إسلام ويب

إن وقوع العبد في المعصية ومقارفته للخطأ من سمات البشر التي جبلهم الله عليها، وكما أن الشارع بين للعبد ما يأتي به من أذكار وأدعية للاستغفار والتوبة عما قارفه من المعاصي، أرشد كذلك إلى أدعية وأذكار للاستعاذة من الوقوع في الذنب والمعصية ابتداءً، وهذا فضل من الله عز وجل تفضل به على الأمة المحمدية.

باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

فمع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.

شرح حديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه واللفظ لـيحيى قالا: أخبرنا جرير عن منصور عن هلال عن فروة بن نوفل الأشجعي]. والصحيح أنه ليس صحابياً، وإنما الصحبة ثابتة لأبيه بلا نزاع، أما هو فمن كبار ثقات التابعين.

[قال: (سألت عائشة عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به الله)]. لم يسألها عن الدعاء عند الطعام ولا عند الكرب ولا عند نزول المطر، ولا في المساء والصباح، وإنما سألها سؤالاً عاماً كأنه كان يسأل عن معظم دعائه عليه الصلاة والسلام، أو: ما هو الدعاء المعتاد الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام؟ سأل عائشة رضي الله عنها خاصة ليطلع على أقواله الإيمانية عليه الصلاة والسلام في بيته، فلا شك أنه يسأل الخبيرة بذلك. [قالت: (كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)]. يعني: يستعيذ الله تبارك وتعالى ويستغفره لما يمكن أن يكون بدر منه، ولما يمكن أن يقع منه في المستقبل، وهذا محمول منه عليه الصلاة والسلام على الهفوات والهنات.

أما الكبائر فإن الأنبياء جميعاً معصومون من الوقوع فيها، وما وقع من الكبائر على يد الأنبياء إنما ذلك كان قبل البعثة وقبل النبوة، كما وقع من موسى عليه السلام، وأنه قتل رجلاً من بني إسرائيل، وهذا القتل كان قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام.

أما الهفوات والصغائر فإن المحققين من أهل العلم، ومن أهل الأصول والحديث يقولون بجوازها على الأنبياء؛ ولذلك قوله هنا: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت) أي: من الصغائر والهفوات والهنات واللمم. أي: الشيء الصغير جداً الذي يلم بالفرد دون قصد منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله مما يمكن أن يكون وقع منه في أيامه الأولى قبل البعثة أو بعد البعثة مما وقع فيه من هنات وزلات يسيرة جداً، أعقبها استغفاراً وتوبة وإنابة إلى الله عز وجل، أو أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو بهذا الدعاء لعلمه اليقيني بأن الدعاء هو العبادة، فهو أراد أن يتقرب إلى ربه ومولاه وسيده بهذا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، أو أراد عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء: التواضع، وأن يعلم أمته كيف يدعون الله عز وجل، وغير ذلك من التأويلات الكثيرة التي قالها أهل العلم في شرح هذا الحديث وغيره.

شرح روايات وطرق أخرى لحديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت...)

قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وهو الكوفي، الإمام الكبير صاحب المصنف -وأبو كريب- وهو محمد بن العلاء الهمداني قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين -وهو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي- عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل ، قال: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)].

أما قول فروة بن نوفل: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به) يعني: يستمر على الدعاء عليه، ويواظب عليه.

ومن الأخطاء الفادحة جداً: تحريف الكلم عن مواضعه بغير قصد، أما إذا كان بقصد فهذا كفر بواح؛ وهو أني سمعت أحد الخطباء يقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملتَ ومن شر ما لم أعمل). فالنسبة لفعل الشر هنا لله عز وجل، وهذا بلا شك خطأ فادح جداً وإن لم يكن مقصوداً، لكن على أية حال يقلب المعنى رأساً على عقب، كما لو قال في الصلاة: صراط الذين أنعمتُ عليهم، مع أن الآية: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ [الفاتحة:7] وهذا بلا شك تحريف للكلم، وهذا الذي يسميه أهل العلم اللحن الجلي الذي تبطل به الصلاة؛ لأنه يغير المعنى تماماً، ولذلك تبطل به صلاة الإمام وصلاة المأمومين كذلك.

[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان عالمان جليلان، وفي كل وجوه الترجيح يثبت أنهما سواء، فهما في جهة العدالة سواء بغير ترجيح، وفي جهة الضبط والإتقان سواء بغير ترجيح، وهذا الذي يسميه العلماء كفرسي رهان. يعني: أن الفرسين ينطلقان سوياً ويصلان سوياً في توقيت واحد، فكذلك محمد بن المثنى العنزي البصري أبو موسى ومحمد بن بشار المعروف بـبندار ، هما كفرسي رهان، يعني: ليس بينهما أي وجه من وجوه الترجيح؛ لأنهما في كل زاوية من زوايا الترجيح سواء.

قال: [حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي- ح وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد يعني: ابن جعفر كلاهما عن شعبةمحمد بن جعفر المعروف بـغندر تلميذ شعبة بل وربيبه، لأن شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه.

وقوله: كلاهما عن شعبة. أي: ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، فـابن أبي عدي ومحمد بن جعفر كلاهما يرويان عن شعبة [عن حصين بهذا الإسناد]. أي: بالإسناد السابق مثله تماماً. غير أن محمد بن جعفر في حديثه: (ومن شر ما لم أعمل).

[وحدثنا عبد الله بن هاشم] وهو ابن حيان العبدي أبو عبد الرحمن الكوفي ، سكن نيسابور.

[حدثنا وكيع -هو ابن الجراح العتكي الكوفي- عن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو عن عبدة بن أبي لبابة عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، وشر ما لم أعمل)].

شرح حديث ابن عباس: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت...)

قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر قال: حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر] وهو التميمي المقعد ، هكذا لقبه. قال: [حدثنا عبد الوارث وهو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري ، أحد الأعلام، حدثنا أبو عبيدة العنبري التميمي قال: حدثنا الحسين -وهو ابن ذكوان المعلم البصري- قال: حدثني ابن بريدة -وهو عبد الله بن بريدة- عن يحيى بن يعمر البصري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت، أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)] هذا دعاء رائع جداً وجميل، وفيه ما يلي:

أولاً: فيه الإذعان والاستسلام لله عز وجل؛ لأنه في أوله كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فيقول: لك أسلمت. أي: انقدت إليك وأذعنت واستسلمت وخضعت ولا أومن إلا بك. ومن سياق الكلام لم يقل: اللهم إني أسلمت لك. ولكنه قال: (لك أسلمت). وهذه شبه جملة، مكونة من الجار والمجرور تفيد الحصر والقصر، فكأنه يقول: لك أسلمت لا لغيرك، وبك آمنت لا بغيرك، فهو يقصر الإيمان على الله عز وجل والإسلام لله عز وجل، كما أنك تقرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فلو قلت: نعبد إياك ونستعين إياك لجاز أن يقال: نعبد إياك وغيرك، ونستعين إياك وغيرك، لأن الجملة حينئذ لا تفيد الحصر، فيجوز أن نعبد الله ونعبد غيره، ويجوز أن نستعين بالله ونستعين بغيره؛ لأن الجملة لا تفيد الحصر.

أما قولك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: العبادة مقصورة على الله عز وجل، لا تصرف إلا لله، وكذلك الاستعانة مقصورة ومحصورة فيه سبحانه وتعالى، فلا يجوز صرفها لغير الله.

قال: (وعليك توكلت). ولم يقل: (توكلت عليك). إلى آخر الحديث؛ ليدل على حصر هذه العبادات كلها في جنب الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ولو صرف شيء منها لغير الله لوقع الفاعل في الشرك؛ لأن هذه كلها عبادات.

وهذا الحديث كذلك يبين الفرق بين الإيمان والإسلام؛ لأنه لم يقل: لك أسلمت وآمنت، وإنما قال: (لك أسلمت وبك آمنت)، ليدل على أن الإسلام له مدلول وأن الإيمان له مدلول آخر.

فهذا الحديث قد بين الفارق بين الإيمان وبين الإسلام، وأنتم تعلمون أن كل مؤمن مسلم ولا بد، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أن كل محسن مؤمناً ولا بد، ومن باب أولى أن يكون مخلصاً، ولا يلزم أن يكون المؤمن محسناً؛ لأن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان، كما أن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، فالأعلى يشمل الأدنى وليس العكس.

قال: (وإليك أنبت) أي: رجعت. (وبك خاصمت) المخاصمة هي: المحاججة؛ ولذلك يقال: فلان دخل مع فلان في خصومة. أي: ليس في خصام، وإنما في مناظرة، في لجاج، في حجاج، في بيان مسألة الحجة بالحجة، فالمخاصمة هي: المجادلة بالحق، فقوله هنا: (وبك خاصمت) أي: استعنت بك في سرد الأدلة من كلامك، ومن كلامي الذي تلهمني به، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لربه: لا حول لي ولا قوة مع أعدائي إلا بك. (وبك خاصمت) أي: لا أستطيع أن أخاصم ولا أن أجادل ولا أن أحاجج إلا بك يا رب.

(اللهم إني أعوذ بعزتك) الاستعاذة هي اللجوء والتضرع، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله عز وجل بعزته، والعزة من صفات الله عز وجل. قال بعض أهل العلم: لا يجوز القسم إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وما دون ذلك فهو شرك.

ولا يجوز نداء الصفة، كما تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، يا قدرة الله، يا ملك الله، ونداء الصفة شرك بالله عز وجل؛ لأنك تنادي الصفة لا تنادي الموصوف، فدخلت الشبهة على بعض السامعين لذكر عزة الله عز وجل، كما في هذا الحديث.

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (اللهم إني أعوذ بعزتك) فهو استعاذ بصفته تعالى وهي العزة، فهنا استعاذة بعزة الله، والاستعاذة بعزة الله عز وجل ليست نداءً، لأنها مسبوقة بقوله: اللهم، فالنداء أولاً لله عز وجل، ثم أعقب النداء لله عز وجل بالاستعاذة بعزته، فليس هذا باب شبهة قط فيما يتعلق بنداء الصفة.

قال: (اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني) وهذا يثبت أن الخير والشر بإذن الله عز وجل؛ لأنه قال: اللهم إني أعوذ بعزتك. وقوله: (لا إله إلا أنت) جملة اعتراضية، ففيها إثبات وحدانية الله عز وجل وإلهيته، وأن الخير والشر بيديه.

أما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك). أي: الشر المحض الذي لا خير فيه. فإنه ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وجل.

فالشر الذي في ظاهره شر ولكنه يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وجل القدري لا الشرعي، أما الشر الشرعي كالزنا مثلاً، فالذي ينظر إلى الزنا يعلم علماً يقيناً أن الزنا كله شر، ويقول: لا خير فيه قط.

لكن لو علمت أن هذا الزاني أقيم عليه الحد في ملأ من الناس فكان هذا الحد رادعاً لكل الناس عن الوقوع في الزنا لعلمت أن حادثة زنا واحدة أحجمت عن ألف حادثة زنا لقلت: يلزم أن تقع هذه الحادثة.

والإنسان لما يقتل إنساناً -والقتل هذا شر- فالله عز وجل قدر وقوع القتل في كونه؛ ليقام الحد على القاتل، ويشهد إقامة الحد طائفة من الناس، فهذه الطائفة تبلغ الأخرى، والأخرى تبلغ ثالثة والثالثة تبلغ رابعة، حتى ينتشر هذا الحد بين الناس، وبشاعة إقامة الحد تصل إلى قلوب الناس فتهز أعماقهم، فإذا أراد إنسان من هؤلاء أن يفكر في جريمة قتل فكر ألف مرة قبل ارتكابه القتل، وأنه سيتحدث الناس عنه في قتله والقصاص منه، فيحجم عن القتل، وكذلك الزاني والسارق وغير ذلك من الحدود التي شرع الله عز وجل إقامة الحد لها.

فهنا ليس الوقوع في هذه الكبائر المحدودة أو المحدود أصحابها شراً محضاً، وإنما فيها الخير؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] مع أن القصاص قتل وإراقة دماء، وكان من الممكن أن يستعاض عنه بأي شيء، بمال أو بتطييب خاطر، أو بأغنام أو بإبل أو بأي شيء، لكن الله عز وجل شرع القصاص لمن قتل متعمداً؛ لأن القاتل لو قتل لاستراح أهل القتيل، ولطابت أنفس وقلوب أهل القتيل، لكن لو ترك القاتل يرتع بين ديار أهل القتيل لا يهنئون، ولا يهنأ لهم بال، إنما يقومون عليه وعلى أبيه وأمه وإخوانه وعشيرته وقبيلته فيعملون فيهم القتل، فيقتلون بالواحد مائة، ولكن العدل أن الواحد يقتل بواحد، والنفس بالنفس، فإذا قتل القاتل استراح أهل القتيل، وبذلك ينجو أهل القاتل من غدر أهل القتيل.

أسرة قتل منها رجل رجلاً آخر من قبيلة أخرى، فاستعدت القبيلة عن بكرة أبيها لأن تقاتل القبيلة الأخرى بأسرها، فنتج عن ذلك دماء لا نهاية لها، لكن أسرة القاتل لو أنهم دفعوا القاتل إلى ساحة أهل القتيل فقتلوه لاستراح الفريقان، فهذه هي الحياة، ولكن الحمير لا يفهمون!

ولذلك شرع الله عز وجل شرعه، وكل شرعه حكمة، وحيثما كانت الحكمة والمصلحة فثم شرع الله عز وجل.

قال: (اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني). لأن الإضلال بيدك والهداية بيدك. (أنت الحي الذي لا يموت). كان يكفي أن يقول: (أنت الحي)؛ لأن الحي لا يموت، لكن هذا تأكيد، أنت الحي الذي لا يموت، صفة تكتمل بالحي، أو الاسم يكتمل بالحي؛ لأنه لا يمكن أن يلتبس ببقية الأحياء؛ لأن بقية الأحياء أحياء بغير الألف واللام المعرفة، فإنه لو قال: أنت الحي، لكان يكفيه ذلك، ولم يقل: أنت حي لا تموت، وإنما قال: (أنت الحي) فإنما كان يكفيه ذلك، لكنه أراد أن يبالغ عليه الصلاة والسلام في حسن عبادته وتقربه إلى الله بأسمائه وصفاته.

قال: (أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون) والمعلوم أن غير الإنس والجن من مخلوقات الله تموت، لكن لما كان أعظم الخلق هم الجن والإنس دل على أن ما دون الإنس والجن يموتون من باب أولى، لذا كان أعظم المخلوقات هم الجن والإنس، وهم يموتون كالحشرات والدواب والطير والحيوانات وغير ذلك من المخلوقات التي تموت، وكذلك الجمادات من الأرض والجبال وغيرها والأخشاب والجدر هي كذلك تموت من باب أولى.

شرح حديث أبي هريرة: (... سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ...)

[حدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال المدني عن سهيل بن أبي صالح المدني عن أبيه وهو أبو صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر)] وأسحر أي: بلغ وقت السحر، إما نام وقام وإما سار بالليل حتى وقت السحر.

يعني: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في سفر فنام من ليله ثم قام في وقت السحر الذي هو لون الفجر أو أنه سار بالليل، والمعلوم المسنون هو السفر بالليل، ولا يمنع أن يكون السفر بالنهار، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما سن وفضل السفر بالليل لا بالنهار، على خلاف عادة الناس، وعلى خلاف ما يحب الناس الآن، فإنهم يحبون أن يسافروا في الصباح، حيث الضوء وكشف الطريق وغير ذلك، وحتى يأمنوا الحوادث بالليل.

ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن الأرض تطوى بالليل دون النهار، وربنا الذي يعرف ذلك، ونحن قد آمنا بأن الأرض تطوى بالليل، أليست الأرض والسماوات في قبضة الملك سبحانه وتعالى؟ والله يستطيع أن يكور السماوات والأرض، ولا يمنع القادر على أن يكور السماوات والأرض، بل هو القادر على ما هو أعظم من ذلك، وهو قادر على كل شيء سبحانه وتعالى أن يضم الأرض بعضها إلى بعض فتقصر المسافة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأرض تطوى بالليل، وتقصر، والمسافر بالليل لا يجد عناء السفر بالنهار، والسفر بالليل أحب إلى قلبي من السفر بالنهار، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل) والدلوج هو الانطلاق في السير في أول الليل، وإذا أدلج على هذا النحو بلغ هدفه.

وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه يسافر بالليل، ويقطع طريقه في أول الليل، فإذا تعبت دابته استراح، فربما نام وربما استراح شيئاً يسيراً يصلي فيه ثم ينطلق حتى يسحر.

فهنا قال: (كان إذا كان في سفر وأسحر) أي: بلغ وقت السحر إما ماشياً وإما بعد نومه.

قال: [(سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار)] وسمع بمعنى شهد وإما سمع أي: أخبر مخبر عن الله عز وجل أن الله تعالى يسمع حمد من حمده وشكر من شكره على حسن بلائه الذي نزل به.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ربنا صاحبنا وأفضل علينا). ومعنى صاحبنا أي: احفظنا وأحطنا واكلأنا وأفضل علينا بجزيل نعمك، واصرف عنا كل مكروه. كما أنك تقول: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل. (اللهم أنت الصاحب) يعني: أنت الحافظ، وأنت المعين، وأنت الميسر، وأنت المتفضل، وأنت المحيط بنا، الذي تكلؤنا.

قال: [(عائذاً بالله من النار)] أي: أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله تعالى أن أعذب بالنار.

شرح حديث: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ...)

[حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق وهو السبيعي عن أبي بردة -وهو ابن أبي موسى الأشعري- عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء]، وهذا دعاء عام ليس مخصوصاً بوقت دون وقت، وإنما هذا من الأدعية العامة. يقول: [(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)].

وأهل اللغة يفرقون بين الخطأ والخطيئة، فيقولون: الخطيئة للذنب العظيم، كما في قول الله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] ولم يقل: من خطاياهم، أو من خطئهم، وإنما قال: (خَطِيئَاتِهِمْ) فالخطيئة بمعنى الذنب العظيم.

والنبي عليه الصلاة والسلام لم يرتكب ذنباً عظيماً، وإنما عد النبي عليه الصلاة والسلام عدم بعض الكمال والتمام في حقه ذنباً عظيماً، كما تقول الصوفية: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني: حسنات قوم هي عند قوم سيئات. ونحن لا نقول بهذا القول، لكن أردت بأن أقرب المعنى.

والنبي عليه الصلاة والسلام قد وقع في هفوة أو في شيء من هذا كقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، والعبوس لو صدر من واحد منا لا حرج عليه، وهو باب من أبواب سوء الخلق وانتهت القضية على هذا، ولو قابلتك وقلت لك: سامحني ما كنت أعرفك، والذي لا يعرفك لا يقدرك، أو كلام من هذا، انتهت القضية.

لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا في حق نفسه كبيرة من الكبائر، مع أنها ليست كبيرة، ولكنها هفوة وزلة صغيرة استغفر منها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الفارق بيننا وبين الأنبياء، أن الواحد منا يقع في الذنب ولا يعقبه بتوبة، وربما يقع في كبيرة أو كبائر ولا يعقبها بتوبة، بخلاف الأنبياء يقعون في اللمم ثم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى الله عز وجل ويستغفرونه ويتوبون مما بلغ منهم، وهذا فارق عظيم جداً ليس بالأمر الهين.

فهكذا النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر أن ما بدر منه من هفوات هي خطيئات مع أنها خطايا، وذنوب صغيرة.

وفي الحديث عند البخاري وكذا مسلم : (أن المؤمن يعد ذنبه كالجبل). يعني: المؤمن يعتبر ذنبه الصغير كالجبل وهو واقف تحته يخشى أن ينهار عليه.

أما الفاجر فإن كبائر الذنوب عنده ليست إلا كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا فطارت. يعني: أشار إليها بيده ثم طارت بعد ذلك؛ لأنه مستهتر ومستهين. إذا كان هذا في حق المؤمن والفاجر، فما بالكم إذا كان المؤمنون في صعيد والنبي عليه الصلاة والسلام في صعيد آخر يعتبر أن أقل ما يمكن أن يلام فيه أنه خطيئة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا إلا كما يفعله أقرب المقربين الأتقياء.

تصور لو دخل علينا رجل نعرف عنه الفساد والضلال، وهو زعيم قوم أو أمير قوم، ودخل وهو يضرب به المثل في الضلال، فأنا أرجو الخير له أن يدخل في الإسلام إن كان كافراً أو غير ذلك، وسأترك الدرس وأجلس أتكلم معه، ولو كلمني أحدكم أو كلكم. وهكذا.

لما دخل أشراف قريش على النبي عليه الصلاة والسلام يناقشونه ويجادلونه فأتاهم ابن أم مكتوم رجل أعمى رضي الله عنه ولكنه مؤمن، وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حاجة، وسؤال، فلما دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يكلم أشراف قريش آثر استمرار الكلام معهم وتأخير ابن أم مكتوم ، فأنزل الله عز وجل فيه العتاب كما في قوله: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].

يعني: لا تصرف بصرك ووجهك وقلبك يا محمد عن أصحابك مهما كانوا فقراء، أذلة، ضعفاء، قلة، ولا تغتر بأشراف القوم، فإنهم لا خير فيهم. فهو مجرد عتاب، ولكن تصور أن هذا العتاب واللوم البسيط اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام كالجبل من المعاصي، فيقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي). والجهل ضد الحلم لا العلم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خرج من بيته: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي). يعني: أن أنتقم لنفسي، أو أثأر لنفسي، (أو يجهل علي). يعني: أعوذ بك أن تسلط علي رجلاً غليظاً لا رحمة عنده ولا حلم، فالجهل هنا ضد الحلم وليس هو الذي يقابل العلم. (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري). هو لم يسرف عليه الصلاة والسلام، لكن هذا أدب الدعاء، وما دمت تدعو الإله سبحانه وتعالى فيستحب لك أن تبين له أنك في منتهى الذل بين يديه، وأن تعد الصغائر بين يديه كبائر، لا أن تقول: يا رب! أنا لم أفعل شيئاً، والحمد لله، لا سرقت ولا زنيت ولا قتلت ولا، ولا، ولا.. وتعد الكبائر التي صنفها الذهبي وتقول الحكاية كلها بعض الصغائر كالشتم، والسب، وهوى الشيطان، هذه أمور بسيطة تتعالج. لا. أنا أريدك أن تعد الذنب وإن صغر كبيرة من الكبائر، لتعبد الله على بصيرة ولتذلل لمولاك وسيدك، ولو أنك هونت الذنب على نفسك فسيسلمك لذنب آخر، وهكذا، كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله: إن من حلاوة الطاعة أنها تسلم إلى طاعة أخرى. ومن شؤم المعصية أنها تسلم إلى معصية أخرى، يعني: إذا فعلت معصية انتبه بسرعة وارجع عنها وتب، وإلا سلمتك إلى معصية أخرى.

وكذلك إن فعلت طاعة فبادر وسارع لأن تتلبس بطاعة أخرى. يعني: تصور أنت هذا الوقت صليت المغرب، فهذه طاعة، وحضرت مجلس العلم، وهذه طاعة، وبعد مجلس العلم صليت العشاء، وهذه طاعة، وبعد مجلس العلم ذهبت قرأت قليلاً من القرآن فهذه طاعة، وصليت قيام الليل طاعة ونمت على أذكار بنية التقوي على طاعة الله فهي طاعة، ثم قمت إلى صلاة الفجر فهي: طاعة، انظر حياة المؤمن كيف تكون؟ طاعة تستند إلى طاعة، وأما أهل المعاصي فالمعصية تجر المعصية.

قال: [(اللهم اغفر لي جدي وهزلي)] وهزله عليه الصلاة والسلام كله حق، وقد جوز النبي عليه الصلاة والسلام المزاح، ولكنه كان لا يقول إلا حقاً. هذا شرط في المزاح، وهو ألا يكون إلا حقاً، ومعلوم مزاحه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ومع النساء من أصحابه رضي الله عنهن.

قال: [(اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).

حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي حدثنا شعبة بهذا الإسناد] أي: به سواء.

شرح حديث: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)

قال: [حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)].

وانظر إلى هذا الدعاء فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم الدين قبل الدنيا؛ لأن الدين دائماً قبل الدنيا، ولو أنك حزت الدنيا بحذافيرها وفقدت الدين فما حزت شيئاً قط، بل خسرت كل شيء. ولو أنك فزت بالدين وخسرت كل شيء بعده لفزت بكل شيء؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يبين لأصحابه هذه القاعدة، فيقول: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ لئلا تزدروا نعمة الله عليكم).

والعلماء يقولون في قوله عليه الصلاة والسلام: (انظروا إلى من هو فوقكم ولا تنظروا إلى من هو دونكم). أي: في الدين والخير والطاعة، لا تتأثر بمن هو دونك، لأنك لو تأثرت بمن هو دونك فستقف عند حد معين من الطاعة.

أما إذا تأسيت وجدت أعظم أسوة هو النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، ولذلك يقول ابن مسعود : من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أي: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، والأسوة المعصوم الذي لا يخطئ هو النبي عليه الصلاة والسلام.

ولذلك القراءة في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وفي سيرة أصحابه الكرام تجعل الواحد دائماً يحتقر نفسه! اقرأ مثلاً في سير الصحابة رضي الله عنهم، اقرأ الثلاث المجلدات الأول في سير أعلام النبلاء، لترى كيف كانت عبادة الصحابة رضي الله عنهم؟ وكيف كان عملهم وجهادهم وصبرهم وجلدهم وإنفاقهم في سبيل الله عز وجل؟

والنساء يقرأن في حياة الصحابيات وحياة الصالحات من السلف رضي الله عنهن، فكل واحد أو واحدة منا لا بد وأنه سيحتقر نفسه ويحتقر عمله، بل ربما يصل الواحد فينا إلى درجة اليقين أنه هالك، والواحد منا يقول: لولا رحمة ربنا سندخل الجنة. ما هي مؤهلاتنا التي ممكن أن ندخل بها الجنة؟ إن للجنة مؤهلات، فمؤهلاتنا كلها غيبة ونميمة وتقصير في طاعة الله عز وجل، وخداع وغش وريبة وربا وتزوير وتمويه، فليس لنا مؤهلات تدخلنا الجنة إلا برحمة الله عز وجل.

لما نقرأ في حياة السلف سنقول: أين نحن؟ وبعض المتبجحين منا والمقصرين والمفرطين جداً في طاعة الله عز وجل يطلبون الفردوس الأعلى، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أننا ليس لدينا مؤهلات لدخول الجنة من الأصل، ولا لعبور الصراط، لكنها على أية حال رحمة الله عز وجل التي نرجوها.

كان عليه الصلاة والسلام يقول: [(اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري). أول طلب يطلبه النبي عليه الصلاة والسلام ويقدمه على غيره من المطالب هو إصلاح الدين. أي: بإقامته على منهج الله عز وجل. [(وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)] يعني: الدين ليس فيه إلا جنة أو نار، إنما الدنيا فيها المعاش، وأنت تعيش على الفول وغيرك يعيش على لحم الضأن، فأنتما سواء، هي عيشة وخلاص. يعني: هذه المعيشة ليست محل اهتمام ولا تعظيم ولا تفكير؛ إنما الذي يستحق التفكير والاهتمام هو الدين، والحديث: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم). العلة فيه: (لئلا تزدروا نعمة الله عليكم).

فالفقير الذي يصلي ويصوم عند ما يزدري نعمة الله عليه حينما ينظر إلى ما أعطى الله للغني من نعيم فيقول: لماذا ربنا أعطى الرجل هذا، رغم أنه لا يستحق وحرمني وأنا أستحق؟

وهذا الغني الذي نتحدث عنه أفضل من هذا الرجل إذا قال هذا الكلام واعتقده؛ لأنه يعتقد أن الله تعالى غير حكيم في توزيع أرزاقه، والله هو الرزاق ذو القوة المتين، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء، ويعطي من يشاء، وإذا أعطى الله عز وجل عبداً فإنما يعطيه لحكمة، وإذا منع عبداً فإنما يمنعه لحكمة، فربنا سبحانه هو الحكيم.

فالأصل أن الفقير لا يصاحب الغني، إذا كان سيؤثر عليه بأن يزدري نعمة ربنا عليه، وأحسن له أن يصاحب الفقراء من أهل الإيمان، من أجل يستمر شاكراً لنعمة الله عز وجل عليه. وكثير من الفقراء إذا صاحبوا الأغنياء تمردوا على أسرهم، بل وسعوا جاهدين لئن يكونوا مثلهم وأعلى منهم، وهذه المسألة في عامة الناس مذمومة، فما بالك في أهل العلم وطلاب العلم، فهي أكثر ذماً وقبحاً، بل هي تقدح في عدالة من فعل هذا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم). يعني: في الدنيا، (مخافة أن تحتقروا نعمة الله عز وجل التي أسداها لكم).

قال: [(وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)]، أي: رجوعي إليك. [(واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)].

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وأمتني ما دام الموت خيراً لي). يعني: إذا كان الموت فيه خير يا رب! وأنت تعرف ذلك سلفاً فقدره لي، ويسره علي، وإذا كان بقائي في الحياة خير لي فالحياة أحب إلي من الموت. فالعبد يذعن ويخضع ويسلم أمره، فيقول: يا رب اختر لي أنت، أنا لا أحسن الاختيار.

وكلنا نحب الحياة الدنيا ونكره الموت لأنه ليست عندنا المؤهلات التي تجعلنا نحب لقاء الله عز وجل، ونتمنى لقاء الله، فالرصيد فوق الصفر بشيء يسير، وهذا الذي يجعلنا كلنا خائفين من الموت.

لكن لو الواحد فينا يكون كما كان سلفنا رضي الله عنهم يتمنى لقاء الله عز وجل، بل ورد أن السلف رضي الله عنهم تمنوا، بل ودعوا على أنفسهم في الفتنة بالموت، كان الواحد منهم إذا رأى الفتنة مقبلة قال: اللهم أمتني، اللهم اقبضني وأنا ساجد، اللهم اقبضني وأنا أجاهد. وغير ذلك، والعلماء يجوزون طلب الموت خوف الفتنة، أما طلب الموت عموماً فلا يجوز، إنما في الفتنة جائز، وكان الله عز وجل يستجيب دعاؤهم.

شرح حديث: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى ...)

قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص] وهو عوف بن مالك ، أبو الأحوص عوف بن مالك لكن ليس الأشجعي ؛ لأن الأشجعي صحابي، بينما هذا هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي.

[عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)].

قوله: (اللهم إني أسألك الهدى). أي: الهداية. فالناس يتصورون أن العلم هو الهداية، أو المعرفة هي الهداية وليس هذا بصحيح، وإنما الهدى هو الإذعان والاستسلام والإيمان بالله عز وجل، ولذلك فالعلم لا يغني عنك من الله شيئاً إذا لم تعمل به، بل هو سبب إحراقك في النار إذا لم تعمل به أو لم تطلبه لله عز وجل.

(والتقى) التقوى. (والعفاف) العفة. (والغنى) المقصود به غنى النفس، والغنى عما في أيدي الناس. يعني: رزق الكفاف؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً). وفي رواية: (كفافاً). وقوتاً يعني: قوت يوم بيوم. وكفافاً. يعني: ما يكفيهم في يومهم.

ولو كان جمع الدنيا هو المراد لورد إلينا ولو مرة واحدة في نص إلهي أو نبوي طلب الدنيا، لكن النصوص الشرعية كلها تدل على ذم الدنيا، والنصوص التي مدحت الدنيا إنما مدحتها من باب أن صاحبها يستغلها في طاعة الله عز وجل، ويؤدي فيها حق الله تعالى، وحق الفقراء والمساكين، أما غير ذلك فهي مذمومة مسبقاً.

شرح حديث زيد بن أرقم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ...)

وفي رواية زيد بن أرقم قال: [لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)]. العجز: الضعف. [(والجبن والبخل، والهرم)] الهرم الذي هو كبر السن [(وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها -يعني: ارزق نفسي التقوى- وزكها -أي: طهرها- أنت خير من زكاها)]. ليس معنى ذلك أن هناك من يزكي النفس دون الله عز وجل، لقوله: (أنت خيرٌ) أو أنت خير من زكاها. لا يعني: أن غيرك يزكيها لكن أنت أحسن من يزكيها، ليس هذا المعنى، إنما المعنى أنت المزكي لها لا غيرك. [(أنت وليها ومولاها)].

[(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)] مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يحث على العلم وطلب العلم وفضل العلم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ من علم لا ينفع بين يدي الله، إما أن يكون هذا هو علم الشرع ولكن المتعلم أو الطالب له لم يتعلمه لله ولم يعمل به، فهذا علم ينقلب عليه وبالاً يوم القيامة؛ ولذلك أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: منهم: العالم الذي تعلم العلم ليقال فقط أنه عالم. يعني: طلبه للوجاهة أو الرئاسة، أو لحظ من حظوظ الدنيا وغير ذلك، فهذا سينقلب عليه علمه وبالاً.

وكذلك العلوم التي لا تنفع: علم السحر والفلسفة والمنطق والدجل، وعلم النجوم وغير هذا من العلوم المحرمة، كل هذا من العلم الذي لا ينفع. [(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع)] أي: نفس عندها نهم وشره، كلما وقعت العين على شيء اشتهته النفس واشتهاه القلب، وهذه آفة في النساء، ولا يمنع أن تكون في كثير من الرجال، امرأتك تمشي معك أو أختك أو أمك، كلما وقعت عينها على أشياء جميلة تريدها.

قال: [(ومن دعوة لا يستجاب لها)].

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: [كان قال النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا أمسى: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له)].

على أية حال يا إخواني أظن أننا قد دخلنا في أدعية مخصوصة بأوقات معلومة؛ وهي أدعية اليوم والليلة، أو أدعية النهار والليل.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net