إسلام ويب

لقد خص الله سبحانه وتعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم بأن أحل لها الغنائم رحمة ورفقاً بها، والغنيمة هي ما حصل عليه المسلمون من متاع وسبي وأموال العدو بعد جهاد وكر وفر، وقد بين الهل تعالى مصارف الغنيمة ووجوهها وجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم خمسها، ثم إنه سبحانه أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم الفيء، وهو ما حصل عليه المسلمون من العدو من غير قتال، فجعله خاصاً بالإمام يجعله حيث يشاء من المصارف الشرعية.

باب حكم الفيء

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد:

فقد تكلمنا في الدرس الماضي في الفرق بين الفيء والغنيمة، أما الفيء: فإنه ما حصّله المسلمون بغير حرب ولا قتال، ومن غير أن يدركوه بخيل ولا ركاب، والفيء خاص بالإمام ينفقه حيث شاء في المصارف الشرعية.

وأما الغنيمة: فللنبي صلى الله عليه وسلم خمسها، وأربعة أخماسها يوزّع على الغانمين، أو على المحاربين المقاتلين؛ دليل ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: [(أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)] أي: أن حقكم من العطايا موجود في هذه القرية وهو الفيء الذي حُصّل دون قتال. قال: [(وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)] أي: أن الخمس لله ورسوله، ثم أربعة أخماسها لكم أيها المقاتلون!

وفي الحديث الثاني: قال مسلم -وإن كنا قد ذكرناه من قبل: [عن مالك بن أوس بن الحدثان قال عمر رضي الله عنه: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله)].

معنى أفاء الله على رسوله أي: أخذها صلحاً وبغير قتال.

قال: [(مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب -أي: لم يقاتلوا عليه- فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحتجز لأهله من هذا الفيء ما يكفيهم لمدة عام، وإن كان الواقع يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما احتجز طعاماً قط يكفيه لبضعة أيام وإنما كان ينفق منه، وهذا يدل على جواز الادخار لأهل البيت، كما يدل على استحباب الإنفاق من هذا المال المدخر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينفق منه، وكان يدعو الله تعالى أن يجعل رزق آل محمد قوتاً. أي: على قدر قوت يومهم. قال: [(وما بقي يجعله في الكراع -الخيل- والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل)].

أي: أنه كان يستعد من هذا الفيء للجهاد في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن أحد مصارف الزكاة والصدقات العامة والخاصة هو سبيل الله، وسبيل الله عند الإطلاق هو الجهاد في سبيل الله تعالى.

قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية] وهو ابن أسماء الضبعي ، فـجويرية اسم رجل، وأبوه اسمه أسماء اسم رجل كذلك، فهو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري [عن مالك -أي: الإمام- عن الزهري : أن مالك بن أوس حدثه قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار -أي: حين طلعت الشمس وأشرقت، وكأنه يقول: أتيته وضوحاً- قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله]. الرمال: هو ما ينسج من جريد النخل أو سعف النخل؛ ليضطجع عليه صاحبه، لكن في الغالب أن هذا الرمال يوضع عليه كساء أو شيء من قطن، أو شيء ناعم ليّن حتى ينعم الجالس بجلسته.

قال: [مفضياً إلى رماله، متكئاً على وسادة من أدم -الوسادة: المخدة. من أدم: أي من جلد محشوة- فقال لي: يا مال!] وهو ترخيم مالك، والترخيم مستحب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أول من رخّم عائشة رضي الله عنها، فكان يقول لها: يا عائش ! ولا يقول لها يا عائشة ! وهذا من باب الدلال والترخيم الذي يفيد الود والقرب بين المرخِّم والمرخَّم.

قال: [يا مال ! إنه قد دف أهل أبيات من قومك]، أي قد أتانا أهل بيوت من قومك سراعاً. وقيل: بطئاء؛ لأن كلمة دف من ألفاظ الأضداد، فهي تستخدم استخدامات عكسية، فكلمة دف عند قوم من العرب بمعنى: أسرع. وعند آخرين بمعنى: أبطأ. أي: قد أتونا على استحياء ليطلبوا عطايا.

وعند تفسير آخر: قد أتونا مسرعين ليطلبوا عطايا.

قال: [وقد أمرت فيهم برضخ]. وهذا قول عمر أي: يا مالك ! قد أتانا أناس من قومك يطلبون العطايا، وأمرنا لهم برضخ. أي: بعطية قليلة.

قال: [فخذه فاقسمه بينهم]. وكان مالك سيداً في قومه.

[قال مالك: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟] تقدير الكلام: لو أمرت أن يقسّم المال فيهم غيري لكان أحسن.

قال: [خذه يا مال ! -أي: أنت الذي تقسّمه- قال: فجاء يرفا]، وفي رواية: يرفأ، ولعلها كلمة فارسية ليست عربية، وهي اسم للحاجب والخادم، وفي الغالب أن العرب كانوا إذا استخدموا كلمة ليست عربية في موطنها المعروف في ذلك الوقت يستخدمون كلمات فارسية، فقوله: فجاء يرفأ. أي: حاجب عمر.

فقال: [هل لك يا أمير المؤمنين! في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ -أي: هل لك في هؤلاء حاجة فإنهم بالباب، أتوا ليسألوا عنك، فهل آذن لهم بالدخول؟- فقال عمر: نعم. أي: ائذن لهم بالدخول. قال: فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء مرة أخرى فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في عباس وعلي؟] التقدير: فإنهما بالباب، ويستأذنان عليك، فهل لك فيهما حاجة فآذن لهما؟ والعباس هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

[قال: نعم. فأذن لهما. فقال عباس: يا أمير المؤمنين!] والمتكلم هنا هو العباس. فمن آداب الكلام أن يتكلم الكبير أولاً حتى وإن كان على اليسار أو في منتصف القوم، فالأدب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الكلام والمحادثة: (أن كبّر كبّر) أي فليتكلم الكبير؛ لأن من آداب المحادثة وإبداء الرأي ألا يتكلم إلا الكبير أولاً، ثم يتكلم الصغير إن أُذن له بعد ذلك، فتكلم العباس رضي الله تعالى عنه.

[فقال العباس: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن]. يقصد بهذه الألفاظ والسباب كلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

موقف المسلم من اختلاف العلماء والأقران

ابتداء نقول: إن كلام الأقران إذا لم يمكن توجيهه وتأويله يطوى ولا يروى، ولا تعلق عليه أحكام، ولا يجوز لمن أتى بعد هؤلاء الأقران أن يعتمد سب زيد في عمرو، ولا سب عمرو في زيد؛ لأنهما أقران، كما أني وفلان من أقران نختلف ونتصالح، ولا يجوز لأحد ممن يسمعنا أن يتعلق بخصومتي بفلان من أقراني، ولا بخصومة غريمي معي، ولا يجوز لأحد من طلبة العلم، أو ممن يستفيد من كلامي وكلام قريني أن يتكئ على خصومة بيني وبين فلان أو علّان.

وهذا خطأ في أصل منهج التربية لدى الشباب، أنه إذا اختلف الشيخ الفلاني مع قرينه أو العالم الفلاني مع قرينه، فإنهم يتحيزون ويتميزون وتدب المشاكل والخلافات بين الأتباع التي يمكن أن يتطاير شررها هنا وهناك، ويعظم الأمر ويفحش ولا يكون له بعد انتشاره حلاً، فالأدب الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وعلّمه الصحابة لمن بعدهم: أن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى.

ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الغيرة بين أهل العلم أشد من الغيرة بين التيوس في زروبها.

أي: أن الذي يبعثهم على الكلام في بعضهم البعض هو الغيرة، وكم من إنسان من سلف الأمة ومن عظماء العلماء تكلم في أقرانه، أو تكلم فيمن سبقه، وإن كان هذا لا نوافق عليه والأصل عدمه، وهناك نماذج طيبة مشرقة في أهل العلم، لم يتكلموا في أحد، وإنما تكلم فيهم، وبلا شك أن الأصل والأولى: أن يتصدق المرء بعرضه على من انتهك عرضه، فلا أقل من أنه رد الظلم بظلم، أو رد الإساءة بإساءة، والبادئ أظلم وإن كانت الأولى أحسن وأفضل.

فالشاهد من هذا الكلام كله: أن أبناء الصحوة لا علاقة لهم بما يدور بين الكبار، فلعلهم معذورون، ولعلهم متأولون، ولعلهم مخطئون، فلا علاقة للشباب بما وقع بين الكبار، كما أنه يجب على الكبار كذلك إذا كان هناك شيء من الإحن والفتن بينهم أن يخفوها عن الطلاب وجوباً شرعياً، فإن بدا شيء بغير قصد فلا يجوز استغلال هذا الشيء الذي بدا من هذه القضايا.

تأويل قوله: (اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر)

قال: [اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن]، بلا شك أن علي بن أبي طالب ليس فيه شيء من هذا كله، وكل سبة من هذه السباب لها مدلول في اللغة وفي الاصطلاح، فالكاذب هو: من تكلم بالكلام على غير حقيقته وعلى غير أصله المشروع، سواء كان في ذلك متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً، فيُحمل الكذب على هذه المعاني في اللغة ابتداء، ثم الشرعي أو الاصطلاحي.

ولا شك أن علي بن أبي طالب مبرأ من هذا كله، وإلا فكيف يكون كذلك وهو المبشّر بالجنة؟!

ويحمل هذا كذلك على ما يعتقد العباس رضي الله عنه؛ لأن كل واحد قد اختلف مع الآخر، ويغلب على ظنه أنه على الحق وأن الآخر على الباطل، وإلا فلا يحل لأحد أن يختلف مع أخيه وهو يعلم أن أخاه على الحق المبين، خاصة إذا كان هذا الخلاف واقعاً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا العباس يعتقد أن الحق معه وأن علياً على الباطل في الخصومة المرفوعة بين يدي أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.

ولكنه تجاوز في طرح قضيته بهذه الألفاظ. ثم لو انسدت جميع الأبواب أمامنا في تأويل هذه السباب فإننا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم وقع بينهم شيء من هذا وزيادة على هذا، ولا علاقة لنا بذلك كله، فالذي دار بينهم يطوى ولا يروى، ونعتقد أن لهم من الفضل والسبق والعلم والجهاد والهجرة وغير ذلك ما يكفّر جبالاً من الذنوب.

فهذه الألفاظ نحن نقرأها فقط من باب أنها مروية ومأثورة، ولكننا لا نتوقف عندها، بل نحسّن الظن بجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونستغفر لهم مما بدر منهم ومما لم يصدر عنهم.

بيان خصومة العباس مع علي بن أبي طالب والعلة في منع الخلفاء لهم من أخذ ميراث النبي

قال: [فقال القوم -أي: عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعثمان: أجل يا أمير المؤمنين! فاقض بينهم وأرحهم]. وكأن الخصومة كانت قديمة، وهذه الخصومة باختصار شديد: أن العباس كان يريد أن يأخذ ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، وأن فاطمة كانت تريد أن تأخذ ميراثها من أبيها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك بنتاً وعماً، فإن الميراث يكون مناصفة؛ فلو مات ميت وترك عماً وترك ابنة فللبنت النصف وللعم النصف، فكان العباس يريد أن يأخذ نصف الفيء الذي تركه النبي عليه الصلاة والسلام، وفاطمة تريد أن تأخذ النصف، وكانا لا يريدان أن يأخذاه على سبيل الميراث؛ لأنهم جميعاً أقروا بسماعهم قوله عليه الصلاة والسلام: أنه لا يورث وإنما تركه صدقة، فكانوا يعلمون ذلك وأقروا به، لكنهم كانوا يريدون أن يقوموا في هذا الفيء مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فخشي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يتقادم الزمان ويظنوه ميراثاً، وخشي من بعده عمر ومن بعده عثمان حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه خشي من ذلك حينما انتقل إليه الفيء، فكان لا يعد هذا الفيء ميراثاً، وإنما كان ينفق منه على اعتبار أنه حظ أهل البيت من الفيء، ويجب أن يُنفق في المصارف المشروعة.

فمطالبة العباس عمه ومطالبة علي بن أبي طالب بحق امرأته بنت النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من باب الميراث، ولكن الخلفاء حينما غلب على ظنهم أنه يمكن أن يقول الناس: إن فاطمة ورثت مع وجود النص، وإن العباس ورث مع وجود النص منعوا ذلك؛ لأن العباس كان يطالب بشطر الفيء، وفاطمة تطالب بشطر الفيء، وهذا يوافق تقسيم الميراث مناصفة بين العم وبين البنت، فخشي من إدخال هذا في ذاك، فمنع الخلفاء الراشدون أن تأخذ فاطمة شيئاً حتى وإن كان على سبيل حقها في الفيء؛ لأنه يناسب تماماً حقها في الميراث ولا ميراث لها، فـأبو بكر الصديق أغلق الباب أمامها؛ حتى لا يقول الناس: إن فاطمة ورثت، وإن أبا بكر تأثّر بذلك أو خضع في ذلك، وأراد أن يداري بنت النبي عليه الصلاة والسلام مع وجود النص، ومع أنه السامع لهذا النص من النبي عليه الصلاة والسلام؛ فمنع ذلك، ثم منعه عمر ، ثم منعه عثمان ومنعه علي بن أبي طالب كذلك، وذلك حين صار هذا الفيء في يد علي في إمارته وخلافته منعه آل البيت ومنعه فاطمة رضي الله عنها، فليس في ذلك خطأ من أبي بكر ولا ممن أتى بعده.

قضاء عمر بين علي والعباس في شأن فدك وخيبر

أما القوم فقالوا: أجل يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء قد اختلفوا وطال خلافهم، فاقض بينهم وأرحهم.

[فقال مالك بن أوس : يُخيّل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك].

أي أن عبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير وغيرهم يخيّل إلى مالك بن أوس أنهم سبقوا العباس وعلي إلى مجلس أمير المؤمنين عمر ؛ حتى يُطلعوا عمر بن الخطاب على أصل القضية، وأنهم قد أمروا العباس وعلياً أن يأتياه بعد قليل من دخولهم على أمير المؤمنين.

[فقال عمر : اتئدا. أي: أبطئا وانتظرا فسأقضي بينكم. فقال: أنشدكم بالله! -أي: أستحلفكم بالله- الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟]

أي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وإنما الذي تركناه صدقة. أنشدكم بالله! أبلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؟

[قال: قالوا: نعم]. أي: قال القوم الذين حضروا دون العباس وعلي ، وهذا الكلام موجه للصحابة الذين دخلوا أولاً.

قال: [ثم أقبل عمر على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض]. فالقاضي إذا أراد القضاء في أمر ذكَّر الشهود بالله تعالى، وبعظمته وجبروته وكبريائه، وأنه يقصم ظهورهم إن كذبوا وخانوا وغدروا وغشوا، وهذا أصل من أصول القضاء، أن القاضي يذكّر الناس ويذكّر المتخاصمين والشهود بالله تعالى حتى لا يكذبوا ويؤثروا الدنيا على الآخرة.

فقال: [أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة)؟ قالا: نعم].

أي: أن العباس يعلم ذلك، ويعلم أنه لا ميراث له، وعلي يعلم أنه لا ميراث لابنة النبي عليه الصلاة والسلام وهي فاطمة التي كانت تحته.

قال: [قالا: نعم. فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره].

وهذا هو الشاهد من الحديث في حكم الفيء.

فـعمر يقول لهم: الذي قد استقر في الأذهان وأجمعت عليه الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى خص نبيه بخاصة ليست لغيره، وهذه الخاصة هي أن جعل مال الفيء تحت تصرفه عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كيف يشاء؛ لأنه لم يُبذل فيه جهد من المسلمين، ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، فهذا خاص به عليه الصلاة والسلام.

[قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7] ... قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير].

وكأنه يقول: يا علي ! ويا عباس ! أما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير؟ قالا: نعم.

وقال: هل استأثر بأموال بني النضير أحداً دونكم؟ قالا: لا، إنما قسّمه فينا، ولم يعط أحداً شيئاً؛ لأنه ليس لأحد حق في هذا المال، لأن أموال بني النضير -وهم يهود المدينة- إنما أخذه النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً وفيئاً بغير قتال.

قال: [فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم -أي ما قدّم عليكم أحداً- ولا أخذها دونكم]. أي: لم يستأثر بها هو دونكم يا أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [حتى بقي هذا المال -أي: حتى بقي منه ما بقي- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال]. أي: ثم يدخل ما بقي عن حاجتكما وحاجة أهل بيته في بيت مال المسلمين.

فقوله: (أسوة المال) أي: بيت المال.

[ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟]

أي: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاكم أموال بني النضير ولم يعط أحداً غيركم؟

[قالوا: نعم. ثم نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئتما. تطلب ميراثك من ابن أخيك -يا عباس - ويطلب هذا - علي بن أبي طالب - ميراث امرأته من أبيها؟] أي: مع علمكم بهذا قد أتيتم تطلبان ميراثكما من النبي عليه الصلاة والسلام؟

[قال: فقال أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نورث. ما تركنا صدقة) فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً] مع أنهما لم يصرّحا بذلك، أي: أن العباس وعلي لم يقولا حين منعهما أبو بكر : أنه كاذب وآثم وغادر وخائن، ولكن هذا إبداء ما يمكن أن يجيش في صدر الطالب أو في صدر الخصم المتقاضي دون أن يُظهر ذلك، وذلك لأنه قضى بغير ما يعتقد الخصم أنه حق.

فحينما تذهب إلى القاضي يغلب على الظن أن الحق معك، فإذا قضى القاضي عليك -وإن لم تصرّح أنه كاذب وخائن وغادر وحكم بغير الحق- قد دخل في نفسك أنه كان كذلك.

فكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرد على العباس وعلي فيقول لهما: أنتما قد علمتما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نورث. ما تركنا صدقة) ومع هذا قد أتيتما أبا بكر ، فلما منعكما ظننتما أنه كاذب وآثم وغادر وخائن.

[قال: والله يعلم إنه لصادق -مقابل الكذب- وبار -مقابل الإثم- وراشد -مقابل الغدر- وتابع للحق -مقابل الخيانة- ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً]، مع أنهما ما قالا ذلك لـعمر ولا يجرؤان أن يقولا ذلك لـعمر ، وإنما عمر بادرهم بما يمكن أن يحاك في صدريهما.

[قال: والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق، فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا -أي: فلما توليت الإمارة أنا جئتني أنت يا عباس ! وهذا علي بن أبي طالب- وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما: ادفعها إلينا].

أي: إننا لن نأخذها يا عمر على سبيل الميراث إنما نأخذها على أنها فيء، فنقوم فيها كما كان يقوم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أحق بذلك؛ لأننا أهل بيته، وإذا كان هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فيكون لأهل بيته من بعده؛ لينفقوها ويتصرفوا فيها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها، لا على سبيل الميراث، لكن الشبهة قائمة وهي اعتقاد الناس أن العباس أخذ نصف الفيء، وهو حقه في الميراث، وأن فاطمة أخذت نصف الفيء، وهو حقها في الميراث.

فمنع الخلفاء انتقال الفيء إليهما قطعاً للشبهة، ثم إن العباس إذا تصرف بالفيء فإنما يتصرف فيه باعتباره فرداً من أفراد الأمة، وكذلك فاطمة باعتبارها فرداً من أفراد الأمة، أما تصرف الولي والإمام والأمير فيتصرف في الفيء باعتباره الإمام وحاكم الدولة، وبلا شك أن جانب الإمامة أقوى من جانب الأفراد، فمنع عمر وكذلك من قبله أبو بكر انتقال الفيء إلى أهل بيته عليه الصلاة والسلام، لا على سبيل الفيء ولا على سبيل الميراث من باب أولى.

[قال: ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم].

أي: أنه بما أن الأمر احتدم إلى هذا الحد فأنا أجعل إثم المخالفة عليكما، وأُلزمكما أن تقوما في الفيء كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم فيه.

[قال: أكذلك؟ أي: توافقان على ذلك؟]

أي: خذوها كما أن لكم بردها فعليكم حرها، هل توافقان على ذلك؟

[قالا: نعم]. أي: نأخذ هذا الفيء على أن نقوم فيه بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا أنه ميراث.

قال عمر : [ثم جئتماني لأقضي بينكما، ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة -فهو فيء ولا حظ لكم فيه- فإن عجزتما عنها فرداها إلي].

أي: إذا أردتما أن تأخذا هذا المال فخذاه وتصرفا فيه، لكن بشرط إن عجزتما عن الإنفاق في وجوه البر والخير المشروعة بتقسيم الفيء؛ فيلزمكما رد المال إلى بيت المال مرة أخرى، فهل توافقان على ذلك؟ قالوا: نوافق على ذلك.

فأعطاهما عمر رضي الله عنه الفيء بهذا الشرط أمام الشهود وليس على سبيل الميراث.

تأويلات مطالبة علي والعباس بمال الفيء مع علمهما بأنه صدقة وليس ميراثاً

قد يقول قائل: بما أنهما يعلمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) فلِم كانا يصران على ذلك أولاً، ووقعت الخصومة والشحناء والنفرة بينهما بسبب هذا المال؟

الجواب: تأويلات متعددة: إما أنهما كانا يطلبان هذا المال -مال الفيء- للتوزيع كما ذكرنا، وليس لاستعمالهم الخاص. وهذا قول راجح.

وقول آخر: أنهم تأولوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: لا نورث من المال الذي هو ذو بال أيضاً الفيء، ولا يمنع هذا أن نرث ما دون ذلك أي: من أثاث ومتاع وغير ذلك مما تركه عليه الصلاة والسلام في بيوته.

هكذا تأولوا، وهذا وجه من وجوه التأويل؛ لأنه لا يتصور قط أن الصحابة رضي الله عنه يظهر لهم الحديث عياناً بغير تأويل ثم هو يخالفونه، فالصحابة لم يكونوا كذلك، بل كانوا وقّافين عند حدود النص الشرعي.

يذكر أن السفاح خطب أول خطبة قام بها، فقام إليه رجل وقد علّق المصحف في صدره، فقال: أنشدك الله يا إمام! إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف. قال السفاح : ومن خصمك؟ قال: أبو بكر في منعه فدك، وهي أرض كانت لليهود أفاء الله عز وجل بها على نبيه بغير قتال ولا حرب.

قال: أظلمك؟ قال: نعم. -وهذا كان من أهل بيته عليه الصلاة والسلام ومن أولاد علي بن أبي طالب- قال: فمن بعده؟ قال: عمر . قال: أظلمك؟ قال: نعم. قال: فمن بعده عثمان؟ قال: نعم. قال: أظلمك؟ قال: نعم. قال: فمن بعده علي؟ قال: نعم. قال: أظلمك؟ فسكت الرجل؛ لأنه لا يجرؤ أن يصف الإمام بالظلم وإلا انهدم أصل مذهبه، وهو نصرة علي على أبي بكر وعمر وعثمان.

والإمام عند الشيعة معصوم لا يخطئ، أي: أن الشيعة عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ ولكن الإمام لا يخطئ؛ لأنهم يعتقدون -كما نعتقد نحن- أن الوحي يأتي إلى الأنبياء ولا يأتي إلى الأئمة، فلا حاجة إلى عصمة الأنبياء؛ لأن الأنبياء يأتيهم الوحي ولا يتصرفون إلا بوحي، فما قيمة العصمة إذاً؟

أما الإمام فلا بد أن يكون معصوماً؛ لأن خطأه يدمّر الأمة كلها، فيلزم أن يكون الإمام معصوماً حتى تقتدي به الأمة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب ؛ ولذلك قال له: فمن بعد هؤلاء الثلاثة علي ؟ قال له: نعم. قال له: أظلمك؟ فـالسفاح رغم أنه سفّاح يعتقد أن علي بن أبي طالب لم يأخذ هذا الفيء لنفسه، وإنما حينما أخذه أنفقه في المصارف الشرعية التي يُنفق فيها الفيء، فإذا كان علي بن أبي طالب أنفق مال الفيء في وجوه البر ولم يستأثر لنفسه بشيء، ولم يأخذ منه ولا فاطمة شيئاً. فماذا تقول في ذلك؟ فإذا كان هذا ظلماً فأيكما أعلم بذلك: أنت أم علي بن أبي طالب ؟ بلا شك أن علي بن أبي طالب أعلم بهذه الأحكام.

فإذا كان علي قد غُلب في زمن أبي بكر ثم في زمن عمر ثم في زمن عثمان .. فحينما كانت الخلافة في يديه والمال تحت يديه، فلِم لم يأخذه إذاً؟ وما ذلك إلا لأنه يعتقد أنه لا حق له في هذا المال.

فالذي يأتي بعد ذلك ويقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان قد ظلموا علياً، فهذا قول من أعظم الباطل على الخلفاء الراشدين وأشد الضلال.

فلما سكت الرجل أغلظ له السفاح القول.

ولذلك فالاعتذار عن علي والعباس رضي الله عنهما أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نورث، ما تركناه صدقة) وتقرير عمر رضي الله عنه أنهما يعلمان ذلك، فأمثل ما فيه ما قاله بعض العلماء: أنهما طلبا أن يقسّماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما ينفق الإمام بها لو وليها بنفسه، فكره عمر رضي الله عنه أن يوقع عليها اسم القسمة؛ لأنها شبيهة بالميراث؛ ولئلا يُظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث وأنهما ورثاه، لا سيما أن قسمة الميراث بين البنت والعم نصفان، فيلتبس ذلك، ويُظن أنهم تملكوا ذلك.

حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع : حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق بن همام الصنعاني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني عن الزهري المدني عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك بنحو حديث مالك الإمام، غير أنه فيه: فكان ينفق على أهله منه سنة، وربما قال معمر : يحبس قوت أهله منه سنة، ثم يجعل ما بقي منه مجعل مال الله عز وجل].

أي: يحجز من الفيء ما يكفي أهله سنة، ثم يجعل الباقي في الكراع والسلاح.

باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)

الباب السادس عشر، وهو باب يحتاج الباب السابق إلى ضمه إليه: (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

[حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث. ما تركنا فهو صدقة

حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة : أنها أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر)]؛ لأن خيبر فُتحت عنوة وليس صلحاً، فكان حظه عليه الصلاة والسلام من الغنيمة الخمس.

وقد سبق أن قلنا قبل هذا: أن من الفروق بين الغنيمة والفيء:

أن الفيء كله تحت تصرف النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الغنيمة له منها الخمس فقط، أما تخميس الخمس فهو مذهب الشافعي ، وليس له من يؤيده لا قبله ولا بعده.

قالت: [(مما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)].

أي أنه ليس من حقكم إلا أن تأكلوا وتشربوا فقط، أما أن تأخذوه فلا؛ لأنه ليس ميراثاً، إنما تأكلون وتطعمون ما شئتم، وبقية هذا يدخل في بيت المال، أما غير ذلك فلا.

قال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها)].

إنَّ الصديق رضي الله عنه رغم ظهور المصلحة، إلا أنه كان حريصاً ألا يحيد قيد أنملة عمّا كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قيل له في جمع المصحف فأبى مع أن المصلحة ظاهرة في جمع المصحف. وحجته: كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، فكان وقّافاً عند حدود الشرع.

فقال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك)].

وجدت بمعنى: غضبت، من الوجد لا من الإيجاد.

قال: [(فهجرته)].

وربما تكون هذه من نوع الهجرة المشروعة. وقد يكون المعنى: لم تكلمه في أمر الميراث بعد ذلك، فإنه لم يثبت قط أن أبا بكر سلّم عليها فلم ترد عليه. وهذا هو المقصود بالهجرة عند الإطلاق، لكن لم يثبت هذا، ولم يثبت أنها خرجت من تحت إمرته، أو خرجت عليه بالسيف أو بالقول أو بالفعل.

وهذا على أية حال مباح، فأنا إن غضبت منك قليلاً فمن الممكن أن أهجرك، بمعنى: أنني لا أهتم بلقائك ولا أزورك، وإن زرتني وجب عليّ استقبالك، وإن سلّمت عليّ وجب عليّ رد السلام، لكن الأمر أو الحاجز بين أبي بكر وفاطمة أنهما لم يحدث بينهما لقاء، وما زار أحد منهما أخاه، وبالتالي فلم يكن هناك ما يؤذي أبا بكر ، ولا يؤذي فاطمة غير ما قد منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أخذ المال الفيء إلى فاطمة .

قال: [(فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت)].

والمحمول في هذا الكلام: فلم تكلمه في أمر الفيء حتى توفيت.

قال: [(وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر)] وقيل: تسعة. وقيل: ثمانية. وقيل: سبعة. وقيل: أربعة. وقيل: شهران. وأرجح الأقوال: أنها عاشت بعد النبي عليه الصلاة والسلام ستة أشهر.

الأعذار المبينة لما حصل بين علي وأبي بكر من سوء فهم

قال: [(فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر] وإعلام الإمام بمن مات أمر مستحب وليس بواجب، فإذا ترك الإنسان المستحب فلا يلام عليه، وفي هذا جواز الدفن ليلاً وإن كان الدفن بالنهار أولى وأفضل، لكن على أية حال هو جائز.

ونحن نرى في هذا الوقت أن مريضاً لو قيل له: بماذا توصي؟ يقول: أوصي بألا يصلي عليّ فلان ولا يشيّع جنازتي؛ لأني غضبان منه. نقول: وهل إذا كنت غضباناً منه توصي بهذا؟ إذاً: هذا وضع طبيعي في البشر، فـعلي بن أبي طالب قال: ما دام فاطمة ماتت وهي غضبانة من أبي بكر وكانت قد هجرته، فأنا أيضاً غضبان لغضب فاطمة ، إذاً ندفن فاطمة ليلاً قبل أن يصل الخبر لـأبي بكر فيأتي، وهذا يشعر بأن الخلاف الموجود بين فاطمة وبين أبي بكر لا يمنع أبا بكر من المشاركة في دفن فاطمة ، فإنه كان قلبه نقياً.

قال: [(وكان لـعلي من الناس وجهة حياة فاطمة)].

أي: أنه كان علي بن أبي طالب من أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن على أية حال كانت حياة فاطمة كصمام الأمان لـعلي بن أبي طالب ، وكان الناس يوادون علي بن أبي طالب لمكانة ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن البنت في المنزلة أولى من ابن العم، فهكذا كان لـعلي بن أبي طالب وجهة ومنزلة سامية عند الناس طالما فاطمة كانت حية.

قال: [(وكان لـعلي من الناس وجهة حياة فاطمة -أي في حياة فاطمة - فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس)] أي: أنه لم يتغير الناس إلا بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها.

مراجعة علي الأمر المعروف ومبايعته لأبي بكر

قال: [(فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)] وفي هذا إثبات أن علي بن أبي طالب لم يكن قد بايع أبا بكر لمدة ستة أشهر بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، كما أنه لا يلزمه البيعة، وذلك لأن البيعة لا تلزم جميع الناس، وعلي من الناس، وإن فرضنا أنه من خاصة الناس وأنه كان عضواً في مجلس الحل والعقد، فهل يلزم أن يبايع جميع أهل الحل والعقد أم يكفي أغلبية المجلس؟

الجواب: يكفي أغلبية المجلس. إذاً: علي رضي الله عنه لم يخالف في تركه البيعة لـأبي بكر ، كما أنه لم يثبت عليه أنه ذم أبا بكر ، أو تكلم في عدم مشروعية بيعته أو خلافته أو غير ذلك.

لكن علياً كان غاضباً من أبي بكر ؛ لأنه كان يتصور أنه لا يقطع في أمر دونه، وأنه حينما يموت النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتمع الناس في سقيفة بني ساعدة يدعونه، وهذه على أية حال قلوب بشر، وهو لم يخطئ في ذلك، كما أن عمر رضي الله عنه لم يكن يعلم باجتماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة أثناء موت النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ذهب إليهم بقدر الله، وطار الخبر إلى أبي بكر بخلاف المهاجرة والأنصار في الإمارة والخلافة من بعده عليه الصلاة والسلام، فذهب إليهم ليحل القضية، فلما علم بذلك عمر طار إليهم، ثم قضى بما قضى من حجج لديه، بأن أولى الناس المهاجرون، وأولى المهاجرين هو أبو بكر الصديق بدليل كذا وكذا وكذا.. وذكر من القرآن والسنة ما يؤيد قوله وهو القول الصحيح في هذه القضية.

وبالتالي أجمع العلماء على صحة إمامة أبي بكر وأنه أولى الناس بعد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن علي بن أبي طالب كان مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام وتغسيله وتكفينه فتركوه لذلك، ثم إن المصلحة راجحة في عقد الخلافة لآحاد الناس؛ حتى لا يختلفوا بعد ذلك فيمن يصلي على النبي؟ ومن يكفّن النبي؟ ومن يدفن النبي؟ ومن يتولى أمر النبي في الفيء وغيره؟ فالمصلحة راجحة، فرأى أبو بكر وعمر تقديم إثبات الخلافة لـأبي بكر على تجهيزه عليه الصلاة والسلام، وعلى انتظارهم لمشورة علي أو عثمان أو غيرهما، فانشغلوا بهذا، وكان علي مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام، فالقضايا كلها كأنها لبس أو سوء فهم، وليست قضية خلافية جوهرية بين الصحابة رضي الله عنهم.

قال: (وكان لـعلي من الناس وجهة حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)].

قال: ليس هناك وجه لاستنكار الناس إلا لأنني لم أبايع أبا بكر إلى الآن؛ وذلك لأنني لست من عامة الناس، فأنا إنسان مرموق ومن أعلام الصحابة.

قال: [(ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا)].

ولو كان أبا بكر في حالة غضب من علي فلن يأتيه وإن أُرسلت إليه أكثر من رسالة، أو لقال: إذا كنت تريدني فائتني أنت، وهذا نظامنا نحن.

قال: [فأرسل إلى أبي بكر : أن ائتنا، ولا يأتنا معك أحد]، وهنا يقصد عمر مع أن أمر الميراث لم يكن له أي اتصال بـعمر ، وكان هذا الكلام في خلافة أبي بكر ، وأبو بكر هو رجل الدولة المتصرّف في كل شيء، فما هي علاقة عمر بهذا الأمر؟ لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد.

قال: [(فائتنا ولا يأتنا معك أحد؛ كراهية محضر عمر بن الخطاب)] أي: لا تصطحبه معك.

قال: (فقال عمر لـأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك).

وأنتم تعلمون لباقة علي وفصاحته وبلاغته، فيمكن أن يمسك أبا بكر ويعظه حتى يبكي أبو بكر فيرق له، ويعطيه ما يريد، ويمكن أن يطالبه علي بن أبي طالب بشيء من خاصة أبي بكر، فيحمل الحياء أبا بكر على دفعه إليه، ويستحي أن يدافع عن نفسه، ويتمنى لو أن الغير قد تكلم عنه، حتى عمر رضي الله عنه لو أن له حقاً يستحيي أن يطلبه ولا يرضى، وتأبى عليه كرامته أن يطالب به، لكن لو أن لغيره الحق لطالب به، فالإنسان يطالب لغيره بعلم وجرأة؛ لأنه لا يطلب لنفسه فهو غير متهم.

إذاً: أبو بكر الصديق قال: أنا سأذهب لـعلي بن أبي طالب ، وعمر قال له: لا تذهب بمفردك ولا بد أن آتي معك، حتى إذا كلمك في شيء أدفع عنك وأذود عنك وأتكلم؛ لأن حياءك سيمنعك من الرد على علي بن أبي طالب .

قال: [(فقال عمر لـأبي بكر : والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر : وما عساهم أن يفعلوا بي؟ فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب)] أي: أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنه قول مستحب بعد طول فراق.

قال: [(ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر ! فضيلتك وما أعطاك الله)] وهذا إقرار واعتراف، فهو لم يقابله بالعتاب واللوم، وإنما بالإكرام والاعتراف بالفضل والسبق، فهو مقدم عليهم.

قال: [(ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك)] أي: أنني أعرف أن الله حباك بما لم يحبُ به أحداً، ومع هذا نحن لا نحسدك على هذا، فهذا رزق الله.

قال: [(ولكنك استبددت علينا بالأمر)] فهو هنا بعد الإكرام يبدأ بأصل الخلاف الذي كان بينهم، فيقول: ولكنك استبددت علينا بالأمر، أي: كان بودي أن تقول: ابعثوا إلى علي يقول رأيه في هذه القضية.

قال: [(ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)] وليس هو حقاً في الخلافة، بل كنا نرى لنا حقاً في المشورة، وإثبات الخلافة لك، وكأنه يقول له: قل: نادوا علياً يبايع أو حتى نشاوره ويشاركنا في الأمر، لا أنه أولى بالإمارة والخلافة من أبي بكر ، فهو يعترف أن أبا بكر قد أعطاه الله ما لم يعط علي بن أبي طالب .

قال: [(فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر) وهذا الذي كان يخشاه عمر.

قال: [(فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي)].

أي: أنه يريد أن يقول له: يا علي ! أنت أحب إليَّ من قرابتي ومن أرحامي.

وانظروا إلى هذا الكلام الرقيق المهذّب الجميل، فهذه دروس عظيمة جداً في التربية.

قال: [(وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال)].

شجر بمعنى: اختلف. أي: أن المسائل هذه محل اختلاف بيني وبينكم في أموال الفيء.

قال: [(فإني لم آل فيها عن الحق -أنا كنت متبعاً فيها للحق، ولم أكن فعلت ذلك بجهل أو ظلم أو عدوان- ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته، فقال علي لـأبي بكر : موعدك العشية للبيعة)].

إذاً: بيعة الناس قبل بيعة علي لـأبي بكر صحيحة، فـعلي بن أبي طالب لم يخالف في أصل البيعة لـأبي بكر ، بل هو مقر بها بدليل أنه لم يخرج عليه ولم يحذّر منه، ولم يبطل هذه البيعة، وإنما أراد أن يبايع أبا بكر حتى يقطع ألسنة الناس، ثم إن علياً من وجهاء الناس وليس من سقطهم ورعاعهم، وليس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاع، وإنما قصدت أنه ليس من عامة الناس، فأراد أن يبايع على رءوس الملأ والأشهاد، حتى لا يتكلم في ذلك أحد، وحتى ترجع إلى علي منزلته؛ لأن الناس قد ظنوا أن علياً مخالف لـأبي بكر في أمر الخلافة؛ فأراد أن يقطع هذه الشبهة.

قال: (موعدك العشية) أي: بعد الظهر وبعد الزوال.

قال: [(موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقي على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه به)] أي: أنه قال لهم: علي وإن كان تخلف عن البيعة إلا أنه معذور.

قال: [(ثم استغفر) لـعلي بن أبي طالب]. وانظر إلى هذا الكلام والرقة والأدب!

قال: [(وتشهد -أي: بعد أن رقي علي بن أبي طالب المنبر تشهد- فعظّم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر -أي: أنه لم يعمل هذا من باب الحسد لـأبي بكر - ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً)].

أي: كنت أرى أنه كان ينبغي لـأبي بكر وأصحابه أن يشاركوني في الأمر ولو من باب المشورة.

قال: [(فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا -أي: غضبنا قليلاً ونحن بشر- فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت].

أي: أنه شيء طيب أن تقول هذا يا علي بن أبي طالب ! وقد قال أفضل من قولك من قبلك أبو بكر الصديق ، فأنت أصبت الحق.

قال: [فكان المسلمون إلى علي قريباً -أي: اقتربوا منه بعد أن تنكّروا- حين راجع الأمر المعروف].

أي: حين رجع إلى الأمر بالمعروف ضد المنكر، والمنكر أن يتخلف أحد في ولاية شرعية عن أمر الوالي أو عن الوالي، ولم يتخلف علي ، لكن الصحابة ظنوا أن هذا تخلف وتنكب لطريق البيعة الشرعية لـأبي بكر مع شرعيتها ووجوبها، فقالوا: رجعت إلى الأمر بالمعروف. أي: الأمر الذي ينبغي أن ترجع إليه، وهو المعروف ضد المنكر:

طرق أخرى لرواية حديث مبايعة علي لأبي بكر ومنع الميراث بعد النبي صلى الله عليه وسلم

[حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع : حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة : (أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وساق الحديث بمثل حديث عقيل عن الزهري غير أنه قال: ثم قام علي فعظّم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت، فكان الناس قريباً إلى علي حين قارب الأمر المعروف].

وفي الطريق الذي يلي ذلك طريق عروة: [أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة).

قال: وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة؛ فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ].

وهنا تبيّن لنا شفافية أبي بكر إلى هذا الحد، فإنه يعتقد أنه لو خالف نصاً واحداً من النصوص الشرعية يزيغ قلبه ولا يهتدي.

قال: [فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، فغلبه عليها علي ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه].

وكأنه يقول: إن خيبر وفدك هي أراض لا أبيعها، ولا أعطيكم منها شيئاً أبداً إلا ما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الهبة من المال فخذوه، وهذه الهبات التي كانت تأتيه من المدينة، أما السهم في خيبر والفيء في فدك فلا والله لا أعطيكم منه شيئاً؛ لأنه كان لمن يأتيه عليه الصلاة والسلام في أمر، أو تنزل به نازلة أو مصيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ذلك في هذه الأبواب المشروعة، وهذا عمل الإمام وليس عمل الأفراد، أما عموم الصدقات -أي: الهبات- التي كانت تأتيه من هنا ومن هناك، من المدينة ومن غيرها والهدايا فهي لكم، افعلوا فيها ما شئتم.

قال: [وأمرهما إلى من ولي الأمر]. أي: أمر فدك وأمر سهم خيبر إلى من ولي الأمر. وهذا يدل على أن الخمس ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، وإنما هو لكل إمام إلى قيام الساعة.

قال: [فهما على ذلك إلى اليوم]، أي: هما على ذلك إلى يوم القيامة.

[حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتسم ورثتي ديناراً)] أي: لا يرث ورثتي مني ديناراً، وهذا بلا شك تنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الدينار ممنوعاً فمن باب أولى ما فوق الدينار.

قال: [(ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة)].

قوله: (ما تركت) أي: من الفيء، بعد نفقة أهل بيتي وخدمي وعمّالي فهو صدقة، أي: لا يقع تحت الميراث.

[وحدثنا ابن أبي خلف حدثنا زكريا بن عدي أخبرنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث. ما تركنا صدقة).

كلام النووي في أحاديث: (لا نورث، ما تركنا صدقة)

قال الإمام في بعض فوائد هذه النصوص التي ذكرناها: (الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورّثون: أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك).

أي: لأن المورث إذا كبر في السن تمنى بعض الورثة موته، ولو تمنى أحد موت النبي لهلك ودخل النار. وهذا باب من أبواب بغض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض النبي كفر بالله، فبغض النبي كفر عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أنتم تعلمون من حديث ابن شماسة المهري عند مسلم أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً، ثم حوّل وجهه ناحية الجدار، فقال له ابنه: يا أبتاه! أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ قال: يا بني! إن أفضل ما نعد -أي: للقاء الله عز وجل- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث -أي: على أحوال ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار).

ففي هذا تصريح بأن من أبغض النبي وتمنى موته كفر بالله ودخل النار، ولكن هذا كان من عمرو قبل إسلامه.

ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة. قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو ؟! قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو ! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال عمرو : ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، ولو أن أحداً سألني أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم).

والطبق الثالث قال: (ثم ولينا من هذا الأمر شيئاً ولا ندري ما الله فاعل معنا فيه، فإذا أنا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما أن تنحر جزور ويقسم لحمها، كي أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) انتهى الحديث.

فالشاهد منه: الطبق الأول، وهو: أن من أبغض النبي وتمنى موته وقتله هلك ودخل النار فهذه الحكمة من عدم توريث الأنبياء؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك؛ ولئلا يُظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثه فيهلك الظان وينفر الناس عنه.

وأنتم تعلمون أن الأنبياء ما بعثوا لتحصيل الدنيا وإنما بعثوا لتحصيل الآخرة، وأما كون عمر حلف ألا يدخل عليهم أبو بكر وحده، فحنّثه أبو بكر ودخل وحده ولم يأخذ معه عمر ، مع أنه قال: والله لا تدخل عليهم وحدك أي: أنني سآتي معك، فحنثه أبو بكر في هذا. ففي هذا: دليل عن أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة، ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يُحمل الأمر بإبرار القسم، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، وإبرار القسم هذا إذا كان أمراً ميسوراً لي ولم يكن فيه مفسدة، لكن عندما يكون أمراً يشق علي أو فيه مفسدة فلا يلزم إبرار القسم، كما أنه لا يلزم الكفارة على الذي أقسم.

وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها.

ولا تلزم عمر الكفارة؛ لأن هذا واجب على المقسم عليه وليس على الذي أقسم، فلا يلزمه الكفارة، ولا يجوز كذلك للمقسم عليه أن يحنّث الحالف إلا بعذر، أما إذا قال الإنسان: والله لأفعلن كذا ثم لم يفعل لزمته الكفارة.

فلا يلزم عمر الكفارة؛ لأن الوجوب على أبي بكر وليس على عمر، لكن إذا كان قد حلف على شيء أنه سيفعله، فإذا لم يفعله ولم يكن هناك عذر فبلا شك أن الكفارة واجبة عليه، أما إذا قام العذر أو ترجّح لديه وجه آخر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فحينئذ يلزم الحالف -وليس المحلوف عليه- الكفارة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب حكم الفيء للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net