إسلام ويب

لقد ابتلى الله عز وجل المؤمنين في غزوة حنين بلاء عظيماً، ليبين لهم أن النصر ليس متوقفاً على قوة العدة وكثرة العدد، وإنما هو بنصر الله وتوفيقه وتأييده، فدارت الدائرة على المؤمنين أول الأمر، فلما استوعبوا الدرس وعادوا إلى ربهم وأيقنوا بأن النصر من الله أظهر الله عباده المؤمنين على عدوهم ونصر جنده وشفى صدور قوم مؤمنين.

باب في غزوة حنين

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين).

قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة.

فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف ، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بـوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.

شرح حديث العباس بن عبد المطلب في قتال حنين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وحدثني أبو الطاهر -أحمد بن عمرو بن سرح قال: أخبرنا ابن وهب حدثني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب -أي: ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام- قال: قال عباس : (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه) ].

وفي هذا من الود وعطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد، وذب بعضهم عن بعض ما فيه.

قال العباس بن عبد المطلب : (لزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة) وقيل: ابن نعامة، والصواب: الأول فروة بن نفاثة وكان مشركاً، واختلف أهل العلم في بيان ما إذا كان أسلم أم لا؟ ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قبِل منه الهدية وكان مشركاً، ثم وقع النزاع بعد ذلك هل أسلم أم لا؟

وهذه البغلة البيضاء التي تسمى (الشهباء)، وأحياناً تسمى (دلدل)، أما الحمار الذي كان يركبه عليه الصلاة والسلام فهو يعفور، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة سوى هذه البغلة.

قال: [ (فلما التقى المسلمون والكفار -أي: في غزوة حنين- ولى المسلمون) ] أي: ولوا الأدبار، وأنتم تعلمون أن تولية الدبر إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة من أكبر الكبائر.

قال: [ (ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قِبل الكفار) ] أي: ينهزها أن تسرع السير والعدو باتجاه الكفار، فإدبار أصحابه وتوليهم لم يكن فيه باعث له عليه الصلاة والسلام أن يهرب هو كذلك من الميدان، وإنما زاده ذلك إصراراً على ملاقاة العدو ومقابلة الكفار صلى الله عليه وسلم.

قال العباس : [ (وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع) ] كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهزها، لتسرع ويخشى العباس من سرعة عدوها وجريانها أن تنكفئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يأخذ بلجامها ويكفكفها مخافة أن تقع بالنبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [ (و أبو سفيان آخذ بركاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب السمرة -وسمرة: اسم الشجرة التي بايع تحتها أصحاب بيعة الرضوان- فقال العباس وكان رجلاً صيّتاً) ] أي: له صوت جهوري عال ومرتفع، إذا نادى أسمع. وقيل: إنه كان بينه وبين رعاة إبله وغنمه اثنا عشر ميلاً، وكان إذا صعد على تبة أو جبل صغير ونادى على الرعاة على مدار اثني عشر ميلاً سمعوا نداءه ولبوه.

قال: [ (فقال عباس -وكان رجلاً صيتاً- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها) ] أي أنهم حينما سمعوا صوتي أنادي عليهم أتوا مسرعين كما تُسرع قطيع البقر إذا غابت عنها أولادها، كأنه يعبّر عن شدة جريان هؤلاء، وسرعة عودهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فكلهم هرع وبادر الرجوع والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لكأنهم قد اختلط بعضهم ببعض.

قال: [ (فقالوا: يا لبيك! يا لبيك!) ] لبيك أي: إجابة بعد إجابة، وسماع بعد سماع، واستجابة بعد استجابة.

قال: [ (فاقتتلوا والكفار) ] أي: فاقتتل النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحاب السمرة -أصحاب بيعة الرضوان- مع الكافرين.

قال: [ (والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار) ] كأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يركّز جداً على أن تكون المقاتلة معه من الأنصار.

قال: [ (ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج!) ] فكانت معظم النداءات للأنصار على جهة الخصوص.

قال: [ (فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها، كأن عنقه اشرأبت مرتفعة إلى قتال هؤلاء الكافرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس) ].

فأول من قال: حين حمي الوطيس هو نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال: [ (ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً) ] أي: قوتهم ضعيفة. ونقل العباس هو نقل عيان لمن رأى ساحة الوغى.

قال: (فما زلت أرى حدهم كليلاً) من الكل وهو الضعف. والحد بمعنى: القوة والغاية والنهاية. فهو يقول: إن قوتهم قد ضعفت وهزلت جداً. قال: [ (وأمرهم مدبراً) ] يعني: كادوا يفرون من ساحة القتال.

شرح روايات أخرى لحديث العباس في قتال حنين

قال: [ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد جميعاً عن عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد الصنعاني - عن الزهري بهذا الإسناد نحوه، غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي -والصواب: أنه ابن نفاثة الجذامي- وقال: (انهزموا ورب الكعبة -أي: ولم يقل: ورب محمد، وإنما قال- انهزموا ورب الكعبة.. انهزموا ورب الكعبة) وزاد في الحديث: (حتى هزمهم الله) ]، وهذا إثبات الهزيمة لأهل الكفر في غزوة حنين، وبيان أن كافة النصر كان للنبي عليه الصلاة والسلام والأصحاب الكرام.

قال العباس : [ (وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته) ] يعني: يجري خلفهم، وهم قد ولوا الدبر.

قال: [ وحدثناه ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال: أخبرني كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وساق الحديث بمثل الحديث السابق، غير أن حديث يونس وحديث معمر أكثر منه وأتم.

شرح حديث البراء بن عازب في قتال حنين

قال: [ حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة، وهذا أبو خيثمة ليس هو زهير بن حرب ؛ لأن أبا خيثمة زهير بن حرب يروي عنه مسلم مباشرة، أما أبو خيثمة الذي فوق ذلك بطبقتين فهو زهير بن معاوية بن حديج الجعفي ، كوفي نزل الجزيرة، وهو ثقة ثبت، غير أن سماعه من أبي إسحاق السبيعي كان بآخرة.

قال: [ أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق ] وهو أبو إسحاق السبيعي الكوفي عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني ، ثقة ومكثر وعابد، لكنه اختلط في آخر حياته.

وكنا من قبل تكلمنا تقريباً عن أحكام المختلطين وأحكام الاختلاط، وقلنا: إن الراوي إما أن يكون ثقة في ذاكرته وحفظه، وإما أن يكون ثقة في كتابه، فإما أن يكون قد اعتمد في تحصيل العلم وبثّه على ذاكرته وحفظ صدره، وإما أن يكون قد اعتمد على كتابه وقلمه، وهذا ما يسميه أهل الحديث بالضبط، فيسمون الأول بضبط الصدر، ويسمون الثاني بضبط الكتاب، ولضبط الكتاب شروط، ولضبط الصدر شروط.

أما شروط ضبط الكتاب فهي:

الشرط الأول: أن يكتب خلف الشيخ، أو يكتب خلف المستملي الذي يقرؤه في حضرة الشيخ.

الشرط الثاني: أن يعرض ما كتبه على الشيخ، فيقره الشيخ بصحة ما كتب، فإن اعتذر الشيخ عن معارضة الكتاب أو مقابلته انتقلنا إل الشرط الثالث.

الشرط الثالث: أن يراجع ويقابل هذه النسخة على المستملي الذي يقرأ على الشيخ، أو على أقرانه الذين كانوا قد سمعوا منه في مجلس التحديث.

الشرط الرابع: أن يحافظ على الكتاب من التلف والحرق والغرق وغير ذلك من سائر أسباب التلف، حتى يتسنى له التحديث من هذا الكتاب.

الشرط الخامس: إذا حدّث من الكتاب فإنه ممنوع عليه أن يحدّث من حفظه، ولا يعتمد على ذاكرته إلا أن يكون ممن يعتمد عليه في ضبط صدره وكتابه.

وهناك مذاهب لأهل العلم: أن ضبط الصدر أحياناً يكون ضبط صدر وضبط كتاب، كالإمام الدارقطني مثلاً كان من أئمة الحفظ، ومع هذا كان يكتب، وتعجّب منه بعض أصحابه ذات يوم. قالوا: أتكتب؟ إن الذي يكتب لا يدرك الحفظ خلف الشيخ، وكان قد كتب خلف الشيخ في مجلس واحد (18) حديثاً، وكان الواحد منهم إذا كتب ذهب إلى بيته ليحفظ ما كان قد كتبه خلف الشيخ، فقال الدارقطني لأصحابه وأقرانه: إن شئتم حدثتكم من كتابي، وإن شئتم حدثتكم من حفظي، فلما تحدوه أن يكون قد حفظ ما قد كتب كرر عليهم الأحاديث مرتبة، ولم يخالف في حرف واحد، فهذا كان قد جمع بين ضبط الصدر وضبط الكتاب.

لكننا نقول بالشروط الأولى لمن اعتمد على الكتاب فحسب. أما ضبط الصدر فشرطه: أن يكون قادراً على الإتيان بالمعلومة أو بالرواية، أو بالراوي سنداً أو متناً في أي وقت طُلب منه ذلك.

أحياناً تلحق الآفة ضبط الصدر وضبط الكتاب، فيمكن للكتاب أن يغرق أو يُحرق أو يتلف، أو يقع عليه سائل يزيله ويمسحه من الصحيفة أبداً، وربما هذا الراوي لم يتقن ما في هذا الكتاب، وربما ذهب ليحدث بما علق في ذهنه، فصار يركّب أسانيد لمتون، ويُلحق متوناً بأسانيد ليست لها، أو ربما يروي عن راو حديثاً معيناً، والحقيقة أن هذا الحديث عن راو آخر، فهو لم يكذب، ولكنه غلب على ظنه أنه قد أتقن حفظ هذا الحديث، فحدّث به على ما غلب على ظنه، وإذا بالحقيقة تخالف ذلك. وإن المحدثين والرواة عنه إذا أدركوا شيئاً من ذلك امتنع بعضهم أن يحدث عنه بعد ضياع الكتاب أو حرقه أو غرقه أو غير ذلك، فلو أنهم امتنعوا عن الرواية عنه فتكون أحاديثهم عن هذا الراوي صحيحة؛ لأنهم لم يرووا عنه إلا في حال إتقانه وضبطه للكتاب، فلما وقع به الاختلاط أمسكوا عن الرواية عنه، وأما من حدّث عنه بعد الاختلاط فروايته مردودة قولاً واحداً.

وأما من حدث عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط ولم يُعلم في هذه الرواية بعينها أكانت هذه الرواية قبل الاختلاط أم بعده؟ فالأمر في ذلك محل اجتهاد المحدثين، فإن كان لهم شواهد ومتابعات أخرى تدل على أن هذه الرواية قد وافق فيها هذا الراوي المختلط غيره من الثقات فيستأنس بهذه الراوية وإلا فلا.

وكثير من الحُكام والولاة والسلاطين وأبناء الرواة، حينما وقع الاختلاط حبسوا هؤلاء الرواة ومنعوهم من الرواية، وليس إهانة لهم بل تكريماً وأي تكريم، إذ تبقى روايتهم بغير خدش، فهذا الراوي حينما اختلط منعناه من الرواية.

لتكون أحاديثه كلها التي رواها وحدث بها أحاديث صحيحة، فهذا من باب التكريم له لا من باب الإهانة، وهذا تماماً كما يسميه العلماء (الحجر على السفيه)، حينما اختل عقله منعوه بعد ذلك من التصرفات ولم يلزموه بتصرف من تصرفاته.

فهذا الراوي وهو أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حديج الجعفي روى عن أبي إسحاق السبيعي بعد أن اختلط أبو إسحاق ، ونحن اتفقنا أن الراوي إذا روى عن الراوي الآخر أو عن شيخه بعد الاختلاط فروايته مردودة، فما بال الإمام مسلم قد اعتمدها هنا في هذا الصحيح؟ الجواب: لأن لـأبي خيثمة الرواية الأولى في الباب، ورواية أبي إسحاق على سبيل الاستئناس.

قال: [ أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء ] وهو البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي وهو صحابي ابن صحابي، والبراء بن عازب وعبد الله بن عمر كانا فرسي رهان، واستُصغِرَ ابن عمر والبراء بن عازب في غزوة بدر والنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يكتتب أحداً في الغزوة إلا إذا بلغ من العمر (15) عاماً، وكل واحد منهما كان عمره (14) عاماً، ولكنهما أدركا غزوة أحد.

[ فقال رجل للبراء بن عازب : يا أبا عمارة ! أفررتم يوم حنين؟ قال: (لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] والجواب هنا غير مطابق للسؤال، فهو يقول: بلغنا أنكم وليتم الدبر في يوم حنين. قال: لا والله ما ولى رسول الله، فهو أراد أن ينفي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تلك المنقصة التي وقع فيها بعض الصحابة رضي الله عنه، وستعلم من الذي وقع في هذه المنقصة الآن، فليسوا هم الأصحاب الخُلّص أصحاب العقيدة السليمة والإيمان الراسخ القوي في القلوب كرسوخ الجبال في الأرض، وإنما هم المؤلفة قلوبهم، وحديثو العهد بالإسلام ومن كان في قلبه مرض وغير ذلك، فالذين ثبتوا مع النبي عليه الصلاة والسلام فهم هؤلاء الأنصار والمهاجرون الذين لهم قدم راسخة في الإسلام والإيمان، وعلى أيديهم تحقق النصر بفضل الله عز وجل.

قال: [ (هل فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه -جمع شاب- وأخفاؤهم -جمع خفيف وهو المسرع- حُسّراً ليس عليهم سلاح) ] يعني: بغير دروع. والحاسر الرأس: المكشوف الرأس، فهؤلاء خرجوا بغير دروع على رءوسهم وبغير سلاح معهم، لكنهم حينما رأوا المعركة وكانوا على أرض الواقع واجهوا الأعداء.

تأتي لبعض الشباب في ثورة شبابه وحميته العظيمة جداً وحبه للدين، فلا يقيس الأمور بالقياس الصحيح، ولكنه يتسرّع جداً ويقول: يجب أن نفعل كذا وكذا وكذا، ويصر على رأيه، ويتهم الآخرين بالتخاذل، وبغير إعداد للعدة يدخل ساحة المعركة، فإذا كان على مشارفها كان أول الفارين هو؛ لأنه لم يقدّر الأمور قدرها ولم يضع الأمور في نصابها، وإنما أخذته الحمية وحبه للإسلام، ولما يحل بالمسلمين في شرق الأرض وغربها مصيبة تجده يتصرف تصرفاً أهوج بغير دراسة وبغير استشارة أو سماع لكلام أصحاب الكلمة، أو عدم رجوع واستئناس بكلام من سبقوه في هذا الميدان.

قال: [ (ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم، حُسّراً ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح) ] أي: كان معهم سلاح فهذا السلاح الذي معهم قليل جداً لا يكاد يوازي ولا عشر معشار ما كان مع عدوهم.

قال: [ (فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم) ] أي: حينما التقوا في ساحة المعركة فوجئوا أنهم أمام عدو لا يكاد يخطئ سهمه.

قال: [ (وهؤلاء هم جمع هوازن وبني نصر، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: حينئذ فروا بحثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام- ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به -أي: يقود البغلة- فنزل -أي: فنزل النبي عليه الصلاة والسلام- فاستنصر) ] أي: فطلب من ربه أن ينصره، وهنا تظهر قيمة الدعاء في ساعة الشدة.

قال: [ (فلما استنصر النبي صلى الله عليه وسلم قال:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب.

ثم صفهم) ] هم شردوا منه عليه الصلاة والسلام وسبقوه، لكنهم حينما فوجئوا بالواقع رجعوا إلى القائد، فاستنصر أولاً ثم صفهم للقتال.

شرح حديث البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ...)

قال: [

حدثنا أحمد بن جناب المصيصي حدثنا عيسى بن يونس ] وعيسى ، هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي يحدث أحياناً عن جده وأحياناً بينه وبين جده واسطة كـزكريا ، وهو زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي ، وهو ثقة إمام جليل، ولكنه كذلك سمع من أبي إسحاق بعد اختلاطه.

[ قال أبو إسحاق: (جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟! فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحُسّر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل -أي: بسهام من نبل- كأنها رجل من جراد) ] الرجل بمعنى: القطعة. هذا في لغة العرب، يقال: رجل من جراد أي: قطعة من جراد.

قال: [ (فانكشفوا -أي: فانهزم هؤلاء- فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

اللهم نزل نصرك). قال البراء : (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به عليه الصلاة والسلام) ] الضمير يعود على النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (كنا والله إذا احمر البأس) أي: اشتد الكرب في القتال، وقوله: (نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نحتمي به.

قال: [ (وإن الشجاع منا للذي يحاذي به) ] أي: أن أشجع من كان منا كان يذهب فيتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام.

طرق وروايات لحديث البراء في قتال حنين

[ وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما فرسا رهان- واللفظ لـابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس ] وشعبة بن الحجاج العتكي سمع من أبي إسحاق هنا قبل الاختلاط.

قال: [ سمعت البراء وسأله رجل من قيس: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء : ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكانت هوازن يومئذ رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا) ] أي: بعد أن صففنا تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وحملنا على هوازن؛ انكشفوا وولوا هم مدبرين، لكن هذا كان في آخر المعركة بعد أن أصابت هوازن من هؤلاء الشبان.

قال: [ (فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام) ] وهذا هو نفس الموقف في غزوة أحد، حينما غلب على ظنهم أنهم قد غلبوا وأن هؤلاء قد فروا بغير رجعة انقضوا على الغنائم يأخذوها، فاستقبلهم أهل هوازن بالسهام.

قال: [ (ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).

وحدثني زهير بن حرب ومحمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد -وهو محمد بن خلاد الباهلي أبو بكر البصري، ثقة- قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري قال: حدثني أبو إسحاق عن البراء قال: قال له رجل: يا أبا عمارة ! فذكر الحديث، وهو أقل من حديثهم، وهؤلاء أتم حديثاً ].

حديث سلمة بن الأكوع في غزوة حنين

قال: [ وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي -وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه- قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما واجهنا العدو تقدمت، فأعلو ثنية -أي: مكاناً عالياً مرتفعاً- فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني -اختبأ مني- فما دريت ما صنع -هل مات أم لا؟- ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى -أي أنهم لفوا من مكان آخر، وصعدوا على ثنية أخرى- فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزماً) ] وكأنه عز عليه أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهزوم رضي الله عنه.

قال: [ (وعليَّ بردتان متزراً بإحداهما مرتدياً بالأخرى، فاستطلق إزاري -أي: انطلق مني- فجمعتهما جميعاً) ] أي: ولفهما على بدنه حفاظاً على عورته.

قال: [ (ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً -أي: حال كوني منهزماً- وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً) ] أي: إني لأرى في ابن الأكوع الفزع مما قد نزل به.

قال: [ (فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض) ] في الرواية الأولى: (من حصيات)، وفي هذه الرواية: (من تراب) .

قال: [ (ثم استقبل به وجوههم -أي: وجوه الكفار- فقال: شاهت الوجوه -أي: قُبّحت قبحها الله عز وجل- فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين) ] قبضة واحدة تملأ عيون جميع الجيش، وهذه معجزة.

قال: [ (فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين) ].

هذه غزوة من أعظم وأعجب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي شارك فيها وقادها حتى تم للمسلمين النصر وتقسيم الغنائم.

وكما قلنا: كان المسلمون بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الكفار بقيادة مالك بن عوف سيد هوازن، وكانت هذه الغزوة في سنة (8هـ) في شهر شوال، وكان المسلمون مع النبي عليه الصلاة والسلام اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف منهم قدموا من المدينة، وهم الذين فتح الله تعالى بهم مكة، وألفان من مسلمة الفتح. أي: من حديثي العهد بالإسلام.

أقوال أهل العلم في حكم الاستعانة بذوات المشركين أو سلاحهم

في هذه الغزوة استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية السلاح، إذا لم يكن مع المسلمين سلاح كافٍ، فاستعار النبي عليه الصلاة والسلام من صفوان بن أمية السلاح وكان لا يزال على الشرك. وفي هذا وقفة لأهل العلم: صفوان بن أمية قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما استقرضه السلاح قال: (يا محمد أنهبة؟! -أي: أنك تأخذ السلاح وتنكر؟- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل عارية مؤداة). فهذا هو أدب النبوة، استعارة ترجع إلى صاحبها مرة أخرى، لكن الموقف الذي وقفه أهل العلم هنا هو: مدى الاستعانة بالمشركين بسلاحهم أو بذواتهم، وهل هناك فرق بين هذا وذاك؟

الجواب: نعم. هناك فرق، فالاستعانة بسلاح المشرك محل اتفاق بين أهل العلم إذا دعت الضرورة إلى ذلك، والحاجة ماسة أن أستعين بسلاح المشرك دون المشرك فهو أمر جائز، وعلى ذلك درجت الأمم كلها المؤمنة والكافرة، وإن لم يخطر ببالهم حكم هذه المسألة في الشرع، إلا أننا لا زلنا نشتري السلاح من هنا وهناك من بلاد الكفر، وشراء السلاح من بلاد الإسلام أولى من بلاد الكفر، لكن الشاهد هنا: لو احتجنا إلى سلاح من بلاد الكفر، هل يحل لنا أن نشتري منهم، أو أن نستعيره؟ الجواب: نعم. باتفاق، فلا يأت آت ويقول: لا يجوز لمسلم أن يشتري سلاحاً أو أن يستعيره من كافر، فإن قال ذلك فقد خالف الإجماع.

أما الاستعانة بذوات المشركين ومعهم السلاح، فمحل نظر بين أهل العلم على مذاهب شتى:

المذهب الأول: الجواز، ودليلهم في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة استعان بمشرك ليدله على الطريق.

المذهب الثاني: عدم الجواز وهم جماهير العلماء. ودليلهم في ذلك: أن رجلاً عرض نفسه للقتال مع النبي عليه الصلاة والسلام من المشركين ضد المشركين مع المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أسلمت؟ قال: لا. قال: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك) وهذا الذي يترجّح لدي في هذه القضية.

المذهب الثالث: جواز الاستعانة بالمشرك بشروط، وهو المذهب الراجح، فانظر إلى هذه الشروط، وأنزل هذه الشروط على واقع المسلمين اليوم.

الشرط الأول: أن يكون المشرك ذليلاً عند المسلمين. أي: لا يكون صاحب شوكة ولا نجدة ولا نصرة كما اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا المشرك ليدله على الطريق فقط، لكن لا علاقة له بأصل الهجرة، فما هو إلا دليل يدل في مقابل مال لا يُخشى منه إلحاق أي أذى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فهذا الرجل كان في موطن الذل وموطن الضعف، فلا يخشى منه أن يفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.

الشرط الثاني: أن يكون المسلم قوياً منصوراً صاحب الغلبة.

الشرط الثالث: أن يكون في قدرة المسلم الاستغناء عن الكافر متى تسنى له ذلك، على ألا يرد عليه المشرك قوله. أي أن أمريكا تخرج من البلد، لا بد أن يخرجوا، أما أن يأتوا ويبنوا المستوطنات ويحفروا آبار البترول، فحينئذ لا يجوز مطلقاً ما فعله المسلمون اليوم، هؤلاء المترفون المنعّمون، الذين لا قِبل لهم بحرب الكافرين مع ضعف الكافرين وهوانهم على الله عز وجل، إلا أنه حينما شابههم المسلمون في الترف والتنعّم رفع الله تعالى عليهم هؤلاء المشركين.

وغير ذلك من الشروط التي تبحث في محلها، ليس هذا أوانها.

حكم اتخاذ الجواسيس في الحرب وبيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عبد الله بن أبي حدرد عيناً وجاسوساً على هوازن وحنين، ليرى عدتهم وعتادهم وقوتهم وغير ذلك من حالهم، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فيستعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوة أعظم من قوتهم، وفي هذا جواز اتخاذ العيون والجواسيس في الحرب، والحرب خدعة وإن كان ثمن ذلك أن يقول الجاسوس في النبي صلى الله عليه وسلم أو في الأمير من بعده قولاً عظيماً للنجاة بنفسه، والحفاظ على المهمة التي أرسل من خلالها.

أما الجرأة في الحرب والشجاعة، فلقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في الشجاعة حتى كان يحتمي به كبار أصحابه إذا حمي الوطيس واشتد الحرب، وكلمة: (حمي الوطيس) كناية عن شدة الحرب.

حكم خروج النساء في القتال

خرجت أم سليم وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين، وكانت تملك خنجراً، فرآها النبي عليه الصلاة والسلام ومعها الخنجر قال: (ما هذا يا أم سليم ؟! قالت: خنجر يا رسول الله! قال: وماذا تصنعين به؟ قالت: إذا اقترب مني مشرك بقرت بطنه، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام) وابتسامته إقرار لها. لكن المبحث في هذه القضية هل يجوز خروج النساء للقتال؟

الأصل أن النساء لا جهاد عليهن، وجهادهن الحج والعمرة. قالت عائشة : (أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) أما إذا خرجت المرأة لمداواة الجرحى وصنع الطعام وغير ذلك من الأعمال التي تتناسب مع طبيعة النساء فلا بأس بذلك، ولأجل ذلك خرجت أم سليم ولم تخرج مقاتلة، وإنما خرجت في سرية الخدمة: خدمة طبية، خدمة طعام وشراب وثياب وغير ذلك، فقد خرجت لأجل هذه المهمة، وهذا جائز باتفاق، ولم يخالف في ذلك أحد، بشرط أن يؤمن عليهن الفتنة، ويغلب على الظن عدم تناول الكفار لهن، وإلا فلا يجوز خروج النساء مطلقاً ولا حتى لتلك المهمة.

ولكن تبقى حالة واحدة وهو وجوب أن تخرج المرأة للقتال في حالة جهاد الدفع، فيجوز لكل من لا يجوز له القتال أو يجب عليه أن يخرج للقتال، وجهاد الدفع أن يأتي العدو إلى بيتك أو بلدك أو قريتك فيداهمك فيها، فيجب على كل من قدر على القتال أن يخرج حتى الأطفال والصبيان والنساء؛ لأن الجهاد حينئذ فرض عين على كل مكلف قادر، والمرأة في جهاد الطلب تخرج بمحرمها، أما في جهاد الدفع فلا يلزم أن تخرج بمحرم ولا يلزمها إذن الوالدين.

كلام النووي في أحاديث غزوة حنين

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين).

قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة.

فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف ، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بـوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.

حكم قبول هدية المشرك

قال الإمام النووي: (اختلف العلماء في إسلام فروة بن نعامة أو ابن نفاثة على الصحيح.

قال القاضي : قال الطبري : أسلم وعمّر عمراً طويلاً.

وقال غيره: لم يسلم، وفي صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة، واسمه يحنة بن روبة .

فإن قيل: ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر). لو قلنا بأنه لم يسلم لزمنا القول بأنه عليه الصلاة والسلام قبِل الهدية من الكافر، وهذا ليس جائزاً.

قال: (وفي الحديث الآخر: قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) مع حديث ابن اللتبية) رضي الله عنه حينما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام ليأتي بالصدقات؟ فكان يهدى إليه خلافاً لأموال الصدقات، فلما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وصعد المنبر ثم قال: (إن أحدكم إذا أرسلته أتاني فقال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر ماذا يُهدى إليه؟). وفي رواية: (فينظر هل يهدى إليه أم لا؟).

وبلا شك أنه لو جلس في بيت أبيه أو أمه ما أُهدي إليه. إذاً: هذه الهدايا التي دخلت عنده أو أتته ما أتت إلا بسبب العمل، وهو يسميها هدية، وهي في الحقيقة غلول، وإن كان أصل الغلول الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها على الغانمين. قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].

وحينما شهد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لمولى من مواليه حينما قُتل في القتال: أنه من أهل الجنة، قال: (والله إني لأرى النار تشتعل عليه بسبب الشملة التي غلها). فهذا أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) أي: كالأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، فحينما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الهدية من فروة بن نفاثة قامت الشبهة لدى البعض، كيف يقبلها النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه قال: (هدايا العمال غلول)؟

وفي الحديث الآخر: أنه عليه الصلاة والسلام رد بعض هدايا المشركين وقال: (إنا لا نقبل زبد المشركين)، فكيف نجمع بين هذه الأحاديث؟

قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث التي تمنع قبول هدية المشرك ناسخة للأحاديث المجيزة لقبول هدية المشرك.

وقال الجمهور: لا نسخ في هذه الأحاديث؛ لأنكم تعلمون أن السبب الرئيسي في ادعاء النسخ هو معرفة التاريخ.

فقالوا: بل سبب القبول: أن النبي عليه الصلاة والسلام مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال، فالغنائم تطلق على المكاسب العسكرية أو المكاسب المادية جراء القتال، أما ما أخذه المسلمون بغير قتال فهو فيء وليس غنيمة، والفيء صاحبه النبي عليه الصلاة والسلام.

قالوا: فهذا المشرك حينما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها بغير قتال، فهي فيء مخصوص للنبي عليه الصلاة والسلام بخلاف غيره، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام هذه البغلة منه لعلة أخرى وليس لعلة الفيء، هذه العلة هي طمعه عليه الصلاة والسلام في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه بذلك، وأعطاه هدية مكافئة لذلك تأليفاً لقلبه، وطمعاً في إسلامه، وهذا لا شك غرض شرعي، حتى بين المسلمين فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تهادوا تحابوا).

وفي مفهوم المخالفة: أن رد الهدية له أثر سلبي في القلب؛ ولأجل ذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشرك الهدية، وكافأه ولم يكن في قبولها مصلحة؛ لأن الهدية توجب المحبة والمودة. أي: إذا كنتم تخافون أن الهدية هذه التي أخذها من المشرك تعمل عملها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيميل إلى هذا المهدي المشرك بالمودة والحب؛ فهذا ممنوع عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل مستحيل أن يقع في قلب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وأما غير النبي عليه الصلاة والسلام من العمال والولاة، فلا يحل له قبولها لنفسه) البتة، فإن أخذها كانت من حق بيت المال أي: من حق المسلمين عامة. هذا إن أخذها والأصل ألا يأخذها، لكنه إن أخذها ودفعها إلى بيت مال المسلمين فلا حرج عليه، فإن أخذها لنفسه فلا تحل له، فهذا القول هو قول جماهير العلماء، وهو القول الراجح.

قال: (فإن قبلها كانت فيئاً للمسلمين فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة.

قال القاضي : وهذا القول قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم. وقال آخرون -وهو المذهب الثالث- هي للإمام خاصة دون غيره). وقد سبق التفصيل: وأن للإمام أن يقبلها نيابة عن المسلمين على أن يضعها في بيت مال المسلمين.

قال: (قال أبو يوسف وأشهب وسحنون هذا القول.

وقال الطبري : إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدي له في خاصة نفسه). حتى نجمع بين رده لبعض الهدايا وقبوله لبعض الهدايا، فلما رد علمنا أنها أُهديت إليه خاصة، لكن حينما أُهديت إليه ووضعها في بيت مال المسلمين فلم يكن لذلك خصوصية.

قال: (وقيل: ما كان خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين. قال: ولا يصح قول من ادعى النسخ. قال: وحكم الأئمة بعد إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال، وهذا معنى قوله: (هدايا العمال غلول). أي: إذا خصوا بها أنفسهم -أما إذا قبلوها العمال ووضعوها في بيت المال فلا حرج عليهم- لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفيء والغنيمة.

قال القاضي : وقيل: إنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل زبد المشركين) وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان. هذا آخر كلام القاضي عياض .

قال أصحابنا -أي: الشافعية- متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال.

أي أن الهدية المحرمة هي هدية الغلول، فإذا أخذوها ووضعوها في بيت المال فلا بأس بذلك، وإلا فهي محرمة، ووجب عليهم ردها إلى بيت المال أو إلى من أهداها إليه، والله أعلم).

وقد ورد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه حاول أهل الأمراض والفتن في زمانه أن يستميلوه بأي شكل من الأشكال، فكان آخر شيء أرادوا أن يستميلوه به الرشاوي ودفع الأموال وجلب الهدايا الثمينة من هنا وهناك، فلم يكن عمر بن عبد العزيز يخبر أحداً، كان كلما أُتي بشيء له وضعه في بيت المال، وفي الأخير علموا أنهم لن يستطيعوا استمالته، لا بالنساء يستجيب، ولا بالمال يستجيب، ولا بالهدايا يستجيب، ولم تكن تأتي إليه هدية من الهديا إلا ويجعلها في مصالح المسلمين، إنما الذي يُهدى إليه خاصة ويقبلها هم هؤلاء المنافقون في زماننا.

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإقدامه

قال: (قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في مواطن الحرب، وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمداً) أي: يكون بارزاً للناس؛ لأن الذي يركب يكون في أعلى الناس، فركوب الدابة شجاعة. قد يقول قائل: من التواضع أن ينزل عن الدابة، حتى يكون في غبراء الناس. أقول: لكن الشجاعة في موطن الشدة أولى من التواضع، والكبر في هذا الموطن أولى من التواضع، كان أبو دجانة يمشي في القتال بين الصفين مختالاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن هذه المشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع) يستعلي بإيمانه على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه، يستعلي بإيمانه على أهل الكفر والشرك، فلا يمشي ذليلاً خاضعاً، بل يستعلي بإيمانه في موقف يستدعي الاستعلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك موطن التواضع هنا ولم ينزل عن الدابة، بل كان راكباً دابته ليظهر للناس، وكأنه يقول للمشركين: أنا لا أخاف منكم، فأنا باد لكم وظاهر أمامكم، ولم يكن أحد من أصحابه قد بدا بدوه وظهر ظهوره للمشركين أكثر من بدوه عليه الصلاة والسلام، فهذا منتهى الجرأة والشجاعة في القتال والإقدام وترك الإدبار منه صلى الله عليه وسلم.

(والفائدة الثانية: حتى يرجع المسلمون إليه في مسائلهم، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه)، وأنه لا يزال موجوداً وحياً عليه الصلاة والسلام. (وإنما فعل هذا عمداً وإلا فقد كانت له عليه الصلاة والسلام أفراس معروفة.

ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته عليه الصلاة والسلام: تقدمه يركض -أي: يسرع العدو- خلف المشركين، وقد فر الناس عنه. وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه. وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر).

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] فالصبر والتقوى من أعظم عدة النصر في ساحة القتال.

(وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله عنهم بشجاعته في جميع المواطن). فضد الشجاعة هو الجبن، والنبي عليه الصلاة والسلام موصوف بكل كمال بشري في جميع الصفات، وهذا من عقائد المسلمين، لم يكن هناك موطن خسة للنبي فيه أدنى نصيب، بل ضرب المثل الأعلى في جميع صفات الكمال البشري، من شجاعة وأدب ورفعة وكرم ضيافة وحسن خلق وحسن عشرة وغيرها، فربما يكون في الأمة من اتصف بالشجاعة وعنده خلل في بقية الصفات، وربما اتصف أحد بالحلم والصبر، ولكن عنده خلل في الصفات الأخرى، وربما اتصف أحد بالعلم، ولكنه أرعن وأهوج وغير ذلك من صفات السلب والنقص.

أي: أنك لا تجد إنساناً إلا وقد برز في خصلة أو خصلتين أو ثلاث خصال، ولكن عنده عجز في بقية الصفات، أما الذي حاز الكمال البشري في ذروته وكماله وتمامه في جميع الصفات هو نبينا عليه الصلاة والسلام، فما كانت هناك خصلة من خصال الخير إلا قد برز فيها بروزاً لم يلحقه أحد ممن سبقه ولا ممن لحقه إلى قيام الساعة، وهذا هو نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال: (وفي صحيح مسلم : إن الشجاع منا الذي يحاذي به، وإنهم كانوا يتقون به).

أي أن أشجع واحد في أصحابه في هذا الموطن كان يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وحينما سمع أهل المدينة جلبة صوت عظيم جداً قاموا ينظرون إلى مصدر الصوت ما هو؟ فإذا بهم يخرجون خارج المدينة إلى ناحية الصوت، وفي حال خروجهم من المدينة إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام راجع من مصدر الصوت وهو يقول لهم: (لم تراعوا لم تراعوا) ذهب صلى الله عليه وسلم بمفرده ولم ينتظر أبا بكر ولا عمر ولم ينتظر أحداً، بل ذهب ورجع بنفسه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على شجاعته عليه الصلاة والسلام.

استجابة أهل بيعة الرضوان لنداء رسول الله يوم حنين

قال: (قوله: (يا عباس ! ناد أصحاب السمرة) أصحاب بيعة الرضوان، ومعناه: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. قوله: (فقال عباس وكان رجلاً صيتاً، فوالله لكأن عطفتهم) والعطفة: الجلبة، أي: كما لو كان جيش على قمة جبل ونزل في الوادي، بلا شك أنه سيكون لهم جلبة وصوت وهمهمة وغير ذلك، فهؤلاء حينما سمعوا صوت العباس : هلموا إلى رسول الله أتوا جرياً وهم يقولون: (يا لبيك! يا لبيك!).

قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة، فتقدم أخفاؤهم، فلما رشقوهم بالنبل ولوا، فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن).

قال الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25] فرحوا وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، بخلاف يوم بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أي: متذللين خاضعين عاجزين. وفي تفسير آخر: أَذِلَّةٌ يعني: قلة في مقابلة يوم حنين كانوا كثرة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، هم اثنا عشر ألف مقاتل فقالوا: من الذي يستطيع أن يغلبنا؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يُهزم اثنا عشر ألفاً من قلة) إذاً: فبماذا يهزمون؟ بسبب آخر غير الكثرة هذه، وهو الذي سمعتموه الآن: منافقين، ومشركين، وفي قلوبهم مرض، وغير مخلصين، وناس خرجت من أجل الغنيمة فقط، لكن اثنا عشر ألف مقاتل مخلص ما خرجوا إلا لله تعالى فقط، فمن الذي يستطيع غلبتهم؟ لا أحد يستطيع أبداً. ومن الذي استطاع غلبة إخواننا في طالبان؟ فهم لم يُغلبوا، ولكن ما أصابهم الذي أصابهم إلا بسبب المنافقين.

قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25] ونحن عرفنا من الذي ولى مدبراً يوم حنين، ولم يثبت إلا بضع مئات من أصحابه عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:26] حينما ولوا مدبرين بعد ذلك أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:26] وهؤلاء هم جنود السماء وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:26-27].

معنى قوله: (هذا حين حمي الوطيس)

أما قوله: (هذا حين حمي الوطيس) أول قائل له هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وصار مثلاً بعد ذلك لاشتداد الأمر، وليس لازماً أن يكون للحرب فقط.

قيل: الوطيس: هو شيء شبه التنور .. الفرن.

وقيل: هو التنور نفسه.

وقيل: هي حجارة مدورة يحمى عليها حتى تصير كالجمر فلا يطيقها أحد، ولا يستطيع أحد أن يطأها.

وقيل: الوطيس: هو الضرب في الحرب.

وقيل: هو الحرب الذي يطيس الناس. أي: يدق الناس دقاً.

وهذا من فصيح كلامه عليه الصلاة والسلام وبديعه.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين

قوله: (فرماهم بحصيات). وفي رواية: (بتراب).

فقيل: بتعدد الرمي، فمرة رماهم بحصى، ومرة رماهم بتراب. وقيل: بل أخذ كفاً من الأرض قد اختلط الحصى فيه بالتراب.

قال: (فما زلت أرى حدهم كليلاً). أي: ضعيفاً.

أما رميه لهم ورشقه لعيونهم وأبصارهم بالتراب والحصى حتى ولوا جميعاً مدبرين ففيه معجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام.

المعجزة الأولى فعلية، والأخرى خبرية، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بهزيمتهم، وقال: (انهزموا ورب الكعبة) أو: (انهزموا ورب محمد) فهذا خبر منه عليه الصلاة والسلام أنهم قد انهزموا.

ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين، وفي آخر الباب أنه قال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، وهذا أيضاً فيه معجزتان: خبرية، وفعلية، ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب، فرمى بذا مرة وبذا مرة. ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وتراب فرمى بها جميعاً.

تأدب البراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سئل عن فرارهم يوم حنين

قال: (قوله: (يا أبا عمارة ! فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حُسّراً ليس عليهم سلاح).

هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب ونوادره؛ لأن تقدير الكلام: (فررتم كلكم) فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء : لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا).

وقوله: (أخفاؤهم) الأخفاء: جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون. ومعناه: ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة، ومن انضاف إليهم ممن لم يستعد للقتال، وإنما خرج إلى الغنيمة من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض، فشبهه بغثاء السيل، ليس معهم سلاح ولا هم مستعدون لذلك، فرشقهم العدو رشقاً فاضطروا إلى الفرار، ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يفر.

استحباب الدعاء عند قيام الحرب

قوله: (فنزل النبي صلى الله عليه وسلم واستنصر).

أي دعا ربه أن ينصره هو وأصحابه.

قال النووي: (في هذا: استحباب الدعاء عند قيام الحرب).

وفي صحيح مسلم والبخاري من حديث أنس (أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل يوم حنين -أي: من على بغلته- فرفع يديه إلى السماء ودعا بدعاءين فصل بينهما فصلاً) أي: أنه دعا مرتين، وبينهما فصل.

قال في هذا الفصل: (أنا عبد الله ورسوله) ليثبت الذل في هذا الموطن، مع أنه كان أذل الناس لربه وأعبد الناس لربه، ولكن هذا الموطن يحتاج إلى بيان الذل والخضوع أكثر من غيره خاصة مع ما قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من بعض من خرج معه أنهم أعجبتهم قوتهم وكثرتهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم في هذا الموطن أن النصر لا يأتي إلا بالذل والعبودية لله، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأجراه على نفسه حتى يقتدي به أصحابه عليه الصلاة والسلام.

نفي صفة الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم

قوله: ( (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) ).

فهذا في ظاهره يا إخواني! أنه شعر، مع أن الله تعالى يقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].

قوله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ أي: وما خلقناه شاعراً. وأيضاً: لا ينبغي لهذا النبي أن يقول الشعر. والظاهر أن هذا شعر: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فلا شك أن بين الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا تعارض في الظاهر؟

قال الأئمة في رد هذه الشبهة: (أنكر بعض الناس كون الرجز شعراً). وهذا من الرجز: (أنا النبي لا كذب) والرجز هو الذي يقال في الحرب ولتحفيز الناس على القتال وغير ذلك، أو هو الذي يقال في محافل الناس، فأنكر كثير من العلماء أن يكون الرجز شعراً، فقالوا: الرجز شيء، والشعر شيء آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال رجزاً ولم يقل شعراً.

قالوا: وهذا مذهب الأخفش ، واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه قال: الرجز شعر. وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قُصد إليه، والشعر له علامات وشروط، الشعر هو أن يقصد قائله أن يقول شعراً، واعتمد الإنسان أن يوقعه موزوناً مقفى يقصد به القافية.

إذاً: فالشعر له علامات: أن يكون موزوناً، وأن يلتزم فيه الشاعر القافية، فاتحاد القافية شرط في الشعر، والوزن على بحر من البحور المعروفة هذا الشرط الثاني. والثالث: أن يقصد الشاعر أن يقول شعراً.

ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة، ولا يقول أحد: إنها شعر، ولا إن قائل هذا الكلام شاعر. يعني: أحياناً أنت تفاجأ بأنك على المنبر فتقول كلاماً موزوناً، وقد التزمت بحراً من البحور، وأنت نفسك لا تعرف البحر، لكن صاحب البحور عندما يسمع يعلم أن هذا الكلام يوافق البحر الفلاني، فيسألك: أنت شاعر؟ تقول: لا والله ولا عمري قلت الشعر، فيقول لك: أنت كنت قلت كذا وهذا في البحر الفلاني. تقول: لا أعرف بحراً ولا غير ذلك، وإنما أتى ذلك عرضاً. فهل كل من قال كلاماً موزوناً على بحر من البحور يعد شاعراً؟

إنسان ليس شاعراً ولا يعرف أصول الشعر، لكنه قصد أن يقول شعراً، هل يعد بهذا القصد فقط شاعراً؟ وآخر قال كلاماً التزم فيه القافية لكنه ليس كلاماً موزوناً وما قصد به الشعر، هل يعد شاعراً؟ الجواب: لا.

إذاً: الشعر له أصول ثلاثة: القصد، والتوجه، أن يكون موزوناً، أن يكون متحد القافية، وإذا اختل شرط من هذه الشروط فلا يكون شعراً ولا يكون قائله شاعراً، فعندما نأتي نطبّق الشروط هذه على النبي عليه الصلاة والسلام سنجدها كلها مختلة، فلم يقصد بها القافية، ولم يقصد أن يكون موزوناً، وما قصد أن يقول شعراً، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ شاعراً.

والقافية هي اتحاد الحرف في آخر الأبيات كالنونية مثلاً، فعندما تأتي لتنظر نونية ابن القيم تجد كل أبياتها ملتزمة حرفاً واحداً، هل ابن القيم قصد ذلك؟ نعم. قصد ذلك. الكلام هذا موزون؟ نعم. الكلام موزون، وتجد ابن القيم أنه قال شعراً. إذاً: فهو شاعر.

و ابن الأكوع لم يكن شاعراً، لكنه قال في هذه الغزوة أيضاً:

أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

أتت على لسانه ولكنه ليس شاعراً، مع أنه كلام موزون ومقفى، لكنه لم يقصد الشعر.

وكثير من كلام الله عز وجل توفر فيه إما الوزن وإما القافية، ولكن هل نقول عن الله أنه شاعر؟ معاذ الله! فإذا كنا ننفي هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من باب أولى أن يكون منفياً عن الله عز وجل، ففي قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وفي قوله تعالى: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13] شيء من ذلك، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا شعر.

معنى قوله: (أنا ابن عبد المطلب)

المبحث الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الفخر بالأحساب والأنساب، وأثبت أن هذا من فعل الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). والحديث عند مسلم من حديث أنس .

فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قد افتخر بجده عبد المطلب في الظاهر: (أنا ابن عبد المطلب) فكيف ينهى عن الفخر ويفتخر هو؟

الجواب: إن النبي عليه الصلاة والسلام هو ابن عبد الله بن عبد المطلب، لكن عبد الله مات شاباً قبل أن يكون له وزن في قومه وعشيرته، حتى كاد يُنسى، وكانت العرب قبل الإسلام تنادي محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه محمد ابن عبد المطلب، فخاطبهم النبي عليه الصلاة والسلام بما كانوا ينادونه به قبل الإسلام: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وهذا ليس من باب الفخر، ولكنه من باب نسبة الرجل بما اشتهر به، فاشتهر بجده أو بأمه أو بلقبه أو كنيته أو قبيلته أو بلده أو عمله، فيسن حينئذ أن يُنسب الرجل إلى ما يعلم به حتى لا يختلط بغيره. فلو قال: أنا محمد بن عبد الله فربما يكون في أصحاب الذين يقاتلون معه أنه محمد بن عبد الله، لكنه خاطبهم بما كانوا يعرفون آنفاً، أنه محمد بن عبد المطلب: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فليس هذا على سبيل الفخر، وإنما خاطبهم بما كانوا ينادونه به.

حكم التسمي بـ (عبد المطلب)

المسألة الثالثة: هل المطلب من أسماء الله تعالى؟ لا. ليس من أسماء الله تعالى، فلِم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) مع أنه يعلم أن المطلب ليس من أسماء الله تعالى؟

الجواب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك إلا ليقرر واقعاً، هذا الواقع لا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأن عبد المطلب هذا جده، وقد تسمى بهذا الاسم قبل ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن عبد المطلب لم يسم نفسه، بل سماه قومه أو أبوه أو أمه، فلا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار هذا الاسم، بل فُرض عليه أنه هو ابن عبد المطلب. هذا أمر.

الأمر الثاني: أن العلماء قالوا: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا مخصوص به ومفروض عليه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة حنين للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net