اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نحييكم ونحيي هذه الوجوه الطبية المتوضئة الطاهرة، ونعرب عن شدة شوقنا إليكم.
ودرج أهل العلم على أن يقدموا كتاب الأيمان على كتاب النذور في التصنيف، إلا أن الإمام مسلماً قدم كتاب النذور قبل الأيمان.
والأيمان: جمع يمين، واليمين تطلق على اليد اليمنى المقابلة لليد اليسرى.
وأما في الشرع: فتطلق على الأمر الذي يحلف عليه الحالف ويؤكد عليه عزمه.
وبين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ارتباط؛ لأن العرب كانت إذا أرادت أن تحلف على شيء أشارت باليمين إلى السماء؛ لتؤكد عزمها على صحة المحلوف عليه، فسمي الفعل باسم المصدر.
وقوله: (كتاب الأيمان) أي: الكتاب الذي يذكر فيه مسائل تتعلق بالأيمان.
ولو راجعت كتاب الأيمان أو كتاب النذور في أي كتاب من كتب الفقه خاصة الكتب الموسعة أو الموسوعات لوجدت زيادات عظيمة جداً وأدلة أخرى كثيرة من الكتاب والسنة لم ترد في الصحيحين أو في أحدهما.
ومرد ذلك إلى أن هذين الكتابين هما في الحديث لا في الفقه ابتداءً.
والأمر الثاني: أن كل واحد من أصحاب الصحيحين له شرط في الرواية في صحيحه، ولذلك فهو لا يدخل في صحيحه إلا ما كان على شرطه، ولذلك نجد أحاديث كثيرة جداً في النذر وأحكامه وكفارته وغير ذلك في سنن أبي داود أو في سنن الترمذي أو في مسند أحمد أو في موطأ مالك أو في غيرها ولا نجدها في الصحيحين؛ لأنها ليست على شرط البخاري ولا على شرط مسلم ، ولذلك لا تجدها في هذين الكتابين.
ولا يعني هذا أن البخاري قصر أو أن مسلماً قصر، بل إنما التزم كل واحد منهما أن يروي ما صح عنده على شرطه، والإمام مسلم اشترط ذلك صراحة في صحيحه، والبخاري علم أنه اشترط بالاستقراء؛ لأن البخاري عليه رحمة الله لم يقل: أنا شرطي في صحيحي كيت وكيت وكيت، وإنما علم أن له شرطاً أسد وأشد وأقوى من شرط مسلم باستقراء أهل العلم الذين أتوا من بعده.
والله تبارك وتعالى سمى نفسه بأسماء، وسماه كذلك رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله عز وجل- بأسماء، والله تعالى وصف نفسه بأوصاف هي لازمة لذاته، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله كذلك- بصفات كذلك، فيجوز للمسلم أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته. وقد شدد الحنابلة في النكير على من نادى الصفة كما لو قلت: يا علم الله! يا رحمة الله! يا فضل الله! يا لطف الله، وقال: إن هذا النداء شرك بالله عز وجل؛ لأنه نداء للصفة لا للموصوف، بخلاف ما لو قلت: وعزة الله، وجلال الله؛ فإن هذا قسم بالله بأحد أوصافه، فهذا جائز ومشروع، بخلاف الصورة الأولى، وهناك فرق كبير بين قولك: يا عزة الله، وبين قولك: يا عزيز، فأنت في قولك: يا عزيز تنادي الله عز وجل بأحد أسمائه، أما في الصورة الأولى فإنك تنادي الصفة دون الموصوف.
وكذلك صفة الاستواء كما في قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فالاستواء صفة لله عز وجل لا يحل لأحد أن يجحدها، ولكن القضية التي زلت فيها الأقدام اختلاف أهل البدع مع أهل السنة والجماعة في معنى الاستواء، فأهل البدع يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، وهذا تنقص لجلال الله عز وجل من حيث أرادوا تنزيهه؛ لأن الاستيلاء يستلزم المدافعة، فمعنى قولنا: فلان استولى على الشيء الفلاني بمعنى أنه استلبه وأخذه ممن كان في يده سابقاً. والعرش لم يكن لأحد قبل أن يستولي عليه الله عز وجل، ولم يكن هناك منازعة كتبت الغلبة لله عز وجل فيها، ولو نظرنا في لسان العرب -أي: في كلام العرب ولهجاتهم ولغاتهم- لما وجدنا أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وإنما هو بمعنى العلو والارتفاع، فيكون تقدير الآية: الرحمن على العرش علا وارتفع، وهذا الكلام فضلاً عن تأييده للأدلة الشرعية فإن العقول السليمة والفطر النقية تقبله، وهو صفة من صفات الله عز وجل.
بخلاف الأشاعرة والمعتزلة الذين قالوا بغير هذا القول، فقد قالوا: فوق العرش ملائكة كروبيون، ولا ندري إلى الآن ما معنى (كروبيون)، وفوق الملائكة (الكروبيون) الله عز وجل، وهو ينزل إلى السماء الدنيا، بل ينزل إلى الأرض، بل يدخل في جميع الأمكنة بذاته، هكذا يقولون، وهذا الكلام مخالف لعقيدة المسلمين.
وأما أهل السنة فيعتقدون أن الله تعالى مستو على العرش بذاته، وأنه تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله إذا انقضى ثلث الليل الآخر أو ثلثاه، وأن هذا لا يتنافى مع علوه واستوائه سبحانه وتعالى.
والبعض يقول: أنا لا أفهم كيف يكون الله عز وجل في السماء مستو على عرشه وهو في نفس التوقيت في الأرض، أو في السماء الدنيا، وهذه الشبهة إنما دخلت عليه لأنه قاس نزول الله تعالى بنزول الإنسان، ولا يجوز أن يتوهم المسلم أن صفات الله عز وجل كصفات أحد من خلقه، ولو انتفى عنا هذا التوهم، وأثبتنا لله تعالى ما أثبته لنفسه على المعنى اللائق به سبحانه لسلمت لنا كل صفة، وكل اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.
وكذلك الكلام الذي بين دفتي المصحف، فلا يجوز لأحد أن يقسم أو أن يحلف يميناً على كتاب الله على أنه مجرد كتاب، بل يقسم يميناً على كتاب الله أو على المصحف على أنه كلام الله عز وجل، وأنه صفة من صفاته سبحانه وتعالى.
وما في المصحف كلام الله عز وجل تكلمه بحرف وصوت، وأن الله تعالى لا يزال متكلماً، ولا يفنى كلامه ولا يبيد، فهو يتكلم حيث شاء ومتى شاء بما شاء، وكلامه لا ينتهي سبحانه وتعالى، فهذا الذي بين أيدينا من كلام الله عز وجل، أنزله رب العزة تبارك وتعالى ليصلح العباد والمعاد إلى قيام الساعة.
ويجوز للإنسان أن يحلف بالمصحف أو على المصحف؛ لأنه صفة من صفات الله عز وجل، وهو كلامه الذي تكلم به بحرف وصوت.
والإمام مسلم لم يضع تبويبات لأحاديثه التي أودعها في الصحيح، فلم يبوب كتاب الأيمان، ولا باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، خلاف الإمام البخاري ، فإنه هو الذي صنف الأبواب والكتب ووضع تراجم الأبواب في صحيحه، وأما صحيح مسلم فقد وضع أبوابه وكتبه كل من تعرض لشرحه، ولذلك تجد تبويبات الإمام النووي بخلاف تبويبات السيوطي ، وبخلاف تبويبات السخاوي ، وبخلاف تبويبات غيرهم، وقد شرح صحيح مسلم أكثر من مائة شارح، ولكل واحد منهم تبويبات تخصه باجتهاده، بخلاف الإمام البخاري فإنه هو الذي وضع تبويبات كتابه.
والإمام مسلم إنما سرد الأحاديث سرداً وراء بعضها، وقد قال في أول حديث حدثني فلان، ثم في الثاني والثالث: وحدثني فلان وحدثني فلان، وهكذا، ولذلك كان الأصل في أول هذا الكتاب وأول حديث في الباب أن يقول مسلم : حدثني فلان، لا وحدثني فلان؛ لأنه أول حديث في الكتاب وفي الباب، ولكن الإمام مسلماً زاد حرف الواو في قوله: وحدثني؛ لأنه معطوف على ما قبله، باعتبار أنه سرد الأحاديث كلها سرداً على نسق واحد، ولم يقسم هذا كتاب كذا، وهذا باب كذا، وإنما هذا التقسيم من صنع من شرح صحيحه.
قال: [عن يونس ]، وإذا روى ابن وهب عن يونس فـيونس هو يونس بن يزيد الأيلي ، ولو روى عن عمرو فهو عمرو بن الحارث المصري .
ثم وضع الإمام مسلم بعد يونس حرف ح، وهو اختصار لكلمة الحديث، كما لو أنك استشهدت بآية طويلة، فإنك تذكر طرف الآية الأول ثم تقول: الآية، يعني: كأنك أردت إكمال الآية، وإنما منعك من إكمال الآية علم المستمع لها، أو بمحل الشاهد فيها، فهو أراد بقوله هنا: ح، أي: الحديث بتمامه، أو أنها بمعنى اختصار الحديث، أو تحويل الإسناد، يعني: أن الإسناد إلى هنا سيتحول، ويبدأ إسناد جديد للإمام مسلم ، وبعد حرف الحاء لابد أنك تجد حرف الواو.
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى ]، والقائل وحدثني مسلم ، وليس يونس بن يزيد ، وإنما هو مسلم ليبدأ إسناداً جديداً، فكأن حرملة بن يحيى التجيبي متابع لـأبي الطاهر بن السرح ، وكأن مسلماً أراد أن يقول: حدثني أبو الطاهر وحرملة ، هذا التقدير، ولكنه لم يقل ذلك، لأن أبا الطاهر قال في الإسناد الأول: حدثنا ابن وهب ، وأما حرملة بن يحيى التجيبي فقال: أخبرنا ابن وهب ، ولا يزال أهل الحديث يفرقون بين أداة التحمل حدثنا، وأداة التحمل أخبرنا، وهما وإن كانت كل واحدة منهما تفيد السماع إلا أن إفادة السماع من حدثنا أقوى من أخبرنا، كما أن حدثنا تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة، بخلاف أخبرنا فإنها تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة وإجازة، فلما اختلف أسلوب التحمل ما كان يحل لـمسلم أن يجمع بينهما، فهو بإمكانه أن يقول: حدثني فلان وفلان، ولكنه ليس بإمكانه أن يتصرف في رواية أبي الطاهر ورواية حرملة ويقول: حدثني فلان وفلان؛ لأن أبا الطاهر قال: حدثنا ابن وهب ، وأما حرملة فقال: أخبرنا ابن وهب ، وكان بإمكانه أن يقول هذا، ولكن هذا الأمر يطول؛ ولذلك ساقه على هذا النسق.
و حرملة بن يحيى هو المعروف بـالتجيبي بكسر الجيم، وهو مصري، وكنيته أبو محمد ، نزيل دمياط.
قال: [ أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس ]. وفي الطريق الأول قال ابن وهب : عن يونس ، وفي الطريق الثاني قال: أخبرني يونس .
عن ابن شهاب ، وهو الإمام الكبير المعروف محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة ، مشهور بـالزهري أو ابن شهاب .
قال: [ عن سالم بن عبد الله عن أبيه ]، وسالم سيد من سادات التابعين وفقيه من فقهاء المدينة، وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فهو يروي هنا عن أبيه عن جده، وما أسعد الرجل وهو يقول: عن أبي عن جدي، يعني: السلالة كلها سلالة علم ورواية، وهذا مثل عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده، وهذه سلسلة مصرية؛ لأن الليث بن سعد إمام مصر كلها، وهو فخر المصريين في زمانه، وكان سيداً من سادات العلماء، وهو شيخ الإمام الشافعي ، وأحمد من باب أولى، فروى ولده شعيب عنه، وروى عبد الملك ولد عن أبيه، فـعبد الملك يروي عن أبيه شعيب عن جده الليث بن سعد ، وهذا شيء يفرح جداً، ولو أننا نظرنا إلى هذه النكتة فإنه ينبغي أن يحافظ كل منا على تربية ولده، خاصة في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وانتشر فيها الشر حتى كان كالأصل في البلاد والعباد، والذي ينجي ولده من هذه النار المؤججة في هذه البلاد وغيرها وفي هذا الزمان عموماً فكأنه أخرجه من بين فكي أسد.
وهذا الحديث له مناسبة، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في طريق مع ركب فتأخر عنهم، ثم أدركهم، وفيهم عمر يحلف بأبيه، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وهذا النهي موجه إلى الأمة لثلاثة أدلة:
الدليل الأول: عموم اللفظ، (إن الله ينهاكم)، وهو وإن كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى الصحابة الذين كانوا معه في هذه الفترة على جهة الخصوص إلا أنه يعم الأمة كلها.
والدليل الثاني: قول الأصوليين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: أن السبب الذي جعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا القول هو أنه سمع عمر يحلف بأبيه، فلم يقل له: يا عمر ! لا تحلف، وإنما قال: (إن الله ينهاكم)، أي ينهى عمر ومن مع عمر ، والأمة كلها من بعد عمر إلى قيام الساعة، فالعبرة بعموم اللفظ الوارد في القضية، وليس بالسبب الذي لأجله قيل هذا اللفظ.
الدليل الثالث: أن هذا قول من النبي عليه الصلاة والسلام، والأصل في القول أنه تشريع للأمة، خاصة إذا فهم هذا من ظاهر الخطاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم) يدل على هذا، أي: ينهاكم يا معشر المؤمنين! ويا معشر المؤمنات! أي: لا ينهى عمر فقط، وإنما ينهى عمر ومن معه من الأمة إلى قيام الساعة عن الحلف بالآباء.
وقد وردت روايات كثيرة جداً تنهى عن الحلف بالآباء، وعن الحلف باللات والعزى أو بالأصنام أو باليهودية والنصرانية، وعن قول القائل: أنا بريء من ملة الإسلام إن لم يكن كيت وكيت، وغير ذلك من الروايات التي أخذ منها أهل العلم عموم التحريم أو الكراهة، إلا إذا كان الحلف بالله وأسمائه وصفاته.
ووردت روايات تحض وتحث المسلم إذا أراد الحلف أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته، فضلاً أن عمل الأمة من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا على أن اليمين المنعقدة إنما هي إذا كانت بالله فرداً أو ثلاثاً، ومعنى: فرداً، يعني: أن يحلف بالله مرة واحدة، أو أن يحلف بالله ثلاثاً حتى يعقد اليمين عقداً، ويعلم خطورة الكذب فيه وأنه يمين غموس إذا كان كاذباً أو حنث في هذا اليمين.
قال: [ قال عمر -أي: لما سمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) ].
(فوالله)، لم يقل: وأبي، أو تربة جدي، أو وقبر الحسين ، أو غير ذلك، وإنما لما سمع النهي غيَّر يمينه وقال: [ (فوالله ما حلفت بها -أي: بآبائي- منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً)، يعني: لم يحلف قط بغير الله عز وجل بعد أن سمع النهي في ذلك، ولا أنه نقل يمين غيره، وهذا معنى: (ولا آثراً)، أي: لا يروي كلاماً عن الآخرين فيه يمين بغير الله.
وهذا يدل على شدة التزام الصحابة واتباعهم لأوامره عليه الصلاة والسلام، وانتهائهم عن نواهيه.
قال: [ وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي حدثني عقيل بن خالد ]، وعُقيل بالتصغير، وجده عَقيل ، فهو عُقيل بن خالد بن عَقيل الأموي ، سكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ثم استقر في مصر ومات بها، وإليه ينتهي هذا الإسناد ليبدأ إسناد جديد لـمسلم من أول الأمر.
قال: [ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ] وهو المعروف بـإسحاق بن راهويْه ، أو راهويَه .
قال: [ وعبد بن حميد ]، وعبد لقب، واسمه عبد الحميد ، وقيل: بل عبد اسم، لكن الراجح أن عبداً لقب، واسمه عبد الحميد .
[ قالا -أي: إسحاق وابن حميد- حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليماني، إمام اليمن- قال: أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري تحول من البصرة وسكن صنعاء في اليمن- كلاهما عن الزهري ] ، وهذا الضمير يعود على معمر وعُقيل بن خالد فكلاهما يروي عن الزهري .
[ بهذا الإسناد ]، قوله: بهذا الإسناد فيه إشارة إلى السند السابق، الذي هو الزهري عن سالم عن عبد الله عن أبيه عمر ، وكأنه أراد أن يقول هنا: كلاهما -أي: عُقيل ومعمر - عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب بهذا الحديث.
قال: [ غير أن في حديث عُقيل ].
فالمحدثون يعتبرون أن كل وجه أو كل طريق أو كل إسناد يروى به الحديث حديث قائم بذاته، ويقولون: قد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام عشرة ملايين حديث، وآخر يقول: لا، بل هي مليوني حديث، ونحن لا يوجد بين أيدينا أحاديث صحيحة بلغت مائة ألف، وإنما هذه الملايين باعتبار الطرق والأسانيد والأوجه التي يروى بها كل حديث على حدة، فهم لا ينظرون إلى المتن وإنما ينظرون إلى السند، بخلاف الفقهاء الذين ينظرون إلى المتن ولا ينظرون إلى الإسناد، فتعدد الأسانيد لا يلزم الفقهاء، كما أن المحدثين في الغالب لا ينظرون إلى المتن، ولست أعني بذلك أنهم لا يعتنون بنقد المتون والروايات، بل هذا عمل المحدثين، وإنما لا ينظرون إلى المتن من جهة عد الروايات، وغالب اعتمادهم على الأسانيد والطرق والأوجه.
فهنا يقول: [ غير أن في حديث عُقيل : (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها)، ولم يقل: (ذاكراً ولا آثراً) ].
وقوله: (وفي حديث عُقيل : ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها) لا يدل على أن عُقيلاً سمع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما التقدير: غير أن في حديث عُقيل عن الزهري عن سالم عن عبد الله عن عمر أنه قال: (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ولا تكلمت بها)، ولم يذكر عُقيل في طريقه قول عمر: (ذاكراً ولا آثراً).
قال: [ وعمرو الناقد وزهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قالوا -أي: هؤلاء الثلاثة، عمرو وأبو بكر وزهير- حدثنا سفيان بن عيينة -وهو الإمام الكبير أبو محمد- عن الزهري عن سالم عن أبيه ].
ولو جمعنا هذا الإسناد إلى الأسانيد السابقة فسيكون مفترق الطرق من بعد ابن شهاب؛ لأن ابن شهاب في كل الأسانيد التي مضت موجود، ففي الإسناد الأول يروي يونس عن الزهري ، وفي الإسناد الثاني يروي معمر وعُقيل عن الزهري ، وفي هذا الإسناد يروي سفيان بن عيينة عن الزهري ، فالرواة عن الزهري أربعة، وهذا الإسناد جعل الحديث عن ابن عمر ، وهذه نكتة لطيفة جداً، فلو أردنا أن نكشف عن هذا الحديث في تحفة الأشراف للإمام المزي الذي يذكر فيه أسانيد الكتب الستة لوجدناه في مسند عمر بن الخطاب ، وسنجد هذا الإسناد في مسند ولده عبد الله بن عمر ؛ لأن عبد الله بن عمر في الإسناد الأول قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا رواه عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الإسناد قال: عن سالم عن أبيه -عبد الله بن عمر-قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه). فجعله من كلام عبد الله بن عمر ، ومن مسانيده.
قال: [ بمثل رواية يونس ومعمر ]، أي: بمثل رواية يونس في الإسناد الأول، ورواية معمر في الإسناد الثاني، مع أن رواية معمر جاءت في إسناد واحد مع رواية عُقيل ، ولكنه ألف في هذه الرواية الثالثة بين الرواية الأولى والرواية الثانية.
قال: [ وحدثنا قتيبة بن سعيد -وهو الثقفي من ثقيف- حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد- وحدثنا محمد بن رمح واللفظ له]، وكلمة واللفظ له يدل على أن هذا ليس سياق قتيبة بن سعيد ، فالإمام مسلم له شيخان في هذا الحديث:
الأول: قتيبة ، والثاني: ابن رمح ، ولكنه لما قال بعد ابن رمح : واللفظ له، أي: هذا السياق هو من رواية ابن رمح لا من رواية قتيبة ، ولكنه ذكر قتيبة في هذا الموضع لأن روايته نحو رواية ابن رمح وليست مثلها تماماً، ولو كانت مثلها لم يكن لقوله (واللفظ له) معنى.
قال: [ أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله ]، ونافع هو المدني الفقيه، مولى عبد الله بن عمر ، الإمام الكبير.
قال: [ عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب -أي: في جماعة وفوج في طريق- وعمر يحلف بأبيه، فناداهم -ولم يقل: فناداه- رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله -أي: بالله أو بأسمائه وصفاته- أو ليصمت) ]، وفي رواية: (أو ليسكت). والمعنى واحد.
وأما قوله: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فهذه كلها توكيدات، فـ(ألا) من أساليب التوكيد، و(إنَّ) من أساليب التوكيد، وكون هذا التحريم أو النهي من الله عز وجل صورة من صور التوكيد.
وقال: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ولم يقل: احلفوا بالله، وقال: (فمن كان)، أي: فمن اضطر للحلف فليكن يمينه بأسماء الله وصفاته.
والأصل أن المسلم صادق في قوله وفي فعله وفيما أخبر عنه بغير أن يضطر إلى اليمين، ولكن الإنسان يضطر أحياناً إلى اليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو الصادق المصدوق- كان يحلف من غير أن يستحلف، والعلماء مجمعون على أن ذلك كان منه عليه الصلاة والسلام لبيان أهمية المحلوف عليه، أو لتنبيه المستمع لليمين إلى عظم الأمر الذي يقسم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كثرة الحلف مكروهة بلا شك.
وأحياناً يجب اليمين على المرء وجوباً شرعياً.
وبعض القضايا والجنايات والتهم يلزم فيها يمين، بل لا تبرأ ساحة المتهم إلا باليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، وهناك قضايا كثيرة جداً في الحدود والجنايات يقضى فيها باليمين، فلا يأتي شخص وهو في قفص الاتهام وواقف في المحكمة أمام القاضي ويقول: الأصل في اليمين الكراهة، وأنا لا يمكن أن أحلف باليمين، ولا يحل له ذلك، بل يجب عليه أن يقسم، ولو كانت براءته متعلقة باليمين فلم يحلف فاتهم فقتل أو أعدم أو سجن أو غير ذلك فإنه يأثم بذلك، ولو قتل لعُد منتحراً.
وبعض الناس يتهم بسرقة بعض المال أو المتاع، ولا يكون مع القرائن والبينات محل اتهام إلا هو، فيأتي به صاحب الشيء المسروق ويقول له: يا فلان! قامت القرائن على أنك سارق هذا المال، وهذا عندنا ظن، وينتفي هذا الظن بيمينك، وإلا اضطررنا إلى الكلام على أنك السارق، فيقول: أنا لا أحلف على أشياء تافهة مثل هذه، وهذا الكلام لا ينفع؛ لأن هذا دين، ولو كان ديناراً واحداً، فإن اتهمت ذمتك به فإنه يلزمك على ذلك اليمين لتبرئة ساحتك، وعدم إطلاق الناس ألسنتهم في عرضك، فحتى لو دفعت لهم ألف جنيه أو ألفين والمسروق جنيهاً واحداً فلن يسلم عرضك من ألسنتهم، ولذلك يقال: من كان سبباً في اتهام الناس له فلا يلومن إلا نفسه، وجاء الشرع بحث المسلم على أن يبتعد عن مواطن الشبهات، حتى لو كانت الشبهة ليست مما يقطع بحرمتها، فالأصل في المسلم أن يبرئ دينه وعرضه من الوقيعة فيه، ومن ألسنة الناس أن تنطلق حداداً في عرضه.
وقوله: (فمن كان حالفاً) يعني: فمن اضطر إلى الحلف، أو من أراد أن يحلف، وهذا يدل على أن الأصل عدم الحلف، ولكن إذا اضطر إلى الحلف فليكن يمينه بالله عز وجل.
والرجل منا الآن يقسم أيماناً مغلظة بالله وأسمائه التسعة والتسعين، ولو أنه علم من أسماء الله تعالى أكثر من ذلك لأقسم بها وكلها أيمان كاذبة، وهو يعرف أنه كاذب، ثم إذا امتحن في عزيز لديه قال: لا أقسم، وهذا كلام عظيم جداً في أن يتهاون المرء في أن يقسم بالله، يعني: إذا طلب منه اليمين كأنه يقول: جاء الفرج، وهذا مثل شخص تقول له: تحلف يميناً أنك لم تسرق؟ فيقول: نعم أحلف ألف يمين، فإذا قيل له: لا داعي أن تحلف، بل قل: امرأتي طالق إن كنت سرقت، فيقول لك: لا، لقد طلقت قبل ذلك مرتين، ويجعل الله تعالى أهون من فقدانه لامرأته، وهذا بلاء عظيم جداً، والأصل أن يفضل المرء أن يقطع إرباً ويرمى في النار ولا يقسم بالله العظيم كذباً إلا في مواطن أجازها الشرع للضرورات القصوى وستأتي معنا.
والطريق الأول لهذا الحديث انتهى إلى عبد الله بن نمير ، فـمحمد يروي عن أبيه عبد الله بن نمير ، فالإسناد الأول انتهى عند عبد الله بن نمير والإسناد الثاني انتهى عند عبيد الله.
قال: [ وحدثني بشر بن هلال -وهو أبو محمد الصواف النميري- قال: حدثنا عبد الوارث -وهو ابن سعيد بن ذكوان البصري- حدثنا أيوب ]، وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الجليل.
وهنا ينتهي هذا الإسناد، فهؤلاء ثلاثة انتهى إليهم الإسناد، وهم عبد الله بن نمير ، وعبيد الله العمري ، وأيوب السختياني .
قال: [ وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني- حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة- عن الوليد بن كثير ] وهو المخزومي أبو محمد المدني ثم الكوفي، استقر في الكوفة، وهو إمام في المغازي، وهذا الرابع ممن ينتهي إليهم الإسناد.
قال: [ وحدثنا ابن أبي عمر ]، وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، أصله من عدن اليمن، انتقل من الجنوب إلى الشمال واستقر في مكة، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة .
قال: [ حدثنا سفيان ]، وإذا قال ابن أبي عمر : حدثنا سفيان فهو ابن عيينة ، وليس غيره؛ لأن سفيان بن عيينة مكي وابن أبي عمر عدني مكي، بخلاف سفيان الثوري فهو كوفي، وكان بعيداً عن لقاء ابن أبي عمر .
قال: [ عن إسماعيل بن أمية ]، وهو الأموي، وهذا الخامس ممن ينتهي إليهم الإسناد.
[ ح وحدثنا ابن رافع -وهو محمد بن رافع- حدثنا ابن أبي فديك ]، وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك المدني أبو إسماعيل- قال: أخبرنا الضحاك وابن أبي ذئب ]، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب .
[ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم ]، وهو عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد الخضرمي نسبة إلى قرية في اليمن تسمى خِضرم.
[ كل هؤلاء عن نافع ]، أي: هؤلاء الثمانية الذين عددناهم كلهم عن نافع .
[ عن ابن عمر بمثل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم ]، أي: قصة أن النبي عليه الصلاة والسلام لقي عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك.
وعندما آخذ روايات هذا الحديث الذي أمامي أقول إنه ثمانية أحاديث؛ لأن له ثمان طرق عن نافع عن ابن عمر.
[ قال يحيى -وهو يحيى بن يحيى النيسابوري -: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل ، وهو ابن جعفر ابن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ، والقارئ نسبة إلى القراءة والحرف في كتاب الله عز وجل، بخلاف القارِّي الذي هو عبد الرحمن القارِّي نسبة إلى قارة، وليس إلى القراءة.
قال: [ عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر ]، وعبد الله بن دينار هنا متابع لـنافع ، وليس متابعاً لـسالم ، فحديث سالم فيه ذكر عمر ، وأما حديث نافع هذا وحديث عبد الله بن دينار فلا يوجد فيهما ذكر عمر ، فـعبد الله بن دينار متابع لـنافع متابعة تامة. والمتابعة التامة هي: أن يشترك راويان في شيخ واحد. فهنا عبد الله بن دينار يروي عن عبد الله بن عمر ، ونافع يروي كذلك عن عبد الله بن عمر ، فشيخهما واحد، وهو عبد الله بن عمر.
قال: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) ]. فلو قال قائل: أنا سأحلف بأمي، أو بأختي، أو بقبر الحسين ؛ لأن هذه الأشياء لست بمنهي عنها، والنهي إنما ورد عن الحلف بالآباء فنقول: قد ورد النهي عن ذلك في حديث: (لا تحلفوا إلا بالله). وهذا يدل على أن جميع الأيمان بغير الله أيمان باطلة أو آثمة، يأثم صاحبها إذا تعمدها، ولا تنعقد يمينه، على خلاف بين أهل العلم في ذلك.
وقوله: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذه صيغة حصر وقصر، بما وإلا، وما وإلا عند البلاغيين من أساليب الحصر والقصر، كقوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ [آل عمران:144]، وكقولنا: (لا إله إلا الله)، فهذا حصر للألوهية في الله عز وجل، وحصر للرسالة في محمد عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ، فقوله هنا: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذا أسلوب حصر وقصر، فلا يجوز لك بحال أن تحلف إلا بالله.
[ وكانت قريش تحلف بآبائها]، أي: سبب هذا الحديث أن قريشاً كانت تحلف بآبائها. قال: [ فقال: (لا تحلفوا بآبائكم) ]. فعمم النهي، ثم أرشد إلى اليمين الجائز، وهو اليمين بالله عز وجل.
والحلف القصد منه التعظيم، والتعظيم لا يكون إلا لله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف يدل على تعظيم المحلوف به، فإذا حلف بغير الله فيجب عليه أن يرجع إلى الذي يستحق التعظيم ويترك ما دونه، فيقول: لا إله إلا الله، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا يدل على أن هذا كفر عملي أو شرك عملي، وليس هو الكفر المخرج من الملة، ولذلك لم يخرجه النبي عليه الصلاة والسلام من الملة، ولم يحكم بكفره وردته عن الإسلام، ويلزمه ما يلزم المرتد إذا أراد العودة إلى الإسلام، كما أنه لم يأمره بالكفارة كذلك، يعني: بكفارة عينية، وإنما أمره فقط أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا ليس من باب أن يدخل الإسلام من جديد، ولكن من باب رد التعظيم إلى الله عز وجل.
قال: [ حدثني أبو الطاهر -وهو أحمد عمرو بن السرح المصري- حدثنا ابن وهب عن يونس ]، وابن وهب هو عبد الله ، عن يونس بن يزيد الأيلي .
قال: [ وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ]، وهو الزهري المدني، ابن الصحابي المعروف.
قال: [ أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات) ].
وأحرف اليمين ثلاثة: الباء والواو والتاء، فالباء كأن تقول: بالله، والواو كأن تقول: والله، والتاء كأن تقول: تالله، وهذه الحروف الثلاثة تسبق المقسم به.
[ (فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)، وقوله: (تعال أقامرك) من القمار والميسر، مثل من يقول لآخر: تعال نلعب الشطرنج على عشرة جنيهات، فكأنه قال: تعال أقامرك، والقمار هو الميسر، فمن دعا صاحبه لأن يصنع معه ذلك وجب عليه أن يتصدق، واختلف أهل العلم بماذا يتصدق، فقال الإمام الخطابي : يتصدق بما قامر عليه.
ومذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يتصدق بأي شيء يصدق عليه الصدقة، ولو بشق تمرة؛ وذلك لما جاء في الرواية التي ستأتي بعد هذه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على مطلق الصدقة بجميع الأشياء قلت أم كثرت، صغرت أم كبرت، ويتصدق لو قالها مازحاً.
ورواية سويد بن سعيد عند مسلم ليست في الأصول، وإنما في المتابعات، وهذا أمر لا يعيب مسلماً قط، فإذا روى له مسلم فإنما روى له في المتابعات والشواهد، وأما في الأصول فلم يخرج له مسلم ، وأيضاً فإن مسلماً احترز مما نسب إليه من اختلاط ولم يرو له إلا ما كان قبل إصابته بالعمى وفقد البصر، وقبل أن يتلقن سويد بن سعيد ، فهو شيخ الإمام مسلم ، ومسلم أدرى به وبروايته.
[ حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ]، والوليد بن مسلم مدلس، وقد روى عن الأوزاعي بصيغة عن، والمدلس إذا قال: قال فلان أو عن فلان؛ كانوا يتوقفون في روايته، لكن مسلماً روى له مع هذه العلل في المتابعات، بدليل أنه ساق الرواية من طريق آخر.
[ كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد ]، أي: عن الزهري عن نافع عن ابن عمر .
[ وحديث معمر مثل حديث يونس ، غير أنه قال: (فليتصدق بشيء) ]، ولم يقل: (فليتصدق)، وإنما قال: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على أن الصدقة بأي شيء تجزئه حتى وإن كان قليلاً.
[ وفي حديث الأوزاعي : (من حلف باللات والعزى) ] وفي الإسناد الأول: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله)، والعلماء يقولون: حتى من حلف بالعزى قياساً على اللات، ولأنه منكر من القول وزور، فكل من أقسم بغير الله حتى وإن أقسم بنبي مرسل أو ملك مقرب يجب عليه الكفارة، وهي قول: لا إله إلا الله.
[ هذا الحرف ] يعني: قوله: تعال أقامرك فليتصدق ]، يقصد هذه الجملة وسماها حرفاً، وأحياناً يطلق الحرف على الحديث كله حتى وإن كان عدة صفحات، وهذا الكلام ليس بعيداً عن لسان العرب، والعرب تقول للجملة المفيدة: كلمة، والكلمة تطلق على الاسم والفعل والحرف، والعرب تستخدمها في الجملة المفيدة، وتستخدمها في الكلمة والمحاضرة الطويلة، وتستخدمها في الرسالة المرسلة إلى هنا أو هناك، وقد يقول شخص: ألقى أخي كلمة في ساعتين، وسماها مع ذلك كلمة، وهذا الكلام مقبول في لسان العرب.
[ لا يرويه أحد غير الزهري ، قال: وللزهري نحو من تسعين حديثاً ]، ولو قال: حرفاً لكان صادقاً.
[ يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد ]، وجياد جمع جيد، يعني: أنه انفرد برواية حوالي تسعين حديثاً في الصحيح، ومدارها عليه هو، أي: لم تأت هذه الأحاديث إلا من طريقه، وهذا يذكرنا بكلام أبي حاتم بن حبان عندما قال: إن الحديث العزيز هو الذي روي من طريقين ولو في طبقة واحدة من طبقاته.
ثم زاد وقال: وهذا شرط الصحيح. وهذا الكلام خطأ ومردود على ابن حبان ، بدليل: أن الزهري له في الصحيحين أكثر من تسعين حديثاً لم تأت إلا من طريقه هو، لا في الصحيح ولا في غيره، وهي من باب الغريب.
والعزيز هو: ما رواه اثنان ولو في طبقة واحدة من طبقات السند.
والمشهور هو: ما رواه ثلاثة ولو في طبقة واحدة من طبقات السند أو أكثر من ذلك ما لم يبلغ حد التواتر.
والمشهور والعزيز والغريب من أقسام الآحاد، وزاد الأحناف المستفيض، وقيل: المستفيض هو المشهور.
وهذا الكلام قد ذكرناه قبل هذا الدرس، ولا أريد أن أعيده، ولا أريد أن نكون مثل الأستاذ الذي كان يحفظ الأولاد جزء عم، حتى إذا وصل إلى سورة النبأ أتى واحد وجلس في الحلقة، فرأى الأستاذ أنه لأجل فلان لابد أن يعيد من الأول، وبهذه الطريقة يبقى الأولاد في جزء عم حتى يدركهم الموت؛ لأنه كلما وصل الأولاد إلى سورة النبأ يرجع الأستاذ من الأول لأجل الجديد، مع أنه لا يأتي إلا مرة واحدة، على سبيل الخطأ، ولو أتى واستمع قبل أن يجلس فلربما لا يجلس، لكن من أجل إكرام الضيف يبدأ من جديد، ويظل الأستاذ على هذه الحالة من الرجوع إلى الأول إلى ما لا نهاية.
وهذا منهج خاطئ في التربية وفي التعليم، فمن أجل أن تفهم لابد أن تدرس علم المصطلح دراسة أصولية منظمة، بحيث ترتق درجة درجة حتى تصل إلى الآحاد بأقسامه والمتواتر، وغير ذلك من مسائل المصطلح.
قال: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) ]. وهذا الحديث مثل الحديث السابق في النهي عن الحلف باللات والعزى، يعني: لا تحلفوا باللات ولا بالعزى ولا بالطواغي ولا بآبائكم، فكل هذه منهيات، والشاهد: أن كل ما دون أسماء الله عز وجل وصفاته منهي أن نحلف به.
قال أهل اللغة: الطواغي هي الأصنام، واحدها طاغية، بخلاف الطواغيت واحدها طاغوت، ومنه: هذه طاغية دوس، أي: صنمهم ومعبودهم، وسمي باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، وكل ما جاوز الحد يقال: طغى، كما في قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ [الحاقة:11]، أي: لما فاض وتجاوز الحد بالطغيان والثوران والسيلان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغيت)، وهو جمع طاغوت، وهو الصنم أو الشيطان، أو هو كل ما تجاوز الحد راضياً بذلك، فيقال له: طاغوت، ولذلك قال الله تعالى: واجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا [الزمر:17]. وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60].
قال هشام الكلبي : حدثني أبي أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة ولد له أولاد كثير، حتى ملئوا مكة وضاقت عليهم ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً وانتشروا في البلاد لطلب المعاش، وكان لا يذهب أحد إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حباً للبيت وصبابة به، ثم عبدوا ما استحسنوه ونسوا ما كانوا عليه من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستبدلوا به غيره، وعبدوا الأصنام، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم، ومع ذلك فيهم بقايا من شريعة إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة، إلى غير ذلك.
ثم يقول: أول من بدل دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي.
أي: لأنه أول صنم، فكان محل إعظام وتقدير وعبادة جميع العرب، وكان أشد الناس عبادة لهذا الصنم الأوس والخزرج في يثرب في المدينة المنورة، كما قال ابن هشام : كان الأوس والخزرج ومن جاورهم -يعني: العرب- من أهل يثرب وغيرها يحجون ويقفون المواقف كلها، لكنهم لا يحلقون رءوسهم إلا إذا نفروا نفروا إلى مناة فحلقوا عندها، وكانوا لا يرون لحج تماماً إلا بذلك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها، أي: فهدم هذا الصنم.
وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، أي: تعظم اللات، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، أي: دخل أهل الطائف في الإسلام، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة فهدمها بل حرقها بالنار.
وبعضهم يقول: اللات ليست حجارة، وإنما هو رجل كان يلت العجين والسويق للحجيج، وهذا على قراءة من قرأ: (اللاتَّ) بالتشديد، وهو اسم فاعل ممن يلت العجين لتاً ويصنعه خبزاً للقادمين في مواسم الحج والعمرة.
قالوا: وكان هذا رجلاً من العرب يلت السويق والعجين ويقدمه للحجيج، فلما مات صوروا له تصاوير، ثم عظموه، فلما تقادم العهد أتى الأحفاد ثم أحفادهم فعبدوا هذا الرجل.
وكانت بواد يسمى وادي نخلة، فوق ذات عرق، وذات عرق هي ميقات أهل العراق ومن مر بها من غير أهلها، وكانوا يسمعون منها الصوت، وقد قال أبو سفيان يوم أحد وهو يحارب النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مشركاً: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ردوا عليه، قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)، وهذا هو التوحيد في مقابلة الشرك.
وقد جاء من حديث ابن عباس عند النسائي وأبي يعلى والبيهقي في الدلائل وأبي نعيم من طريق أبي الطفيل قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة)، أي: إلى وادي نخلة، وكان في الجهة اليسرى، فأتاها خالد بن الوليد وكانت على ثلاث سمرات، يعني: على ثلاث شجرات، السمرة هي الشجرة، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره أنه قطع الأشجار الثلاث، فقال: ارجع فإنك لم تقطع شيئاً، أي: لم تقتل العزى بعد، فرجع خالد ، فلما نظرت إليه السدنة أمعنوا في الجبل، يعني: دخلوا في الجبل، وعلموا أنه أتى من عند من يأتيه خبر السماء، وأنه لم يقتل العزى بعد، فانطلقوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى! خبليه، وإلا فموتي رغم أنفك، يعني: إذا كنت إلهاً حقاً فخبليه، يعني: اجعليه مخبولاً مجنوناً، أو على الأقل اجرحيه، وشجيه، أو اكسري عظامه، وإلا فإن لم تكوني قادرة على ذلك فموتي رغم أنفك أو حتف أنفك، وتصور شخصاً يقول لإلهه هكذا، قال: فأتاها خالد ، فإذا امرأة عريانة سوداء ناشرة شعرها، واضعة ثدييها على كتفيها.
وتصور هذا الموقف، امرأة ضخمة سوداء لها ثدي يزن القناطير، أو له طول عظيم جداً بحيث أنه يوضع على الأكتاف، وهي منتفشة الشعر، وتحثو التراب على رأسها، فهذا منظر مرعب فعممها خالد بسيفه فقتلها، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: تلك العزى، يعني: قد قتلت العزى، وكان خالد يتصور أن العرب يعبدون العزى وهي شجرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليست العزى، إنما العزى امرأة خلف هذه الأشجار الثلاثة، وأنه قطع الأشجار ولم يقتل العزى التي هي إلههم المزعوم الباطل، فلما رجع خالد رأى هذا المنظر فعلم أنها العزى، فعمها بالسيف فقتلها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العزى.
وكان خالد بن الوليد يقول لها: يا عزى! كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك.
وقصة ثالثة الأثافي أنه كان الواحد منهم يذهب إلى هبل فيطوف به، وتلك عبادته في البيت الحرام، ويكون عنده ثلاثة أحجار اتخذها آلهة في بيته يعبدها، يضعها في كل مكان في البيت، يعبدها هو ومن دخل البيت، وكان هذا من إكرام الضيف وتحية الداخل، وكان إذا أراد أن يسافر يقرع بين هذه الآلهة في بيته، والذي تخرج عليه القرعة يأخذه معه؛ لأجل أنه إذا نزل من سفر يتمكن من عبادته، وكانت الأحجار من الأثافي، وهذا ثالثة الأثافي الذي وقفت عليه القرعة وأخذه معه، فمعنى المثل: أنك وقعت في بلوى عظيمة جداً كثالثة الأثافي.
وبعض الناس قد يسمي ابنه يساف، وفي الرواة من اسمه يساف ، مثل عبد الرحمن بن يساف ، ولغة هذيل التخفيف، والأصل فيه إساف، ولغة هذيل يبدلون الهمزة ياء، فيقولون: يساف، وهذه اللغة تسميها العرب لغة التسهيل أو التخفيف، فـإساف هو يساف، وكان رجلاً.
وكان إساف رجلاً، ونائلة كانت امرأة، وكلاهما من قبيلة جرهم، وكانا يتعشقان في أرض اليمن، فهما أصلهما يمنيان، وقبيلة جرهم كانت في جنوب اليمن، فكانا يحبان بعضهما، ويريدان الوقيعة، ولما كان هذا عيباً في قبيلة جرهم أتيا الحج بعيداً عن الأهل والجيران والأقربين وغير ذلك، فدخلا البيت، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ففجرا فيه.
وتصور أن رجلاً نفسه تطاوعه أن يفجر ويفحش داخل بيت الله الحرام، هذا لا يصح أن يكون إنساناً إلا في صورته، فمسخا حجرين بمجرد أن وقعت منهما الفاحشة، هذا حجر على صورة رجل، وهذه حجر على صورة أنثى، فأصبح الناس فوجدوهما ممسوخين، فأخرجوهما ووضعوهما عند الكعبة؛ ليتعظ الناس بهما؛ لأنهما فجرا في الكعبة، والكعبة لها حرمة، فوضعوهما في ذلك المكان ليتعظ الناس بهما، ثم مع تقادم الأجيال وذهاب جيل ومجيء آخر عبدوهما من دون الله عز وجل، فحسن الظن وحده لا يجدي ولا ينفع.
قال: فلما طال الزمان وعبدت الأصنام عبدا مع سائر الأصنام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، على عدد أيام السنة العربية، وقد اختلف أهل العلم هل كان الداخل يعبد كل هذه الأصنام، أم كل واحد داخل يعبد صنماً معيناً، أم صنماً واحداً يعبد في كل يوم ثم لا يعبد في بقية أيام السنة؟
فلما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً أتى الكعبة وكان يشير بعصاه إلى هذه الأصنام الثلاثمائة والستين، فإذا أشار إلى صنم بعصاه خر تراباً، فيفقد القوة والصلابة بمجرد إشارة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه قدرة إلهية من الله عز وجل.
قال: (وجعل يطعن بقوسه وجهها وعيونها ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81]). وهي تتساقط على رءوسها ثم أمر بها فأحرقت، أو فأخرجت من المسجد وطَهُر منها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري
https://audio.islamweb.net