اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فهذا الباب الثالث من كتاب الأيمان والنذور: وهو باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه.
يعني: باب إذا أقسم المرء على شيء، ثم تبين له أن غير ما أقسم عليه هو الخير وهو المصلحة، فإنه يكفر عن يمينه، وأن يأتي الذي هو خير.
قوله: [ (فقال: والله لا أحملكم! -وهذا قسم- ثم قال: وما عندي ما أحملكم عليه) ]
أولاً: أقسم عليه الصلاة والسلام أنه لا يحملهم، ثم أخبر بعد ذلك عن نفسه أنه ليس عنده ما يحملهم عليه.
قوله: [ (قال -أي: أبو موسى الأشعري -: فلبثنا ما شاء الله، ثم أُتي بإبل) ] أي: ثم جاء صاحب إبل فدفع إبله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ (فأمر لنا بثلاث ذود) ] أي: أمر النبي عليه الصلاة والسلام للأشعريين بثلاثة أبعرة.
ثم قال: [ (غر الذرى) ] الغر: هو الأبيض اللاشية، والذرى من الذروة، وهي أعلى شيء، وهو في الإبل السنام، فكأنه قال: فزودني عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبعرة أسنمتها بيضاء.
قوله: [ (فلما انطلقنا قلنا -أي: فلما أخذنا هذه الأبعرة- أو قال بعضنا لبعض: لا يبارك الله لنا؛ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف ألا يحملنا، ثم حملنا -أي: بعد قسمه- قوله: فأتوه فأخبروه)] بما تحرجوا منه، أنه حلف أولاً ألا يحملهم، ثم هو بعد ذلك عليه الصلاة والسلام حملهم، فخشوا أن يكون هذا عن غفلة أو نسيان منه عليه الصلاة والسلام، وأنهم السبب في حنثه عليه الصلاة والسلام، فخشوا من ذلك ألا يبارك الله تعالى لهم في ذلك.
قال: [ (فأتوه فأخبروه؛ فقال: ما أنا حملتكم) ] أي: لست أنا الذي حملتكم من مالي، وإنما الذي حملكم هو الله عز وجل.
قوله: [ (فقال: ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير) ] يعني: لو فرض أن النبي عليه الصلاة والسلام حلف ألا يحملهم، ثم وجد عنده ومن ماله الخاص ما يحملهم عليه؛ فهذا لا يمنعه أن يأتي الذي هو خير، وأن يكفر عن يمينه، ثم يحملهم، ولكن الذي حملهم هو الله عز وجل.
فـأبو موسى الأشعري لما بان له بعد ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غضبان، خشي أن يكون هو الذي أغضب النبي عليه الصلاة والسلام؛ فأهمه وأغمه أمران:
الأول: منع النبي صلى الله عليه وسلم إياهم من الحمل.
الأمر الثاني: أن يكون قد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: [ (فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس !) ] يعني: بعدما رجع من عند النبي عليه الصلاة والسلام لم يلبث إلا وقتاً يسيراً، وسويعة هي تصغير ساعة، والساعة هي المدة من الزمان، لا الساعة المعلومة الآن بين أيدينا، فلبث وقتاً هو أقل من ساعة، يعني: وقتاً يسيراً جداً حتى سمع بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس ، يعني: تعال يا أبا موسى الأشعري !
قال: [ (فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك -أي: يطلبك- فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين) ] والقرينان هما بعيران أو جملان قرن كل منهما بالآخر، أو ربط كل منهما بحبل صاحبه، أو القرين: هو من تساوى مع قرينه في الرتبة والعمر، فيحمل قوله: (خذ هذين القرينين) على أنهما تقاربا في السن، وتقاربا كذلك في الجودة والعمل، أو في العطاء؛ أو لأنهما ربطا جميعاً.
في هذا الحديث ذكر ستة ذود، وفي الحديث الأول ثلاثة أبعرة، وسيأتي معنا أنهم خمسة أبعرة، ولا تنافي بين هذه الأعداد؛ لأنها إما أن تحمل على اختلاف الحوادث أو اختلاف المطالب، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم الثلاثة أولاً، ثم زاد لهم بعد ذلك.
قوله: [ (قال: خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين، لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد) ] أي: من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقوله: (ابتاعهن)، أي: اشتراهن النبي صلى الله عليه وسلم، هل اشتراهن من ماله الخاص أم من بيت مال المسلمين؟
هذه المسألة محل نزاع، والراجح فيها أنه عليه الصلاة والسلام اشترى هذه الأبعرة من بيت مال المسلمين.
ثم قال: [ (فانطلق بهن إلى أصحابك يا أبا موسى ، فقل: إن الله -أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحملكم على هؤلاء فاركبوهن، قال أبو موسى : فانطلقت إلى أصحابي بهن، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم، ومنعه في أول مرة، ثم إعطاءه لي بعد ذلك) أي: أراد أبو موسى الأشعري أن يبرئ ساحته أمام أصحابه، حتى لا يقول قائل: أتيتنا قبل سويعة وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعنا الحمل، ثم أنت الآن تأتينا بستة أبعرة، وتقول: إن رسول الله يحملكم عليها؛ فقال: والله لا أحملكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع منه أنه منعني أولاً، ثم أعطاني بعد ذلك.
ثم قال: (لا تظنوا أني حدثتكم شيئاً لم يقله) ] أي: حتى لا تسيئوا بي الظن، أو أن أحدكم تحدثه نفسه أني أتكلم من عند نفسي.
قوله: [ (فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق!) ] أي: أنت يا أبا موسى فينا صادق ومصدق.
قوله: [ (ولنفعلن ما أحببت) ] يعني: سيذهب بعضنا معك ليسمع؛ حتى ننفذ ما أحببت.
قوله: [ (فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء) ] أي: بنفس الكلام الذي حدثهم به أبو موسى آنفاً.
قال: [ (إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، فلبثنا ما شاء الله، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل -أي: فأتي للنبي عليه الصلاة والسلام بغنيمة من الإبل- فدعا بنا، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى -أي: بخمسة أبعرة بيض السنام- قال: فلما انطلقنا، قال بعضنا لبعض: أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه) ] يعني: أخذناه على غرة، فجعلناه يقع في الحنث بسبب يمينه الأول الذي أقسمه وحلف به ألا يحملنا، ثم بعد ذلك حملنا، [ (لا يبارك لنا!) ] أي: بسبب هذا نخشى ألا يبارك الله لنا، [ (فرجعنا إليه، فقلنا: يا رسول الله! إنا أتيناك نستحملك، وإنك حلفت ألا تحملنا، ثم حملتنا، أفنسيت؟! قال: إني والله إن شاء الله! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وتحللت عن يميني) ] أي: كنت منها في حل، ولا يكون الإنسان في حل من يمينه إلا إذا كفر عنه، أو عجز عجزاً مطلقاً عن الكفارة، بمعنى أنه فقير، لا رقبة عنده يعتقها، ولا مال عنده يكسو أو يطعم، وهو مريض عليل ليس عليه صيام؛ فحينئذ تسقط هذه الكفارة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ثم قال: [ (فانطلقوا؛ فإنما حملكم الله عز وجل) ] يعني: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه.
قال: [ وحدثنا ابن أبي عمر محمد بن يحيى العدني المكي ، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي عن زهدم الجرمي قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري ، فقرب إليه طعام فيه لحم دجاج.. فذكر نحو الحديث السابق.
وحدثني علي بن حجر السعدي وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـابن راهويه - وابن نمير -وهو محمد بن عبد الله بن نمير - عن إسماعيل بن علية - وعلية أمه، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي البصري - عن أيوب -هو ابن أبي تميمة السختياني كيسان - عن القاسم التميمي عن زهدم الجرمي .
وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان -هو ابن عيينة - عن أيوب عن أبي قلابة عن زهدم الجرمي .
وحدثني أبو بكر بن إسحاق حدثنا عفان بن مسلم -وهو الصفار البصري - حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة والقاسم عن زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى .. واقتصوا جميعاً الحديث بمعنى حديث حماد بن زيد] يعني: ذكروا معنى الحديث الذي جاء من طريق حماد بن زيد .
قال: [ وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا الصعق بن حزن -وهو الصعق بن حزن بن قيس البكري أبو عبد الله البصري الزاهد- حدثنا مطر الوراق -وهو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء السلمي الخراساني ، ولكنه تحول من خراسان فسكن البصرة، وحديثه في مرتبة الحسن، إلا في روايته عن عطاء خاصة فهو ضعيف- حدثنا زهدم الجرمي قال: دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج.. وساق الحديث بنحو حديثهم، وزاد فيه قال: [ (إني والله ما نسيتها) ] يعني: اليمين التي أقسمتها آنفاً أنا ما نسيتها، فأنا أحملكم الآن، فإما أن يكون حملهم من عند نفسه، وإما أن يكون حملهم من مال الله عز وجل، فإذا كان من مال الله فهو لم يحنث في يمينه؛ لأنه لم يحملهم، وإنما حملهم الله عز وجل، وإذا كان رزق بمال من خاصة نفسه فاشترى به أبعرة من سعد بن أبي وقاص ، ثم دفع الأبعرة إليهم فلا بأس بهذا العمل، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى التيمي حدثنا المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو السليل -وهو ضريب بن نقير كما ذكرنا- عن زهدم يحدثه عن أبي موسى قال: (كنا مشاة -أي: كنا نغزو على أقدامنا مشاة غير محمولين- فأتينا نبي الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) بنحو حديث جرير].
قال: [ (ثم بدا له فأكل -يعني: يبدو أنه كان جائعاً جداً، فرأى أن يأكل بعد أن أقسم- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها، وليكفر عن يمينه) ] أي: فليفعل ما قد حلف عليه آنفاً.
هنا قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها وليكفر عن يمينه).
وستأتي معنا رواية: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، والمعنى واحد، لكننا نستفيد حكماً آخر، وهو: جواز تقديم الكفارة على الحنث، وجواز تأخير الكفارة على الحنث، أما قبل اليمين فلا، (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه).
قال: [ وحدثني القاسم بن زكريا حدثنا خالد بن مخلد -وهو المعروف بـالقطواني - حدثني سليمان -يعني: ابن بلال المدني - حدثني سهيل -وهو ابن أبي صالح - بمعنى حديث مالك : (فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير)].
في هذا الباب الحديث الأول: حديث أبي موسى الأشعري .
والحديث الثاني: حديث أبي هريرة .
والحديث الثالث: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنهم أجمعين، قال: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأت التقوى، ما حنثت يميني)، يعني: لولا أني سمعته عليه الصلاة والسلام يقول هذا ما حنثت في يميني، ولأمضيت هذا اليمين، ولكني أرجع عنه وأكفر، وأعطيك الدرع والمغفر.
قال: [حدثني محمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن طريف البجلي واللفظ له، قالا: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى خيراً منها، فليكفرها، وليأت الذي هو خير).
وحدثنا محمد بن طريف حدثنا محمد بن فضيل عن الشيباني -هو أبو إسحاق الشيباني - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك] أي: يقول: (إذا حلف أحدكم على اليمين، فرأى خيراً منها؛ فليكفرها، وليأت الذي هو خير).
قال: [ حدثني محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري ، أول من تكلم بالجرح والتعديل في البصرة- قال: حدثنا سماك بن حرب قال: سمعت تميم بن طرفة قال: سمعت عدي بن حاتم : أن رجلاً سأله.. فذكر مثله، وزاد: ولك أربعمائة في عطائي ].
يعني: أن عدي بن حاتم الطائي رجل كريم، فتضايق حين سئل مائة درهم؛ لأن هذا الشيء لا يتناسب مع كرم الطائيين، وكبيرهم هو حاتم الطائي وهو المعني، فكيف تسألني مائة درهم؛ لذلك لا أعطيك؛ لأن هذا شيء تافه لا يتناسب معنا.
فالناس مراتب ودرجات، فأنت لو ذهبت إلى ملك من ملوك الدنيا مثلاً وقلت له: أقرضني عشرة جنيهات، أو مائة جنيه، فكأنك تسبه، لكن عندما تأتي إلى شخص من نفس مرتبتك، وتقول له: أقرضني عشرة جنيهات لأقرضك دون حرج، لكن أن يذهب شخص إلى بيت حاتم الطائي ويقول له: أعطني مائة درهم، كأنك قلت له: أعطني عشرة جنيهات، فـعدي قال له: أنا سأعطيك المائة التي طلبت وفوقها أربعمائة.
ولذلك من أبهة الملك ألا يرد الملك أو الزعيم أو الرئيس سائل مهما كان سؤله، إن سأل مالاً أعطاه الذي سأله وزيادة؛ ليس لأنه يريد أن يعطي، لكن لا يتناسب مع المكانة والمنزلة ألا يعطي، فيقال عنه: إنه ملك بخيل أو رئيس بخيل.
أما الآن فالرؤساء لا يصل إليهم السائل، حتى وإن الشعوب لم تعد تسأل، ولذلك كانت الشعوب في المائة الأولى تعلم قدر الملوك ومنزلتهم.
فقيل: إن أعرابياً دعي لتناول طعام عند ملك من الملوك، فأطعمه الملك على مائدته وأكل معه، فقال الملك والأعرابي يتناول الطعام: يا أعرابي! هذه شعرة في طعامك، فغضب الأعرابي غضباً شديداً، وقال: أتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في طعامي! فحينئذ شعر الملك بخطورة الأمر، فقال: استرها علي يا أعرابي ولك بها مائة بعير، قال: على أن تكون معجلة، فوافق الملك ودفع إليه مائة من بعير معجلة، على ألا يتكلم بها، لكن الأعرابي تكلم بها بعد وفاة الملك، وهو قد وفَّى بعض الشيء.
وقيل: إن أعرابياً ذهب إلى ملك من ملوك الدنيا، فقال له الملك: تتعشى معي، فقال: أنا شبعان، فقام إليه رجل وقال: إن طعام الملك ليس للشبع وإنما هو للشرف، أي: ليقال: إن الملك يأكل مع الأعراب أو البدو، ويقول البدوي: إني أكلت مع الملك، فليس كل دعوة توجه إليك قابلة للرد، كما أنه ليس كل مائدة منصوبة لم تدع إليها يحل لك أن تجلس عليها.
ومنها ما هو معلوم الآن الترشيح لمجلس النواب ومجلس الشعب، فضلاً عن مشروعية جواز الترشيح لدخول هذه المجالس التشريعية التي تشرع من دون الله عز وجل، وتبدل وتغير شريعة الله عز وجل في الأرض، وتحكم الناس بأهوائهم وآرائهم، أقول: هب أن هذا العمل مشروع فهل يجوز لأحد أن يبادر وأن يقاتل وأن يوالي وأن يعادي وأن يسارع إلى أخذ مكان في هذا المجلس؟
الجواب: لا؛ لأن هذا نوع من أنواع الولاية العامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، أي: أوكلك الله تعالى إليها، وأنت ضعيف وأنت عاجز، وأنت لا توفي؛ لأن الله تعالى يتخلى عنك حينئذ.
(وإن أعطيتها عن غير مسألة)، يعني: أرغمت عليها؛ فإن الله تبارك وتعالى يجعل لك العون والسداد والتوفيق؛ لأنك كلفت بها وأنت كاره؛ فحينئذ تنزل عليك معونة الله عز وجل.
والشاهد من الحديث: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير).
ثم قال: (وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين) يعني: لو حلفت مثلاً: ألا أدخل بيت فلان، فيجوز لي أن أكفر عن هذا اليمين قبل الدخول، ويجوز لي أن أؤخر الكفارة بعد الدخول، أما الكفارة قبل اليمين فعلى أي شيء تكون؟! لا تكون؛ لأنه لا يمين هنالك استلزم الحنث، حتى أكفر قبل الدخول، فأنت الآن جرى في ذهنك فقط ألا تدخل بيت فلان، أنت لم تتلفظ ولم تحلف أنك لا تدخل بيته، فعلى أي شيء تلزم الكفارة؟! لم يحصل يمين، كما أنه لم تحصل مخالفة؛ فحينئذ لا كفارة قبل اليمين، إنما الكفارة دائماً بعد اليمين؛ لأن الكفارة إنما هي كفارة الحنث في اليمين الذي وقع، لا الذي سيقع، وإنما في الذي وقع مني على الحقيقة، فحينئذ أكفر في حالين: إما أن أكفر قبل أن أفعل الخير، وإما إن أكفر بعد فعل الخير.
هناك شخص يقول: أنا مخاصم لأمي من أربعة أشهر وهي مستريحة وأنا كذلك، حلفت يميناً ألا أدخل بيتها نهائياً. نقول لهذا: كيف تخاصم أمك؟! لو كانت تلك المقاطعة لزوجتك لا تجوز، فما بالك بأمك، يعني: لو حلفت ألا تدخل بيت امرأتك أو بيت أهلها أظن أن هذا أمر منكر، والبر والصلة أن تحنث في يمينك، ويعد هذا من الطاعات، ومن نعم الله عليك، أما هذا المخاصم لأمه منذ أربعة أشهر، وكل واحد منهم مستريح، فأنا أخشى أن تستريح أيها المخاصم لأمك حتى تدخل القبر، فتحاسب على هذا، وتعلم أنها كانت من أعظم المصائب التي ابتليت بها، فكما أن بر الوالدين من أعظم الطاعات، فإن عصيانهما من أكبر الذنوب، وهذا معلوم، فالله تبارك وتعالى قرن طاعة الوالدين بطاعته، وقرن الإحسان إلى الوالدين بتوحيده، فكيف يعد المرء قطيعة أمه من النعم التي تستوجب حمد الله تبارك وتعالى عليها؟
هذه الأمور كلها معكوسة ومخلوطة، لا يمكن أن يجد هذا لا في اليهودية، ولا في النصرانية، لا يمكن أن يجد لهذا الكلام دليلاً أو برهاناً في شريعة نزلت من عند الله عز وجل قط، فضلاً أن يكون ذلك هو دين محمد عليه الصلاة والسلام الذي أتى به إلى الناس كلهم.
يعني: أنا حلفت ألا آكل طعامك، ثم رأيت بيني وبين نفسي أن آكل الطعام وهو البر والخير، فقلت: أكفر أولاً عن يميني ثم آكل.
فالعلماء اختلفوا، فقال بعضهم: المعروف أن التكفير يكون بعد الوقوع وبعد العمل؛ لأنه يكون قد حنث في يمينه، أما قبل العمل فلم يحصل حنث، والحقيقة أن هذا اجتهاد مع ورود النص؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، وفي رواية: (فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام بهذين النصين قد أجاز لنا الكفارة بعد اليمين وبعد الحنث وقبله فهما سواء، وتكون الكفارة حينئذ لمجرد أن المرء اعتقد أن الخير في غير ما حلف عليه، ولا يلزم من ذلك إتيانه الفعل المخالف لما حلف عليه، حتى تجب عليه كفارة اليمين.
قال: (واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث: فجوزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابياً، وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث) يعني: قالوا بجواز الكفارة قبل الحنث، ولكن بعد الحنث تكون مستحبة.
ثم قال: (واستثنى الشافعي التكفير بالصوم) يعني: الشافعي مع الجمهور في المذهب السابق، لكنه استثنى فقط إذا كانت الكفارة بالصوم، فما هي حجته؟ (فقال: لا يجوز الصيام قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها، كالصلاة، وصوم رمضان) يعني: أيجوز أنني أصوم رمضان في شعبان؟ لا يجوز، ولا يجزئ عني، وإذا دخل علي رمضان يجب علي أن أصوم، حتى وإن صمت شعبان كله بنية رمضان، هذا لا يصلح، وهي عبادة ساقطة من الأصل؛ لأنها في غير وقتها، فكذلك إذا كان المكفر ليمينه فقيراً لا يستطيع أن يطعم ولا أن يكسو ولا أن يعتق، فيتعين حينئذ عليه الصيام؛ فلذلك قال: إلا الصيام فلا يصح أن يكون قبل الحنث؛ لأن الحنث هو الوقت الذي يجب بعده الصيام.
ثم قال: (وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة)
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من العباس زكاة ماله معجلة عاماً أو عامين، وأخذها وأنفقها في سبيل الله.
فهذا دليل تعجيل الزكاة، فإذا كان عندك مال وجبت فيه زكاة فلا بأس قبل حلول الحول بعام كامل أن تدفع كل شهر مائة جنيه، إذا كانت هناك حالة تستدعي المساعدة، وهي من مصارف الزكاة؛ فلا بأس أن تدفع لها زكاة مالك عاماً أو عامين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، لا بأس بذلك أبداً، زكاة معجلة، أما التأخير فلا يجوز، بدليل أن الزكاة إنما تجب بشرطين: حولان الحول، وبلوغ النصاب، فلا يجوز تأخيرها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.
لقد كان الإمام البخاري أمة، وهذا دليل ساطع وبرهان بين على أن هذا الرجل كان مفتوحاً عليه من الله تعالى، فالإمام البخاري لما ذكر هذا الحديث بوب له بباب: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ، والمعلوم يقيناً عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، والله تعالى خلقنا وأعمالنا.
وهذه القضية كانت مثار جدال عظيم جداً فيما يتعلق بالفتنة التي مر بها الإمام أحمد مع الدولة العباسية، فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، هل كلام الله تعالى مخلوق أم غير مخلوق؟ قالت المعتزلة: كلام الله تعالى مخلوق، وقال أهل السنة والجماعة: كلام الله تعالى صفة من صفاته، لازمة لذاته، يتكلم بما شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، وكلام الله تعالى لما كان صفة من صفاته، فصفاته غير مخلوقة.
إذاً: فيكون كلامه غير مخلوق.
لكن العلماء بعد ذلك وقعوا في مسألة أخرى، وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟
لما عجزوا أن يجادلوا علماء أهل السنة فيما يتعلق بخلق القرآن، أثاروا الذعر في الأمة مسألة فرعية أخرى وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟
اللفظ مخلوق؛ لأن اللفظ هذا هو نطقك أنت، إذا تلوت آية من كتاب الله فإنما تخرج منك بحرف وصوت ولهاة وأضراس وأسنان ولسان يتكلم، فهذه الحركات التي تخرج مني الآن وتسمعون بها صوتي مخلوقة.
إذاً: هذه الحركات التي أفعلها الآن مخلوقة، تكلمت بالقرآن أو بغير القرآن، يعني: الآن لا أتكلم عن القرآن إنما أنا أتكلم عن طريقتي أنا كمخلوق في النطق، سواء نطقت بالقرآن أو بغير القرآن، فكل ما نعمل من خير وشر هو مخلوق لله عز وجل.
فالإمام البخاري بوب لهذا الحديث: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم)، قال: باب: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتته الإبل غنيمة دفعها إلى الأشعريين، فكون النبي عليه الصلاة والسلام تسلم الغنيمة، ثم دفع منها ستة أو خمسة أو ثلاثة أبعرة للأشعريين، فهذا العمل أو هذه الحركة التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام مخلوقة، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يملك ذلك؛ لأنها من أموال الغنائم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يحمل الأشعريين على الحقيقة، وما هو إلا عبارة عن أداة أخذت ثم أعطت، لكن المال في الحقيقة هو مال الله عز وجل.
إذاً: أراد الإمام البخاري بهذا الباب أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة كما قلنا.
قال النووي: (وقال الماوردي : معناه: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه.
قال عياض: ويجوز أن يكون أوحى الله تعالى إليه أن يحملهم، أو يكون المراد دخولهم في عموم من أمر الله تعالى بالقسم فيهم).
من العجيب أن شخصاً يقول: الدجاج حرام، هل هناك من يقول: إن الدجاج حرام؟! الإمام النووي في القرن السادس الهجري يقول: وفي هذا الحديث دليل على أن لحم الدجاج حلال، فأحياناً نأخذ أقوالاً لأهل العلم نظن أنها من البديهيات، ثم نفاجأ بأنها من الأمور اللازمة فعلاً لإزاحة الغمة عن الأمة، كيف؟
عندما أسمع أن هناك شيخاً في هذا الزمان يقول: إن الكلب حلال طاهر يجوز أكله، ولحم الدجاج الأبيض نجس لا يجوز أكله، ما دليله الذي يزعمه، يقول: إن هذه الفراخ البيضاء أو الدجاج الأبيض إنما يأكل طعاماً قد اختلط بالدم، والدم المسفوح دم نجس، وبالتالي فإن الدجاج الذي يأكل هذا الطعام الذي اختلط بالدم يكون نجساً، نقول: لا يمكن أن يكون هذا أبداً فقهاً؛ لأن الذي يقرأ كتب الفقه يعلم أن هذا ليس فقهاً، وإذا كان هذا فقهاً فكبر على الأمة كلها أربعاً، إذا كان هؤلاء هم الفقهاء المتصدرون فلا حياة للأمة بهذا الشكل أبداً.
وقد دعاني أحد الإخوة إلى غداء فقال: ماذا تريد أن تأكل؟
قلت: أنا أحب السمك.
قال: وأنا أحرمه.
فقلت: يقول النبي عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فهذا نص صريح لا يجوز لنا الاجتهاد معه، ثم وصلت بالنقاش معه على هذا.
فهذا كلام لا يستحق النقاش، لابد أن يترك من أول وهلة؛ لأنه كلام لا يتفق مع قرآن، ولا مع سنة، ولا مع أقوال أهل العلم، ولا مع العقلاء، لكن صار كلاماً يحتاج إلى نقاش، فمثل من يقول: الظهر ثلاث ركعات، أو مثل من ينظر إلى الشمس ويقول: قد انتهى اليوم، وهي ما زالت في رابعة النهار، فهذا الكلام لا يحتاج إلى نقاش، بل يحتاج إلى نعال، فإذا بهذا الأخ يقول: أنا يغلب على ظني تحريم السمك؛ ولذلك أنا لا آكله عند أحد، قلت له: ولم؟ قال: لأن السمك يأكل لحم الأموات الذين يغرقون في البحار.
لو قال هذا الكلام أمام أناس عوام لصدقوه، يقول: كم من طائرات تسقط في البحر؟ وكم من سفن تغرق في البحر؟ ولحم الإنسان حرام، والسمك يأكله، فالسمك بهذا يكون حراماً.
هذا الكلام لا يمكن أبداً أن يصدق، ولا يمكن أبداً أن يكون ديناً، فأرجو ألا تكون هذه شبهة، ومطلوب مني الرد عليها.
فقوله: (في هذا الحديث إباحة لحم الدجاج، وملاذ الأطعمة، ويقع اسم الدجاج على الذكور والإناث) يعني: أن هذا الدجاج حلال، وهذا فيه الرد على من يقول: إنه حرام، بحجة أن كل مصانع الصناعات الغذائية التي تصنع أغذية الطيور والحيوانات يضيفون نسبة (1%) من الدم الناشف المجفف المعالج على الطعام. أتتصورون أيها الإخوة أن التحريم متعلق بـ(1%)؟
أعطيكم مثالاً: لو أن راوياً روى مائة حديث، ولكنه خلط في حديث واحد، فهل نقبل المائة الحديث كلها ونعمل بها، أم نرد المائة حديث كلها؛ لأجل أنه خلط في حديث واحد غير معلوم لنا؟
نأخذ الكل، وهذا الكلام محل اتفاق، فلا أحد يخالف فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، معنى ذلك: أن الكثرة دائماً تغفر الإساءة، فأنت عندما تدخل بلاداً وتجد فيها شخصاً خبيثاً وبقية أهل القرية كلهم طيبين، لا يمكن أن تخرج أبداً من هذه القرية بحكم أن في هذه القرية واحداً منهم غير مرغوب فيه، فهذا ظلم في الحكم على الآخرين.
فالدجاج يأكل نسبة دم (1%) و(99%) من الغذاء حلال، من يقول: إن هذا الطعام حرام أكله، فضلاً أن نتاج هذا الطعام يحرم من باب أولى؟ ما يقول هذا إلا إنسان بالفعل قد فقد عقله، إنسان مخبول، فالبيضة حلال من باب أولى.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين)، وقد شرحنا هذا الحديث مراراً، حتى لا يقول أحد: هذا الطعام الذي يعد للدجاج الأبيض محل شبهة، نقول: لا، ليس شبهة، فنسبة (1%) لا تعد شبهة؛ لأنه لا يصح أبداً أن نجعل ديننا كله عبارة عن شبهات، نتوقف في كل شيء لأجل أن فيه شبهة، ولا أريد أن أعيد هذا الكلام؛ لأننا شرحنا هذا الحديث في أربع محاضرات، فيغني عن إعادته، فلا أريد أن أسمع شخصاً يقول: إن طعام الدجاج فيه شبهة لأجل (1%) من دم في وسط (99%) من طعام حلال، فلا خلاف على حله.
وقال الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، أي: شرع الله لكم تحليل الأيمان بعمل الكفارة، وجاء في الحديث: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك).
يقول سيد سابق رحمه الله: (أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه). يعني: أحياناً يكون حراماً، وأحياناً يكون مكروهاً، وأحياناً يكون واجباً، وأحياناً يكون مستحباً، وأحياناً يكون مندوباً، فذكر فيه الأحكام الشرعية الخمسة.
قال: (أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه تأكيد لما كلف الله تعالى به عباده) كالذي يقول: والله لأبرن والدي، فهو حلف على شيء واجب عليه ابتداء، أو يقول: والله لا أزني، والله لا أسرق؛ لأنه في هذه الأبواب ينطلق لا يلوي على شيء، تأتيه الفاجرة فيفجر بها، أو يتيسر له المال الحرام فيسرقه أو ينهبه، فهو بهذا اليمين أراد أن يربي نفسه، ولا سبيل له إلا اليمين؛ فقال: والله لا أسرق بعد ذلك، هذا يمين واجب، فهو يحلف على ترك محرم؛ فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه لو حنث فقد وقع في حرام آخر، وقع في الزنا والسرقة.
إذاً: الأول: أن يحلف على فعل الواجب وترك المحرم، فالحنث فيها من أعظم المعاصي في هذه الحالة؛ لأنه سيجمع بين معصيتين: التفريط في الواجب، وفعل المحرم، والوقوع في الحنث.
النوع الثاني: (أن يحلف على ترك واجب، يقول: والله لا أزور والدتي) هذا المثال واضح، وهو بلاء عام مستشر في المجتمع، لكن لو قال: والله لأضربن زوجتي، فإذا كان هناك موجب للضرب، وذلك بأن يكون قد تدرج معها في الإصلاح، حتى تعين في حقه لها الضرب لأجل الإصلاح؛ فحينئذ يجب عليه أن يضرب للإصلاح لا للانتقام، لكن إذا لم تأت زوجته بموجب الضرب، ولم تفعل فعلاً يستوجب ضربها، ثم هو يقول: والله لأضربنها؛ فهذا قد حلف على فعل محرم، فهذا يجب الحنث فيه؛ لأنه حلف على معصية، كما تجب الكفارة في ذلك.
الثالث: (أن يحلف على فعل مباح أو ترك هذا المباح؛ فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر).
الرابع: (أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه؛ فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه، وتجب الكفارة).
الخامس: (أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه فهذا طاعة لله تعالى، فيندب له الوفاء، ويكره الحنث.
أما قول الله عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، لغو اليمين أن يقول: لا والله، وبلى والله، فهذا كلام درجت عليه الألسنة دون أن تقصد حقيقة اليمين، فهذا لا كفارة فيه، ولا يأثم في لغو اليمين.
لقد تدرج الناس من الحلف بالله إلى الحلف بأشياء أخرى، تجد الشخص يحلف باستمرار: علي الطلاق إلا ما شربت معي الشاي، عليّ الطلاق إلا ما أكلت معي, امرأتي طالق إذا لم تأت معي، وكثير من التطليقات تقع بهذا، يقول الإمام الماوردي : مثل هذه المصطلحات وضعها الشارع لأداء مهمة معينة في حياة المكلفين، فلا يجوز التلاعب بها.
بخلاف اللفظ الضمني، لو قال لامرأته: اخرجي من بيتي، أو اغربي عن وجهي، أو الحقي بأهلك، فنقول له: ما هي نيتك في ذلك؟ لأن هذه اللفظة يجوز أن تكون للتهديد، ويجوز أن تكون لمجرد الزيارة؛ فقوله لها: الحقي بأهلك يعني: اذهبي لزيارتهم؛ لأنها لم تزرهم من مدة طويلة، ففي هذه الحالة لابد من سؤاله عن نيته، لكن لو كان اللفظ صريحاً، كأن يقول لها: أنت طالق، ففي هذه الحالة هذا طلاق واضح، سواء قصد أو لم يقصد، نوى إيقاع الطلاق أو لم ينو؛ لأنه صريح لا يحتاج إلى نية، فإذا قال: أنا لم أنو، نقول: لا تتلاعب بألفاظ الشرع؛ لأن الشارع قد وضع لفظ: (أنت طالق) لإيقاع الطلاق، فلا يجوز أن تستخدم هذا اللفظ في غير محله، وما أعد له في الشرع.
فمثلاً: أحد كبار القوم يفتي ويقول: من لم يخرج ثلاثة أيام في الشهر، أو أربعين يوماً في السنة، أو أربعة أشهر في العمر فهو كافر مرتد، هكذا قال، وهو من كبار القوم، فلما ناقشناه في ذلك، قال: أنا ما قلت، وهذا الكلام ملفق علي، فلما وجدنا الشريط الموجود فيه هذا الكلام، وسمعه بنفسه، أحرج، فأراد أن يخرج من هذا، وقال: معذرة، نحن معاشر الجماعة لنا معان خاصة لمصطلحات خاصة. نقول: هذا كلام لا يوافق شرعاً ولا لغة؛ لأن الشارع وضع كلمة (مرتد) لشيء معين، وكلمة (كافر) لشيء معين؛ فلا يجوز التلاعب بهذه المصطلحات التي لها مدلول صريح، فأنا عندما أقول: فلان هذا كافر مرتد، ماذا تفهم من ذلك؟ تفهم منه أنه خرج من الملة، فلا يجوز استخدام هذه المصطلحات في غير ما وضعت له لغة ولا شرعاً، أما أن تطلقها على الناس وبعد ذلك تقول: هذه مصطلحات خاصة، فبأي دليل صارت هذه المعاني خاصة؟ هذا هروب من المأزق فقط، لكن هب أننا سنسلم أن لها معاني معينة مخصوصة عندكم في الجماعة، فهذه الجماعة تتكون من أناس لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، ولا بالتكاليف الشرعية، بل ربما معظمهم لا يصلي ولا يصوم، وقد جمعتهم من المقاهي والطرقات.. وغير ذلك، ثم أنت تسمعهم وعلى الملأ في خطبة الجمعة هذا الكلام، فإنه قد يأتي إلي أنا ويسألني: هل خرجت يا شيخ؟! فأقول له: لا، فيقول: أنت كافر مرتد.
إذاً: هذه الجماعات ستتحول من صوفية إلى خوارج في المستقبل، أن تتكون لدى عامة الجماعة فكرة أن من ترك الخروج فهو مرتد وكافر.
قبل ذلك كنا نعاني من جماعة التكفير، ولا زلنا نعاني منهم بعض الشيء، لكن بحدود، وأنا أخشى في المستقبل أن نعاني من هذه الجماعة، جماعة الدعوة والتبليغ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
https://audio.islamweb.net