إسلام ويب

غزا النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دين الله غزوات عدة، منها غزوة بدر والطائف وفتح مكة، وفي كل غزوة من هذه الغزوات من العبر والعظات والفوائد ما يسطر به الصفحات، ويؤلف فيه المصنفات، فقد جعل الله نبيه صلى الله عليه وسلم أسوة لعباده المؤمنين، في حله وترحاله، وفي مقامه وقتاله.

باب غزوة الطائف

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

الباب التاسع والعشرون: (باب غزوة الطائف).

شرح حديث عبد الله بن عمرو في حصار الطائف

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعاً عن سفيان -هؤلاء جميعاً يروون عن سفيان بن عيينة- قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدّث سفيان بن عيينة عن عمرو فهو عمرو بن دينار المكي - عن أبي العباس الشاعر الأعمى عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]. وقيل: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أي: أن بعض الروايات أثبتت أن صاحب الرواية هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، وبعضها -كما عند البخاري - أن راوي الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب. وبعض الروايات جمعت على سبيل الشك والجزم أنهما اثنان: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، والأمر فيها يسير، وهذا ما يسميه العلماء بالعلة غير القادحة، فيستوي عندي أن يكون هذا الراوي هو عبد الله بن عمر أو هو عبد الله بن عمرو ، حتى لو قال الراوي من التابعين: حدثنا رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمه أصلاً، لكنه ذكر صفته وقال: هو أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذه من العلل غير القادحة. أما العلل القادحة: أن يضطرب الراوي في من سمع منه: هل هو فلان أم فلان، ويكون أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة. فلو قال الراوي: حدثنا سفيان فقلنا: من سفيان ؟ اختلفنا هل هو ابن عيينة أم هو الثوري لا يضر هذا، وكلاهما ثقة، فهذا من العلل غير القادحة، لكن لو كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة لكان هذا هو الإشكال.

[ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئاً) ] أي: حاصرهم ولم يحصل قتال، وإنما الذي حصل مجرد محاصرة خارجية لسور المدينة لأهل الطائف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام [ فقال: (إنا قافلون إن شاء الله -أي: لا نقاتل، بل سنرجع بغير قتال- قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟) ] استعظموا جداً أن يأتوا من المدينة إلى الطائف ليفتحوها، فتم لهم الحصار وهو نوع من الغلبة والنصر والتمكين، ثم يرجعون بغير قتال! فقالوا: كيف هذا يا رسول الله؟! نرجع ولا نقاتل هؤلاء ولا نفتتحها؟!

قال: [ (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال) ] يعني: في الصباح وبعد صلاة الفجر إذا كانت لكم نية في القتال فقاتلوا، وظني أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك كالمنكّل بأصحابه؛ لكونهم خالفوه في أمره: (إنا قافلون إن شاء الله) أو: (إنا قافلون غداً) يعني: غداً سنرجع إلى بلادنا بغير قتال، ولكنه قال: إن شاء الله، فعلّق الأمر على مشيئة الله، وربما غر هؤلاء تلك المشيئة فقالوا: (نرجع ولم نفتتحه يا رسول الله؟! قال: اغدوا على القتال) أي: في الصباح قاتلوا هؤلاء، وإنما فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لعلمه بقوة القتال لأهل هذه القرية، أو بقوة عدتهم وزيادة عددهم وغير ذلك.

وهذا يذكرني تماماً بنهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال في الصيام، قالوا: (يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) فلما أُخبر أن بعض أصحابه واصل أمرهم بالوصال، وليس ذلك من باب التشريع ولكن من باب التنكيل والتأديب لأصحابه رضي الله عنهم وصلى الله على نبينا محمد، فلما واصلوا ثلاثة أيام كادوا يقعون من شدة الجوع والإعياء والتعب، وما أنقذهم من ذلك المأزق إلا دخول العيد، وصيامه حرام، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو طالت بكم الأيام -أي: أيام رمضان- لواصلت بكم) كالمنكّل لهم والمؤدب لهم. وبعضهم يقول: هذا رسول الله الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس في حاجة إلى العبادة، وهو أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا من بعده..، وغير ذلك من مناقبه وشمائله عليه الصلاة والسلام.

وكان هناك ثلاثة تقالّوا عبادته: أما أحدهما فيقول: أنا أصوم ولا أفطر. والثاني يقول: أنا لا أتزوج النساء. والثالث يقول: أنا أقوم الليل ولا أرقد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألستم القائلين كذا وكذا؟ قالوا: نعم. يا رسول الله! قال: أما إني أتقاكم وأخشاكم له، ولكني أقوم وأرقد، وأتزوج النساء، وأصوم وأُفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

قوله عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له). أي: أنا أعلمكم بالله، وكلما ازداد المرء علماً ازداد لله عبادة وطاعة، فهو يصحح لهم عليه الصلاة والسلام خطأً في أذهانهم، فهم تصوروا أنه ما دام هو أتقى الناس وأخشى الناس وأعلم الناس بربه. إذاً: لا يحتاج إلى عبادة الله، لكن نحن نحتاج إلى عبادة الله، فهو يصحح هذا ويقول: بل أنا أولى الناس بالعبادة منكم؛ لأن المرء كلما ازداد علماً بالله وخشية له ازداد قرباً منه سبحانه، وازداد في عبادته وفي طاعته لله، فحذار أن تتصوروا أن التقي لا يحتاج إلى العبادة كما يحتاجها غيره، بل تلزمه أكثر مما تلزم غيره، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام أعبد الخلق لله عز وجل؛ لأنه أعرفهم بالله، وأعلمهم به تعالى.

فقالوا: [ (نرجع ولم نفتتحه يا رسول الله! فقال لهم: اغدوا على القتال -أي في الصباح من الغد تقاتلونهم- فغدوا عليه فأصابهم جراح -أي: حينما غدا الصحابة رضي الله عنهم وصلوا الفجر مع النبي عليه الصلاة والسلام، قاموا للقتال وقاتلوا أهل الطائف- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً. قال: فأعجبهم ذلك؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسل).

قال: (فكأن الحديث معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الشفقة على أصحابه والرفق بهم بالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة) كما جرى بالفعل، وأنتم تعلمون أن الطائف فُتحت سلماً، فكأن الله تعالى أطلعه على ذلك، فقال: إنا قافلون. قالوا: لا، لن نقفل حتى نفتح الحصن.

(فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام حرص أصحابه على المقام والجهاد أقام وجد في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولاً من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لِما رأوا من المشقة الظاهرة، ولعلهم نظروا فعلموا أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم أبرك وأنفع وأحمد عاقبة، وأصوب من رأيهم، فوافقوا على الرحيل وفرحوا، فلما فرحوا بذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً من سرعة تغير رأيهم، والله تعالى أعلم).

وجوب طاعة الأمير وعدم مخالفته

في هذا الحديث: وجوب سماع أمر الأمير وعدم مخالفته، فإذا كان الشخص قد تأمر على سرية أو كتيبة أو جيش فلا شك أنه ما تأمر من فراغ، وإنما تأمّر لأنه أعلم الناس بخطط الحرب، وأعلم الناس بما ينفع قومه ويضر بهم، والخلاف والتنازع في الرأي يؤدي إلى الفشل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] أي: تضعف قوتكم، فحينئذ يجب على كل من كان تحت راية أمير أن يسمع له وأن يطيع ما دام السمع والطاعة في طاعة الله عز وجل؛ لأنه لا طاعة إلا في المعروف، ولا طاعة في المعصية؛ ولذلك تأمر أمير على سرية أرسله النبي عليه الصلاة والسلام فيها، فأجج ناراً وأمرهم أن يقذفوا أنفسهم فيها. قالوا: منها فررنا، أي: نحن قد فررنا من النار بإيماننا ودخولنا في الإسلام، فكيف تأمرنا بأن ندخل النار؟ فما أطاعوه في ذلك، وكان ظن هذا الصاحب أنه مطاع في كل أمر يأمر به، فلما رجع إلى المدينة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وأخبره أصحابه بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجند: (لو أطعتموه ما خرجتم منها أبداً) لو أطعتموه في هذا الأمر -لأنه أمر في معصية الله- ما خرجتم منها أبداً، فالحمد لله أنهم لم يمتثلوا أمره لأنه معصية، ولا يُعذّب بالنار إلا رب النار كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

لكن إذا كان أمر الأمير محل اجتهاد كأن يقول: نمشي من هذه الطريق أو من هذه الطريق؟ فاختلف أهل الشورى وأهل الحل والعقد الوجهاء في الجيش أو السرية، فبعضهم يقول: نمشي يمنة والبعض يقول: نمشي يسرة، ولكن الأمير اختار طريق الميمنة، فوجب على الجميع أن يسمعوا له ويطيعوا حتى الذين قالوا: نمشي على الميسرة، فالخلاف يكون في الرأي لا في العمل، كما أنه لا يفسد القلوب على الأمير، وإذا كان الأمر محل اجتهاد فليس اجتهاد الناس أو عامة الناس أو غبراؤهم أولى من اجتهاد الأمير، فاجتهاده يفصل النزاع؛ ولذلك سن النبي عليه الصلاة والسلام الإمارة في السفر فقال: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم) لِم؟ حتى يفصل النزاع حين وجود النزاع. فإن قيل: نأكل أو لا نأكل؟ البعض يقول: نأكل. والبعض الآخر يقول: لا نأكل. فالأمير يقول: نأكل إذا نزلنا في المكان الفلاني، فرأي الأمير يرفع الخلاف ويمحو النزاع. أو يقال: نمشي من هنا أم من هاهنا؟ نبيت أو لا نبيت؟ نسير أو نقف؟ نستريح أو نستمر؟ وغير ذلك من المسائل التي تعترض المسافرين.

فحينئذ أمر الأمير فيها يفصل النزاع، ولا يحل لمخالف له أن يقول: أنت وشأنك أنا باق هنا، إذا أردت أن تطعم فاطعم أما أنا فلا أطعم وهكذا، لا يحل لأحد أن يخالف أميره في شيء مما جعل الشرع له الإمارة فيه.

وإذا كان الأمير يرى أن الخير للمسلمين في قيام الصلح مع أعدائهم، فلا يحل لأحد أن ينازع الأمير في ذلك؛ لأنه صاحب دين، ويجر المصلحة والنفع للمسلمين، وإذا رأى أن المصلحة للمسلمين هي القتال والجهاد فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا لعذر شرعي، وهذا باب عظيم يسمى بعلم السياسة الشرعية، أو بمسائل الإمامة.

باب غزوة بدر

الباب الثلاثون: (باب غزوة بدر).

[ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار البصري - قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وثابت هو ابن أسلم البناني - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة الأنصاري فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها -يعني: لو أمرتنا أن نخيض الخيل البحر لفعلنا ذلك- ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس -أي: حثهم على القتال- فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قريش -أي: الذين ذهبوا ليتحسسوا وجود الماء. روايا: جمع راوية. وهو الذي يذهب ليستقي للناس- وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه -أي: فأخذه المسلمون- فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بـأبي سفيان -أي: أنا لا أعرف عنه شيئاً- ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ، فإذا قال ذلك ضربوه) أي: ضربه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام (فقال: نعم. أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بـأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضاً ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف) ] أي: سلّم من صلاته بعد أن أتمها بسرعة وعجلة.

وفي هذا جواز -بل استحباب- تعجيل الصلاة إذا نادى عليك مناد ذو هيئة، كالأم والأب، أو صاحب عذر كمريض يستغيث أو غريق أو إمام أو أمير أو سلطان أو عالم جليل، كل هؤلاء أصحاب هيئات ووجاهات، فإذا نادى عليك أحدهم وهو لا يعلم أنك في صلاة فعجّل بها إذا كانت نافلة؛ ولذلك نادى النبي عليه الصلاة والسلام على أبي بن كعب وهو يصلي فاستمر في صلاته، فلما سلّم من صلاته أتى وقال: (لبيك يا رسول الله! قال: ما منعك أن تُجيبني إذ دعوتك؟ قال: يا رسول الله! كنت أصلي. قال: أما قرأت قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]؟ أما قرأت هذا يا أبي ؟) فكان من كان يصلي نافلة من أصحابه عليه الصلاة والسلام ورسول الله يناديه يقطع الصلاة استجابة وتلبية لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الحكم منسوخ بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ويبقى استحبابه لأهل الوجاهات والهيئات كما ذكرنا آنفاً بتعجيل الصلاة لا بقطعها.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن انصرف من صلاته: [ (والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم) ] أي: أنتم تقولون له: ماذا تعرف عن أبي سفيان؟ فيقول: أنا لا أعرف عنه شيئاً، ولكن أعرف عن فلان وفلان وفلان، فتضربونه حتى يأتي لكم بخبر أبي سفيان، وفي الحقيقة هو لا يعلم خبر أبي سفيان. وهذه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن صدقه وهو لم يكن معه.

فقال: (تضربونه إذا صدقكم وتتركونه إذا كذبكم). وكأن النبي عليه الصلاة والسلام ينعى على أصحابه ضرب المتهم، وأنه متهم حتى تثبت إدانته؛ لأن الأصل في الشرع أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، فالإنسان بريء وليس متهماً، أما سلوك سبيل الضغط والتعذيب والكهربة والسحب والجر على الأرض والرمال وغير ذلك حتى يتكلم بشيء لم يعلمه أو لا علاقة له به أو غير ذلك فهذا مذهب المجرمين لا مذهب الموحدين؛ ولذلك نعى النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه أنهم ضربوا هذا الغلام الأسود المشرك الذي جعله قومه عيناً وجاسوساً على المسلمين، نعى عليهم أنهم ضربوه، لأنه صادق فيما يُخبرهم، فهو لا يعلم شيئاً عن أبي سفيان، ولكنه من شدة التعذيب والضرب يقول لهم: نعم. أنا أعلم خبر أبي سفيان فيخبرهم بخبر أو بخبرين فيتركونه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على الكذب تعذيبهم له.

قال أنس: [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا مصرع فلان) هنا سيموت فلان، وهنا سيموت فلان، أي: من صناديد الشرك والكفر.

قال: [ (هذا مصرع فلان، ويضع يده على الأرض ها هنا وها هنا قال: فما أماط -أي: فما تباعد- أحدهم عن موضع يد رسول الله عليه الصلاة والسلام) ] أي: أن كل واحد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أنه سيموت في موضع معيّن لم يغادره بل مات فيه، وكان في هذا المكان حتفه كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

سبب غزوة بدر

كان هذا في غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن غزوة بدر هذه غيّرت وجه التاريخ، بالضبط كأحداث سبتمبر، إذ أصبح لأوروبا وأمريكا تاريخاً في هذا الوقت كالتاريخ الهجري لنا، فنحن لنا أيام وهي الأيام الهجرية والشهور العربية، فكذلك هؤلاء صار لهم تاريخ مشرّف جداً وهو (11) سبتمبر، فيقال: أحداث ما قبل (11) سبتمبر، وأحداث ما بعد (11) سبتمبر، وهذا شيء طيب أن يكون لهم تاريخ، ونحن لا نكره أن يكون لهم تاريخ، فأعظم حدث بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الإسلام عامة هو غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم إنما حُملوا حملاً على الهجرة من مكة، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم ذهب فلان وفلان من صناديد الشرك والكفر في مكة لمقابلة النجاشي والتحريش بينه وبين هؤلاء المهاجرين، وتم رجوع بعضهم إلى مكة، وبعضهم صبر هناك حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقدم من الحبشة إلى المدينة، والهجرة تمت بعد (13) سنة من مكة إلى المدينة، وكانت أعظم حدث عرفه التاريخ، وكانت هجرته عليه الصلاة والسلام نصراً وأي نصر، ورفعاً للراية، وإسماعاً للعالم بالدعوة الجديدة وبنبي آخر الزمان، وأنتم تعلمون أن الذين هاجروا إلى الحبشة أو إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم تركوا أموالهم وديارهم وأهليهم، ومنهم من ترك أولاده، كل ذلك في سبيل الله عز وجل.

ومنهم من مُنع من الهجرة إلا أن يخرج من مكة ليس معه شيء إلا زاد الطريق، فلما كان ثمن ذلك الجنة باعوا كل شيء في سبيل الجنة؛ ولذلك بشّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بربح البيع.

فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثاني من الهجرة بأن عير قريش قادمة من الشام إلى مكة وهي محملة بالخيرات والأموال وغير ذلك أراد أن يخرج إليهم ليعوّض ما قد أخذوه من أصحابه في مكة، فما خرج لقتال ولا لجهاد ولا لثأر، وإنما خرج ليأخذ مال القافلة ومال العير، وهو شيء مما قد تركوه لهم في مكة، وهذا حق.

كان أبو سفيان في ذلك الوقت مشركاً، وكان زعيماً لهذه القافلة، وقد علم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فحاول بشتى الطرق الخلاص بالقافلة مع العبيد والإماء من طريق جانبي فرعي إلى مكة، وأخبر أهل مكة وصناديد الشرك والكفر فيها بأن محمداً يعترض القافلة، فقام صناديد الكفر في مكة بتجهيز جيش بلغ الألف وزيادة، وقاموا قومة رجل واحد قادمين إلى المدينة لملاقاة أبي سفيان في معسكر واحد لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا (314) شخصاً، واحتدم القتال عند بئر بدر على تفصيلات ليس هذا وقتها.

وإنما وقع القتال بين الطائفتين، والنبي عليه الصلاة والسلام قام يدعو ربه ويستغيثه بالليل، وكان ذلك في ليلة الجمعة، وكان القتال في صبيحة الجمعة، حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وسقط عنه رداؤه من على كتفه الشريف إلى الأرض، فأخذه أبو بكر ووضعه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رفقاً بك يا رسول الله! فوالله لينجزن الله لك ما وعدك، فأنزل الله تبارك وتعالى ملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلوا دونه قتالاً عنيفاً حتى كان عدد الأسرى من المشركين سبعين نفساً، والقتلى مثلهم، واستشهد من جيش المسلمين أربعة عشر شهيداً فقط، ورجع الثلاثمائة، وقد أُخذ القتلى من قريش وأُلقوا في قليب بدر، وهي حفرة عظيمة جداً، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم وهو يقول: (يا أهل بدر! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً؟) يا فلان ابن فلان! هل وجدت ما وعد ربك حقاً؟ ويا فلان ابن فلان هل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أتحدث قوماً قد ماتوا؟ وإنهم لا يسمعون) وهذا أمر يدل على استقرار عدم سماع الأموات لدى الصحابة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هؤلاء لهم خاصة فقال: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ففي هذا إثبات أن أهل القليب كانوا يسمعون النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا سماع خاص، والأصل أن الميت لا يسمع شيئاً، إلا مواضع معيّنة استثناها الشرع، منها أنه يسمع قرع نعال من شيعوه. وهذا نوع من أنواع الإسماع. وهذا مخصوص بهذا الموطن دون غيره من بقية المواطن، فما أثبت الشرع كتاباً وسنة أن الميت يسمع في موطن معيّن، فهو لا يتجاوز هذا الموطن سماعاً، وإلا فالأصل أنه لا يسمع.

جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له

في هذا الحديث: جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيراً، ونحن نتكلم عن الأحكام الشرعية التي تخصنا نحن، لا نتكلم ونقول: هل يجوز للكفار أن يضربوا أسرى المسلمين؟ فهل هم ملتزمون بالشرع حتى نقول: إنه يجوز أو لا يجوز؟ فنحن نتكلم عن شرعنا نحن والأحكام التي تحكمنا: هل يجوز لنا ضرب الأسير الكافر الذي لا عهد له؟ نعم. يجوز ضربه.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر

وفي هذا الحديث معجزتان من أعلام النبوة: إحداهما: إخباره عليه الصلاة والسلام بمصرع جبابرتهم، فلم ينفلت واحد منهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان سيموت هنا، وفلان يموت هنا، وفلان يموت هنا، فإذا بنفس الأشخاص يموتون في نفس الأماكن، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام.

الثانية: إخباره بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه.

باب فتح مكة

الباب الحادي والثلاثون: (باب فتح مكة).

شرح حديث أبي هريرة في فتح مكة

[ حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت بن أسلم البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان -وفدت وفود يعني: أتت الأفواج والسرايا والرهط إلى معاوية، ومعاوية كان مقيماً بالشام- فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام ].

وفي هذا جواز المناوبة في الخدمة إذا كانت قافلة مسافرة، فلهم أن يوزعوا أنفسهم: فلاناً للطبخ، وفلاناً للغسل، وفلاناً لبري الأقلام، وفلاناً لصقل السيوف وغير ذلك..، فلا بأس بهذا وهو من السنة، فليس هناك واحد يقول: أنا آكل فقط، فهذا بلا شك سيبقى على غيره ثقلاً وعبئاً.

قال: [ فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله ]. يعني: أبو هريرة كان أكرم هؤلاء، مع أنكم تعلمون أنه كان من الصحابة الفقراء جداً، وكان من أهل الصفة، لكن الواحد يجود بالموجود فقط، فكان أبو هريرة أكثر الناس دعوة لهم إلى الطعام.

قال عبد الله بن رباح: [ فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي؟ ] فهو يكلم نفسه، ألا يوجد مرة من المرات أسبق أبا هريرة في هذا الخير؟

قال: [ فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة فقال: سبقتني؟ قلت: نعم. فدعوتهم فقال أبو هريرة : ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟! ثم ذكر فتح مكة فقال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين) ]. والمجنّبة: الميمنة أو الميسرة. والخميس: اسم للجيش؛ لأن له ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب، هناك نظام حتى في القتال، فالإسلام دين النظام، فلا أقول: الذي يريد أن يقاتل يخرج ليقاتل، فهناك نظام، فالمقدمة تقاتل، ويبقى هناك ميمنة وميسرة، ثم إذا هزمت -عياذاً بالله- يتقدم فوج آخر، ويكون بين العدو وبين المجاهد مسافة تسمح بإبطال القذائف: كيلوان، ثلاثة كيلو، خمسة كيلو، عشرة كيلو؛ حتى إذا قذف قذيفة تقع ويبطل مفعولها قبل أن تصل إليك، وتكون أنت في هذا الوقت قد استنفذت قوة عدوك.

قال: [ (فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً - ابن الوليد - على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسّر) والحسّر: هم الراجلة الذين لا دروع معهم ويمشون على أرجلهم.

قال: [ (فأخذوا بطن الوادي) ] أي: فمشى هؤلاء الراجلة في بطن الوادي، فهناك جبلان وواد، فجعل الميمنة على الجبل الأيمن والميسرة على الجبل الأيسر، والمقدمة في نهاية هذا الوادي، والقلب في وسط الوادي، وفي مؤخرة الوادي هؤلاء الحُسّر الذين نسميهم نحن المشاة؛ لأنهم لا يركبون، وإنما يمشون على الأرض.

قال: [ (ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة) ] والكتيبة لا بد أن يكون فيها الرئيس، فلا تكون هناك كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش الكبير، وأنتم تعلمون أن كل فوج لا بد أن يكون له قائد، لكن لا يقال: كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش، ولو راجعت المغازي والسير فإنك لن تجد كتيبة إلا وفيها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يكن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كان اسمها سرية، والسرية لها قائد، والميمنة سرية، والميسرة سرية، والمقدمة سرية، والقلب سرية، والمؤخرة سرية، وقد عيّن النبي صلى الله عليه وسلم على كل سرية قائداً، فالجيش كله الذي يقوده النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كتيبة.

قال: [ (فنظر فرآني فقال: أبو هريرة؟ قلت: لبيك) ] وفي هذا استحباب أن يقول المنادى للمنادي: (لبيك).

قال: [ (قلت: لبيك يا رسول الله! فقال: لا يأتيني إلا أنصاري) ].

زاد غير شيبان فقال: (اهتف لي بالأنصار) يعني: نادهم بصوت عال.

قال: [ (فأطافوا به) ] يعني: أتوا بسرعة جداً حتى كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [ (ووبشت قريش أوباشاً لها وأتباعاً) ] يعني جمعت وضمّت من كل صنف من العجم والعرب والأسود والأبيض أناساً لا يقاتلون لغاية إلا المال، ونحن نسميهم في هذا الوقت الجيوش المرتزقة، جيوش مستعدة للقتال في أي مكان وفي أي دولة، تقاتل مسلمين أو تقاتل كفاراً.

قال: [ (فقالوا: نقدم هؤلاء) ] صناديد الكفر والشرك قالوا: نحن ندفع بهؤلاء في المقدمة، ودائماً الجيوش إذا أرادت الخلاص من أحد تقدمه إلى خط النار.

قالوا: [ (فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سُئلنا) ] أي: وإن قتلوا جميعاً وهجم علينا جيش المسلمين وسألونا شيئاً أعطيناهم، في الوقت الذي يكون قد تخلصوا فيه من الأوباش.

قال: [ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟) ]. إن هؤلاء الذين أنتم قادمون عليهم ليس لهم رسالة، فسرعان ما ينهزمون، فإن أي واحد يقاتل بغير رسالة وبغير غرض سام أول ما يرى النار وبريق السيوف يستكثر نفسه، لكن الذي يقاتل لأجل الجنة ورفع راية التوحيد يتمنى أن يُقتل فيرجع إلى الحياة فيُقتل ألف مرة، كما أنه يعز عليه أن يموت من أول جولة؛ لأنه يريد أن يخوض غمار الحرب إلى آخر لحظة ثم يموت. هذا الذي يقاتل لأجل راية أو غرض.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ (ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: حتى توافوني بالصفا) ] والكلام هذا موجّه لـخالد بن الوليد وغيره. يقول لهم: ترون هؤلاء؟ احذروا أن يفلتوا من بين أيديكم، وموعدي معكم على جبل الصفا، وهذا كان في فتح مكة.

وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الأوباش لن يقفوا أمام المسلمين، بل ربما يعجزون عن قتالهم. قال: فلا تتركوا منهم أحداً، اقتلوهم جميعاً وموعدي معكم على جبل الصفا، وهذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم تدل جيش الإيمان على أن هؤلاء أوباش لا يصمدون عند اللقاء، وأنهم جميعاً سيُقتلون، وأن جيش الإيمان لن يقتل، بدليل أنهم سيلقون النبي صلى الله عليه وسلم عند جبل الصفا، فهذه مكاسب من كل ناحية: قتل العدو، وحياتكم حياة طيبة كريمة، وأنكم ستدخلون المسجد الحرام حتى تدخلوا إلى جبل الصفا، وفي هذا إثبات فتح مكة قبل فتحها.

قال: [ (فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحداً إلا قتله) ] أي: ليس فينا أحد حدثته نفسه أنه يقتل هذا إلا ذهب إليه وهو واقف وقتله ثم عاد، وهؤلاء لا يقاتلون لأنهم خائفون ومرعوبون: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26] وهذا أعظم سلاح؛ ولذلك المسلم إذا انهزم نفسياً انتهى أمره، ولا ينهزم نفسياً إلا إذا كان هناك ضعف في إيمانه.

قال: [ (فما شاء أحد منا أن يقتل أحداً إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً) ] ولا حتى كلمة فهو أخرس، وكأنه منتظر للذي يأتي لقتله. أي: أن مهمته أن يقف مكانه حتى يأتي أحد المجاهدين فيقتله.

قال: [ (فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أُبيحت خضراء قريش) (أُبيحت) أي: استئصلت. و(خضراء) أي: الأهل والمال والولد والكرامة والعزة. قال: (أُبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم). أي: ستقتل قريش يا رسول الله! وأنت منها، فهو هنا يستعطفه.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) ]. وهذه مكافأة من النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي سفيان، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت لا يساوي شيئاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكافئه؛ لأنه أتى بين يديه واعترف بالهزيمة وقال: أُبيحت الخضراء، وكاد الناس ألا يذكروا قريشاً بعد ذلك بخير، فقد انتهت قريش وأنت منهم يا رسول الله! أبق على قومك وعشيرتك وإخوانك وأهلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مكافئاً له: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن). وفي رواية: (إن أبا سفيان رجل يحب الفخر -فأراد أن يتألّف قلبه- فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمن). فعندما عرف الناس أن هناك شروطاً تناحروا وتدافعوا كي يدخلوا دار أبي سفيان؛ حتى يأمنوا من القتل، وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن ألقى سلاحه فهو آمن) فقاموا برمي أسلحتهم على الأرض.

قال: [ (فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته) ].

والأنصار تركوا بلادهم وأتوا مع النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى الطائف، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمن). قال الأنصار: نحن الذي بايعنا النبي عليه الصلاة والسلام وتعبنا معه ومنعناه مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا وأموالنا، حتى إذا أتى مكة حن لـأهل مكة؛ لأن هؤلاء قومه وعشيرته وأهله، ورفع عنهم السيف، وأمّن الكثير منهم. إذاً: هو يريد أن يعيش في مكة ولا يرجع معنا إلى المدينة، فأزعجهم ذلك كثيراً، فتكلموا بما دار في نفوسهم. قالوا: [ (أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة : وجاء الوحي -ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال الأنصار- وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا) ] أي: أننا نعلم الوحي بعلامة، وهو أنه ينام عليه الصلاة والسلام كالمغمى عليه، ويتصفد عرقاً.

قال: [ (فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! قالوا: لبيك يا رسول الله! قال: قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ قالوا: قد كان ذاك يا رسول الله!) ] أي أنهم بالفعل قالوا هذا الكلام، فهم لا يكذبون؛ لأن الصحابي لا يكذب.

قال: [ (قال: كلا -أي: لا يمكن أن يبقى في قريته- إني عبد الله ورسوله) ] أي: فأنا عند وعدي. وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة من الغزوات أعطى فلاناً وفلاناً وفلاناً ولم يعط الأنصار، وما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء إلا ليتألف قلوبهم، والناس أصناف، فقال الأنصار: (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وفلاناً). وفي رواية: أنهم تحادثوا فيما بينهم: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قومه ومنعنا، فطلبهم فقال: ألستم القائلين بأني أعطيت فلاناً وفلاناً ومنعتكم؟ قالوا: قد قلنا ذلك يا رسول الله! قال: أما ترضون أن يذهب الناس إلى ديارهم ورحالهم بالدينار والدرهم وترجعون أنتم برسول الله إلى بلادكم؟! فإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء إنما هو متاع الدنيا، لكن الأنصار سيرجعون إلى بلادهم برسول الله، فهل يريدون أفضل من هذا؟

فهنا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ قالوا: قد كان ذلك يا رسول الله! قال: كلا -ينفي ذلك- إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم) أي: هاجرت إلى بلادكم هجرة خالصة لله تعالى، وكانت الهجرة إلى بلادكم. وهذا معنى قوله: (هاجرت إلى الله وإليكم) فلا يعني هذا: استعنت بالله وبك، توكلت على الله وعليك! وإنما معناه: هاجرت هجرة خالصة لله إلى بلادكم. هذا هو التقدير.

قال: [ (والمحيا محياكم، والممات مماتكم) ] أي أني سأحيا معكم في بلادكم، وموتي سيكون في بلادكم. وفي هذا معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أخبر بما وقع على النحو الذي وقع، ولم يقع في أثناء ما قال.

فقوله: (المحيا محياكم) أي: سأرجع معكم إلى بلادكم حتى يتوفاني الله فيها، وسيكون قبري حيث موتي في بلادكم، وقد كان عليه الصلاة والسلام رجع فعاش بالمدينة حتى مات بها.

قال: [ (فأقبلوا إليه يبكون) ] عرفوا خطأهم، وهذا بكاء الندم أو بكار الفرحة بهذه البشارة.

قال: [ (ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله) ] أي: نحن لا نؤثر أحداً على صحبتك، ولو خُيّرنا بين أن تبقى بين عشيرتك وقومك وأهلك أو تبقى بيننا لاخترنا أن تبقى بيننا؛ لأننا لا يمكن أن نقدم أحداً على صحبتك؛ التماساً لبركتك واستنارة برأيك، واستزادة من علمك وإيمانك وغير ذلك.

قال: [ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم) ] أي: أنكم قلتم هذا الكلام وأنا أصدّق هذا، والله تعالى يعلم أنكم صادقون، وأيضاً قد عذرتكم فيما قلتم، وكذلك الله تعالى يعلم عذركم.

قال: [ (فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق الناس أبوابهم) ].

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن). وفي رواية: (ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمن). وهكذا عقد الأمان لهؤلاء الثلاثة: من دخل دار أبي سفيان، ومن أغلق بابه، ومن وضع سلاحه.

قال: [ (وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر -أي: الحجر الأسود- فاستلمه -أي: فوضع يده عليه- ثم طاف بالبيت) ] وفي هذا استحباب لمن دخل مكة: أن يبدأ بالطواف، حتى وإن لم يدخل محرماً، والداخل بالإحرام طوافه طواف النسك، وأما غير المحرم فطوافه تحية البيت يبدأ به، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة في عام الفتح كان غير محرم، بدليل أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر.

قال [ (فاستلمه ثم طاف بالبيت. قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسية القوس -أي: بجانبه- فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81]) ].

وفي هذا وجوب تغيير المنكر مع القدرة عليه، فإخواننا في طالبان حينما قاموا وحطّموا صنم بوذا كانوا هم المسئولين عن التوحيد هناك، وهم أصحاب الرياسة والإمارة في تلك البلد، ورأوا أن هذا الصنم يُعبد من دون الله تعالى، فقاموا إليه وحطّموه، ثم أتت أمريكا بعد ذلك فعالجت الصنم وأرجعته كما كان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: [ (وهو يقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81] فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه) ].

أتذكرون الوعد حينما قال: موعدكم على الصفا؟

قال: [ (فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو) ].

وفي هذا استحباب لمن سعى بين الصفا والمروة أن يقف على الصفا، وأن يرفع يديه متوجهاً إلى الكعبة، ويدعو بدعاء مأثور وبما شاء من دعاء.

روايات وطرق أخرى لحديث باب غزوة فتح مكة

قال: [ وحدثنيه عبد الله بن هاشم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي- حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد. وزاد في الحديث (ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصداً) ] أي: اقتلوهم قتلاً.

[ وقال في الحديث: (قالوا: قلنا ذاك يا رسول الله؟! قال: فما اسمي إذاً؟ كلا. إني عبد الله ورسوله) ].

قال: [ حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة ، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة ! اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يُدرك طعامنا. أي: أن الطعام لم يكن جاهزاً بعد.

قال: فقلت: يا أبا هريرة ! لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدرك طعامنا.

فقال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على البياذقة -والبياذقة: هي الراجلة الذين لا دروع معهم- وبطن الوادي -أي: الراجلة الذين يمشون في بطن الوادي- فقال: يا أبا هريرة ! ادع لي الأنصار، فدعوتهم فجاءوا يهرولون فقال: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم. قال: انظروا. إذا لقيتموهم غداً أن تحصدوهم حصداً، وأخفى بيده -أي: جعلها في الأرض إشارة على ألا يُبقوا منهم أحداً- ووضع يمينه على شماله وقال: موعدكم الصفا. قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه) ] أي: لم يرفع أحد رأسه إلا وقطعوه.

فقوله: (فما أشرف) أي: فما برز لهم أحد للقتال إلا قتلوه.

قال: [ (وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أُبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذاً؟!) ] يريد أن يقول لهم أنا عبد الله ورسوله، أنا لست كآحاد الناس، يأخذ الميثاق ويغدر، ويعطي العهد ويغدر، فأنا عبد الله ورسوله.

قال: [ (أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم. قالوا: والله ما قلنا إلا ضناً بالله ورسوله. قال: فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم) ].

معجزة كسره صلى الله عليه وسلم للأصنام بطرف قوسه

يقول الإمام النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81] وهو يضرب الأصنام، فكان يضربها بقوس، فحينما كان عليه الصلاة والسلام يضرب الأصنام التي هي من صخور وحجارة قوية جداً لا تنكسر: (وإنما كانت تلك معجزة أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام، إذا كان يضرب الصنم بطرف قوسه فيخر الصنم تراباً في الأرض). أي: أن هذا الحجر يفقد خواصه التي خلقه الله عليها بأمره سبحانه، فيكون رماداً في الأرض.

الإمام النووي يقول: وهذا الفعل -الذي هو ضرب الصنم بالقوس- إذلال للأصنام ولعابديها، وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها، كما قال الله تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] أي: أن الصنم هذا لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضراً ولا نفعاً لدرجة أن الذبابة لو أخذت من على فم هذا الصنم شيئاً ما استطاع هذا الصنم أن يرد ما أخذ منه.

وفي هذا: استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81].

وقد اختلف أهل العلم: هل فُتحت مكة عنوة أم فُتحت سلماً؟

والصواب: أنها فُتحت عنوة.

استحباب اشتراك المسافرين في الأكل

قال: (أما قول أبي هريرة: وفدنا إلى معاوية رضي الله عنه وفينا أبو هريرة ، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه فكانت نوبتي).

فيه: دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل، واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام. أي: أن هذه مسائل يسمونها الغبن اليسير.

فإذا أردنا مثلاً أن نأكل فكل منا سيدفع مبلغاً متساوياً مع الآخر، لكن في النهاية لا يمكن أن كل واحد سيأكل مثل الآخر، بل هناك من يأكل كثيراً وهناك من يأكل قليلاً وليس كل الناس يشبعون على درجة واحدة من الطعام؛ ولذلك في هذه المسائل تقوى الله أعظم زاد.

قال: (وليس هذا من باب المعاوضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام، وألا يأكل بعضهم أكثر من بعض، بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق، وهو بمعنى الإباحة، فيجوز وإن تفاضل الطعام؛ لأن الناس يتعافون فيما بينهم في مثل هذا) فليس هذا من باب الربا ولا من باب الحرام، بل هي من باب مكارم الأخلاق.

ولذلك الإمام النووي يقول: فيجوز وإن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضاً.

استحباب الاجتماع على الطعام

قال: (وفي هذا الحديث كذلك: استحباب الاجتماع على الطعام وجواز دعائهم إليه قبل إدراكه، واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغزواتهم ونحوها، مما تنشط النفوس لسماعه، وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه، ولا يتولد منه في العادة ضر في دين ولا دنيا ولا أذى لأحد؛ لتنقطع بذلك مدة الانتظار ولا يضجروا، ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غيبة أو نميمة أو نحوها من الكلام المذموم).

استحباب طلب الحديث من أهل الفضل والصلاح

قال: (وفي هذا الحديث: يستحب إذا كان في الجمع رجل مشهور بالفضل أو العلم أو الصلاح أن يُطلب منه الحديث، فإن لم يطلبوا استحب له الابتداء بالحديث، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (موعدكم الصفا).

يعني: أنه قال هذا لـخالد ومن معه الذين أخذوا أسفل بطن الوادي، وأخذ هو صلى الله عليه وسلم ومن معه أعلى مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخلها من العوالي، ولذلك فالشارع الذي دخله إلى الآن اسمه شارع المعلاة وهو أعلى مكة، دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها، أما خالد ومن معه فقد دخلوا مكة من الوادي، أي: من أسفلها.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

حكم كشف المرأة المسلمة على أخيها أو أبيها أو خالها الكافر

السؤال: كنت نصرانية، والحمد لله أسلمت، فهل يجوز لي أن أتكشّف على محارمي مثل أبي وأخي وخالي، أم هم أجانب بالنسبة لي؟

الجواب: نسأل الله تعالى أن يثبّتك على الإيمان والإسلام! هذه المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتكشّف على الكافرين والكافرات إلا فيما يتعلق بالوجه والكفين، أما ما دون ذلك فلا، فالمسلمة لا تكشف شيئاً من بدنها على الكافرين والكافرات إلا الوجه والكفّين.

حكم التقاط مال في الشارع

السؤال: إذا وجدت مالاً في الشارع فهل ألتقطه أم لا؟

الجواب: لك أن تلتقطه ولك ألا تلتقطه، فإذا التقطته وكان مالاً ذا قيمة في العرف فعرّفه سنة، بشرط ألا يكون من المتلوفات، كأن تجد مثلاً كرتون تفاح أو طماطم أو بيض فهذا لا تعرفه؛ لأنه من المتلوفات.

حكم متابعة المأموم لإمامه في القنوت لصلاة الفجر، وحكم الصور الفوتوغرافية

السؤال: إذا لم يقنت المأموم خلف الإمام في صلاة الفجر هل يأثم؟ وهل ورد حديث بتخصيص صلاة الفجر بالقنوت؟ وما حكم الدين في الصور الفوتوغرافية؟

الجواب: الصور الفوتوغرافية في الحقيقة وقع فيها نزاع، بل مجرد التصوير وقع فيه النزاع: هل هو حرام أم حلال؟ والذي أعتقده الحرمة إلا ما توقفت مصالح الناس وحياة الناس عليها، كالمصالح التي تحتاج إلى صور للبطاقات الشخصية وغير ذلك مما لا تسير حياة الناس إلا به.

أما القنوت فلم يقل بجوازه في صلاة الفجر إلا الإمام الشافعي ، وقد أخطأ في ذلك واعتمد على حديث منكر لـأنس بن مالك أنه قال: لا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى فارق الدنيا. وإجماع المحدثين أن هذا حديث منكر، ولو صح هذا الحديث لحل الإشكال، والصواب في القنوت: أنه مسنون إذا نزلت نازلة وفي الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة.

لكن بيت القصيد في هذا السؤال للسائل أنه يقول: هل يلزمني إذا صلّيت خلف إمام يقنت في صلاة الفجر أن أدعو معه وأقنت معه، أم لا أرفع يدي ولا أقنت؟

في الحقيقة أنا أعتقد أنه يلزمك أن تتابع الإمام في القنوت وإن كنت مخالفاً له في الأصل؛ لأن هذه مسألة محل نزاع بين أهل العلم، وتركك للقنوت مع هذا الإمام قد يحدث فتنة بين المصلين، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

حكم العمل في شركات يهودية أو نصرانية

السؤال: إني أعمل في شركة لتركيب الأبواب، وعرضت علي شركة بيبسي عرضاً، فهل هذا فيه شيء تجاه الشرع، ونرجو توضيح المقاطعة: هل هي في الشراء أم في البيع؟

الجواب: نحن ندعو الناس جميعاً إلى مقاطعة جميع السلع والمنتجات اليهودية والنصرانية، ولأجل ذلك كان المؤتمر السابق الذي حضرتموه، لكن نفرّق بين المقاطعة بالشراء وإرباح هؤلاء من أموالنا، وبين التكسّب لنا من ورائهم، فبلا شك الموظف الذي يعمل في شركة بيبسي أنا أقول له: اشتغل فيها، فهو يأخذ (500) جنيه أو (800) جنيه أو (1000) جنيه في الشهر، لكن إذا قال: أشتري زجاجة بيبسي فأقول له: لا تشتر.

صورة أخرى: أنت ذهبت عند فلان ضيفاً، فقدّم لك البيبسي مفتوحاً، هل تشرب أم لا تشرب؟ فهذا قد اشترى بالفعل وانتهى فاشرب، ونحن دعونا إلى المقاطعة ليس من باب أن التعامل معهم حرام، أو أن البيبسي حرام، وإنما من باب التأديب ومقابلتهم بالمثل، ومن باب إلحاق الخسارة بهم، وليس من باب أن هذا حرام أبداً.

حكم أخذ أهل المقتول زيادة فوق الدية التي حددها الشرع

السؤال: سمعتكم تحكون قصة رئيس مباحث مدينة مصر الذي عذّب شابين حتى مات أحدهما، وأُصيب الآخر إصابات قاسية جداً، وأصيب ببعض التشوهات الدائمة، وتم إيقاف الضابط ومعاونيه، وأمرت النيابة بحبسه أربعين يوماً على ذمة التحقيق بتهمة ضرب أفضى إلى موت وتعذيب بريئين، وذلك بفضل الله ثم بجهود أهل الخير، والسؤال: أن الضابط يعرض التعويض على أهل القتيل والآخر بمبلغ ضخم مقداره مليون جنيه، وكذلك تسهيلات في أمور كثيرة مقابل التنازل عن القضية، فهل يعتبر هذا دية شرعية حيث إنهم فقراء جداً، أم لا يجوز أخذ التعويض ويستمر في القضاء؟

الجواب: يا أخي الكريم! النبي عليه الصلاة والسلام حدد الدية، والله تعالى شرع لنا أخذ الدية، فلأهل هؤلاء القتيل أن يأخذوا الدية، والدية أنفع لهم، بل ترك الدية أنفع وأنفع. قال الله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237].

والإسلام يخيّرني بين القصاص والدية والعفو، وهذه من خصائص الإسلام؛ لأن الدية عند اليهودية إلزام وعلى القاتل أن يدفع، وعلى ولي القتيل أن يأخذ، فليس هناك تنازل في اليهودية، فالله هو الذي ألزمهم بهذا الأخذ والعطاء على الطرفين، والنصرانية ألزمهم الله تعالى بالعفو، لكن نحن جعلنا في خيار: إما القصاص، وإما الدية، وإما العفو، وهذا من رحمة الله بنا، وقد رفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة.

فهذا الرجل لو عفا تماماً لكان أولى، لكن أنا لا أنصحه بالعفو هنا؛ لأنه قال في السؤال: أنا فقير، فله أن ينتفع بالدية ولا يتعداها، والدية هي (100) بعير للرجل الحر المسلم، ولو قلنا: البعير بـ(3000) جنيه، فحينئذ تكون الدية ثلاثمائة ألف جنيه، وما دام هذا الضابط عرض مليون جنيه فأنت خذ نصف المليون للذي مات، وللذي أُصيب بتشوهات خطيرة، فالذي مات يأخذ ورثته ثلاثمائة ألف جنيه وهذه ديته الشرعية، والثاني يأخذ بقية المبلغ، أما أن تأخذ مليون جنيه فأين تذهب من الله؟ وأنا أتصور أن العفو في هذه القضايا يأتي بثمار طيبة جداً، وما ترك أحد شيئاً لله إلا عوّضه الله خيراً منه، لكن إذا كنت في حاجة فهو حقك الذي فرضه الله تعالى لك، إن شئت فخذ وإن شئت فدع، لكن لا تأخذ هذا المليون المعروض؛ لأن نصف هذا المبلغ ليس لك، إلا إذا قهرك وضغط عليك أن تأخذه بطيب نفس منه فهنيئاً مريئاً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة الطائف - غزوة بدر - فتح مكة للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net