باب عبد الله ننتظره، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي ، فقلنا: أعلمه بمكاننا) ]، يعني: أخبره أننا في الخارج ننتظره، [ (فدخل عليه فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال: إني أخبر بمكانكم) ].
أي: أنا عارف أنكم قاعدين تنتظروني، وكانوا يتأدبون مع المشايخ، وينتظرون في الخارج إلى أن يخرج إليهم، من دون أذية أو مناداة أو طرق للأبواب.
قال: [ (فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا) ].
يعني: مخافة أن نسأم وأن نمل، وفي رواية عن شقيق أبي وائل قال: [ (كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس) ].
ومن غفلة الصالحين في هذه الأيام: أن بعض إخواننا من الزهاد والعباد يقولون: أي موعظة في غير يوم الخميس بدعة؛ لأن عبد الله بن مسعود كان لا يذكر قومه إلا يوم الخميس، قلت: هذا مما اتفق للناس، ولا يوجد نص أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يذكر أصحابه إلا يوم الخميس، قالوا: عبد الله بن مسعود كان من ألزم الناس لسنة رسول الله، فقلت: هل هذا الكلام غير مقبول أبداً.
قال: [ (كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن ! إنا نحب حديثك ونشتهيه -يعني: نريد أن نسمع منك في كل وقت- ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم -أي: حتى لا تملوا كلامي- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة -يعني: يجعلها كل فترة- في الأيام؛ كراهية السآمة علينا) ].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
https://audio.islamweb.net