إسلام ويب

العمرى من العقود المختلف فيها بين العلماء، فمنهم من جعلها عقد تمليك، ومنهم من جعلها عقد منفعة كالعارية، ومنهم من فصل فيها؛ فإن كانت غير مشروطة فهي للموهوبة له ولعقبه، ولا تعود إلى الواهب، وإن كانت مشروطة فالمسلمون على شروطهم، وهذا هو أرجح الأقوال.

باب العمرى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

هذا هو الباب الرابع من كتاب الهبات وهو: باب العمرى، والعمرى بالألف المقصورة لا بالتاء المربوطة.

شرح حديث: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها..)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري أبو زكريا، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) ].

يعني: من منح أخاه منحة، أو هبة، أو أي شيء بغير عوض؛ لأن العمرى هي عقد بغير عوض، وتسمى رقبى، وسنعرف السر في تسمية العمرى بالرقبى بعد قليل.

فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه) أي: هي له ولعقبه، أو أن الواهب المعمِر قال للمعمَر: هذه العمرى لك ولولدك من بعدك، أياً كان ولدك، الابن أو ابن الابن وإن نزل.

مثال العمرى كأن أقول لك: أعمرتك هذه الدار، أي: جعلت هذه الدار لك مدة عمرك، أو مدة عمري، فأينا مات أولاً ترد الدار إلى الثاني، ومن هنا سميت عمرى؛ لأنها متعلقة بالعمر، سواء كان هذا العمر هو عمر المعمِر أو المعمَر.

ويمكن أن تكون مقيدة، ويمكن أن تكون بغير قيد، كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار على أنك لو مت قبلي ردت إلي. وفي هذه الصورة نزاع بين أهل العلم: هل تصح العمرى ويبطل الشرط، أو أن العمرى باطلة من الأصل؟

فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه)، أي: أعطاه المعمِر هذه الدار مثلاً على اعتبار أنها تئول إلى أولاد المعَمر من بعده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنها للذي أعطيها)، أي: فإنها للمعمَر، (لا ترجع إلى الذي أعطاها)، أي: وهبها وأعمرها؛ والعلة: (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) أي: أن المعمِر أو الواهب أو المعطي أعطى للمعطَى أو للمعمَر أو للموهوب له هذه الدار، وانبنى عليها أنه لما مات المعَمر انتقلت إلى ورثته، ولذلك اختلف أهل العلم في العمرى، هل هي عقد تمليك أم لا؟

واتفقوا على أن المعمَر يملك منفعة العين، لكنهم اختلفوا هل يملك الرقبة أم لا؟ يعني: هل يملك أصل الشيء المعمَر أم لا؟

فذهب الجمهور إلى أن العمرى عقد تمليك لأصل الشيء ومنفعته، وإلا فكيف تنتقل الدار إلى الورثة فيرثونها من بعد المعمَر ولا تكون تمليكاً، ربما تنتقل الأذهان إلى عقود الإيجار التي لم تحدد بمدة، وهذه عقود باطلة من جهة الشرع، عقود الإيجار المعروفة بالمشاهرة عقود باطلة في الشرع؛ لأن عقود المنفعة التي بعوض أعظم شرط فيها التحديد، إلا عقود البيع فالبائع لا يحتاج إلى تحديد، إنما عقود المنفعة التي بعوض لا بد فيها من التحديد، إذا خلا عقد الإجارة عن شرط التحديد فهو عقد باطل.

إذاً: عقود إيجار الشقق والمحلات التي يؤجرها الناس مشاهرة. يعني: تبقى مدى العمر حتى يرثها الأبناء والأحفاد، هذه العقود باطلة، فمن كان بإمكانه أن يتخلص من مثل هذا ابتغاء مرضاة الله عز وجل فإنه من باب الطاعات والأعمال الصالحة.

شرح حديث: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها..)

قال: [ حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث بن سعد، (ح) وحدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر ولعقبه) ] يعني: بمجرد أن قال له: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ انقطعت صلته بهذه الدار، فلا يجوز له أن يرجع في ذلك قط.

فقوله: (من أعمر رجلاً)، أي: من أعطى رجلاً داراً، أو شيئاً، أو متاعاً، على سبيل العمرى له ولعقبه، (فقد قطع قوله حقه فيها)، أي: قوله للمعمَر: أعطيتك، أو أعمرتك هذا الشيء.

(وهي لمن أعمر ولعقبه)، أي: لأبنائه وأبناء أبنائه.

قال: [ غير أن يحيى قال في أول الحديث: (أيما رجل أعمر عمرى فهي له ولعقبه) ].

شرح حديث: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد...)

قال: [ حدثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي، أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني، أخبرنا ابن جريج

-وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي المشهور بـابن جريج - أخبرني ابن شهاب -وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة الزهري- عن العمرى وسنتها، فحدثني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، -أي فإنها لذلك المعطى ولعقبه حتى ينقطع نسله- وإنها لا ترجع إلى صاحبها -أي: الذي أعمرها-؛ من أجل أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) ].

مذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما والزهري في العمرى

قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد واللفظ له، قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول الرجل: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها) ] لأنه أجاز العمرى بشرط الحياة، وعند أهل اللغة: أن العمرى لا تسمى عمرى إلا إذا قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك؛ ولذلك العلماء يسمونها الرقبى، لأن كلاً من المعمَر والمعمِر يرقب وفاة صاحبه لتحقق الشرط، فلو قال الرجل لأخيه: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، وهذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية بشروط أتى الشرع فأبطلها، ولذلك لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة قام الأنصار رضي الله عنهم وأعمروا إخوانهم دوراً وحيطاناً، أي: بساتين وزروعاً ونخيلاً.. وغير ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! لا تفسدوا أموالكم -وفي رواية: لا تهلكوا أموالكم-؛ فإن من أعمر شيئاً فهي لمن أُعمر ولعقبه)، حتى لا تكون العمرى بين المهاجرين والأنصار سبب نزاع وشقاق في المستقبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! انظروا ما تصنعون؛ فإن من أعمر منكم لأحد من المهاجرين شيئاً فهي للمعمَر ولعقبه) لذلك وقع النزاع في العمرى هل تكون مدة حياة المعمر أو أنها تنتقل إلى الورثة؟ وهل العقد صحيح والشرط باطل بحيث تنتقل العين إلى ورثته؟

قال جابر : (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، وأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها)، يعني: لو قال له: هي لك ولعقبك؛ تنتقل إلى الورثة، أما إذا شرط وقال: هي لك ما عشتَ، أي: هي لك مدة بقائك وحياتك؛ فإذا مات المعمَر رجعت الدار إلى المعمِر، فهذه وقع النزاع فيها.

قال معمر: (وكان الإمام الزهري عليه رحمة الله يفتي به) وهو راوي الحديث، فضلاً عن جابر الذي روى هذا الحديث بعدة طرق عنه، فإن هذا هو الذي فهمه جابر من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أن الرجل يفرق بين لفظين:

فإذا قال: هذه عمرى لك، أو عمرى لك ولعقبك، فإنهما سواء؛ لأن العمرى عند الإطلاق تعني التمليك والانتقال عن طريق الميراث، إلا إذا اشترط واستثنى وقال: العمرى لك ما عشتَ، أو عمرى لك ما عشتُ، فيكون تعلقه بعمر المعمَر أو بعمر المعمِر، فأيهما مات أولاً انتقلت إلى الآخر، فإذا قال المعمِر للمعمَر: هذه الدار عمرى لك، أي: تعمرها وتسكنها، وتنتفع بها مدة بقائك وحياتك، فإذا متَّ انتقلت إلي، وإذا متُّ انتقلت لورثتي، فهذا الشرط محل اتفاق عند قوم، ومحل نظر عند آخرين.

شرح حديث: (أن رسول الله قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه قال: فهي له بتلة..)

قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا ابن أبي فديك -وهو محمد بن إسماعيل - عن ابن أبي ذئب -وهو محمد بن عبد الرحمن - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى -أي: حكم- فيمن أعمر عمرى له ولعقبه، فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا) ] قوله: (بتلة) أي: عطية ماضية غير راجعة إلى الواهب، والثنيا هي الاستثناء، يعني: لا يجوز له أن يشرط ولا أن يستثني.

لأنه أطلق أولاً، فقال: هذه عمرى لك ولعقبك، ولأن هذا هو مذهب جماهير العلماء، إذا قال: هي لك ولأولادك من بعدك، فأي شرط مع هذا اللفظ يبطل، وأي استثناء يبطل، فصيغة الكلام أولاً كأنه عقد بيع لكن بغير عوض، ونحن نعلم أن عقد البيع لا يجوز فيه شرط ولا استثناء، فلا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على أن تردها إلي بيعاً وشراء إذا أردت.

ولا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على ألا تسكنها أنت، لا يصح هذا الشرط.

واختلف أهل العلم في مثل هذا.

فبعضهم أبطل البيع أصلاً، وبعضهم صحح البيع وأبطل الشرط، والراجح أن البيع صحيح والشرط باطل لا يلزم به المشتري.

قال: [ قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه ].

الصورة الأولى: هي قول المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، هل يستوي قولك: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، مع قولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك من بعدك؟

لا يستويان.

الصورة الأولى: لا تفيد التمليك.

الصورة الثانية: تدل على التمليك.

فقولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ تفيد هذه الصورة ملك الرقبة؛ لأن المعلوم قطعاً أنه لا ينتقل بالميراث إلى الورثة إلا ما كان ملكاً للمورث.

أما إذا قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت مت انتقلت إلي، أو ردت إلي، هل يصح في مثل هذه الميراث؟

الجواب: لا يصح؛ لأنها عمرى مشروطة بعمر المعمَر، إذا انتهى عمره انتهت العمرى، وردت إلى صاحبها ومالكها الأول.

شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)

قال: [ حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا هشام -وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له).

وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام -وهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير ، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال بمثله.

وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير بن معاوية بن حديج ، حدثنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو خيثمة -هو زهير المتقدم- عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه) ].

يعني: أنه لما هاجر المهاجرون إلى المدينة وتركوا أرضهم وديارهم، أشفق عليهم الأنصار فأعمروهم أرضاً، وآثروهم على أنفسهم مع ما كان بهم من خصاصة، لكن كان الأمر في الجاهلية أن من أعمر شيئاً رده في أي وقت شاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العمرى إنما هي عقد هبة، ولا يجوز للواهب أن يرجع في هبته، والراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه، كما أن الذي يهب هبة ويرجع فيها ليس من مكارم الأخلاق، فلو أن رجلاً أعطى هدية لأهله، فلما تشاجرا طالبهم برد الهدية، فهذا في العرف من مساوئ الأخلاق، فكانوا في الجاهلية يتخلقون بهذا الخلق، فجاء الإسلام وبين أن العمرى من عقود الهبات التي هي بغير عوض, ولا يجوز لأحد أن يرجع فيها، كما أن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، وإنما ذلك من مساوئها.

فلما أعمر الأنصار المهاجرين ذلك، خشي النبي عليه الصلاة والسلام أن يتمثل الأنصار أخلاق الجاهلية، وأن يطالبوا المهاجرين بما وهبوهم إياه بعد مدة من الزمان، أو في أي وقت شاءوا؛ فقال: (مهلاً يا معشر الأنصار! فإن من أعمر عمرى -أي: لأخيه- فهي له حياً وميتاً، وإذا مات انتقلت إلى ورثته).

فلا بد أن تعلموا هذا، وهذا عند الإطلاق بغير قيد ولا شرط، يعني: إذا قال أحدهم لأخيه: أعمرتك هذه الدار؛ فلا بد أن يعلم أن هذه الدار سوف تنتقل إلى ورثة المعمَر، إلا إذا اشترط، وعلى المعمَر أن يقبل العمرى بشرطها أو بغير شرطها من أول الأمر.

شرح حديث: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي: أمسكوا عليكم أموالكم)

قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر العبدي ، حدثنا حجاج بن أبي عثمان، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم عن وكيع عن سفيان -وهو ابن عيينة ؛ لأن سفيان بن عيينة هو الذي يروي عنه وكيع بن الجراح - وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثني أبي عن جدي عن أيوب -وهو السختياني - كل هؤلاء عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي خيثمة المتقدم، وفي حديث أيوب من الزيادة قال: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمسكوا عليكم أموالكم) ] أي: لا تعمروها حتى يعلم الواحد منكم إذا أعمر شيئاً بشرط فله شرطه، وإذا أعمر بغير شرط؛ فليعلم أن هذه العمرى لا ترد إليه.

شرح حديث جابر في حكم العمرى غير المشروطة

قال: [حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور -وهو الكوسج البغدادي - قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: (أعمرت امرأة بالمدينة حائطاً لها ابناً لها، ثم توفي وتوفيت بعده، وتركت ولداً وله إخوة بنون للمعمِرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان -هو والي المدينة لـعبد الملك بن مروان بعد إمارة ابن الزبير - فدعا جابر -أي: دعا طارق جابر بن عبد الله ليشهد على هذه الحالة- فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر فقال عبد الملك : صدق جابر ، فأمضى ذلك طارق ، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم) ] يعني: للورثة حتى رواية هذا الأثر.

فهذه العمرى إنما أعمرتها المرأة أحد أولادها بغير قيد ولا شرط، فالذي يعمر بغير قيد ولا شرط ولا استثناء يحمل على الإطلاق، أي: أنها للمعمَر ولولده من بعده، وليس في هذا أدنى تعارض مع الميراث؛ لأن هذا من باب عقود الهبات التي لا يحل لأحد أن يرجع فيها، فربما أن تكون أعمرت هذه المرأة ولدها لعلة لحقته، أو لآفة، أو لحاجة، أو غير ذلك، وهذا على أية حال في مذهب الحنابلة جائز، أن يخص الوالد ولده أو المرأة ابنها بشيء دون بقية إخوته إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كأن يكون صغيراً وقد كبر إخوته، أو يكون مريضاً وإخوانه صحاح.. أو غير ذلك من العلل، حتى إن الإمام أحمد في فتوى له رجح ذلك، قال: إذا كبر الأولاد، وتزوجوا، وبنو دورهم من أموال آبائهم، وكان أحد الأبناء صغيراً قاصراً، فلابد أن نقدر له ما يساوي ما أعطي بقية إخوته، ثم يقسم الميراث بعد ذلك.

هذه فتوى رائعة جداً أفتى بها الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله.

قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لـأبي بكر، قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -وإذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو ؛ فهو عمرو بن دينار المكي لا غير- عن سليمان بن يسار : أن طارقاً قضى بالعمرى للوارث؛ لقول جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] يعني: قضى بأن تنتقل العمرى إلى الورثة.

شرح أحاديث: (العمرى جائزة، والعمرى ميراث لأهلها)

قال: [ وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر البصري، حدثنا شعبة بن الحجاج العتكي البصري، قال: سمعت قتادة يحدث عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة) ].

(جائزة) أي: ماضية، أو حلال ومشروعة، والمعاني كلها متقاربة.

قال: [ حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي ، حدثنا خالد -وهو ابن الحارث - حدثنا سعيد -هو سعيد بن أبي عروبة البصري - عن قتادة عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها) ] العمرى عند الإطلاق وعدم التقييد بأنها له ولعقبه، فلا شك أنها ميراث لعقبه.

قال: [ حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة).

وحدثنيه يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد عن قتادة بهذا الإسناد، غير أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها)، أو قال: (جائزة) ].

يعني: إما أنه قال: العمرى جائزة أو قال: العمرى ميراث لأهلها.

أحكام العمرى وأحوالها وصورها

قال العلماء في تعريف العمرى لغة: أعمرتك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو ما حييت، أو ما بقيت، أو ما يفيد هذا المعنى، وعقب الرجل: هم أولاده وما تناسلوا عنه، يعني: أبناؤه وأبناء أبنائه، وإن نزلوا.

أحسن مذهب هو مذهب الشافعية فيما يتعلق بالعمرى؛ لأن العمرى تختلف: منهم من منعها مطلقاً، ومنهم من أجازها مطلقاً وأبطل الشرط، فالشافعية أتوا بتفصيل رائع.

قال النووي: (قال الشافعية: العمرى ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا متَّ فهي لورثتك أو لعقبك؛ فتصح بلا خلاف) يعني: هذه العمرى صحيحة بلا خلاف بين أهل العلم، ويملك المعمَر بهذا اللفظ رقبة الدار، والرقبة هي الملك، والدار ليس لها رقبة، لكن الرقبة هنا تعبر عن أصل الشيء، فقولك: أعمرتك هذه الدار لبنيك، أي: لورثتك، هذا عقد تمليك بغير عوض؛ لأن العمرى من عقود الهبات، والعلة في كون العمرى بهذه الصورة عقد تمليك، أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، كما جاء في الحديث، (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)، ففي هذه الصورة وهذه الحالة العمرى جائزة بلا خلاف.

ثم قال: (ويملك بهذا اللفظ المعمَر رقبة الدار، وهي هبة، لكنها بعبارة طويلة).

فإذا أردنا أن نضع حداً وتعريفاً لهذه العمرى لعرفناها بألفاظ طويلة، والأصل في التعريف أنها قليلة المبنى، فلو قلنا: عقد البيع هو عقد ينتقل به الشيء إلى المشتري في مقابل عوض، فينتج عن هذا التعريف أشياء كثيرة جداً عندما نأتي لنشرحه، ومعظم التعاريف والحدود التي وضعها العلماء بعقد العمر ما هي إلا شرح لصور العمرى، وليس تعريفاً واحداً لها.

قال: (فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود إلى الواهب بحال خلافاً لـمالك ).

يعني: مالك هو الوحيد الذي أفتى بأن تعود إلى الواهب، أما جمهور أهل العلم فقالوا: لا تعود إليه بحال؛ لأنها خرجت من ذمته على سبيل الهبة، لا على سبيل المنفعة، فإذا مات هذا الرجل المعمَر؛ فقد ترك مالاً هو يملكه، ولا حق لمالك هذه الدار الأول فيها مطلقاً، فكيف تنتقل إليه وقد خرجت من ذمته هبة؟ يعني: تصور لو أنك أعطيت بعض مالك لرجل، وبمجرد أن وقع المال في يده فوضعه في جيبه خر ميتاً، هل يحل لك أن تأخذ هذا المال مرة أخرى؟ هذا المال قد خرج منك على سبيل الهبة، فإذا أخذته فكأنما رجعت تأكل قيئك مرة أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب بذلك أسوأ المثل بالكلب، ولا ينبغي لأحد أن يتشبه به.

قال: (الحال الثاني: أن يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ففي صحة هذا العقد قولان للشافعي ، أصحهما وهو الجديد: صحته، وله حكم الحال الأول).

يعني: مذهب الشافعي الجديد الذي صنفه في مصر وأفتى به في العراق: أن هذا العقد صحيح، وحكمه نفس أحكام الحال الأول، وساوى بين قول المعمِر: أعمرتك إياها، وبين قوله: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك، فلو قال وأطلق: أعمرتك الدار، فهو كما لو قال: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك.

قال: (والثاني وهو القديم: أنه باطل.

وقال بعض أصحابنا: إنما القول القديم أن الدار تكون للمعمَر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب أو ورثته؛ لأنه خصه بها حياته فقط.

وقال بعضهم: القديم أنها عارية يستردها الواهب متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته)، ذكرنا أن الرأي الأول هو الراجح في مذهب الشافعية.

ثم قال: الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا متَّ عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت) يعني: ما دمت حياً فهي لك اعمرها واسكنها مثلما تريد، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، وإذا مت أنا فتردها لورثتي.

ثم قال: (ففي صحته خلاف عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة: (العمرى جائزة) وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكاً تاماً، ويتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وهذا مذهبنا، وقال أحمد : تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة)، يعني: العمرى المشروطة بشرط غير صحيحة، إنما الصحيح منها المطلقة التي تنتقل إلى الورثة.

ثم قال النووي : (وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلاً، ولا يملك فيها رقبة الدار بحال، وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيدة ، حجة الشافعي وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة).

يعني: التي سبق ذكرها.

قال: (أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها).. إلى آخر الحديث، فالمراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبداً، فإذا علموا ذلك فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك؛ لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية ويرجع فيها، وهذا دليل للشافعي وموافقية على أن العمرى عقد تمليك).

فهذا هو اختصار شديد لكلام أهل العلم ومذاهبهم فيما يتعلق بالعمرى.

تعريف العمرى والعارية والرقبى والفرق بينها

العمرى لغة بضم العين وإسكان الميم: هي ما تجعله للرجل مدة عمرك أو عمره، وقال ثعلب وهو إمام من أئمة اللغة: العمرى: أن يدفع الرجل لأخيه داراً فيقول: هذه لك عمرك، أو عمري، أينا مات دفعت الدار إلى أهله، أي: إلى ورثته.

وعرفها الحنفية والحنابلة بأنها: جعل المال في شيء يملِّكه لشخص آخر عمر أحدهما.

وعرفها المالكية والشافعية بأنها: جعل المال في شيء يملكه لشخص آخر عمر هذا الشخص.

وهناك ألفاظ مرادفة للفظ العمرى، منها: الإعارة، فبعض أهل العلم سوى بين العارية وبين العمرى، فالإعارة تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض، كأن أقول لك: أعرتك هذا الذهب لتلبسه امرأتك، أو أعرتك هذا المسجل لتسمع به ثم ترده إلي.

والإعارة: هي عقد يقع على المنفعة بغير عوض، والفرق بين العمرى وبين العارية أن العمرى مقيدة بالعمر، بخلاف العارية.

وأما العريّة بغير ألف بعد العين، فهي أن يهب لك ثمر نخلة، أو ثمر شجرة دون أصلها؛ لتنتفع بثمرها، ولا علاقة لك بها.

أما المنيحة فليست في الشجر، ولا في النخل، إنما المنيحة في الدواب كالبقر، والغنم، والإبل، منحتك هذه الناقة لتحلبها وتأخذ لبنها ثم تردها إلي، أو البقرة، أو الشاة، أو المعز، والمنيحة إنما سميت منيحة لمنحك الممنوحة لبنها، والمنيحة خاصة بلبن الشاة أو البقر أو الغنم.. أو غير ذلك، ثم ترجعها إلى صاحبها.

ومن الألفاظ المرادفة للعمرى الرقبى، والرقبى في اللغة: مأخوذة من المراقبة، يقال: أرقبت زيداً الدار إرقاباً، والرقبى هي نفس العمرى، ولذلك الإمام البخاري في كتاب الهبات قال: باب العمرى والرقبى، فسوى بينهما.

وقال ابن عباس : العمرى والرقبى سواء. فهو يرى أن العمرى هي الرقبى، وسميت الرقبى بذلك لأن كل واحد من طرفيها يرقب موت صاحبه لتبقى له، يعني: أعمرك عمرى، ثم انتظر موتك؛ لأنه بعد الموت ترد إليه داره.

والرقبى في الاصطلاح عند جمهور الفقهاء: هي أن يقول الشخص: أرقبتك الدار مثلاً، أو هي لك رقبى مدة حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن متُّ قبلك فهي لك ولعقبك.

وقال المالكية: هي أن يقول الرجل للآخر: إن مت قبلي فدارك لي، وإن مت قبلك فداري لك.

ذهب الفقهاء في الجملة إلى جواز العمرى ومشروعيتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه).

ولقوله عليه الصلاة والسلام: (العمرى جائزة لأهلها).

والعمرى نوع من الهبة يفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات من الإيجاب والقبول والقبض، أو ما يقوم مقام ذلك.

إذاً: العمرى لابد فيها من إيجاب وقبول، وكذلك قبض، فلو قلت لك: أعمرتك هذه الدار، ولكني لازلت ساكناً فيها فلا تصح هذه العمرى؛ لأن الشرط فيها الانتقال والقبض، أو ما يقوم مقامه.

وقد اختلف الفقهاء في كون العمرى تمليك للعين ذاتها أو للمنفعة، فقال الجمهور عدا المالكية -يعني: الأحناف والشافعية والحنابلة-: هي تمليك عين في الحال؛ لما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبة)، وفي لفظ: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له)، لكن المالكية والليث بن سعد قالوا: إنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت إلى المعمِر؛ لما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت مكحولاً يسأل القاسم بن محمد عن العمرى: ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم : ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا)، يعني: الناس إذا اشترطوا ملك المنفعة فلهم ذلك، وإذا اشترطوا أنها له ولعقبه فلهم ذلك.

وقال أبو إسحاق الحربي عن ابن العربي : لم يختلف العرب في العمرى والرقبى والمنحة.. ونحوها، أنها على ملك أربابها) -أي: على ملك أصحابها الأول- ومنافعها لمن جعلت له.

وهذا الكلام مخالف لما قلناه؛ لأن مقصود ابن العربي أن عقود الهبات كلها على ملك صاحبها الأول، لكن هذا خلاف التمليك؛ لأن التمليك لا يتأقت، كما لو باعه إلى مدة، فإذا كان لا يتأقت حمل قوله: على تمليك المنافع؛ لأنه يصلح توقيته.

كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك أو أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، قال العلماء: الأقرب أنه عقد منفعة، وعقود المنفعة لا تمليك فيها.

فإذا كان التمليك لا يتأقت حمل قوله عليه الصلاة والسلام على تمليك المنافع، أي: له حق المنفعة له ولعقبه من بعده، وهذا يرتبط ارتباطاً شديداً جداً مع قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) وكافة أهل العلم على أن المواريث لا تقع على المنافع، إنما تقع على العين، فالذي يصح عندنا هو مذهب الشافعية، وهو الذي لهم فيه ثلاثة أراء، وقد سردناها.

وأما الحنابلة فلا يفرقون بين العمرى المقيدة أو المطلقة، حتى قال البهوتي : تصح الهبة في جميع ما تقدم، وهي أمثلة العمرى، وتكون العين الموهوبة للمعمَر ولورثته من بعده إن كانوا، فإن لم يكن له ورثة فلبيت المال كسائر الأموال المتخلفة. أي: التي لا وارث لها.

كلام الحافظ في الفتح عن العمرى وأحكامها

ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الهبات في الباب الثاني والثلاثين من الفتح: باب ما قيل في العمرى والرقبى، قال: أعمرته الدار، فهي عمرى، أي: جعلتها له، كما في قوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61]، أي: جعلكم عماراً، ثم ذكر حديث جابر : (قضى النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرى أنها لمن وهبت له)، وذكر حديث أبي هريرة : (العمرى جائزة)، وهو كذلك في حديث جابر .

ثم قال: والعمرى مأخوذة من العمر، والرقبى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول: أعمرتك إياها، أي: أبحتها لك مدة عمرك، فقيل لها: عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب صاحبه متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها، يعني: حتى الورثة يرقبون موت مورثهم، يعني: إما أنها سميت رقبى لأن كلاً من المعطي والآخذ ينتظر موت صاحبه، وكذلك الورثة ينتظرون ويرقبون موت مورثهم؛ حتى تنتقل إليهم هذه الدار.

وأما شرعاً: فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولم يخالف في ذلك غير مالك وقال: عقد منفعة، أما الجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك، لكنه إذا قال المعمر حين العقد للمعمَر: أعمرتك إياها مدة حياتك، فإذا متَّ ردت إليَّ، هذا شرط، والمؤمنون عند شروطهم، ما لم يحلوا حراماً أو يحرموا حلالاً.

ثم قال: (وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس، والماوردي عن داود الظاهري وطائفة، لكن ابن حزم الذي هو شيخ الظاهرية صحح عقد العمرى، ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، هل يتوجه إلى الرقبة أم إلى المنفعة؟

فالجمهور على أن العقد يتوجه إلى الرقبة، بخلاف المالكية فإنهم قالوا: يتوجه إلى المنفعة.

ثم ساق الأحاديث التي وردت في مشروعية العمرى، فقال بعد ذلك: فيحصل لنا من هذه الروايات ثلاثة أحوال:

الأولى: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه؛ فلا إشكال في ذلك.

الحالة الثانية: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَ رجعت إليَّ؛ فهذه عارية مؤقتة، وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري.

يعني: التي كان يفتي بها الإمام الزهري، وكذلك جابر بن عبد الله ، وبه قال أكثر العلماء ورجحه عامة الشافعية، والأصح عند أكثرهم أنها لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد، فكأنه كالشرط الملغي، لكن الأول هو الراجح.

الصورة الثالثة: أن يقول: أعمرتكها، ويسكت، لم يقل: ولعقبك، فرواية أبي الزبير تدل على أنها تأخذ حكم ما لو قال له: أعمرتك ولبنيك؛ لأنه إذا لم يشترط الرجوع إليه فكأن نيته انصرفت إلى التمليك المطلق.

إذاً: لدينا صورتان من صور العمرى كلاهما عقد تمليك، وصورة واحدة عقد ملك المنفعة.

الصورة الأولى: لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك الدار ولعقبك من بعدك؛ انتقلت هذه الدار بالميراث إلى الورثة؛ لأنها دخلت في ملك المعمَر.

الصورة الثانية: لو أطلق ولم يخير ولم يشرط؛ فتأخذ نفس الحكم.

أما الصورة الثالثة: لو قيد ذلك بالعمر: أعمرتك إياها مدة عمرك، أو مدة عمري؛ فأينا مات ردت إلى أهله، فالشرط هنا ينبغي اعتباره، وأن الأصل في هذه الصورة أنها تمليك للمنفعة لا تمليك للعين، وهي صحيحة عند الجمهور، وأبطلها بعضهم.

شروط صحة العمرى

شروط صحة العمرى ثلاثة:

الشرط الأول: الإيجاب.

الشرط الثاني: القبول، وهذان الشرطان في أي عقد من العقود: إيجاب، وقبول، الإيجاب: أعمرتك هذه الدار، والقبول: قبلت هذه العمرى، إيجاب من المعمِر، وقبول من المعمَر.

الشرط الثالث: القبض أو ما يقوم مقامه، فإذا كان الشيء مما ينقل؛ كالسيارة، في هذه الحالة سوف يكون هناك قبض مال، وانتقال مال، أما الدار فبالسكنى يكون القبض.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - العمرى للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net