إسلام ويب

اللقطة مال محترم غير محرز لا يعرف صاحبه، وقد فصل الشارع في أحكامها، وبين ما يلزم ملتقطها من حفظ لها ولأوصافها، ومدة تعريفها، وحكم ما يترتب على ذلك من مؤنة ونماء وضمان، وغير ذلك من الأحكام.

تعريف اللقطة لغة واصطلاحاً

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أما بعد: فمع بعض الأحكام الفقهية المتعلقة باللقطة:

أولاً: تعريف اللقطة: هو من اللقط الذي هو الأخذ، كما قال الله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص:8]؛ أي: فأخذوه.

فاللقط بمعنى: الأخذ والتناول. وهذا في اللغة. وقلنا من قبل: إذا أردنا أن نعرف شيئاً أو مصطلحاً فله تعريف في اللغة وتعريف في الاصطلاح. أي: اصطلاح أهل التخصص.

فاللقطة عند اللغويين بمعنى: الالتقاط والأخذ.

أما شرعاً: فهي مال محترم غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه.

فقولهم: (مال محترم): احتراز من المال الغير محترم. والمال المحترم هو مال معصوم، والأصل في المال أنه معصوم، ولا يخرج عن هذه العصمة إلا بسبب شرعي، حتى وإن كان مال كافر فإنه معصوم، والأموال كالفروج، وما دام فرج الكافر معصوماً فينبغي أن يكون ماله كذلك معصوماً، ومن استحل المال لزمه أن يستحل الفرج؛ لأنه لا فارق في الشرع بين الأموال والأعراض.

وقولهم: (غير محرز): أي: ملقى على الأرض. ولو أني أخذت مالاً محرزاً فالتكييف أو الوصف الشرعي أن فعلي هذا يصير سرقة، لأنه يشترط في السرقة: أن يكون مالاً محرزاً، أما في اللقطة فيشترط ألا يكون محرزاً.

وقولهم: (لا يعرف الواجد مستحقه). يعني: لا يعرف من التقطه، وإلا لو كان الواجد والملتقط يعرف صاحبه فيجب عليه أن يدفعه إليه، لكنه وجد المال ولا يعرف مستحقه. وهذا قيد يخرج به أحد أمرين: الأول: إما أنه يعرف صاحبه فيجب عليه الدفع إليه.

الثاني: أو أنه مال عام. أي: من الأموال المباحة لكل أحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتاً فهي له)، فلو أن رجلاً أحيا قطعة أرض فوجد في باطن الأرض معادن من الذهب والحديد والورق وغير ذلك من كنوز الأرض، فهذا مال مباح لمن وجده بشرط أن يؤدي زكاته، وهي زكاة الركاز، وهو حر في بقية المال، لا يحل لأحد قط لا حكومة ولا غير حكومة أن يأخذوا هذا المال منه؛ لأنه مال مملوك له على سبيل أنه مال عام في أرض عامة، فليس في الإسلام شيء اسمه الأرض هذه ملك الحكومة إلا أن تكون أرضاً عامة لمنافع الناس مثل الطريق فلا يملكه أحد ولا حتى الحكومة تملكه، فهو ملك عام لكل من مر فيه كل إنسان مسلم وكافر، فالشارع ملك للجميع؛ لأنه جعل في انتفاع الناس عامة، فلا يجوز السطو على الشارع والبناء فيه أو غير ذلك من باب أنه غير مملوك، فهذا مال عام له ملاك وهم جنس المنتفعين به أينما كانوا، أما المال العام فينتفع به من أصلحه ومن أخذه ومن التقطه.

الأمر الثاني: ألا يعرف الواجد مستحقه. يعني: لا يعرف لمن هذا المال، أما إذا كان مالاً لا يملكه أحد كهذه الأموال العامة أو الصحراء المترامية الأطراف فالشرع يجيزها لمن أصلح جزءاً منها أو أحاط على جزء منها وبدأ العمل فيها، ولا يحل لأحد من الأشخاص العامة أو الخاصة أو الشخص المعنوي الذي هو الحكومة أو جهة إدارية، أو غير إدارية، لا يحل لها أبداً أن تعطل هذه المسيرة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أجاز وشرع له: أنه إذا استصلح شيئاً من هذه الأرض أن يتملكها.

أركان اللقطة

من التعريف دائماً نأخذ الأركان، إذا اتفقنا على تعريف معين -تعريفاً اصطلاحياً- فلابد أن يشتمل هذا التعريف على أركان المعرف، فبعد أن عرفنا اللقطة في الاصطلاح: (وأنها مال محترمة غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه) لابد أن أقول: إن أركان اللقطة ثلاثة: الركن الأول: اللقط. وهو الفعل. الركن الثاني: الملتقط. وهو الواجد. الركن الثالث: الملقوط أو الملتقط -اسم فاعل- أي: الذي تناوله الملتقط أو الواجد.

وهناك فرق بين الركن والشرط، فالركن: ما كان داخلاً في ماهية الشيء وأساسه، ويتكون الشيء منه ومن غيره، أما الشرط فهو الخارج عن ماهية الشيء، ويلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.

إذاً: اللقط. معناه: وضع يد الواجد على الملتقط أو الملقوط. وفيه معنى الأمانة والولاية، والملتقط أمين على ما التقط، ومطالب تجاه هذا الملقوط بأحكام وآداب، كما أن الملتقط فيه معنى الاكتساب والملك بشروطه.

حكم اللقطة

حكم اللقط: فيه خلاف بين العلماء، فمذهب الحنفية والشافعية: استحباب اللقط وليس الوجوب. والمالكية والحنابلة على كراهة اللقط. وقد تجري على اللقط الأحكام الشرعية الخمسة، كما أن النكاح تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة، فقد يكون واجباً في حق فلان، وقد يكون محرماً في حق فلان، إذا كان الرجل يملك الباءة وتتوق نفسه إلى نكاح النساء ويخشى على نفسه العنت أو الوقوع في المعصية فحينئذ يجب عليه النكاح، ولو كان الرجل مجبوباً أو عنيناً أو لا ذكر له وإن كان يملك المال فيحرم عليه النكاح؛ لأنه يضر بالمرأة في أعز حق لها عند الرجل، يضر بها وهو غاش ومدلس في هذا النكاح فيحرم عليه ذلك. إذاً: قد يكون النكاح مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً.

وكذلك اللقطة قد تكون واجبة إذا خفت على المال الضائع التلف، فيتعين اللقط لحفظها. مثلاً: رجل يمشي في صحراء بسيارة، وأنت تسير خلفه بسيارة وهذا الطريق في الغالب لا يمشي فيه أحد، ونادراً ما يمشي فيها كل عدة أيام فوج أو قافلة أو سيارة أو غير ذلك، فإذا وجدت في هذا الطريق طعاماً قابلاً للعطب بعد عدة أيام وغلب على ظنك عطبه -وأنتم تعلمون أن معظم الأحكام الشرعية إنما تجري على غلبة الظن، الأحكام الشرعية معظمها مبني على غلبة الظن- وأنه لا يمكن حفظه، وإذا تركته فسد؛ فحينئذ يتعين عليك أخذه، وتأثم بتركه، وإذا كنت آثماً في تركه وجب عليك الالتقاط، فحينئذ إذا تعين اللقط طريقاً لحفظ المال كان الالتقاط واجباً. وأحياناً يكون مندوباً وهو عند عدم خوف التلف عليها، أو يغلب على ظني أن الدار والبلد أمان وربما يُهيأ لهذا الطعام من هو آمن عليه مني. ويكون اللقط محرماً وهو عندما يأخذ الملتقط المال الضائع لا لحفظه ورده إلى صاحبه بل لتملكه، حينما وقعت عيني على المال المرمي على الأرض ورد في ذهني فوراً أن آخذ هذا المال لا لأعرفه ولكن لأتملكه ولو سألني أحد عنه سأنكر وأقول: أنا ما رأيت شيئاً ولا التقطت شيئاً. فهذا سطو على أموال الناس بغير حق، وأخذ ونهب لأموال الناس بالباطل.

وهذه المسائل يستطيع كل إنسان أن يضبطها بنفسه، فكل إنسان يعلم من نفسه ذلك، فإذا رأيت مالاً فهذا الشيء بيني وبين الله عز وجل، أنا آخذ المال لكي أعرفه، وأيضاً لو أن المال هذا لم يعرف على مدار سنة أو سنتين ولم يظهر صاحبه أضعه في مكان عام آمن للتعريف!

فإذا أخذ هذه اللقطة وهو ينوي تملكها ففي هذه الحالة يحرم عليه التقاطها؛ لأنه يعلم من نفسه ضعفاً وأحياناً يكون اللقط مكروهاً وذلك في حق من يشك في أمانة نفسه، كأن تكون نفسه ضعيفة تتنازعه قوى الخير والشر، هو رجل صالح وتقي لكن نفسه تغلبه، وكل ما أمره قرين الخير من الملائكة بالمعروف غلبه قرين السوء من الأبالسة والشياطين بأن يحول هذا المال إلى نفسه، فهو متحير متردد بين الأمرين يأخذه أم يعرفه؟ كلما استقر على أمر غلبه الآخر، فهذا إنسان عنده شك في نفسه وفي قدرته وأمانته؛ فيكره له الالتقاط، فالمال الملتقط يكره أخذه إذا كنت على يقين أنك ستأخذه ولا تعرفه أو أنك تشك في أمانتك.

فكل إنسان يعلم من نفسه ومن حاله حكم اللقطة في حقه هو: هل هي واجبة أم محرمة أم مندوبة أم مكروهة أم مباحة؟!

والمباح إذا استوى الفعل والترك، قال الحافظ ابن حجر : ومن ثم كان الأرجح في مذاهب العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمتى رجح أخذها وجب أو استحب، ومتى رجح تركها حرم أو كره، وإلا فهو جائز. يعني: مباح.

حكم الإشهاد على اللقطة

يجب الإشهاد على الالتقاط، بأن يُشهد الملتقط عليه رجلاً عدلاً واحداً فأكثر، وأقل الشهود في اللقطة واحد يشترط أن يكون عدلاً؛ لحديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل)، وفي رواية: (فليشهد ذوي عدل). يعني: لا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. والوجوب هو مذهب الظاهرية، وقول عند الشافعي، وإليه ذهب الشوكاني ، والصنعاني، والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي في أحد القولين باستحباب الإشهاد احتياطاً.

وسبب وجوب الإشهاد -وهو مذهب جماهير العلماء- أو استحبابه -وهو مذهب بعض أهل العلم- أنه يُمتنع به من الخيانة، فالشرع لما اشترط الشاهد اشترطه لمصلحة الملتقط، ليمتنع به من الخيانة، وأن الملتقط قد يموت فجأة فتصير اللقطة من تركته وليست كذلك، إذ قد يموت في مدة وجوب التعريف، فلا تدخل في مال الميراث، يأتي الشاهد حينئذ ويقول: هذا الميت قد التقط لقطة وهي كذا وعددها كذا في المكان الفلاني! وأنا الشاهد على ذلك فانتبهوا أن تُدخلوا هذه اللقطة في الميراث؛ لأنها ليست مال المورث ولا مال الورثة.

أما كيفية الإشهاد، فله طريقتان: الأولى: أن يشهد أنه وجد لقطة ولا يُعلِّم عفاصها ولا غيره؛ لئلا يتطرق الكذب إليها. كأن أقول: يا فلان! أنا وجدت مالاً لا أعرف عدده ولا وصفه ولا نوعه ولا شيء من هذا أبداً، وأنا أعرفه في أماكن متعددة يسهل التعرف عليه من خلالها فحينئذ إذا ظهر صاحبه فهو له.

الثانية: أن يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوالي، لكن هذه تحتاج إلى أمانة الشاهد؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام اشترط أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأنه لو كذب أو خان يصير فاسقاً، فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأن الشاهد ممكن أن يتواطأ مع أحد الخونة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل فيقول مثلاً: لقد ضاع مني (1000) جنيه وبلغني أنها عندك وأوصافها كذا وعددها كذا وأوراقها كذا وضاعت مني في المكان الفلاني؛ لأن الملتقط قد أخبر الشاهد بهذه الأوصاف تفصيلاً.

فإذا لم يكن الشاهد عدلاً ضاعت الأمانة، واستطاع الكاذب أن يتوصل بكذبه وتدليسه وغشه إلى أخذ ما ليس له.

وقد أشار بعض الشافعية إلى التوسط بين التعريفين -أي: التعريف المفصل والتعريف المجمل- فقالوا: لا يذكر الصفات كلها، وإنما يعرف اللقطة ببعض الألفاظ دون البعض. فمثلاً: يقول: وجدت من المال (1000) في المكان الفلاني، فلو أن الشاهد الفاسق ذهب إلى أحد الكذبة قال له: اذهب إلى فلان وقل له: قد ضاع مني (1000) جنيه فإنه لما يأتي الكاذب هذا للملتقط ويقول له: ضاع مني (1000) جنيه في المكان الفلاني. يقول له الملتقط: كيف شكل عفاصها؟ بماذا كانت ملفوفة؟ فيقول له: في ورق سلفان. فيقول: لا. فيقول له: أنا تذكرت والله فقد كانت في خرقة فعلاً. فيقول له: كم الذي ضاع منك؟ يقول له: (1000) جنيه، فيقول له: آسف الذي وجدته (1000) دولار وليس (1000) جنيه.

حكم لقطة الحيوان

لقطة الحيوان لها أحكام:

فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى القول بعدم التقاط الحيوان؛ للنهي الوارد عن ذلك، ولكن النهي ليس على إطلاقه بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد الجهني في الصحيحين: (لما سئل عن ضالة الغنم قال: هي لك أو لصاحبك أو للشيطان). وفي رواية: (أو للذئب). وسئل عليه الصلاة والسلام عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر). فالأصل أن النهي الوارد عن التقاط الحيوان إما أن يكون متعلقاً بالإبل وفي هذه الحالة لا يكون متعلقاً بما دون الإبل. والسؤال هنا: هل يقاس على الإبل غيرها، وهل يقاس على الشاة غيرها؟

إذا قلنا: إن الإبل ليست محل التقاط إلا إذا خيف عليها الهلاك من كبار السباع وغيرها، أو هلاك عام بالحرق أو الغرق أو شيء من ذلك في حال الهلاك العام والدمار العام فإنما ذلك يكون بإذن الإمام كما هو مذهب جماهير العلماء.

أما الشاة فإنها تلتقط وكذا من كان في مثل حكمها، فالشاة ضعيفة، وكذا المعز، لا تستطيع أن تدفع عن نفسها حتى من صغار السباع، فالكلب قد يتسلط على شاة ويأكلها، أو ذئب أو سبع أو أسد.

أما صغار السباع لو تسلط على حمار كبير أو تسلط على بقرة أو جاموسة كبيرة أو بعير فإن هؤلاء جميعاً يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولذلك البعير يقاس عليه من الحيوانات من كان في مثل قوته ويستطيع الدفع، فهذا لا يلتقط، والشاة يقاس عليها من كان في مثل ضعفها ممن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى صغار السباع.

إذاً: الصحيح أنه لا يجوز لقط الإبل، لما ورد مرفوعاً من حديث زيد بن خالد الجهني : (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها).

أما ضالة الغنم فيجوز التقاطها؛ لما ورد في حديث زيد : (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب). وقاس عليها الجمهور ما يشبهها في الضعف واحتمال الضياع.

حكم لقطة الحاج

ورد في الحديث: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن لقطة الحاج)، وهذا الحديث الذي جاء في الصحيحين يقيده قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنها مرفوعاً في لقطة مكة قال: (ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد) يعني: لا يحل لأحد أن يلقط لقطة مكة إلا إذا كان بنية الإنشاد والتعريف. والحمد لله تعالى.

إذاً: لا يحل التقاط لقطة مكة على سبيل التملك إنما على سبيل الإنشاد.

والحكومة السعودية الآن سهلت عليك أمر هذه اللقطة بتخصيص أماكن في الحرم لوضعها فيها، فمن وجد شيئاً يلتقطه ولا حرج، وعليه أن يذهب به إلى هذه الأماكن، وبذلك تبرأ عهدته من هذه اللقطة.

وقد ذكرنا أن من أركان اللقطة: الركن الأول: هو اللقط. والركن الثاني: الملتقط. والثالث: هو الملقوط أو الملقط.

فالملتقط: وهو من له أهلية الاكتساب أو الاحتفاظ والتملك، ويشترط فيه أن يكون حراً مسلماً مكلفاً أميناً. ومن أهل العلم من أجاز التقاط الذمي إذا كان أميناً؛ لأنه من أهل الاكتساب والتملك تماماً كالمسلم، وكذلك الصغير والمجنون والسفيه إذا التقط واحد منهم مالاً ضائعاً ثبتت يده عليه لكن يتصرف فيه الوصي أو الولي بلا شك.

فإذا كان الملتقط ليس واحداً وإنما هو اثنين أو ثلاثة أو جماعة من الناس، فلها حكم آخر، فلو التقط اثنان مالاً ضائعاً ثم ترك أحدهما حقه منه للآخر لم يسقط حقه، ولو أقام كلاهما البينة على أنه هو الملتقط وحده ولا تاريخ في البينتين تبقى اللقطة لمن هي بيده؛ لأنه صاحب اليد عليها.

ولو أمر إنساناً آخر بالتقاط شيء رآه فالتقطه فاللقطة إن قصد أنها له فإن الملتقط يناوله إياها، وإن قصد أن يلتقطها وتكون في حوزته فهي للذي التقط، وإن رأياها جميعاً فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها فهي للآخذ وليس للرائي؛ لأن استحقاق اللقطة بالالتقاط لا بالرؤية. وهذا الحكم الشرعي وهو أن اللقطة لمن التقط وليس لمن رأى. وإذا رأيت اللقطة وسبقتك يد إليها، تكون لصاحب اليد ولا تكون لصاحب العين.

الركن الثالث من أركان اللقطة: الملقوط الذي هو المال المحترم غير المحرز، الذي لا يعلم الواجد مستحقه، وهو إما حيوان ويسمى ضالة، أو غير حيوان ويسمى لقطة. أما المال المباح فلا يكون لقطة؛ لأنه ليس له مالك. فإذا تحققت الأركان الثلاثة السابقة نكون قد حققنا معنى اللقطة اصطلاحاً.

وإليك بعض الأمثلة: إذا أخذ ثياب غيره أو متاعه أو حذاءه قصداً أو سهواً، وترك متاعه، ولم يتعمد الآخذ الأخذ فالمتروك لقطة إن كان على سبيل الخطأ، وإن تعمد الأخذ جاز للمأخوذ حذاءه بيع المتروك واستحقاق الثمن، لكن في الغالب أن هذا المأخوذ لا يساوي شيئاً، ولكن هذا حكم شرعي على أية حال، وهو أنه يجوز لك بيع المتروك والملتقط مكان ما ضاع منك عمداً، وإن كان لا يساوي شيئاً، ويجوز بيعه والتصرف فيه.

ومن ترك مختاراً دابة بمهلكة ويغلب على الظن بل تُيقن أنها ستهلك يكون قد حققنا شرط خوف الضياع أو الهلكة فيكون الالتقاط واجباً بعدما ترك صاحب الدابة دابته في مكان الهلكة وقد رأيتها وغلب على ظني هلاكها وخفت عليها الضياع.

قال: ومن ترك مختاراً -أي: غير مكره ولا مجبر- دابة في مهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها من الهلاك فهي له؛ لأن صاحبها تركها مختاراً؛ لأنها في حكم المباح؛ لما أخرجه أبو داود بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعرفوها فتركوها فأخذها فأحياها فهي له) والحديث صحيح، وهذا مذهب الحنابلة.

ومعرفة اللقطة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها). والوكاء: هو الخيط الذي يربط به العفاص. والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه اللقطة. ويلحق بذلك كل ما يلزم لمعرفة اللقطة ويبين أوصافها مثل جنسها ونوعها وقدرها وما تتميز به عن غيرها، وكل هذا لمعرفة صدق أوصافها إذا ادعي ملكيتها.

قال الحافظ: اختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب. والتعريف مرتين تعريف خاص بالناس عموماً، ويتوسط فيه المعرفة ببعض الأوصاف دون البعض، أما التعريف الذي يلزمني أنا كملتقط أن أعرفك تعريفاً دقيقاً مفصلاً مخافة أن أموت أو مخافة أن أنسى أوصافها.

وعند التعريف باللقطة استحب بعض أهل العلم كتابة أوصافها خوف النسيان، وهذا قول أحمد، والنووي

أما كيفية التعريف فهي أن يذكر الملتقط للناس عينها ولا يبين أوصافها بل يذكرها بوصف عام، وأجاز الحنابلة ذكر جنسها من ذهب أو فضة، وقالت الشافعية: تفصل ذكراً أو أنثى، أو يذكر بعض الأوصاف ولا يفصل بالاستيعاب، ويستثنى من هذا الوجوب ما يلي: ما يعلم أن مالكه لا يطلبه وإن كان مالاً مثل: قشر الرمان أو النوى ونحو ذلك مما يرميه الناس ولكنه إذا وجده في يد الملتقط فله أن يأخذه. يعني: صاحب قشر الرمان أو قشر البطيخ الذي رماه هو ربما رماه ليرجع إليه فالتقطه آخر فوجد المالك هذا القشر في يد الملتقط فله أن يأخذه منه أم لا؟ له أن يأخذه منه؛ لأن إلقاءه يفيد إباحة الانتفاع به من ملتقطيه ولا يفيد التمليك.

ويسن كذلك التقاط اللقطة التافهة أي: الحقيرة عرفاً؛ لأن العرف هو الذي يحكم عليها بأنها حقيرة، فمثلاً: شخص وجد ربع جنيه في الشارع، والثاني وجد (100) جنيه، فيعتبر أن كل ذلك لقطة لكن عرف الناس لا يلزم ملتقط ربع الجنيه بالتعريف؛ لأن العرف يحتقر مثل هذا المبلغ، فاللقطة التافهة إذا كانت مما يؤكل كالتمرة ونحوها لا بأس أن يأكلها ولا يضمنها ولا يعرفها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وجد تمرة على الأرض قال: (لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، فإنه التقطها من الأرض والذي حال بينه وبين أكلها ليس لأنها لقطة وإنما لأنها ممكن أن تكون من أموال الصدقة وهي حرام على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لأنه لو كان يعلم الغيب لعلم أنها من أموال الصدقة.

واللقطة اليسيرة إذا كانت مما يؤكل لا يجب تعريفها عند المالكية والحنابلة.

أما تعريف اللقطة فيكون بارتياد الناس الأماكن العامة مثل المساجد بأن تكتب ورقة وتعلقها على المسجد أو على النادي أو في مجامع الناس وغير ذلك مما يغلب على ظنك أن الناس يجتمعون فيها.

مدة تعريف اللقطة وزمنها

مدة التعريف: مدة تعريف الملتقط للقطة سنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عرفها سنة). وهذا محل إجماع، قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً، ولا بأس أن تزيد على مدة الوجوب سنة، ويستثنى من هذا الأصل إذا كانت اللقطة يسيرة فيعرفها ثلاثة أيام أو زمناً يظن بعده أن فاقدها لا يطلبها، ويستثنى أيضاً ما يخشى فساده إذا كان كثيراً أو يسيراً كالفاكهة والخضروات فإنه يعرفها مدة لا يخشى فيها عليها الفساد، وهذا قول الحنفية والحنابلة.

زمن التعريف: يكون التعريف في الأوقات المناسبة كالنهار حيث محفل الناس ومجمع الناس أو في المكان الذي يسموه في الريف الصاري، وهو مجمع الناس، ويتكرر بالقدر الذي يحصل به مقصد التعريف؛ حتى يغلب على الظن وصول الخبر إلى صاحبه، ويكون ذلك كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر كلما توفر لك ذلك.

قال ابن الهمام : اعلم أن الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفاً وعادة، والتعريف واجب على الفور. يعني: بمجرد أن تلتقط اللقطة لا يجوز تأخيرها عن زمن تطلب فيه اللقطة عادة، فالشخص لما يركب سيارة وينسى فيها حاجته كالحقيبة التي فيها أمواله وفيها أوراق وفيها وفيها، ثم إذا نزل في محطة الوصول أدرك أنه نسي الحقيبة فإنه يبحث عنها في محطة الوصول ومحطة المغادرة في نفس اللحظة والتوقيت فحينئذ يجب على الملتقط أن يعرفها في نفس اللحظة والتوقيت، ويكتب في ورقة عظيمة وضخمة أو قطعة من القماش كبيرة وتكون معلقة وبخط واضح إعلاناً عنها، وإذا سقطت الورقة أو القماش يعلقها مرة أخرى حتى يتمكن صاحب الحاجة من معرفتها إما في مكان المغادرة أو في مكان الوصول، ويعطي خبراً لكل سائق، فطريقة التعريف لكل ضائع أو لكل ضالة أو ملتقط إنما تكون على حسب غلبة الظن في وصول الخبر إلى صاحبها، والذي يتولى التعريف هو الملتقط أو نائبه، وإذا كان الملتقط صبياً فلا يتولى ذلك إلا الوصي أو الولي.

ذكر أقوال أهل العلم في ضمان اللقطة ومؤنة التعريف بها

مؤنة التعريف: بعض العلماء يقولون: إن الملتقط إذا التقط شيئاً وغرم فيه لا يجوز له الرجوع على صاحب المال. وبعض أهل العلم يقولون: بل له الرجوع إلى صاحب المال الضائع أو الخصم من الملتقط. وهذا الذي يترجح عندي. أن اقتطاع مؤنة التعريف من المال الملتقط أو من صاحب هذا المال، فاللقطة التي بيد الملتقط مضمونة إن كان قد التقطها بنية حفظها وردها لصاحبها فهي أمانة والأمانات لا تُضمن خاصة إذا قام الملتقط أو الأمين بحفظها أو صيانتها.

ومن التقط شيئاً بنية الحفظ والرعاية والصيانة لكنه هلك لظرف خارج عن الإرادة فلا ضمان حينئذ؛ لأن الملتقط أمين والأمين إذا قام بواجب الأمانة فإنه لا يضمن في جميع الأموال والممتلكات، وإن كان قد التقطها بنية أخذها لنفسه وعدم ردها إلى صاحبها فهي مضمونة، وإذا التقطها بنية الحفظ والرد إلى صاحبها فلا ضمان عليه عند الحنفية والمالكية، ومن أخذها ثم ردها إلى مكانها فالراجح أنه يضمن ذلك؛ لأنها بعد أن كانت لقطة صارت أمانة في يده فلا يجوز له التصرف بهذه الأمانة حتى يظهر صاحبها؛ لأن الشرع لم يأذن له بردها إلى مكانها، وإنما أوجب عليه الحفظ والتعريف، وهو بفعله هذا قد خالف الشرع في ذلك.

وبعض أهل العلم يقولون: لا ضمان عليه. والذي يترجح لدي وجوب الضمان عليه؛ لأنه فرط في الأمانة.

مسألة نماء الضالة

وهنا مسألة ملحقة بهذا: وهي نماء الضالة:

فأقول: النماء له حالتان: إما أن يكون متصلاً بالضالة أو منفصلاً، فالنماء المتصل بالضالة كالسمن، لما التقطت النعجة أو الخروف أو المعز أو ما شابه ذلك لابد لحفظها ورعايتها أن أطعمها وأسقيها وهذا يكون لمالكها إذا استردها؛ لأن هذا نماء متصل بها لا يمكن انفصاله، فمن وجد شاة عشاراً ثم بقيت فترة حتى وضعت حملها، فهذا الحمل أصل ثباته كان قبل الالتقاط، ففي هذه الحالة إذا وضعت الشاة حملها عندي صار هذا النماء منفصل مع أن الأصل فيه الاتصال فهو من حق صاحب الشاة، أما إذا حصل العشار للشاة وهي عندي بعد التقاطها فهذا مال منفصل من حق الملتقط.

وهناك مسائل لولي الأمر أو نائبه في أصل ضوال الإبل وما يشبهها في الامتناع من صغار السباع على وجه الحفظ لصاحبها ولا يلزم ولي الأمر تعريفها؛ لأن هذا مال الأصل فيه أنه لا يلتقط وإنما التقطه الوالي أو السلطان لمخافة الهلكة.

ولابد أن يعرف الناس أن المال الذي ليس محلاً للالتقاط إذا ضاع يُسأل عنه في الأماكن العامة. أي: عند السلطان، وعلى ولي الأمر أن يجعل لها حمى ترعى فيه. أي: مكاناً للمرعى والرعاية وغير ذلك. ولو التقطها غير السلطان لم يجز له ذلك، ويكون ضامناً لها، ولا تبرأ ذمته إلا بردها إلى صاحبها، وعلى المدعي ملكيتها إقامة البينة، ولا يكتفى منه بالوصف؛ لأنها كانت ظاهرة بين الناس، فلا بد من تعريفها بوصف يتميز به عن الآخرين.

أما ضالة الغنم وما يشبهها فوصفها كما يلي: أن يعجز عن الوصول إلى الماء والمرعى، وألا يمتنع من صغار السباع -هذا شرط التقاط الغنم وما يشبهها- بحيث لا يدفع عن نفسه الأذى كصغار الإبل وهي الفصيل، وصغار البقر وهي العجول، وصغار الخيل وهي الأفلاء -جمع فلو- والدجاج والأوز، كل هؤلاء لا يستطيعون دفع صغار السباع عنهم، والحكمة من أخذ ضالة الغنم هي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها.

ويخير ملتقط الغنم بين ثلاثة أمور: إما أن يأكلها وعليه القيمة، أو يبيعها ويأخذ ثمنها لصاحبها إذا ظهر، أو يحفظها بعينها لصاحبها وينفق عليها دون أن يتملكها وتكون النفقة من قبل الملتقط على جهة التطوع عند الشافعية والحنابلة وكذلك رواية عن مالك وإذا تلفت ضالة الغنم فعلى الملتقط الضمان، وهذا مذهب الجمهور، خاصة إذا قصر وإلا فلا. وصلى الله على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب اللقطة - مسائل وأحكام اللقطة للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net