إسلام ويب

يشرع للإمام تأمير الأمراء على الجيوش، والخروج معهم لتشييعهم إلى خارج البلد، ووصية الجيش وأميره بتقوى الله والإخلاص، وتذكيرهم بآداب الغزو، ووصية الأمير بالرفق بأفراد الجيش، والعدل والإنصاف مع العدو إذا أرادوا المعاهدة والنزول على حكمه.

باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

فمع الدرس الأول من كتاب الجهاد والسير، وقبل الشروع في أبواب الكتاب وأحاديثه نعرف معنى قوله: الجهاد والسير فنقول: الجهاد: هو بذل الجهد وإفراغ الوسع.

والسير: جمع سيرة.أي: هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى الله عز وجل، ماذا كان يفعل؟ وما هي أحكام الجهاد، وآدابه وأخلاقه، وما يلزم له؟

كتاب الجهاد والسير في صحيح مسلم ضم مسائل كثيرة مما يتعلق بهذه الأحكام والآداب، أول باب من كتاب الجهاد والسير: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام). كأن هذا شرط. قال: باب جواز الإغارة، ولم يقل: باب وجوب الإغارة؛ لأن الإغارة ليست واجبة. الإغارة على العدو أو مزاحفة العدو وهو غار -أي: غافل- ليست واجبة بشرط: أن تكون دعوة الإسلام قد بلغته من غير تقدم الإعلام بالإغارة. أي: لا يلزم الإنذار.

شرح حديث نافع مولى ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا سليم بن أخضر -وهو البصري الثقة الضابط- عن ابن عون ] وهو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري أبو عون الثقة الفقيه، المأمون الفاضل، وهو من أقران أيوب بن أبي تميمة السختياني في العلم والعمل والسن.

قال ابن عون : [ كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال؟ ].

قوله: (كتبت إلى نافع ) وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والدعاء هنا بمعنى: الإنذار والبلاغ، ما حكمه؟

قال: [ (فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام -أي: الإنذار كان واجباً في أول الإسلام- قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارُّون) ] أي: غافلون نائمون، أو في وقت الضحى يلعبون، لا علم عندهم بمقدم جيش الإسلام.

قال: [ (وأنعامهم تسقى على الماء -أنعامهم تروح وتأتي وتسرح وتشرب وتأكل على الماء- فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم) ] والذي فعل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وبنو المصطلق عرب.

قال: [ (وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ جويرية بنت الحارث -أي: أنها كانت من السبي- وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذاك الجيش) ].

عبد الله بن عمر حدث نافع ، ونافع أوقف الحديث على عبد الله بن عمر حتى لا يقال: هذا اجتهاد من نافع ، بل هذا حديث عبد الله بن عمر ، وكأن نافعـاً سأل ابن عمر بنفس السؤال الذي سأله إياه عبد الله بن عون بن أرطبان ، فقال نافع : يجوز الإغارة على العدو من غير إنذار، وإنما الإنذار كان واجباً في أول الإسلام، كأن وجوب الإنذار أمر منسوخ؛ لقول نافع : إنما كان ذلك في أول الإسلام، والتقدير: وأما الآن فلا، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون). أي: غافلون بغير سابق إنذار، حدثه به عبد الله بن عمر الذي كان في غزوة بني المصطلق.

[ وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم أبو عمرو البصري عن ابن عون بهذا الإسناد مثله، وقال: جويرية بنت الحارث ولم يشك ].

لأن الإسناد الأول فيه شك، هل قال: وأصاب يومئذ ابنة الحارث أو قال: جويرية ، شك الراوي، وهنا بغير شك.

مذاهب العلماء في حكم إنذار العدو قبل الإغارة

في هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة.

وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب، حكاها المازري والقاضي عياض: المذهب الأول: يجب الإنذار مطلقاً. أي: سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم. فإذا أراد المسلمون أن يغيروا الآن على بلد من بلاد الكفر، كأن أرادت ليبيا مثلاً أن تغير على إيطاليا باعتبار أنها أقرب بلاد بعد البحر إليها؛ لأنها في مقابلها على البحر، أو أرادت الجزائر أن تغير على فرنسا، أو المغرب أن تغير على أسبانيا، أو هذه البلاد كلها المجتمعة أن تغير على أمريكا، فهل يلزم أن تنبّه هذه البلاد الإسلامية البلد المطلوب الإغارة عليه وتنذره ثلاثاً أو أكثر من ذلك؟ الجواب: لا يجب. لكن المذهب الأول يقول بالوجوب.

فالمذهب الأول: وجوب الإنذار مطلقاً، كما قال مالك وغيره. وهذا مذهب ضعيف؛ وذلك لصراحة النص بخلاف ذلك؛ لقول نافع في رده على سؤال ابن عون قال: إنما كان ذلك في أول الإسلام. كان الإنذار واجباً في أول الأمر؛ وذلك لأنه يغلب على الظن أنهم لم يسمعوا بالإسلام، لكن الناس الآن جميعاً يعلمون الإسلام، وقد سمعوا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام ودعوته، وسمعوا بالقرآن والشريعة الإسلامية، فلا يلزم النذارة، فيكون المذهب الأول الذي يقضي بوجوب الإنذار مذهب ضعيف.

المذهب الثاني يقول: لا يجب مطلقاً. وهذا أضعف من المذهب الأول، بل هو باطل.

المذهب الثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور.

إذاً: الراجح: عندما أريد أن أغير على بلد من بلاد الكفار أُنذرهم أولاً، اقبلوا الدعوة إلى الإسلام! ادخلوا في دين الله عز وجل! وهذا الإنذار ليس واجباً ولا مكروهاً ولا محرماً في نفس الوقت، إنما هو مستحب، سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم.

قال ابن المنذر : وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه. ومنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف ، وحديث قتل ابن أبي الحقيق.

حكم استرقاق العرب

في هذا الحديث أيضاً: جواز استرقاق العرب. أي: اتخاذ العرب أرقاء وأسرى حرب؛ لأن بعض أهل العلم يقول بعدم جواز استرقاق العرب، وفي الحقيقة الأدلة تظاهرت على جواز استرقاق العربي، مع خلاف أهل العلم في كلمة عربي، ما معناها؟ هل العربي الذي ولد لأبوين عربيين؟ أم هو الذي يتكلم اللغة العربية؟

والأعجمي هل هو الذي يتكلم غير العربية.. أو أنه أعجمي وإن كان من أبوين عربيين؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح، وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي ، وجمهور العلماء. وجماعة من العلماء قالوا: العرب لا يسترقون. وهو قول الإمام الشافعي في القديم، فكأن هذا اتفاق من أهل العلم على جواز استرقاق العرب.

والعرب منهم الكافر ومنهم المؤمن، وهذا الكافر إما أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً، وأنتم تعلمون أن عامة العرب في مكة كانوا مشركين، وعامة العرب في المدينة كانوا يهوداً وهم عرب.

باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها

الباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث) والبعوث: جمع بعث. وهو: السرية أو الكتيبة.

فإذا أرسل الإمام سرية أو كتيبة أو بعثاً أمّر عليهم أميراً، وأمره بأشياء، وحضه على آداب وأحكام وأخلاق.

قال: (ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها). قد يقول قائل: هل للغزو آداب؟

الجواب: نعم. الغزو له آداب وله أحكام، وكثير ممن يقولون بالغزو والجهاد الآن يغفلون عن هذه الآداب وتلك الأحكام.

شرح حديث بريدة بن الحصيب في وصية النبي لأمير السرية والجيش

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان -وإذا حدث وكيع عن سفيان فهو سفيان الثوري وكلاهما كوفي- (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـابن راهويه - أخبرنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان قال: أملاه علينا إملاءً -يعني : يحيى بن آدم يقول: أملى سفيان الثوري علينا هذا الحديث إملاء- (ح) وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له ] أي: هذا السياق ليس سياق أبي بكر بن أبي شيبة ولا سياق إسحاق بن راهويه وإنما هو سياق عبد الله بن هاشم، كأن الإمام مسلماً روى هذا الحديث من طرق متعددة: من طريق أبي بكر بن أبي شيبة في الإسناد الأول، ثم من طريق إسحاق بن راهويه ، ثم من طريق عبد الله بن هاشم ، ولكنه اختار أن يكون السياق واللفظ من كلام عبد الله بن هاشم .

قال: [ حدثني عبد الرحمن -يعني: ابن مهدي - قال: حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -وأبوه هو بريدة بن الحصيب - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية) ] وليس (إذا) هنا بمعنى أن ذلك أمر محتمل، بل جرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأمراء على كل جيش أو سرية، فلا يصلح أمر القتال والجهاد في سبيل الله إلا بأمير، والأمير يتخذ له بطانة من الجيش يعينونه على المشورة والفصل في المنازعات،وإبداء النصح عند الحاجة إليه، وغير ذلك مما يلزم القتال في سبيل الله عز وجل، فكلمة (إذا) هنا ليست زائدة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمّر على كل جيش أو سرية أميراً ليدير دفّة القتال والجهاد، وكان إذا فعل ذلك [ (أوصاه خاصته بتقوى الله) ].

توصية الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين

كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الأمير ابتداءً أن يتقي الله عز وجل في نفسه وفي دينه، وفيمن معه من أفراد السرية أو الجيش، وتقوى الله هي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين من الأنبياء المرسلين وعامة الخلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه؛ لأن النصر لا يكون إلا بتقوى الله، وتقوى الله هي سبب استمطار الرحمة من السماء، كما أن إعداد العدة أمر لازم، ولكنا نعتقد أن دفع الزكاة سبب في النصر، فالنصر من عند الله عز وجل وله أسباب: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] و(إن) هنا شرطية، بمعنى: لو نصرتم الله نصركم الله عز وجل، ونصر الله تعالى يكون بالتزام طاعته، ولزوم تقواه سبحانه وتعالى؛ ولذلك من أعجب العجب أن ترى أمم الكفر شرقاً وغرباً في هذه الأيام تتحرك بأساطيلها وأجنادها لتقابل ثلة قليلة ضعيفة معزولة السلاح كأنها لا تستحي أن تواجه بعض الأفراد العُزّل، ومع هذا قد قذف الله عز وجل في قلوب هؤلاء الرعب عند ملاقاتهم هذه الثلة المؤمنة، واحد، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة قد أثاروا الرعب في قلوب الكفار مع قوة عددهم وعدتهم، والله تعالى هو الذي قذف في قلوبهم الرعب، وهو القائل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فالله عز وجل هو الذي يقاتل أعداءه.

والعجيب أن نواب هذه الأمة في رفع راية الجهاد في هذا العصر في هذه البقعة الطاهرة الطيبة قد قبروا في أرض أفغانستان أعظم قوة من بلاد الكفر وهي روسيا تحت التراب، وإن شاء الله تعالى يتحقق على أيديها قبر القوة الثانية في العالم وهي أمريكا في هذه الأرض الطيبة المباركة.

أما سائر أفراد الأمة وبلاد الأمة فتستحق الضرب بالنعال حتى تُهان أعظم إهانة؛ لأنهم لم ينصروا الله عز وجل، ولم يفكروا في الرمي الذي أمر الله عز وجل به، وقد امتلأت الأمة أمراضاً بل اتصفت بأخبث الأمراض، وما من مرض في أمة من الأمم السابقة إلا واتصفت به هذه الأمة الآن.

أما حكومة طالبان في تلك البقعة المباركة فقد علموا منذ أول لحظة في لقاء مع عدوهم أنهم لا ينتصرون بعدد ولا عدة، إنما ينتصرون بتقوى الله، فحققوا ذلك أولاً، ووعد الله تعالى لا يخلف، خلافاً لوعيده فهو يفعل فيه ما يشاء سبحانه وتعالى، يخلف أن يُنفد وعيده، أما وعده فلا يخلف، وهذا محض فضل الله عز وجل.

لو أنك نظرت إلى أي بلد من بلاد الإسلام لوجدت الخذلان والمعاصي والفجور والزنا والخنا، وشرب الخمر وأكل الربا وكل البلايا خلافاً لهذه البقعة وهذه الطائفة المؤمنة من الناس؛ ولذلك كل البلاد بجيوشها وخيلها ورجلها مرعوبة أشد الرعب من تهديداتهم، بل هذه البلاد الإسلامية خائفة ووجلة لا ينامون الليل، ويفكّرون في كل حين ولحظة: لو داهمتنا أمريكا ماذا نصنع؟ خلافاً لهذه الطائفة المؤمنة في تلك البقعة المباركة، فإنهم لا يعبئون بهذا، فقد أنزل الله تبارك وتعالى عليهم السكينة والرحمة لاتصالهم بالله عز وجل وتقواهم، وقد جادل أحدهم بعض الصحفيين المنافقين الملاحدة. قالوا: إن أمريكا أتتكم بكذا وكذا وكذا، هل أنتم مستعدون للقاء العدو؟ قالوا: نعم. نحن مستعدون، قالوا: وهل أعددتم لهذه الأساطيل وهذه الجيوش العدة؟ قالوا: نعم. قد أعددنا. قالوا: كيف أعددتم وماذا أعددتم؟ قال هذا المؤمن: أعددنا لهم معية الله عز وجل، فالله تعالى معنا، ومن كان الله معه لا يهزم ولا يُغلب؛ لأن الحرب دائرة مع الله عز وجل: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17] (إن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) كما في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما، فمن كان الله تعالى معه فقد آوى إلى ركن شديد، لا يستطيع أحد أن يخترق هذا الركن ولا أن يغلبه؛ لأن الله تعالى لا يُغلب البتة.

إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل جيشاً أو سرية أمّر عليهم أميراً، وأوصاه بتقوى الله في خاصته هو أولاً، انظروا إلى دولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كانت على أي مستوى من التقوى وإلى دولة عمر وإلى دولة علي وعثمان ، وإلى دولة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز! انظروا إلى صدر الأمة المبارك، ماذا كانت عليه الأمة! وماذا حققت من خير وانتصارات حتى صار الإسلام يسري في الأرض وينتشر انتشار النار في الهشيم، وأسرع من ذلك، حتى بلغ مشرق الأرض ومغربها؛ لأن الأئمة على رءوس الإسلام والمسلمين في ذلك الوقت حققوا تقوى الله عز وجل؛ ولذلك يقول الحسن البصري : أعمالكم عمالكم. كيفما تكونوا يولى عليكم، فإذا كان الوالي والقائد والحاكم ليس تقياً فإنما هو من جنس أمته وشعبه.

قال: [ (إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً) ] أي: أنه يوصيه أولاً بتقوى الله في نفسه، وحسن الاتصال بالله ثم يوصيه خيراً بمن معه من المسلمين.

الوصية ببدء الغزو بذكر الله وفي سبيل الله

الوصية الثانية: أنه كان يقول له: (اغز باسم الله). من الآداب أن يبدأ هذا العمل المبارك بذكر الله تعالى أولاً (اغز باسم الله في سبيل الله) وهو احتراز من الرياء.

قوله: (اغز باسم الله)، أي: ابدأ هذا الغزو والجهاد بذكر الله تعالى، واعلم أن هذا الجهاد يجب أن يكون في سبيل الله؛ ولذلك سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل منا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). هذا القتال الأوحد الذي هو في سبيل الله، أما غير ذلك فلا يُقبل عند الله عز وجل، فالذي يقاتل شجاعة وحمية، ويقاتل ليرى مكانه، وليقال: مجاهد وغير ذلك، فليس مأجوراً بل هو مأزور عند الله، وإن قُتل وإن تعرّض لبارقة السيوف، فليس له عند الله أجر ولا فضل.

النهي عن التمثيل والغدر والغلول

قال: [ (ولا تمثلوا) ] وفي رواية (ولا تمثّلوا) وفي حديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة) والمثلة هي تمزيق البدن بعد الموت، أو قبل الموت، فإذا أصاب سهمك العدو ووقع ميتاً فلا تقل: هذا لا يكفيني، فتذهب إلى أنفه فتقطعه، وإلى اليد فتقطعها، وإلى الساق وغير ذلك من أطرافه وأعضائه، فتمثّل به تمثيلاً، فقد نهى الإسلام عن التمثيل بالكافر فضلاً عن المؤمن.

قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله). إذاً: القتال لا يُنصب ابتداء إلا في وجه الكفار. قال: [ (اغزوا ولا تغلوا) ]. وفي رواية: (ضموا الغنائم) أي: اجمعوا بعضها إلى بعض.

والغلول: هو الأخذ من الغنيمة والفيء قبل توزيعها، وأنت في الجيش ربما قضى الله عليك بالنزال مع أحد الكفار، فتأخذ سلبه، تأخذ ما معه من سلاح ومال وغير ذلك، والأصل أن تأخذ هذا وتضمه إلى بقية الغنائم حتى يودعه الإمام، أما قبل ذلك فلا يجوز لك أن تأخذ شيئاً بغير علم الإمام؛ ولذلك أثنى الله تعالى على أنبيائه ورسله أنهم لا يغلون شيئاً. قال: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] من أخذ شيئاً من الغنيمة قبل توزيعها أتى به يوم القيامة؛ ولذلك حينما مات مولى للنبي عليه الصلاة والسلام في القتال قال الصحابة: مات مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنراه من أهل الجنة، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة قال: (والله وإني لأراه في نار جهنم بسبب شملة غلها). والشملة: ثوب أو عباءة، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الأخذ من الغنيمة ولو كان عوداً من أراك، وهو بعض السواك، ومن فعل ذلك حُرم ثواب الشهداء، وتعرّض للعقوبة.

ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغزوا ولا تغلوا) والنهي هنا للتحريم [ (ولا تغدروا) ] أي: ولا تغدروا عدوكم. ويُحمل هذا الغدر على النهي عن الغدر مع المسلمين من باب أولى، ومع الأمير من الأولى والأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على استه) أي: على مؤخرته ومقعدته، يشهده القاصي والداني يوم القيامة قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على إسته يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان) .

قال: [ (ولا تقتلوا وليداً) ] أي: صغيراً، وهذا النهي نهي عام مطلق في عدم قتل الولدان والصبيان الصغار بشرط ألا يشاركوا في القتال، كما جاء النهي كذلك عن قتل النساء وقتل الشيوخ الكبار، والعُبّاد في صوامعهم، كل هذا النهي على عمومه إلا أن يشارك هؤلاء في القتال فيقتلوا بمشاركتهم، فإذا شاركوا في القتال يقتلون أصلاً لا تبعاً، ويقتلون تبعاً إذا تترس بهم الكفار، أو كان لا يمكن الوصول إلى جيش العدو مع قوة شوكته وخطورته على جيش الإسلام إلا بقتل هؤلاء، فحينئذ يُقتلون تبعاً لا أصلاً. يعني: لا يكون القصد قتلهم، وإنما القصد: الوصول إلى العدو، ولا يصل إليه إلا بقتل هؤلاء، وهذا أمر مستقر في الشرع، كما يُقتل المرء لفتنته وليس بلازم أن يكون كافراً، ولذلك قتل خالد بن عبد الله القسري الجعد بن درهم ؛ لقوله الخطير في باب القدر، وأنه أنكر أن الله تعالى كلّم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً.

قال خالد بن عبد الله القسري بعد فراغه من خطبة عيد الأضحى: أيها الناس! ضحوا تقبّل الله منا ومنكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ونزل من المنبر وقتله، فلما سئل عن ذلك أخبر أنه قتله لمقالته الخطيرة التي ضلّت بها الأمة في ذلك الزمان، فهو قتله لا لأجل كفره وإنما لأجل فتنته التي لا تخمد إلا بقتله، فليس بلازم أن يقتل المرء لأجل كفره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

ذكر الخصال التي يدعى إليها المشركون قبل قتالهم

قال: [ (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ] أي: إذا دعوتهم إلى الأولى فقبلوا ذلك منك فاقبل منهم وكف عنهم. أي: لا تقاتلهم.

قال: [ (ثم ادعهم إلى الإسلام) ] (ثم) هنا زائدة أو ابتدائية، وهي بداية الثلاث خصال.

فالخصلة الأولى: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام. قال: (فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) أي: كف عنهم قتلك فيهم، أي: لا تقتلهم إن هم أجابوك إلى هذه الخصلة الأولى.

قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) أي: أن يقولوا: أسلمنا، نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، فحينئذ لا يجوز قتلهم، فمن قتلهم كان بمنزلتهم قبل أن يقول هذه الكلمة، كما جاء في حديث الأسود بن يزيد أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت مشركاً أو كافراً فقام فقطع يدي بالسيف، فلما أمكنني الله منه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أو قال: أسلمت، أفأقطع يده يا رسول الله؟! قال: لا. قال: يا رسول الله! لقد قطع يدي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفعل. فإنك إن فعلت كنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال). وهذا دليل على وجوب قبول ذلك من الكافر إذا أسلم؛ ولذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقتلة عظيمة في غزوة من الغزوات، فلما تمكّن من رجل ووقع السيف منه نطق بالشهادتين، فكفّ عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقتل رجلاً في الجهاد بعد أن قال هذه الكلمة، وقال: (ما قال ذلك إلا تعوّذاً يا رسول الله!) أي: تعوذ ليهرب من القتل، وما قال ذلك يقيناً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل شققت عن قلبه لتعرف ما فيه؟!) وظل يعنّفه حتى قال أسامة رضي الله عنه: ما تمنيت أني أسلمت إلا بعد هذا. ندم ندماً عظيماً على فعلته التي فعل، ولكن أسامة كان مجتهداً في ذلك؛ ولذلك لم يوده النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يطالبه بالدية.

قال: [ (ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ] وهذا السؤال يتوجه به الكثير من الإخوة في الشيشان أو الإخوة في المناطق التي يُرفع فيها راية الجهاد خلافاً لفلسطين؛ لأنه لم يثبت إلى الآن أن يهودياً حينما تعرّض للقتل نطق بالشهادتين؛ وما ذلك إلا لأن الكفر متأصل فيه.

فإخواننا في الشيشان يقولون: الضابط الروسي والعقيد الروسي حينما يقع في الأسر يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لكننا متأكدون أنهم يقولون هذا ليهربوا من القتل. نقول: أنت لست متأكداً، بل أنت ظان، فهو إن كان كاذباً أو مخادعاً فالله تعالى يتولاه: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62]، فالذي يدافع عنك في هذه الحالة هو الله عز وجل، فإنه لا يضرك بإذن الله، كما أن هناك إجراءات وقائية لمن غلب على ظنه أنه قال ذلك تعوذاً، جرّده من السلاح، واجعله في خدمة الجيش، يعد الطعام ويعد الشراب وغير ذلك، واجعل المخلص من جندك وجيشك يتقدم في الصفوف، وهذا الذي نطق الشهادتين يؤخذ ويجرب على هذه الأعمال حتى يغلب على ظنك أنه قد استقام على الهدى والإسلام.

[ (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) ].

قوله: (ثم ادعهم إلى التحول) أي: أن يهاجروا، ويتركوا بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وكان في أول الأمر يأمرهم أن يتحولوا من ديار الكفر إلى المدينة المنورة؛ لأن المدينة كانت في ذلك الوقت هي دار الإسلام الوحيدة، وهي دار المهاجرين التي هاجر إليها النبي عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من أصحابه، والهجرة واجبة ما بقيت الأيام والليالي من ديار الكفر إلى ديار الإسلام. وفي هذا الحديث إشارة إلى كراهة الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر.

قال: [ (فإن هم أجابوك -أي: إلى الإسلام- فادعهم إلى التحول من دارهم إلى ديار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك -أي: إن أسلموا وهاجروا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام- فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا -أي: من ديارهم التي أوذوا فيها إلى المدينة المنورة- فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) وأعراب المسلمين فيهم فقراء وفيهم أغنياء، خلافاً لمن خرج من المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل، فالأعراب إذا أخذوا مالاً أخذوا من مال الصدقة ومن مال الزكاة، ولا يأخذون من الغنائم ولا من الفيء. والغنيمة: هي التي يغنمها الجيش بعد القتال. والفيء: هو المال الذي يغنمه الجيش بغير قتال.

فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراب في بواديهم لا حظ لهم لا في الغنيمة ولا في الفيء، إنما حظهم في بواديهم في الزكاة والصدقات العامة.

فهؤلاء إذا هاجروا وتحولوا من دار الهزيمة والإغارة إلى دار الإيمان والإسلام في المدينة المنورة فهم آمنون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن لم يتحولوا فهم كالأعراب الباقين في بواديهم، لهم ما للأعراب وعليهم ما على الأعراب.

إذاً: إن تحولوا من دارهم إلى دار الإيمان صاروا مهاجرين يأخذون من هذا وذاك، وإذا لم يتحولوا فليس لهم أن يأخذوا من مال الغنيمة والفيء شيئاً.

قال: [ (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) ] أي: قبِل الإسلام، ولم يتحول من هذه الدار إلى دار المدينة، ولكنه رفع راية الجهاد مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتبع النبي صلى الله عليه وسلم في فتوحاته فحينئذ له ما للمجاهدين.

قال: [ (فإن هم أبوا فسلهم الجزية) ] هل كلمة (هم) ضمير يعود على المسلمين الذين قبِلوا الإسلام أم على هؤلاء الذين دعاهم الإسلام فأبوا؟

إذاً: عند طائفتان:

الطائفة الأولى: دُعوا إلى الإسلام فقبلوا الإسلام، ولكنهم لم يهاجروا ولم يجاهدوا، فهؤلاء مسلمون، لكن لا حظ لهم فيما هو حظ للمهاجرين، كما أنه لا حظ لهم في الغنيمة والفيء؛ لأنهم لم يجاهدوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم في عموم وغبراء المسلمين، لهم حق في مال الزكاة والصدقات.

الطائفة الثانية: أبوا ورفضوا أن يقبلوا الإسلام. قال: [ (فسلهم الجزية) ].

فإذا لم يسلموا فعليهم أن يدفعوا الجزية، على خلاف بين أهل العلم في الغني والفقير.

بعضهم قال: يدفع الغني ديناراً، والفقير ديناراً، فالفقير كالغني سواء؛ وذلك لأننا لن نتحدث مع كل فرد على حدة، ولا نحقق: هل هذا صغير أم كبير؟ هل هذا غني أم فقير؟ ولن نعمل أبحاثاً اجتماعية كأن نقول: كم عدد أفراد الدولة؟

قال: (فإن هم أبوا) أي: الدخول في الإسلام فسلهم الجزية حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] يعني: إن أراد أن يدفع الجزية قل له: اذهب وارجع غداً، ويكرر ذلك حتى يكون في موقف ذل وصغار ثم تقول له: اذهب إلى فلان في بيت المال وضع المال عنده.

ومقدار الجزية محل خلاف، فمن العلماء من قال: أربعة دنانير. ومنهم من قال: دينارين. ومنهم من قال: دينار. وآخر قال: عشرة دراهم أو اثني عشر درهماً. وهذه المسألة ترجع إلى الاتفاق والعرف.

قال: [ (فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ] أي: إذا رضي بأن يدفع الجزية عصم دمه؛ فلا يحل لك قتله.

قال: [ (فإن هم أبوا) ] أي: أبوا الإسلام وأبوا الجزية،

والإسلام لم يعرض الجزية إلا رحمة بهم، فإذا دفع الكافر الجزية ابتداء عصم دمه وماله، فلا تحل سرقته، ولا أخذ ماله بغير حق، ووجب على جيش الإسلام أن يحمي بلاد الكفر التي دفعت الجزية من أي غارة خارجية مطلقاً، فمعنى أن يأخذ الحاكم منه ديناراً من ذهب كل سنة حتى يعيش آمناً مطمئناً في هذا البلد، ويكون آمناً على ماله وعرضه ودمه.

يذكر أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان يأخذ من غلام نصراني أربعة دنانير في السنة يقال له: أبو لؤلؤة المجوسي ، فذهب هذا الغلام إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقال: إن مولاي يأخذ مني أربعة دنانير في كل عام خراجاً. قال عمر : ما عملك؟ قال: أصنع الرحى والترس، وأصنع كذا وكذا. قال عمر : ما خراجك بكثير، أي أن هذا مبلغ تافه في مقابل أن مولاك يحرسك ويحميك عاماً كاملاً، ثم قال: أتصنع الرحى؟ قال: نعم. قال: اصنع لي رحى. قال أبو لؤلؤة : سأصنع لك رحى يتكلم عنها العرب والعجم، فجاء هذا الجبان وطعن عمر من الخلف وهو في صلاته. سأل: من طعنني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي . قال: الحمد لله أن كان موتي على يد رجل لم يسجد لله سجدة، لقد هددني العلج آنفاً، قال: سأصنع لك رحى يتكلم عنها العرب والعجم وقد صنع.

والعلج في اللغة: القبيح.

فقوله: (لقد هددني العلج آنفاً) أي: منذ عدة أيام، أنه سيصنع لي رحى وقد صنع.

إذاً: مسألة الخراج مسألة ترجع إلى العرف، فكان المغيرة يأخذ من هذا الغلام أربعة دنانير.

قال [ (فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) ] وهذه لفتة إيمانية عجيبة، فهو يقول: افرض عليهم الجزية، فإن هم أبوا الجزية فاستعن بالله وقاتلهم. إذاً: لا بد للمقاتل أن يستعين بالله عز وجل، أما أن يعتمد على قوته ويغتر بذلك فلا، فالاستهانة بقوة العدو مهما كان ضعيفاً من أعظم أسباب الفشل، حتى وإن قلّت عدته وقلّ عتاده.

ولذلك نصر الله عز وجل المؤمنين في غزوة بدر مع قلتهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] يعني: قلة مستضعفون، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أنس رفع يديه في غزوة بدر، وظل يدعو الله تعالى حتى سقط برده من على كتفيه وهو يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلا تُعبد في الأرض أبداً) فنصرهم الله عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] ضعفاء قلة مستضعفون، أما حنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] فقد كان هناك شيء من العجب وشيء من الركون إلى القوة، فانقلبت المعركة في بداية الأمر لصالح العدو، وتراجع المسلمون وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] أي: تعرضوا لمشهد عظيم جداً من الضيق والعنت.

إعطاء الأمير للعدو ذمته وذمة أصحابه إن أراد المعاهدة

قال: [ (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله) ].

إذا طالب الأعداء أن تجعلوا بينكم وبينهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ولا تعاهدوهم على ذمة الله وذمة رسوله؛ وذلك لأنكم ربما تغدرون، أو يغدر أحد أصحابك.

فالنبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية وافق على الشروط التي قدمها المشركون، حتى مسح النبي صلى الله عليه وسلم وصفه الشريف من الصحيفة، فتضايق عمر بن الخطاب وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال عمر : فلِم نعطى الدنية في ديننا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني رسول الله ولن يضيّعني).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوا أن يأخذوا عليك العهد والميثاق بذمة الله وذمة الرسول فلا تعطهم هذا العهد، أعطهم ذمتك أنت وذمة أصحابك الذين معك. قل لهم: ألتزم لكم أنا وأصحابي بالعهد الذي بيننا وبينكم، وليس بعهد الله ولا عهد رسوله، لأنك أيها الأمير! لا تضمن أن يقوم أحد من أصحابك متهوّراً فيخفر هذه الذمة، فتقع في الإثم، لأنك خفرت ذمة الله وذمة رسوله، ولأن تعطي أهل الحصن ذمتك وذمة أصحابك أهون عند الله عز وجل من أن تخفر ذمة الله وذمة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إنزال الأمير العدو على حكمه واجتهاده في ذلك

قال: [ (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله) ]، وذلك لأنهم ربما يسألونك حكم الله وحكم ورسوله في مسألة من المسائل، وأنت لا علم لك بحكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحكم بغير ما حكم به الله وبغير ما حكم به رسوله عليه الصلاة والسلام.

قال: [ (فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك أنت) ] أي: قل لهم: هذا حكمي فيكم. ومعنى (أنزلهم): اقبل منهم. فقل لهم: هذا حكمي فيكم، وربما وافق هذا الحكم حكم الله وربما خالفه، ولكنك اجتهدت في إصابة الحكم، ولا يلزم من التحقق والاجتهاد إصابة الحق.

قال: [ (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) .

قال عبد الرحمن بن عوف هذا أو نحوه -يعني: الحديث بهذا السياق أو قريباً من ذلك- وزاد إسحاق بن راهويه في آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال: فذكرت هذا الحديث لـمقاتل بن حيان -قال يحيى : يعني: أن علقمة يقوله لـابن حيان - فقال: حدثني مسلم بن هيصم عن النعمان بن مقرن عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه ].

يعني: هذا الحديث من حديث النعمان ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما.

[ وحدثني حجاج بن الشاعر حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال: حدثني علقمة بن مرثد أن سليمان بن بريدة حدثه عن أبيه. قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً أو سرية دعاه فأوصاه) -أي: أوصاه في خاصة نفسه وفيمن معه من المسلمين- وساق الحديث بمعنى حديث سفيان ].

باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

شرح حديث: (بشروا ولا تنفروا ...)

[ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني -واللفظ لـأبي بكر - قالا: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي بردة -أي: عن جده- عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: (بشروا ولا تنفروا).

قال: (في بعض أمره ولم يقل: في سرية أو جيش)، يعني: سواء كان من أمر الدنيا أو أمر الآخرة.

قال: (بشروا ولا تنفروا) يذكر الأضداد: بشروا ولا تنفروا، وكان من الممكن أن يقول: بشروا فقط، لكنه لا يؤدي المعنى المراد؛ لأن (بشّروا) يطلق على من بشّر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ثم نفّر بقية حياته؛ فبشّروا ولا تنفروا تأكيد للنهي عن التنفير وإثبات التبشير، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الأمر وضده، ولا يكتفي بذكر الأمر، حتى يجتمع نفي التنفير وإثبات التبشير.

ثم قال: [ (ويسروا ولا تعسروا) ] والتعسير ضد التيسير، فأنت مأمور بالتيسير منهي عن التعسير، فإنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على (يسروا) لصدق ذلك على من يسّر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: (ولا تعسروا) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: بشروا ولا تنفروا، وفي بقية أجزاء أحاديث الباب.

شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا ...)

[ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن شعبة بن الحجاج العتكي البصري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أبي بردة عن جده أبي موسى الأشعري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن) ].

وبعث أيضاً علي بن أبي طالب إلى اليمن، فالثلاثة مبعوثون من جهة النبي عليه الصلاة والسلام، وحينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال لهما: [ (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) ].

قوله: (تطاوعا) أي: اتفقا ولا تختلفا، أي: ليلن كل منكما جانبه لأخيه، وليخفض كل منكما جناحه لأخيه، وكان بإمكانه أن يقول: (تطاوعا)، ولا يذكر و(لا تختلفا)،فالاختلاف ضد التطاوع والاتفاق والائتلاف؛ ولذلك ذكرهما ليثبت أمره وينفي ما عساه يخالفه، فإنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء آخر.

بيان آداب الداعية وما ينبغي أن يكون عليه من التدرج في الدعوة

وفي هذا الحديث: الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضاً، فترى الواعظ لا يعرف للجنة طريقاً، تخصصه دائماً نار، فلا يحسن أن يتكلم إلا عن النار، وفي ذلك تنفير للناس من رحمة الله عز وجل، فتجد ضعيف الإيمان في أول طريقه يقول: ما دامت المسألة كلها نار نار نار فلماذا نصلي؟ ولماذا نصوم؟ ولماذا نزكي ونحج؟ ويترك الفرائض والواجبات ويرتكب المحرمات حتى يقع في الشرك البواح؛ لأن هذا الواعظ ما أحسن أن يأخذ بمفاتيح قلبه، ولا بد للواعظ أن يكون عالماً بما يريح القلوب، عاملاً به، فمثلاً المحسوسات لو أردت أن تفتح باب المسجد بمفتاح ليس هو مفتاحه، فمن الممكن أن تقف مائة عام على الباب ولا يمكن أن تفتح هذا الباب وهو جماد؛ وذلك لأنك لم تُحسن اختيار المفتاح الذي يُستخدم في فتح هذا الباب، ولكل قلب مفتاح، فعلى الداعية أن يتلون على كل وجه، كأن يكون لطيفاً مع الناس، وهذا يفتحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفتحه بالكلام عن القلوب وأنواع القلوب، وهذا يفتحه بمسألة فقهية، وهذا بمسألة علمية، وهكذا. فينبغي أن يكون الداعية أهلاً لهذا كله، يعرف مغاليق القلوب، ومفاتيح القلوب كذلك.

قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه). يذكر أن شخصاً أسلم وحضر مجلساً إسلامياً، فقال له الشيخ: أنت أسلمت لماذا؟ قال: يا شيخ! لأن الإسلام هذا جميل وحلو. قال الشيخ: فأين مظاهر الجمال؟ أقول لك: لا تظن أننا سعيدون بإسلامك أبداً، فنحن عندنا ملايين المسلمين، فنحن غير محتاجين إليك، والله لو تذهب في داهية فهو أحسن لنا.

والله حدث هذا الكلام، وهذا شيء سيئ جداً والله!!

وكانت هناك راهبة كبيرة وكان لها تأثير عجيب في وسط النساء النصرانيات، فأخذت ما يزيد على (200) من نساء النصارى، وذهبت بهن إلى مكان من الأمكنة حتى يشهرن إسلامهن، وهذه المرأة الراهبة معروفة بإسلامها وجهدها الطيب على نساء النصارى، وكانت تعرف المفاتيح والأقفال، فقالت لأحد المسئولين: أتيتك بغنيمة، وهي أن (200) امرأة تم إسلامهن على يدي، فقال لها: لا أريد أحداً أن يسلم، خذيهن واذهبي بهن إلى الخارج.

وخرجت هذه المرأة من عنده وهي تقول: ما خرجت مترددة في ترك الإسلام إلا في هذا الموقف، وما قالت هذا الكلام إلا من فرط غضبها.

قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه). يقول العلماء: لا تُطلق أحكام الكفر على المعيّن إلا بعد قيام الحجة عليه، فربما كان جاهلاً أو قريب عهد بجاهلية أو قريب عهد بالإسلام، فكلاهما يصلح.

أذكر أن امرأة أسلمت في أمريكا وكانت تزني -عياذاً بالله- لتنفق على أولادها، وحينما كلمناها في حرمة الزنا، قالت: والله أنا لا أعلم أن الزنا حرام، كنت أظن أن الزنا فقط مجرد عيب، وأنا الآن متعبة وأستحي من هذا العمل. وتسميه عملاً. تقول: فأنا أتعاطى حبوباً أو شيئاً من الحقن حتى لا أشعر بهذه العملية الفظيعة في أثناء وقوعها.

وكذلك من قارب البلوغ من الفتيات، فعندما نعرف أن البنت حاضت، نريد أن نجري عليها أحكام الإسلام كما لو كانت بنت ابن تيمية ، فتجد الأب من أول لحظة يقول لها: أنت الآن أصبحت مكلّفة بجميع تكاليف الإسلام وأحكامه وشرائعه، ويبدأ يملي عليها ويقعد لها كالصقر، مع أنها من سن السابعة إلى يومنا هذا لم يعلمها أبوها شيئاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علموا أولادكم الصلاة لسبع). ومذهب الجماهير: أن الصلاة ليست مذكورة لعينها، بل يقاس عليها غيرها من تكاليف الإسلام وأحكامه من حلال وحرام وفرائض وغير ذلك؛ حتى إذا بلغ سن التكليف كان قد تجاوز مرحلة التدريب العملي على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك، والصحابة رضي الله عنهم قاموا بذلك خير قيام، فكانوا يعطون الحلوى أو الدينار أو غير ذلك للولد إذا صام إلى الظهر، أو إذا صام إلى العصر، وكانوا يدربونهم على الصلاة، حتى إذا بلغوا كانوا قد تعلموا أحكام الإسلام، لكنك أنت تريد أن تلزمها بفرائض الإسلام وأحكامه بمجرد أن تبلغ، دون أن يسبق ذلك فترة تعليم أبداً، وهذا تصرف لا يصح.

أذكر أنه في السودان لما أعلنوا تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل به بدءوا بإقامة الحدود، وهذا تخبّط. هل تقام الحدود على أمة غرقت مئات السنين في العلمانية وفي المعاصي ومخالفة الأمر والابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله؟ فهم أناس لا يعلمون شيئاً عن دينهم، فكان لا بد أن يسبق هذه المرحلة مدة من الزمان تبلغ السنوات؛ لتعليم هذه الأمة أحكام دينها، ثم بعد ذلك تبدأ العقوبة.

ومن ارتكب معصية وتاب، ترى من يعرف ذلك يشدد عليه حتى ييأس من رحمة الله عز وجل! والمفروض أن المرء إذا تاب يؤخذ بالرفق والرحمة واللين، بخلاف الإنسان الذي يعصي وهو يعلم أنه يعصي ويُدعى إلى التوبة فيستهزئ ويسخر، فمثل هذا تحذره من شفير جهنم، بخلاف من وقع في معصية ثم تاب منها وأتاك يضطرب قلبه وجلاً خائفاً، فلا شك أن التنفير في هذا الموطن يجعل المرء ييأس من عمل الخير، وعمل الطاعة، ويستمر في عمل المعصية. أليس هذا هو الذي حصل مع الراهب الذي أفتى من قتل (99) نفساً بأن الله تعالى لا يقبل منه التوبة، وسيعاقبه، فأتم به المائة، ولما فتح العالم أمامه باب الأمل كان من أهل الجنة بحسن توبته؟!

وفي هذا الحديث: أمر الولاة بالرفق، واتفاق المتشاركين في ولاية، وهذا من المهمات، فإن غالب المصالح لا تتم إلا بالاتفاق، ومتى حصل الاختلاف فاتت المصلحة.

وفيه: وصية الإمام الولاة بطاعة الله وتقوى الله عز وجل، وإن كانوا أهل فضل وصلاح كـمعاذ وأبي موسى الأشعري ، فإنه يجوز نصيحة المفضول للفاضل، كما يجوز إمامة المفضول للفاضل.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net