اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
قال: [ (وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر ! لو جمعت بينهما كانت حلة -أي: لو أخذت برد غلامك وضممته إلى بردك لكانت حلة- فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني -أي: من المسلمين- كلام، وكانت أمه أعجمية -أي: ليست عربية- فعيرته بأمه -أي: سبته وشتمته بأمه- فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر ! إنك امرؤ فيك جاهلي) ]. والجاهلية عند الإطلاق تعني الكفر، وهي هنا ليست بمعنى الكفر، وإنما هي معصية، ولذلك أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان وعنون له: باب المعاصي من أمر الجاهلية، أي: من أخلاق الجاهلية وليست من أخلاق الإسلام.
قال: [ (قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه) ]، يعني: يا رسول الله! هو سبني، فأنا سببته، فلما سبني في شخصي سببته بأمه وهو المعتدي أولاً، فظن أبو ذر أن ابتداء وقوع السب عليه يؤهله ويجوز له أن يتعدى هو في سب الآخرين، فالرجل سبه أولاً، ثم قام أبو ذر بسب هذا الرجل بأمه وعيره وشتمه بأمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (يا أبا ذر ! إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم -أي: ما يغلبهم وما لا يطيقون- فأعينوهم) ].
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي- (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني- حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير- (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـابن راهويه- أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي- كلهم يروي عن الأعمش بهذا الإسناد]، يعني: عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر.
[وزاد في حديث زهير وأبي معاوية بعد قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، قال: قلت -أي: أبو ذر- على حال ساعتي من الكبر؟ ]، يعني: كأنه استنكر أن يكون فيه خصلة من خصال الجاهلية بعد تقدمه في السن، وبعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام هل لا يزال فيه بعض أخلاق الجاهلية، فقال: (على حال ساعتي من الكبر يا رسول الله؟!) يعني: هل يعقل بعد هذه المدة وبعد هذا العمر كله في الإسلام لا تزال بعض أخلاق الجاهلية فيَّ؟!
[ قال: (قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال: نعم) ، وفي رواية أبي معاوية : (نعم، على حال ساعتك من الكبر)، وفي حديث عيسى : (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه) ]. وفي الحقيقة هذا اللفظ فيه تصحيف، والذي يترجح هو رواية معظم الرواة: (فإذا كلفه ما يغلبه فليعنه).
[ وفي حديث زهير : (فليعنه عليه)، وليس في حديث أبي معاوية: (فليبعه)، ولا (فليعنه)، انتهى عند قوله: (ولا يكلفه ما يغلبه).
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـغندر- حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي- عن واصل الأحدب -وهو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي- عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ قال: فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -والمسبوب هو بلال بن رباح- فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -أي: فاشتكى المسبوب سبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)].
فقوله: (للمملوك)، أي: على سيده، فله حق له واجب في ذمة سيده، وهو إطعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق.
قال: [ وحدثنا القعنبي قال: حدثنا داود بن قيس -وهو داود الفراء الدباغ أبو سليمان القرشي مولاهم المدني- عن موسى بن يسار -وهو المطلبي مولاهم المدني- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه)]، يعني: إذا صنع الخادم لك طعاماً أو شراباً وقد عانى من حره ودخانه وإعداده وصنعته، ومن فعل هذا فلا شك أنه قد شم هذا الطعام، وتاقت نفسه إليه، وهو لم يأكل منه بعد.
قال: [(فليقعده معه -وهذا أمر للسيد أن يقعده معه- فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً)]، ومعنى مشفوهاً، أي: امتدت وكثرت عليه الشفاه، والشفاه جمع شفه، بمعنى: أن الأيدي والأفواه التي تأكل من هذا الطعام كثرت جداً بحيث يصير الطعام بالنسبة إلى من اجتمع عليه قليلاً، حتى وإن كان في أصله كثيراً، مثل أن يعد طعاماً يكفي خمسة، ثم يجتمع عليه خمسون، فيكون هذا الطعام قليلاً بالنسبة لهم، ولو وضع لثلاثة لفضل عنهم؛ لأنه كثير، ولو وضع لعشرين فسيكون قليلاً؛ لأنه لم يعد لهذا العدد، وإنما أعد لأقل من ذلك.
قال: [ (فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين) ]، يعني: يضع في يد الخادم لقمة من هذا الطعام أو لقمتين.
[قال داود: يعني لقمة أو لقمتين.
قال النووي: (الظاهر أنه كان عبداً تحت أبي ذر)؛ لأنه قال: (كان بيني وبين بعض إخواني كلام)، أو (رجل من إخواني كلام).
قال: (والظاهر أنه كان عبداً، وإنما قال: (من إخواني)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إخوانكم خولكم، فمن كان أخوه تحت يده).. إلى آخر الحديث.
وأما قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، أي: هذا التعبير من أخلاق الجاهلية). فهذا الذي قلته وعيرت به أخاك هذا من أخلاق الجاهلية، ففيك خلق من أخلاقهم، وينبغي للمسلم ألا يكون فيه شيء من أخلاق الجاهلية.
وهذا اللفظ ليس على ظاهره كما توهمه الخوارج في هذا الزمان وقبل هذا الزمان من أن كل لفظ فيه براءة الذمة أو فيه: (ليس منا)، أو فيه ذكر للجاهلية، أو غير ذلك من هذه الألفاظ يحمل على الظاهر، ويخرجون صاحبه من الملة.
وعندما تناقشت مع بعض قيادات جماعة التكفير قال: لو أننا حملنا هذه النصوص على غير الظاهر لعطلنا نصوصاً كثيرة، فانظر كيف دخل عليهم الشيطان، فقال: إن النصوص التي يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من فعل كذا)، أو (من فعل كذا فقد برئت منه الذمة) لا بد من حملها على ظاهرها، وأن من فعل كذا فليس من المسلمين، يعني: من الكافرين، فقلت: لم يحملها هذا المحمل إلا الخوارج، قال: هم أعلم الأمة، قلت: لا يشاركك في هذا القول أحد، أي: من أهل السنة والجماعة، بل علماء الأمة قاطبة لهم تأويلات كثيرة جداً لهذه الأحاديث، وليس هذا منها، بل ما أولوا ظواهر هذه النصوص إلا رداً لهذه المقالة التي تقولها أنت الآن، فقال: إن معنى قول: من فعل كذا ليس منا، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا ولا من طريقتنا ولا من سنتنا تعطيل للنص النبوي، كما أنه من باب أولى تعطيل لكلام الله عز وجل، فقلت: إذا كان الأمر كذلك فماذا تقول في أبي ذر الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية)؟ قال: كافر! قلت: هذا الرجل الذي هو أمة وحده، وله من المناقب والشمائل والفضائل ما يعجز عنه الآلاف من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وله المنزلة العليا والمكانة السامية، وهو إن شاء الله تعالى من أهل الجنة، كيف تستبيح أن تطلق عليه هذا؟
ثم قرأت عليه ترجمة أبي ذر من كتاب سير أعلام النبلاء، وغيرها من الكتب التي ترجمت للصحابة، كمعرفة الصحابة لـأبي نعيم ، وكتاب الحافظ ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة وغيرها.
فقال: كل هؤلاء ليس لهم عبرة عندي، أو كلمة نحو هذه الكلمة؛ لأنه لا يعبأ ولا يحترم إلا رأسه وعقله فقط، قال: والمعلوم من لفظ الجاهلية عند الإطلاق أنه بمعنى الكفر، فقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) يعني: فيك كفر، وهكذا العلم عند هؤلاء (1+1 =2) ليس له تأويل ولا تفسير، وهذا بلا شك كلام باطل.
وخلاصة كلامي مع هذا المنازع: أنني حكمت بيني وبينه أحد العلماء في الأردن في سنة (1985م)، وهو الشيخ محمد إبراهيم شقرة في مكتبه في وزارة الأوقاف، وقلت: بيني وبين هذا خصومة، وأصلها: حديث أبي ذر، فقد قال فيه كذا، فاحكم بيننا.
فقال: يا بني! أنت من التكفير؟
قال: أنا من جماعة المسلمين.
قال: لا عليك من الأسماء، الآن عرفت مذهبك.
فقلت: هو قال لي كذا وكذا.
قال: لا، أنا ما قلت هذا.
قلت: إذاً تقسم على كتاب الله عز وجل ثلاثاً أنك ما قلت هذا.
قال: أنا لا أقسم.
قال الشيخ: إنما يلزمك القسم؛ لأن هذا معرض التهمة، فيلزمك القسم. فلما أوشك على القسم هدده الشيخ وخوفه بالله عز وجل.
فقال: أنا قلت.
فقلت له: على منهجك فأنت كافر.
قال: ولم؟ قلت: لأنك كذبت، والكذب نفاق أو صفة من صفات النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب)، ومن كانت فيه واحدة منها كانت فيه خصلة من نفاق، والنفاق كفر.
فقال له الشيخ: ماذا تقول الآن؟ وأنا في الحقيقة في تسلسل النقاش أوافق أبا الأشبال أنك تكفر بهذا، فما موقفك؟
قال: وأنا أوافقكم.
وسهل جداً الإيمان والكفر عند هؤلاء.
ثم قال الشيخ بعد ثلاثة أيام: هذا فراق بيني وبينك، انتهى الأمر.
فاصطحبته إلى الشيخ أبي مالك محمد بن إبراهيم شقرة ، وكان للشيخ محمد هيبة عظيمة جداً، وهو رجل من أهل العلم الأثبات، وكنت على اتصال دائم في كل يوم لمعرفة نتيجة مباحثات اليوم كله مع الشيخ الألباني ، فقال الشيخ محمد : تعالوا غداً إلى مكتب الأوقاف، فذهبت به في الغد إليه، فقال له الشيخ: اسمع، الكلام معنا لا بد أن يكون محدداً ومركزاً، ولا نريد خروجاً عن الموضوع.
قال: أفعل.
قال: لماذا المجتمع كافر؟
قال: لأنه يتعامل مع الحكام الكفرة.
قال الشيخ: يعني: من تعامل مع الكفار يكفر؟
قال: نعم.
قال: فقد تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع اليهود، أما علمت أنه مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي؟
فاستعظم الأمر، وقال: يا شيخ! دعنا من هذه.
قال: فأنت عندما أتيت إلى الأردن كيف أتيت؟
قال: جهزت لي جوازاً كما يفعل الناس.
قال: أظن أنه إذا كانت الحكومة كافرة فلا أقل من أن يتركز الكفر في وزارة الداخلية التي أخذت منها الجواز، فأنت تعاملت مع الكفار، صحيح أم لا؟
قال: صحيح.
فقال له: وهذا أليس كفراً؟ قال: بلى، هذا كفر.
قال الشيخ: هذه الثياب التي تلبسها من الذي صنعها؟ مصر أم غيرها؟
فأخذت أنظر إلى الثوب فقلت: والله يا شيخ! واضح أنه ياباني.
فقال: بلاد اليابان دولة كافرة أم لا؟
قال: كافرة.
فقال الشيخ: ومن الذي حاكها وصنعها؟ وهل صنعت في مصر؟
قال: نعم.
قال: وهل أنت متأكد أن الذي صنعها واحد من جماعتك أم من عامة الناس؟
قال: من عامة الناس.
فقال: فأنت قد لبست ثوباً صنعه كافر.
ثم قال: وماذا ركبت إلى هنا؟ هل ركبت حماراً؟
قال: لا، ركبت طيارة.
قال: ولم شاركت هؤلاء الكفار في سياراتهم وطائراتهم؟ أليس هذا كفراً؟
قال: بلى.
وظل الشيخ يعدد له في كل حياته حتى أسود وجهه وقال: يا شيخ! أنا لا أخفيك أني والله كافر. وهكذا قال!
ولا يمكن أن يبقى العلم بهذا الشكل أبداً، ولا يمكن أن يصلح هذا ديناً، ومن قال: إن هذا دين الله عز وجل الذي أنزله من السماء فقد أعظم على الله الفرية، ولا يمكن أبداً أن يقاس الدين بالقلم والمسطرة نهائياً، فهذا ليس دين الله عز وجل، بل دين الله يؤخذ من أفواه أهل العلم، أما الاجتهادات الشخصية والفردية وإغلاقك على نفسك باب بيتك ثم تقرأ وتفهم كما يحلو لك فهذا أول طريق الانحراف.
وإذا صنع طعاماً فليطعمه من هذا الطعام، أو على الأقل يطعمه مما هو من أمثاله على قدر حاجته، وهذا الأمر للسيد ليس على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب، وهذا إجماع المسلمين.
وأما فعل أبي ذر في أنه ألبس غلامه برداً في مقابلة برده فإنما فعل ذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب.
والذي يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، وسواء كان ذلك من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، ولو قتر السيد على نفسه تقتيراً خارجاً عن عادة أمثاله إما زهداً وإما شحاً فلا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه موافقته إلا برضاه.
ولو كان السيد رجلاً زاهداً متقشفاً وليس له علاقة بالدنيا نهائياً، ولا يأكل إلا قليلاً ولا يلبس إلا اليسير من اللباس فليس له إلزام عبده بهذا التقشف والزهد، وإنما يطعمه ويلبسه على قدر ما عنده من مال، يعني: أن العبد الذي يعمل خادماً أو مملوكاً لدى هذا السيد ربما يأمر الشرع سيده بأن يلبسه ويطعمه أفضل مما يلبس ويطعم كثير من الأحرار؛ لأن هذا هو الذي يناسب المستوى المادي لهذا السيد.
وأما اختيار السيد نفسه طريقاً آخر للزهادة فهذا شيء يرجع إليه هو، ولا يحل لهذا السيد أن يحمل عبده أو مملوكه على التقشف والزهادة إلا إذا كان ذلك برضى من العبد.
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للسيد أن يكلف العبد من العمل ما لا يطيقه، فإن فعل ذلك لزمه إعانته إما بنفسه أو بغيره، كأن يشتري رقيقاً آخر لمعاونة هذا العبد، أو غير ذلك من أوجه المساعدة.
وأما قوله: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيقه) فهو موافق لحديث أبي ذر السابق.
وقوله: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه، فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)، قال داود : يعني: لقمة أو لقمتين.
فأما الأكلة فهي اللقمة، وأما المشفوه فهو القليل، أي: بالنسبة إلى من اجتمع عليه من الناس.
وفي هذا الحديث: الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، ولا سيما في حق من صنعه أو حمله؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشم رائحته، وهذا كله محمول على الاستحباب لا على الوجوب.
ومن الأخلاق النادرة جداً التي تجدها في هذا الزمان: أن يكون لشخص خدم يصنعون له طعاماً، وتكون رائحته شهية جداً تتعلق به النفوس، ثم لا يدعوهم إليه، وقد جعل الشرع له مخرجاً، فإذا كان قد دعا أناساً ولديه طباخون وخدم يخدمونه في بيته، وقد أعدوا المائدة للطعام، وهو يستنكف أن يدعو العبيد ليأكلوا معه على نفس المائدة فلا بأس أن يناولهم من هذا الطعام، يعني: يعد لهم طعاماً أو سفرة يأكلون منها ولو كانت بجوار المائدة أو في مكان آخر، ولا يحرم من أعدها ومن صنعها منها.
قال: [ حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين) ]، أي: مرة على حسن عبادته لله، ومرة على حسن خدمته لسيده.
[ وحدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان -، (ح) وحدثنا ابن نمير -وهو محمد- قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير -وهو عبد الله- وأبو أسامة -وهو حماد بن أسامة- كلهم عن عبيد الله -وهو ابن عمر العمري- (ح) وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أسامة جميعاً عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك السابق.
حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي- عن ابن شهاب الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران) ]. والمصلح ضد المفسد، وهذا يدل على أن هذا العبد لا يستحق الأجرين إلا إذا كان مملوكاً مصلحاً، أي: مخلصاً ناصحاً لسيده.
[(والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك) ]. وهذا الكلام قاله أبو هريرة ، وفي بعض الروايات عند أبي داود قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج لأحببت أن أموت مملوكاً). وظاهر هذه الرواية لا تدل على الإدراج، والإدراج هو: إدخال كلام في كلام آخر بياناً للمعنى، أو إظهاراً لحكم من الأحكام، أو إثبات أمنية متعلقة بنص الحديث.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران)، هذا الكلام يمكن أن يصدر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا حرج فيه.
ثم قوله: (والذي نفسي بيده) يدل على أنه تابع للحديث، ولكنه كلام مدرج، أي: ملحق بالكلام الأصل وليس منه. فالكلام الأول: (للمملوك المصلح أجران) كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، وأما قوله: (لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً) فلا يمكن أن يكون هذا من كلام النبوة، فقوله: (لولا الجهاد والحج) يمكن أن يصدر هذا الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن المستحيل أن يقول: (وبر أمي)؛ لأن أمه كانت قد ماتت منذ زمن أيام أن كان صغيراً، وكذلك لا يتمنى نبي مرسل أن يكون مملوكاً؛ لأن الثابت أن الله تعالى ما أرسل نبياً ولا رسولاً إلا من أشراف وأحساب وأنساب قومه، والرق ينزل العبد، بخلاف الحرية، والله تعالى لم يرسل رسولاً حراً فحسب، بل أرسله من أفضل أحرار قومه، ومن أحسنهم وأشرفهم نسباً، فكيف يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً). كما أنه لم يكن مملوكاً قط صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد : [ وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لأجل صحبتها ]. وسعيد بن المسيب هو زوج ابنة أبي هريرة ، والذي يترجح لدي أن هذا الكلام وصله بلاغاً عن أبي هريرة عن طريق امرأته، يعني: ابنة أبي هريرة التي كانت تحت سعيد ، فهي التي أخبرت سعيداً أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه؛ لأجل صحبتها، وهذا محمول على حج النافلة دون حج الفريضة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في العام السابع من الهجرة، في أعقاب غزوة خيبر أو في أثنائها، وحج مع النبي عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، وكانت هي الفريضة لـأبي هريرة ولم يكن حج قبلها، فيكون معنى كلامه (لولا الجهاد في سبيل الله والحج -أي: حج النافلة- وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك)؛ وهذا طمعاً في أن يكون له أجران:
الأجر الأول: أجر عبادة ربه.
والأجر الثاني: أجر خدمة سيده.
فهو لم يتمن الرق إلا لأجل الثواب.
وأما قوله: (إن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها)، فهذا يدل على وجوب بر الوالدين.
وقد تكلم الشافعية حول ما إذا تعارضت حاجة الوالدين مع حج الفريضة أو مع عمل الفرض أو النافلة من أي عبادة كانت، وهل يحتاج الوالدين إلى خدمة ابنهما الذاتية، أو إلى بر ابنهما بالمال والنفقة؟ فقالوا: إذا كانت حاجة الأبوين إلى الولد متعلقة بقيامه بذاته وشخصه على خدمتهما فلهما منعه من نوافل الطاعات؛ لأن برهما وخدمتهما مقدمان على النوافل؛ لأن بر الوالدين واجب، والنوافل مستحبة، فلو تعارضا قدم الواجب، وأما إذا كان يمكن الجمع بينهما فالجمع أولى، وذلك مثل من يأتي للعمل في السعودية أو في دولة عربية، وأمه ليست راضية، فهنا لا بد من النظر في حجتها، فإن كانت الأم تحتاج لكبر سنها وغياب العائل لها إلى خدمة هذا الابن بذاته ولا غنى لها عنه، ولا يمكن أن يؤدي الخادم ما يؤديه الولد فحينئذ لها الحق في منعه من السفر، حتى ولو كان يريد أن يحج نافلة، ولو قالت له: صل الفرض مع الإمام ولا تصل النافلة حتى تأتيني مسرعاً فيأثم إن صلى النافلة؛ لمزيد حاجتها إليه، فإذا منعته الأم من حج الفريضة فلا عبرة بهذا المنع إذا كان عندها من يقوم بخدمتها وإن كان على ضعف، حتى يؤدي الولد ما قد أوجبه وفرضه الله عز وجل عليه.
وأما النوافل فللوالدين منع الولد منها إذا كانت حاجتهما إلى الولد متعلقة بشخصه، وأما إذا كانت حاجتهما متعلقة بالنفقة عليهما وبرهما من جهة الوصل ولو بالهاتف فليس للوالدين المنع، فإن منعاه فلا حرج على الولد حينئذ إن أدى ما عليه من واجب النفقة والصلة وتركهما لتكسب معاشه هنا أو هناك.
وهذا يمكن تطبيقه حتى في هذا العصر الذي نعيشه.
ولما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولده عبد الله أن يطلق امرأته الجميلة التي صرفته عن مجلس العلم في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه خشي أن يفتن ولده بهذه المرأة شكا ذلك عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أطع أباك)، يعني: طلقها؛ لأنها مصلحة راجحة، مخافة الفتنة.
ولما أتى رجل إلى أحمد بن حنبل رحمه الله وقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي ويحتج بحادثة عمر ، فقال: أطع أباك إن كان مثل عمر ، يعني: إذا كان له غرض شرعي كما كان لـعمر غرض شرعي فإنه يجب عليك طاعته؛ لأن طاعة الوالد من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والآن -تقريباً- لا يوجد أب إلا وهو يريد أن يأمر ولده بطلاق امرأته، ولا أم كذلك إلا وتريد من ولدها أن يطلق زوجته، فتقول لها: ما السبب؟ تقول: لأنها واضعة على رأسها خيمة -أي: الحجاب- تقول: حتى إذا ذهب إليه أخوه تدخله امرأته.
ومع أن هذه مسألة شرعية، وجاء فيها الدليل من الله تبارك وتعالى إلا أنهم يقولون: لا، عادة بلدنا غير هذا، والعياذ بالله.
واليوم عادات الناس خربت البيوت، ثم يقولون: إن ابنهم من يوم أن جاء إلى مصر وترك بلدهم فسد تماماً، فلم يعد يعرف أهله وقد تبرأ منهم، فالمتمسك بدينه في هذا الزمان متبرئ من أهله، هذا هو فهمهم.
وبعض الشباب طائع لأهله حتى في الباطل، فهو يقول: أمي أمرتني أن أطلق، فلا بد أن أطلق، وقد تكون المرأة متمسكة بالدين في هذا الأمر، وهذا ليس من الدين، فعندما يقال لك جوراً وظلماً وعدواناً: طلق، فهذا الأمر ليس غرضاً شرعياً.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير- عن الأعمش عن أبي صالح -وهو السمان ذكوان- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران) قال: فحدثتها كعباً ، فقال كعب : ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مزهد ].
والمزهد: قليل المال، والمراد بهذا الكلام: أن العبد إذا أدى حق الله تعالى وحق مواليه فليس عليه حساب؛ لكثرة أجره، وعدم معصيته؛ وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف، يعني: علم ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أنه اجتهد فيه وعلم أنه ليس عليه حساب؛ لأن من رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:8-9].
قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعِمَّا للملوك أن يُتوفى المملوك -يعني: هنيئاً له ونعمة يتلوها نعمة- وهو يحسن عبادة الله وصحابة سيده -والصحابة هي الصحبة- نعِمَّا له، نعِمَّا له) ]، يعني: هنيئاً ونعمة وقرة عين أن يموت العبد وقد أدى حق الله وحق سيده.
والعبد يمكن أن يجتمع فيه عدة أسياد أو شركاء، ويمكن أن يكون سلماً لرجل، أي: ليس له فيه شريك، فإذا قام أحد الشركاء بإعتاق نصيبه في هذا العبد فيكون بعض العبد حراً، والبعض الآخر رقيقاً، فيقوم العبد، فإذا كان في مقدور من أعتق شركه أن يعتق الباقي من ماله فيجب عليه ذلك؛ حتى لا يتضرر العبد ولا بقية الشركاء.
وإذا لم يكن صاحب مال فيكون قد أعتق حصته فقط، ويكون الثلاثة الباقون شركاء في ثلاثة أرباع العبد، يعني: بعد أن كان هذا العبد مكلفاً بخدمة أربعة يكلف الآن بخدمة ثلاثة.
قال: [ حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له من مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه -وهذا شرط- فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق) ]، يعني: نصيبه فقط.
وفي رواية ابن عمر : (من أعتق نصيباً له في عبد فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته قوم عليه قيمة عدل، وإلا فقد عتق منه ما عتق).
وفي رواية قال عبد الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق عبداً بينه وبين آخر -أي: في شركة بينه وبين آخر- قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا وشطط -والوكس: البخس والنقص والشطط: الزيادة والجور- ثم عتق عليه في ماله إن كان موسراً) ]، ودائماً الشركاء يدور أمرهم بين الوكس والشطط. فمثلاً: إذا كان اثنان أصحاب محل، أو كانا وارثين ولهما أخت ففي الغالب يأخذ الولدان الميراث، ويزعمان أنهما استرضيا الأخت الوارثة، وأن البنت لا أصول لها، يعني: أن البيت ليس لها نصيب فيه، والأرض ليس لها نصيب فيها، ويقولان: نعطيها قرشين وينتهي الأمر، فالبنات في هذا الزمان بالذات لا نصيب لهن في الميراث وهذا ظلم عظيم جداً.
والعجيب أن الرجال الذين يأخذون الميراث ويذهبون به دون البنات يبتلون بأخبث الأمراض في أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ويبتلون كذلك بالفشل في حياتهم وفي خاصة أنفسهم، ولا يعتبر أحد، ثم يموت ويأتي ولده فيكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه، ويأتي الحفيد ويكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه وجده، ولا يعتبر مع أنه ذاق السم الزعاف في خدمة والده وهو مريض وقعيد وطريح الفراش عشرات السنين، ويعلم أن هذا بسبب الظلم، وأنها عقوبة من السماء نزلت، ثم هو يأتيها، فإذا تمكن من الظلم ظلم، ومعظم البلاء الذي ينزل بالأمة بسبب الظلم؛ لأن العدل قامت على أساسه السماوات والأرض، فمن خالف ناموس الكون وميزانه الرباني الذي لأجله خلق الخلق فلا بد أن يبتليه الخالق سبحانه وتعالى.
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد عتق ما بقي في ماله -يعني: ألزم بإعتاق بقية العبد من ماله- إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) ]، أي: فلا يكلف ولا يلزم إلا بنصيبه؛ لأنه ليس صاحب مال.
وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: [(من أعتق شقيصاً من مملوك؛ فهو حر من ماله)]. والشقيص هو: الحظ والنصيب، فمن أعتق نصيبه في مملوك؛ فهذا المملوك حر من مال هذا الذي أعتق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أعتق شقيصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه)]، والمشقوق هو: المشدود، من الشدة، أي: لا نشق عليه، (استسعي العبد غير مشقوق عليه)، ويكون إما بطلب عتق العبد من بقية الشركاء، أو من الشريك الذي أعتق حظه، أو بالمكاتبة يقوم بها العبد. فإذا قوم مثلاً بألف دينار، والسيد الذي يملك نصفه قد أعتق نصيبه، وليس عنده مال ليعتق النصف الآخر، فإن كان صاحب مال فهو ضامن، وإن لم يكن صاحب مال استسعي العبد في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه؛ لأن الأصل أن العبد مال، وصاحب الحق في هذا العبد له حرية التصرف في نصيبه في العبد، والشريك الثاني له حق أخذ نصف ثمن العبد وهو يريده، فإذا كان الذي أعتق صاحب مال فيعتق كله، وإما أن يكاتب السيد الثاني هذا العبد على أن يعتقه بغير خدمة حتى يجمع له ثمن النصف الثاني، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه.
وهذه الصورة ظاهرة من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مشروعية بل وجوب العمل على نحو ما عمل النبي عليه الصلاة والسلام.
وبعض العلماء نازع في هذه الصورة، وقال: القرعة ليست جائزة، والحديث يرد عليهم، وكلامهم خطأ، وقالوا: إنما يعتق من كل عبد ثلثه؛ لأن العبيد الستة لو أعتقنا ثلث كل واحد لتم لنا في نهاية الأمر عتق الثلث، ولا نعتق اثنين ونجعل الأربعة عبيداً للورثة، وهذا سيدخلنا في دوامة أخرى، وهي إبطال تصرف صاحب المال الذي أوصى بعتق هؤلاء جميعاً، ولو كان ذلك صواباً لفعله النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما كونه قد عدل عن هذه الصورة وأعتق ثلث المال المتمثل في اثنين دون الستة فهذا يدل على أهمية هذا التصرف واستحبابه.
قال عمران بن حصين : [إن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم -وهذا يدل على استحباب القرعة- فأعتق اثنين وأرق أربعة -أي: جعلهم رقيقاً- وقال له قولاً شديداً) ]، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي أعتق الستة ومات قولاً شديداً، وهذا القول هو: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، يعني: لو أني علمت هذا قبل أن أصلي عليه صلاة الجنازة ما صليت عليه، وهذا يدل على الزجر الشديد جداً، وقوله: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، لا ينفي صلاة عامة الناس على أصحاب المعاصي وأصحاب الكبائر، وإنما يدل على أن الإمام له أن يتخلى عن الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ زجراً لأمثالهم ألا يقعوا فيما وقعوا فيه.
والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لـماعز الأسلمي بالجنة، ولكنه ما صلى عليه؛ زجراً لغيره أن يقترف ما اقترف ماعز رغم أنه تاب.
وصلى على الغامدية ، رغم أنها أتت ما قد أتى ماعز، ولكن المقام استدعى الصلاة هنا، واستدعى ترك الصلاة هناك، وربما كان هناك في المصلين على ماعز من ينزجر بترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أمثال هؤلاء الذين وقعوا في كبائر الذنوب.
فللإمام أن يمتنع من الصلاة على أصحاب الكبائر زجراً لأمثالهم، ولكن لا يحل لمجموع من كلفوا بالصلاة على هذا الميت أن يمتنعوا جميعاً، وإلا أثموا جميعاً؛ لأن الصلاة على الميت حتى وإن كان صاحب ذنب وصاحب كبيرة فرض كفاية، إذا فعله البعض سقط عن الباقين، ويستحب للإمام ولا يجب عليه، وإن صلى على صاحب كبيرة فلا حرج عليه، حتى وإن مات وهو مصر عليها ولم يتب لا حرج على الإمام أن يصلي عليه، ولكن ترك الإمام للصلاة عليه لا شك أنه من باب السنة، ومن باب الزجر.
وفي رواية: [(أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين)].
يقول: (في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيداً في مرض موته أو أوصى بعتقهم وكانوا أكثر من الثلث أقرع بينهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة.
وقال أبو حنيفة : القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، والحديث يرد عليه).
والمدبَّر: هو من أوصى سيده بعتقه في دبر حياته، فهو عبد ولكن سيده أوصى في مرض موته، أو لما غلب على ظنه أن الحياة به ستنتهي أن يعتق هذا العبد في دبر حياته، وهذا جائز عند الجمهور، والدليل على جواز بيع المدبَّر الآتي:
قال:[ حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر -أي: بشرط أن يكون ذلك في دبر حياته- لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ -وكان لا يزال الرجل صاحب المال حياً، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرض هذا العبد للبيع- فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه
أي: أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الثمانمائة درهم وأعطاها لصاحب هذا العبد الذي أعتقه عن دبر.
قال: [ قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: عبداً قبطياً مات عام أول ]، يعني: كان هذا العبد عبداً نصرانياً، والقبطي مصري، ولكن عند الإطلاق القبطي هو النصراني.
ولا بأس باتخاذ العبيد من النصارى واليهود، وقد كان أبو لؤلؤة المجوسي مجوسياً، ومن باب أولى يجوز اتخاذ العبيد من اليهود والنصارى. نسأل الله أن يمكننا من رقابهم رجالاً ونساءً.
وهذا الرجل الأنصاري اسمه أبو مذكور ، واسم الغلام المدبَّر يعقوب .
قال: [ وعن عمرو بن دينار قال جابر : (دبر رجل من الأنصار غلاماً له لم يكن له مال غيره، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال جابر : فاشتراه ابن النحام ]. والنحام لقب لـنعيم بن عبد الله ، وفي الحديث: (إني دخلت الجنة فوجدت نحمة لـنعيم) وقيل: (نحنحة)، واسم الصوت: نَحمة ونُحمة ونحنحة، هذا معنى النحام ، فلما أخبر نعيماً بذلك لقبه الصحابة بـالنحام ، أي: الذي كان يتنحم في الجنة وسمعه النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [عبداً قبطياً مات عام أول في إمارة ابن الزبير].
أما أبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين فقالوا: لا يجوز بيع المدبر، وإنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على سيده، وقد جاء في رواية للنسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقض به دينك).
يعني: هذا العبد المدبَّر لما باعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم أعطاها لسيده وقال: (اقض بها دينك).
وقالوا: وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دينه، وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه، لأنه لا يحل له أن يتصرف فيه كله، وإنما في ثلثه. وقال هذا القائل: وكذلك يردُّ تصرف من تصدق بكل ماله، وهذا ضعيف بل باطل، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظراً له، إذ لم يترك لنفسه مالاً، والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبَّر بكل حال ما لم يمت السيد، والله أعلم.
وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث.
يعني: لو كان معتقاً يعتق منه الثلث فقط، والتدبير محل إجماع بين أهل العلم، لا خلاف بينهم في ذلك، والتدبير يقع في أشياء كثيرة، وليس في العبد فقط، فبإمكانك أن تقول: هذه الدار وقف على الأيتام في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا تدبير في الدار، وبإمكانك أن تقول: هذا البستان وقف على الأرامل في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا التصرف جائز، وهو صورة من صور التدبير، أي: إيقاف نفاذ التصرف إلى بعد موت من أوقفه.
وفي هذا الحديث من الفوائد كذلك: نظر الإمام في مصالح رعيته، وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم، وإبطال ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.
وفيه جواز البيع فيمن يدبَّر، وهو مجمع عليه الآن، وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف نقلناه آنفاً، ولكن هذا الخلاف خلاف ضعيف، وليس عليه العمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.
الجواب: الإجماع على أن هذا الأمر على الاستحباب وليس على الوجوب.
الجواب: بإمكانك أن تنوي بنومك طاعة، ولكن إذا كنت أقسمت أن تلزم نفسك بعبادة معينة في وقت معين، كأن أقسمت أن تصلي إحدى عشرة ركعة في كل ليلة مثلاً، ثم عجزت عن الوفاء بهذا النذر في ليلة من الليالي أو في بعض الليالي فقد قال عليه الصلاة السلام: (كفارة النذر كفارة اليمين). فعليك أن تكفر عن هذا النذر الذي عجزت عنه بكفارة يمين.
الجواب: لا، ليس لك ذلك؛ لأنك إذا كنت ضعيفاً وهزيلاً في بدنك فإن الصوم يضرك، وهذا هو ظاهر السؤال، لا بأس أن تجمع بين ترك الصوم وطاعة أمك، وهو أولى بلا شك، وقديماً حدث مثل هذا بين عبد الله بن عمرو بن العاص وبين نبينا عليه الصلاة والسلام، فـعبد الله بن عمرو بن العاص كان من أعبد الصحابة على صغر سنه، وقد تزوج أول مرة وعمره اثنا عشر عاماً، وكان صواماً قواماً، تالياً لكتاب الله عز وجل، فكان يقرأ القرآن في كل يوم مرة، ويصلي طوال الليل ويصوم النهار، فلما تزوج امرأة من قريش تركها وأقبل على عبادة ربه في الليل، فلما أصبح أتاه أبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه فسأل امرأته عن حاله، فقالت: نعم العبد هو، يقوم الليل ويصوم النهار، ففهم ما تريد، فأخذ ولده عبد الله وذهب به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! هذا العبد فعل كذا وكذا، وهما في طريقهما إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: سودت وجهي أمام قريش وفعلت كذا وكذا، وشيء من هذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله! كيف تصوم؟ قال: أسرد الصوم -يعني: أصوم كل يوم- فقال: إنما يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر)، أي: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وتصور أن عبداً يصوم طوال السنة وطوال العمر، والنبي عليه الصلاة والسلام يحجمه في ثلاثة أيام، فقال: (يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، فقال: اجمع إلى هذا صيام الإثنين والخميس، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً -وهذا صيام نبي الله داود ، فسكت على مضض- ثم قال له: كيف تقرأ القرآن؟ قال: في كل يوم مرة -وكيف بمن يختمه مرة في العمر- فقال له: بل اقرأه في شهر، فقال: يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأه في كل شهر مرتين، قال: أطيق أكثر من ذلك -حتى قال له-: اقرأه في ثلاث، ومن قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -فسكت؛ لأنه حدد له الحد الأدنى- ثم قال له: كيف صلاتك؟ قال: أصلي الليل كله، فقال: بل صل بعضه ونم بعضه، فقال عبد الله بن عمرو: فلما كبر سني ورق عظمي وضعفت عما أمرني به النبي عليه الصلاة والسلام تمنيت أني ما رددت عليه أمره).
فالأخ لماذا ينذر أن يصوم أو يقوم أو يفعل طاعة معينة؟ والنذر كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل)، فإن كنت قادراً على طاعة فاعملها بغير نذر؛ لأن النذر لا تضمنه، وأنت ضعيف لا تقدر عليه، وإذا كنت قادراً اليوم فربما تعجز عنه غداً، فأنت ابن يومك، وابن طاعة يومك، فإذا قدرت على طاعة ما في وقت ما فافعلها بغير نذر، مثل الذي يقول: يا رب! لو نجحت ولدي فسأذبح شاة، ولماذا لا يذبح الشاة لله إذا نجح ولده من غير نذر، وهذه ألطف.
فهو في الصورة الأولى: يعامل الله بالحد الأدنى من العبودية، كأنه يقول: يا رب! إذا عملت لي فسأعمل لك، وإذا لم تعمل لي لن أعمل لك.
وأما الصورة الثانية: فإنه يقدمها طيبة بها نفسه، وفي الغالب فإن الناذر إذا أوفى الله له العطاء ضن وبخل، ودائماً أسئلة الناذرين تقول: يا شيخ! أنا كنت قلت: لو أن الله تعالى فعل لي كذا فسأذبح خروفاً فهل ينفع أن آتي بخمسة كيلو من الجزار؟ وأقول: لا ينفع ذلك؛ لأن العبرة كلها بإهراق الدم بنية العبادة والقربة وإطعام اللحم.
وآخر يقول: أنا نذرت أصوم كل إثنين وخميس طول عمري، ثم تأتي عليه أيام لا يقدر على صيام شهر رمضان لكبر سن أو ضعف أو علة أو أي شيء، فلماذا يكلف الإنسان نفسه بأشياء عافاه الله تعالى منها؟ ولماذا لا يجعل طاعته لله تعالى بغير شرط، وهذا بلا شك أولى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل).
الجواب: لو نواه في صدره ولم يتلفظ به لا يلزمه، فيشترط في النذر التلفظ.
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه بعد القيام، وكان غالب أمره الرفع بعد القيام، (كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الثالثة رفع يديه وكبر)، وقام فعل ماضي، (وكان يرفع يديه قبل القيام أحياناً). هكذا الرواية. وهذا يدل على استحباب الصورة الأولى، وجواز الصورة الثانية.
الجواب: هذه قضية نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، فإذا كان الشاب مثلاً تواقاً إلى النساء وما معه من مال لا يكفي إلا للحج أو الزواج فلا شك أن الزواج يقدم في حقه، ويكون غير مستطيع للحج، ولا حرج عليه حينئذ.
وأما إذا كان أمر النساء لا يعنيه في شيء، ولا يفكر فيه، ويطرحه خلف ظهره، ويقدر على أن يصبر بغير عنت فلا شك أن الحج هو الفريضة، وهو الواجب في حقه قبل الزواج.
الجواب: لا، وتوجيه السؤال بهذا النحو خطأ، وعلى أي حال فالمستحل للذنب وإن كان صغيراً بعد قيام الحجة عليه وإصراره على الحل يكفر.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
https://audio.islamweb.net