إسلام ويب

الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يتم إيمان العبد حتى يأتي به، وقد أجمع العلماء على كفر منكره؛ لأن إنكاره يستلزم رمي الله عز وجل بالجهل. والإيمان بالقدر أنواع ومراتب، وقد أنكرت بعض الفرق بعض أنواعه، فبدعها العلماء وضللوها، وللإيمان بالقضاء والقدر فوائد كثيرة، تعود على العبد المؤمن بهما بالخير في الدنيا والآخرة.

مراتب القدر وعقيدة أهل السنة فيه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

[ عن يحيى بن يعمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، أي: يجمعون العلم ويحرصون عليه ويهتمون به- وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف ].

أي: أنهم يزعمون أنه لا شيء اسمه قدر، وأن الأمر أنف، وأن الله تعالى لا يعلمه إلا بعد وقوعه.

قال: [ فإذا لقيت أولئك فأخبرهم -وهذا قول عبد الله بن عمر - أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ].

وسنبين هنا ما هو القدر، وما هو الذي أنكره معبد الجهني حتى استلزم أن يكفره عبد الله بن عمر ويتبرأ منه.

ومراتب القدر أربع مراتب، المرتبة الأولى: العلم، والمرتبة الثانية: الكتابة، والمرتبة الثالثة: المشيئة، والمرتبة الرابعة: الخلق.

فأوائل القدرية نفوا المرتبتين الأوليين، العلم والكتابة.

وأول من قال بنفي القدر معبد الجهني ، فقد ادعى أن الله عز وجل لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وأنكر أن الله تعالى أمر بكتابة القدر، وهذا بدعة في الدين.

ويقال: القدَر والقدْر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره.

قال الإمام النووي : واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، أي: أن الله تبارك وتعالى علم الأشياء قبل وقوعها، وكذا أمر بكتابتها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

ومعناه: أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، وفي أمكنة معلومة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله سبحانه وتعالى.

الإيمان بالقدر.. بين القدرية والجبرية

وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي: لا يعلمها إلا بعد وقوعها، وهذا معنى مستأنفة، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيقع في ملكه إلا بعد أن يقع، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً، أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه، وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر.

قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا، يعني: لم يبق منهم اليوم أحد يدعي أن الله تعالى لا يعلم الأشياء ولم يكتبها، وإنما القدرية الموجودة الآن -وهم بعض أهل الاعتزال- إنما يتعلق إنكارهم بالقدر بالمشيئة والخلق، وخاصة الخلق، ويقولون: الخير من الله والشر من غيره، فأشبهوا المجوس الذين قالوا بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر، وإله للنور وإله للظلمة.

حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث وأبو المعالي وإمام الحرمين الإمام الجويني في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية؛ لأنكم تثبتون القدر، فحق لكم أن تنسبوا إلى القدرية، وأما نحن فإننا ننفي القدر، والأصل فيه النفي، وهذا الكلام مردود عليهم، ولذلك سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم تشبهوا بالمجوس القائلين بوجود إلهين خالقين؛ إله للظلمة وإله للنور، وإله للخير وإله للشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة). وهذا الحديث حسن بمجموع طرقه. والحاكم أبو عبد الله أخرج هذا الحديث وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس كذلك، وإنما هو حديث حسن.

قال الخطابي : إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، وزعمهم أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية. وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً، ولا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وهذه المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر، فإن الشر منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد، وهو منسوب إلى العبد من جهة العمل والكسب، أي: أن الله تعالى أوجد هذا الشر وخلقه بإرادته الكونية، ولكن الفاعل الحقيقي لهذا الشر إنما هو العبد، فمسألة الشر التي ضل فيها متأخرو المعتزلة متعلقة بخلق الشر، فإنهم ينفون أن الله تعالى خلق الأفعال كلها.

والخلق جميعه منسوب إلى الله عز وجل، فما من شيء من خير وشر إلا والله تعالى قد خلقه، فأما خلق الخير فلا إشكال فيه، وإنما الإشكال عند المعتزلة في خلق الشر، وهو كذلك منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد والإتمام، ولكنه ينسب إلى العبد من جهة الكسب والعمل، أي: أن العبد هو الذي اكتسب وعمل هذا الفعل.

قال: فهما مضافان -الخير والشر- إلى الله سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً. والله أعلم.

قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وهذا كلام الجبرية، يعني: يقولون: إن العبد إنما أجبر على فعل الخير والشر، وبناء عليه فلا يحاسب، ولا يضره ما يأتيه من خير ولا شر.

وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدوره عن تقدير منه.

قال: والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر سبحانه وتعالى، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12]، أي: خلقهن. قلت: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله عز وجل، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه، وقد قرر الأئمة من المتكلمين ذلك أحسن تقرير، بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية. والله أعلم.

سبب تكفير العلماء للقدرية

ومعنى براءة ابن عمر من هؤلاء تكفيرهم، وحق لـعبد الله بن عمر أن يكفر هؤلاء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وهو إثبات علم الله عز وجل، وإثبات قدرة الله عز وجل على الكتابة القديمة الأزلية، فـعبد الله بن عمر عندما تبرأ منهم دل ذلك على أنهم نفوا أصلين عظيمين كانا معلومين عند العامة والخاصة، وهما علم الله عز وجل وكتابته الثابتين في غير ما آية وحديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فبراءة عبد الله بن عمر منهم فيه تلميح وتلويح بتكفيرهم، وعلى هذا جمهور السلف في تكفير من أنكر علم الله عز وجل من القدرية أو من قال بمقولة معبد الجهني .

ومسألة القضاء والقدر وإن كانت أصلاً عظيماً من أصول الإيمان كما ورد ذلك في كتاب الله عز وجل وفي غير ما حديث من أحاديثه صلى الله عليه وسلم إلا أنها أخذت بعداً عظيماً وأخذاً ورداً بين القدامى والمُحْدَثين، وهو أكثر ركن من أركان الإيمان أحدث اضطراباً وخللاً عظيماً، وذلك لما خفي على كثير من الناس من أن الإيمان بالقدر متعلق بأمر الهداية والإضلال، أو متعلق بأمر الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، أو متعلق بمراتب القدر نفسها.

معنى القضاء في الكتاب والسنة

جاء القضاء في القرآن الكريم وفي السنة بعدة معان، منها: الحكم، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65]، أي: مما حكمت، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

وجاء بمعنى الأمر التكليفي التشريعي، مثل قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ومعنى: قَضَى رَبُّكَ أي: أمر ربك أمراً شرعياً تكليفياً.

وجاء بمعنى الإخبار والإعلام، كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، ومعناه: أعلمناهم وأخبرناهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين.

وجاء بمعنى الإنجاز والإتمام والانتهاء، مثل قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10]، أي: فإذا انتهت وتمت الصلاة، ومثل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29].

وجاء بمعنى قضاء الله النافذ في خلقه الذي لا مرد له، كما جاء في قول الله تعالى: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].

وقوله: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21].

معنى القدر في الكتاب والسنة

وأما القدر فهو تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء تقديراً يبين هيئاتها ويحددها كماً وكيفاً، زماناً ومكاناً على حسب ما سبق في علم الله الأول، وتقدير الله للأشياء مسبقاً قبل أن توجد يشمل تحديد الأشياء من حيث هيئاتها وزمانها ومكانها، وهذا التقدير تم قبل أن يخلق الله الأرض والسماء بخمسين ألف سنة، وهذا يدل على عظمة الله وقدرته.

يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). وهذا نص في إثبات الكتابة، وهي المرتبة الثانية من مراتب القدر، (وكان عرشه على الماء). وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه.

فكل شيء قد قدر زماناً ومكاناً كما أراد الله سبحانه، وقد جاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم بيان ذلك، والمتأمل فيها يجد أن آيات القدر تحمل في طياتها بيان وإثبات عظمة الله وجلاله وقدرته، فمثلاً في أول سورة الفرقان أخبر الله سبحانه وتعالى أن كل شيء بقدر، وأنه قدر المخلوقات تقديراً، وقبل أن يثبت ذلك قدم له بقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، إلى أن قال الله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].

فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك لما جاء مشركو قريش يخاصمون الرسول صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قول الله تعالى يرد عليهم إفكهم وافتراءهم وزورهم ويقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. ثم عقب بما يبين عظمته وشمول قدرته فقال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50].

والعقول القاصرة التي عجزت عن أن تفهم أن الله سبحانه محيط بكل شيء -بما كان وما سيكون- ليس لها من نور الإيمان بالقضاء والقدر نصيب، كما قال عبادة بن الصامت لابنه عند الموت: إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني). وفي الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، أي: لا يؤمن على غير هذا الاعتقاد، وهو أن الله قدر كل شيء وأحاط بكل شيء علماً.

أنواع التقدير

والتقدير أنواع، وكل أنواعه سابقة في علم الله سبحانه وتعالى، وهو يحدث من أمره ما يشاء، ويكون إحداث الله للأشياء في الوقت الذي شاء الله سبحانه أن توجد فيه، فنجد مثلاً التقدير الأول، وهو ما قدره الله على جميع العباد قبل خلقهم وخلق السماوات والأرض من سعادة وشقاوة ونعيم وجحيم، كما جاء في الحديث: (كتب الله مقادير الخلائق)، الحديث، وهو تقدير الله عز وجل التقدير العام لجميع المخلوقات قبل أن يخلق السماوات والأرض، فإن الله عز وجل قد علم كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض.

وأما التقدير الثاني فهو الذي يكون لكل إنسان وهو في بطن أمه، وهو تقدير خاص لكل إنسان على حدة، وهو يحدث للجنين في بطن أمه.

قال: فحينما تحمل المرأة وتمضي فترة معينة من الحمل يرسل الله سبحانه وتعالى ملكاً إلى الجنين، فينفخ فيه الروح، ويأمره أن يكتب سعادته وشقاوته ورزقه وأجله، وفي هذا جاء حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن مسعود وغيره، وفيه يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). والعكس بالعكس. وهذا الحديث متفق عليه.

وفي هذا الحديث الشريف بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النطفة بعدما توضع في الرحم وتمر بهذه الأطوار الثلاثة -نطفة ثم علقة ثم مضغة- يرسل الله عز وجل ملكاً فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد.

ثم أرشد الحديث إلى أن أقدار الله غالبة والعاقبة غائبة، فعلى الإنسان ألا يغتر بظاهر الحال، فقد يعمل الإنسان بعمل أهل السعادة وقد كتب من أهل الشقاء، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الشقاوة فيدخل النار، والعكس بالعكس كذلك، وهذا ما يعرف بسوء الخاتمة أو حسنها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

وقد كان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يخافون من سوء العاقبة، وكانوا يسألون الله عز وجل أن يقيهم فتنة الممات وسكرات الموت، حتى لا يفتنون لحظة خروجهم من الحياة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة منبهة على أهمية كلمة التوحيد في هذا الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).

والتقدير الثالث: تقدير سنوي، وهو يحدث في كل عام في ليلة القدر، ولا يبتدئه الله ابتداء، وإنما هو تقدير تابع للعلم السابق الذي قدره الله عز وجل، وهذا التقدير يتم في ليلة القدر، قال الله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:1-5].

وأما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي، قال الله تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، يعني: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً، ويخفض ويضع آخرين، يغني فقيراً ويفقر غنياً، يذل أقواماً ويعز أقواماً، كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى.

وجوب الإيمان بمراتب القدر

ومراتب الإيمان بالقضاء والقدر يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها ويعتقدها حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره، وذكر علماء السلف أنها أربع مراتب، وأنه لابد من تحققها وتوفرها في كل عبد حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره.

المرتبة الأولى: علم الله السابق وشموله لكل شيء، والمُحدَثُون يقولون: علم الله القديم، ولفظ القديم لم يكن يعرفه السلف، ومع حسن الظن بهم نقول: إن مقصود قولهم القديم أي: السابق الذي لم يسبقه شيء، وإلا ففي اللغة يدل لفظ القديم على أن هناك من هو أقدم منه، ولكنهم لما ذكروا هذا المصطلح الذي لم يعرفه السلف حملناه على حسن نيتهم من أنهم يقصدون العلم السابق الأولي لله عز وجل.

والله عز وجل لا يوصف بكونه قديماً، وإنما يوصف بأنه الأول، فنقول: الأول والآخر والظاهر والباطن، ولا نقول: القديم سبحانه وتعالى.

المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر: كتابة المقادير كلها قبل خلق السماوات والأرض.

المرتبة الثالثة: مشيئة الله الشاملة لكل ما يقع في الكون من خير وشر، والشر يتعلق بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، والذي يقع من خير إنما هو متعلق بإرادته ومشيئته الشرعية الدينية.

يقول: لا يكون في كونه من صغيرة ولا كبيرة، ولا تقع ورقة من شجرة ولا تتحرك نملة إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى.

المرتبة الرابعة: خلق الله سبحانه وتعالى لأفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإيجاد من العدم.

مرتبة العلم

المرتبة الأولى: علم الله السابق، وهذا أمر ينبغي أن يكون مسلماً ولا يجادَل فيه؛ لوضوحه وبيانه التام، وقد نص كثير من أهل العلم على أن منكري مرتبة العلم السابق لله عز وجل قد انقرضوا، وقد كان منهم معبد الجهني .

قال: ومن أنكر علم الله السابق برئت منه ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنه بإنكاره يكون قد وصف الله عز وجل بالعجز؛ لأن الجهل صفة عجز، فالذي يقول: إن الله تعالى لم يكن يعلم إنما ينسب النقص والعجز لله عز وجل، تعالى عن قوله علواً كبيراً.

والله سبحانه وتعالى أخبر عن علمه السابق للأشياء كلها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:30-31].

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]. وآيات كثيرة تثبت علم الله عز وجل السابق الأولي.

فالذي ينكر العلم إنما ينكر آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فما من صغيرة ولا كبيرة إلا والله قد أحاط بها علماً، ومن كان عنده شيء من العلم فليعلم أن الله فوقه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]. هذه مرتبة العلم الثابتة لله عز وجل أولاً.

مرتبة الكتابة

المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وهي تعني: أن الله سبحانه وتعالى كتب كل ما سيكون إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

وقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، أي: في كتاب مبين، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي، أو إن رحمتي سبقت غضبي).

والشاهد: أن الله سبحانه كتب كل شيء كما في الحديث الصحيح: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء). وكتب في الذكر أي: في الكتاب كل شيء، والإمام البخاري عليه رحمة الله تبارك وتعالى كان في غاية التوفيق عندما عقد باباً في كتاب القدر بعنوان: باب: جف القلم على علم الله تعالى، ولقد أمر الله تعالى القلم بالكتابة، فكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة بن الصامت ، وفي حديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟) وهذا فيه نقاش وجواب وكلام بين الله عز وجل وبين القلم، (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).

وأكد الله ذلك في القرآن الكريم، فنص على أنه كتب كل شيء، فقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. فقوله سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ ، أي: إلا في كتاب قد سبق أولاً، وهو مكتوب، فكل مصيبة أصابتك في نفسك أو ظهرت في الأرض أو البر فإن الله عز وجل قد كتبها في كتاب، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلقها، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . وجاء ختام الآية هكذا حتى لا تضل العقول وتظن أن هذا أمر صعب أو مستحيل.

فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك كتابة ما سيكون، وهو أمر يسير على الله تبارك وتعالى الخبير العليم، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .

والكتابة كتابتان: كتابة لا تتبدل ولا تتغير، وهي المكتوبة في اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، فلا يلحقها محو ولا إثبات، وأما الذي يحدث فيه التغيير والتبديل فهو الكتاب الذي مع الملائكة، ولذلك قال الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]. فقوله: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ هذا في الكتب التي مع الملائكة، وأما أم الكتاب فليس فيها محو ولا إثبات، ولا يلحقها المحو والإثبات.

مرتبة المشيئة

والمرتبة الثالثة: مرتبة مشيئة الله سبحانه وتعالى الشاملة العامة لكل شيء، وتسمى المشيئة أو الإرادة، فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، وليست مشيئة خاصة، فلا يقع في ملكه إلا ما شاء، والمشيئة مشيئتان، والإرادة إرادتان، إرادة شرعية متعلقة بالمحبة والرضا، أي: بمحبة الله عز وجل ورضاه عن هذا الفعل، وتشريعه إياه وإلزامه العباد به، وإرادة كونية قدرية، أي: أنه لا يقع في الكون ما لا يرضاه الله عز وجل، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد وقوعه، ولكنها إرادة ومشيئة كونية، لا إرادة ومشيئة شرعية دينية.

قال: فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، حتى كفر الكافر شاءه الله عز وجل كما قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35]. وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118]. وشاء ذلك لحكمة يعلمها، أي: شاء الله عز وجل مشيئة قدرية كونية أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، فشاء تعالى وقوع المعاصي في الأرض لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها. وقد اشتبه هذا الأمر عند بعض الناس فقالوا: كيف يشاء الله الكفر ويشاء العصيان، وهو يقول: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، ويقول: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]؟ والجواب: أن المحبة في قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ محبة شرعية دينية، وأما قوله: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ أي: أن الله تعالى كره الكفر وذمه، وكره الفساد وذمه وحذر منه، ووقوعه في ملكه يدل على أن الله تعالى إنما أذن في وقوعه إذناً كونياً قدرياً لا إذناً شرعياً دينياً.

وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له مشيئة عامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]. وحتى أنت -أيها الإنسان!- لك مشيئة ولكنها مندرجة ومرتبطة بمشيئة الله عز وجل، ومشيئة الله فوق مشيئتك، وإذا لم يؤمن العبد بذلك لا يعد من المؤمنين بالقضاء والقدر.

مرتبة الخلق

والمرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، أي: مرتبة خلق أفعال العباد، وهذه المرتبة من المراتب التي اشتبهت على بعض الناس، وضلت فيها المعتزلة، الذين قالوا بعدم خلق أفعال العباد، أي: أن الله تعالى لا دخل له في خلق أفعال العبد، وأن العبد يخلق فعله.

وهؤلاء أكثر من الثنوية ضلالاً، وأكثر ضلالاً من الذين قالوا بوجود إله للخير وإله للشر، لأنهم نفوا تماماً الخلق عن الله عز وجل، وقالوا: إن الله تعالى لا دخل له أبداً بخلق هذه الأفعال، وإنما الذي خلقها هو العبد.

فالذي يقول بأن العبد يخلق فعله لازم كلامه أن هناك آلهة متعددة، وإذا كان العبد هو الذي يخلق فعله لكان كل مخلوق خالقاً في الوقت نفسه، وهذا يرد عليه بمعتقد أهل السنة المستند إلى أدلة كثيرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته)، أي: وما يعمل، أي: أن الله تعالى خالق كل مخلوق وما يصدر عن هذا المخلوق من أعمال وأقوال.

اختلاف الفرق حول مسألة خلق الله لأفعال العباد

وهذه المرتبة ضلت فيها فرق كثيرة وعلى رأسها المعتزلة، وقد تحدث السلف في كتبهم عن مسألة خلق أفعال العباد، وصنف الإمام البخاري كتاباً مستقلاً سماه خلق أفعال العباد.

والحق: أن الله تعالى خالق لأفعال العباد جميعها من خير وشر، فالمعصية التي يقوم بها العبد خلقها الله تعالى وكتبها وقدرها عليه؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا شيء إلا والله تعالى خالقه، والمسلمون تفرقوا في هذه المسألة فرقاً كثيرة، ولم يستطيعوا بعقولهم القاصرة بعد ابتعادهم عن القرآن والسنة أن يفهموا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد.

ونجى الله تعالى سلف هذه الأمة من كل شر، ووقاهم الانحراف والوقوع في البدع والضلالات، فهم أسعد الناس بالحق، وأشد الناس حرصاً عليه وتمسكاً به، وقد فهموا هذه المسألة وآمنوا بها متبعين لا مبتدعين.

يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس.

ومسائل الإيمان بالقضاء والقدر مسلمة عند عامة المسلمين، فهم يؤمنون بها، إلا مسألة خلق الفعل، فهم فيها في اضطراب عظيم. ويرد على الذين اضطربوا واختلفوا في مسألة الإيمان بخلق الله عز وجل لأفعال العباد أن الفعل له جهتان، جهة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، وهي علمه وقدرته ومشيئته وخلقه وإيجاده؛ أي: علمه سبحانه وتعالى بأن هذا العبد سيفعل كذا في يوم كذا وعلى هيئة كذا وبصفة كذا، وأن الله تعالى قدر ذلك عليه إما تقديراً شرعياً أو كونياً، وشاء ذلك وخلقه، وأوجده من جهة العبد، والجهة الثانية متعلقة بالعبد، وهي فعله وكسبه.

فالفعل الذي يفعله العبد له متعلقان: متعلق بالله عز وجل من جهة الإرادة والعلم والمشيئة والخلق والإيجاد؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد ويشاء، وقد علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وهذا متعلق بجميع مراتب القدر، العلم والكتابة والمشيئة والخلق، فالفعل له تعلق بالله عز وجل من هذه الجهات الأربع، وأما تعلقه بالعبد فمن جهة العمل والكسب، أي: أن العبد هو الفاعل حقيقة لما فعل، بخلاف الجبرية الذين يقولون: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، وهذا كلام باطل ومردود، ويقولون: لا دخل للعبد ألبتة بالفعل لا من جهة الخير والشر، ولا من جهة الثواب والعقاب، وهذا كلام في غاية التناقض، فإن العبد هو الذي اكتسب الفعل وعمله بجوارحه القلبية أو الظاهرة، فهو من كسب العبد وعمله.

ومثال لذلك: قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]. فالله سبحانه هو الذي يسيرنا، ونحن نقوم بأداء الفعل وهو السير، فالذي يسير في البحر هو العبد، والذي أراد هذا السير وخلقه وأوجده ووفق العبد له هو الله عز وجل، وقد علم هذا السير وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

ولو أن رجلاً زنى أو سرق، فالزاني والسارق هو العبد، فهو الذي اكتسب هذا الفعل وعمله بجوارحه، فهو متعلق به من جهة الكسب ومن جهة العمل، والله عز وجل هو الذي قدره عليه؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما أراده الله عز وجل، ومن قال: إنه يقع في ملك الله ما لا يريده فقد كفر. والله عز وجل إذا شاء وقوع فعل فلابد أن يقع وإن اجتمع الخلق جميعاً على عدم إيقاعه، والعكس بالعكس. وإذا زنى العبد فإن الله عز وجل يكره هذا، وقد حرمه ونهى عنه، والله لا يحب الفساد، وهذا فساد وإفساد في الأرض، والله عز وجل يحب الطهارة، وقد أمر بها وحض عليها، وهو تعالى يحب المتطهرين حباً شرعياً دينياً، ويكره الزنا والخبث، وقد نهى عنه وحذر منه تحذيراً شرعياً. والذي يقع فيما يكرهه الله ويبغضه قد علم الله تعالى سلفاً وأولاً أنه سيقع فيه، والله عز وجل قد نهاه عنه نهياً شرعياً، وحذره منه تحذيراً شرعياً، ووقوع العبد فيه وقوع كوني، أي: متعلقاً بالكون وبقدر الله عز وجل الذي كتبه على العبد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

وأما الإرادة الشرعية فهي متعلقة بكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وهو شرع الله عز وجل الذي أمر به وحض عليه وحث عليه الناس جميعاً.

فمن أتى ما أمر الله عز وجل به نقول: إنه وافق فيه إرادة الله الشرعية الدينية، فالله عز وجل أمر بتوحيده، وبالصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أتى فعلاً من هذه الأفعال فقد وافق إرادة الله الشرعية الدينية، وأما الذي يسرق ويزني ويفسد في الأرض فنقول: إنه وافق إرادة الله الكونية القدرية، أي: المتعلقة بما يقع في الكون كله، أي: المتعلقة بإرادة الله المطلقة التي تشمل الشرعية والقدرية، وأما إرادة الله الشرعية فإنها لا تنصب إلا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه.

الرد على من يحتج بالقدر على ترك العمل

وبعض الناس يقول: إذا كانت هذه المسائل مكتوبة، وأن الله تعالى قدر وعلم وكتب هذه الأعمال كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلم العمل؟ ونقول: لابد أن تعمل؛ لأن كل مخلوق ميسر لما خلق له، وأعظم جواب يرد به على هذا القائل: أنه لا يعلم ما الذي كتب له؛ لأنه مخفي عنه، فلابد من العمل، والله عز وجل ييسره للعمل، فإن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة، وإن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة.

قال: وقد يظن بعض الناس أن العمل لا فائدة منه مع الإيمان بهذه المراتب، وهذا كلام من أبطل الباطل، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أتم توضيح وأبينه، وأزال كل الالتباس، وبين أن الإيمان بالقضاء لا يتنافى مع العمل، ففي حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخصرة، فجعل ينكس أو ينكت بمخصرته في الأرض، ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار)، أي: أن الله تعالى علم عن كل نفس منفوسة من أول الأمر أنها من أهل الجنة أو من أهل النار، وكذلك كتب هذا الأمر أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.

قال: (إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]).

ومن هذا يظهر بوضوح أن الله تعالى شاء كل شيء، وخلق جميع أفعال العباد، وأوجدها من خير وشر، والعبد يقوم بفعل ما خلقه الله فيه وأوجده، وقد جاء عن عبد الله بن عباس مرفوعاً: (الله خالق كل صانع وصنعته). وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك أيضاً في قوله تعالى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96]، أي: أتنحتون هذه الآلهة من هذه الحجارة ثم تعبدونها، والله عز وجل خلقكم وما صنعتم، أي: أن الله تعالى هو الذي خلقكم وأوجدكم، وكذلك خلق وأوجد ما صنعتم بأيديكم، فكل ذلك من خلق الله عز وجل، يعني: أن الله تعالى خلقكم وما تعملون من نحت وغيره.

قال: وهذه القضية يجب على كل مسلم أن يوقن بها، ويعلم أنه يعمل فيما قدر عليه وفرغ منه.

منشأ ضلال المعتزلة في قولهم بعدم خلق أفعال العباد

وطائفة الاعتزال هي التي ابتدعت القول بأن العبد يخلق فعل نفسه، وقد تصدى لهم أهل السنة والجماعة، وبينوا ضلالهم في ذلك، وأطلقوا عليهم مجوس هذه الأمة، والشبهة التي أوقعتهم في ذلك وجعلتهم ينفون خلق الله لأفعال العباد ما رأوه من شر وعصيان؟ وكفر يقع في ملكوت الله عز وجل، فقالوا: كيف يريد الله عز وجل الكفر والشر والعصيان؟ فأرادوا بزعمهم تنزيه الله عز وجل عن ذلك، والذي أوقع المعتزلة في هذا الضلال هو أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية الكونية، ولذلك استعظموا جداً أن ينسب الشر إلى الله، فقالوا: إن الله عز وجل لم يخلق أفعال العبد أبداً، لا خير ولا شر، وكانوا يريدون القول بأن الله تعالى إنما خلق الخير فقط دون الشر، ولكنهم خافوا أن يطالبوا بالدليل على هذه التفرقة، فقالوا: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، وإنما الذي خلقها هو العبد نفسه، فانحرفوا عن عقيدة السلف الصالح، ولقد رد عليهم إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل في رسالة تسمى السنة، وهي من أعظم الرسائل في الرد على هؤلاء؛ لأن المجوس قالوا بوجود إلهين أحدهما للخير والثاني للشر، ومن هنا لحقت المعتزلة بهم.

والله سبحانه وتعالى إله واحد، والإله له ذات، وهذه الذات متصفة بصفات الجلال والكمال.

الرد على المعتزلة في قولهم بعدم خلق الله لأفعال العباد

والجواب: على هذا الإشكال الذي ابتدعته المعتزلة بالتمييز والتفريق بين الإرادة الكونية القدرية المتعلقة بكل ما يقع في الكون من خير وشر، وأن الله تعالى أراد الشر إرادة كونية ليس لها تعلق بالمحبة والرضا، وبين الإرادة الشرعية المتعلقة بالمحبة والرضا.

يقول: إرادة كونية قدرية، وهذه الإرادة شاملة وعامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، أي: من خير وشر.

وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]. فهذه إرادة كونية، فالله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ ، فهو يريد الهداية ويأمر بها، وهي إرادة شرعية، وقال: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ، وهذه الإرادة إرادة كونية قدرية، ومعنى أراده أي: أن الله عز وجل علم أن العبد سيختار الضلال على الهداية، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]. فهم الذين استحبوا واختاروا العمى على الهدى، والله عز وجل علم أولاً وأزلاً أن هؤلاء القوم سيختارون الضلال على الهدى ويفعلونه، فعلمه سابقاً ثم كتبه في اللوح المحفوظ.

فالله سبحانه وتعالى خلق الشر كما خلق الخير، بمعنى: أنه أوجده وشاءه وأراده إرادة كونية قدرية، بخلاف الإرادة الشرعية.

قال: ولكنه ليس من صفاته، أي: هذا الشر ليس من صفات الله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والشر ليس إليك)، أي: ليس من صفات الباري سبحانه وتعالى.

وهو لا يدخل في أفعاله، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم، كما في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]. فقد خلق الشر، وأمر بالاستعاذة منه، فالخير بيديه والشر ليس إليه.

ونسأل الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد لهذه الشبهة سؤالاً: من الذي خلق إبليس وهو رأس الشر؟ وهم لا يترددون في أن الله عز وجل خلق إبليس، فالله خالق كل شيء من خير ومن شر، وإذا أنكروا أن الله تعالى خلق إبليس فقد كفروا وخرجوا من الملة، وإذا قالوا: إن الله تعالى هو الذي خلق إبليس قلنا لهم: نردكم إلى قولكم وإنكاركم بأن الله تعالى خلق الشر كذلك؛ لأنه خلق رأس الشر، وهو إبليس عليه لعنة الله تبارك وتعالى.

أنواع الإرادة

والإرادة إرادتان، الأولى: الإرادة الدينية الشرعية وهي المتضمنة للمحبة والرضا، وهي المتضمنة لما أمر الله عز وجل به وشرعه على عباده، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]. فهذه إرادة شرعية؛ لأن إرادة التوبة إرادة شرعية.

وقال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]. وإرادة العسر إرادة قدرية كونية، وأما إرادة اليسر فهي إرادة شرعية دينية.

والثانية: الإرادة الكونية القدرية، وهي تستلزم وقوع المراد، أي: لابد أن تقع كما أراد الله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله عز وجل، والإرادة المطلقة متضمنة للإرادة الكونية والإرادة الشرعية في الوقت نفسه.

قال: ولا تستلزم المحبة، يعني: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبة المراد، أي: ولا تستلزم محبة الفعل، فمثلاً: لا يمكن للعبد أن يزني إذا لم يقدر الله عليه ذلك، ولا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده حتى الكفر نفسه، ومن قال بذلك فهو كافر، والله عز وجل لا يحب الكفر، ولا يرضاه لعباده.

فالإرادة الكونية القدرية لا تعلق لها بالرضا، بخلاف الإرادة الشرعية فلها تعلق بالرضا والمحبة، فلو أن العبد أطاع وآمن فقد وافق إرادة الله الشرعية المتضمنة والمستلزمة لمحبته ورضاه، وأما إذا اختار الكفر على الإيمان فقد وافق إرادة الله القدرية الكونية التي لا تستلزم محبة الله عز وجل ورضاه، بل تستجلب سخطه وغضبه سبحانه وتعالى.

قال: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد، ولا تستلزم محبته، فيدخل فيها إرادة الإيمان والكفر وغيرهما، وأما الإرادة الثانية فلا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته، وهي الإرادة الشرعية.

وهذا يفسر لنا قول الذي يقول حينما يشاهد رجلاً يقترف معصية: هذا يفعل ما لا يريده الله ولا يرضاه. ولو رأيت شخصاً يسرق مثلاً فقلت له: يا فلان! إن الله تعالى لا يريد هذا ولا يرضاه ولا يحبه، فمعنى كلامك: أن الله تعالى لا يريد هذا إرادة شرعية، ولكنه أراده إرادة كونية؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، أي لا يريده إرادة شرعية دينية، وهي المتعلقة بالمحبة والرضا؛ لأن الله لا يحب الفساد، وإن كان الله تعالى أراده إرادة كونية قدرية؛ لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فيهدي من يشاء هداية شرعية دينية، ويضل من يشاء ضلالاً قدرياً كونيناً، كما جاء في القرآن الكريم: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93]، أي: أراد الهداية والضلال إرادة عامة كونية قدرية، وهو لا يريد الضلال ديناً وشرعاً، وإنما يريد الهداية ديناً وشرعاً؛ لأن الهدى متعلق بالإرادة الشرعية، والضلال متعلق بالإرادة الكونية القدرية.

أنواع الهداية

والهداية لها أنواع كثيرة، منها هداية عامة للكون جميعاً، وهي الهداية العامة، فقد خلق الله الكون وهداه إلى ما ينظم به حياته، قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3].

وقال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].

والنوع الثاني من أنواع الهداية: هداية البيان والإرشاد والدلالة، فقد أنزل الله عز وجل الكتب وأرسل الرسل لتبين للناس وترشدهم، قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]،

أي: أما ثمود فبينا لهم وأرشدناهم ونصحناهم إلى طريق الهداية، وميزنا لهم بين الضلال والحق، ولكنهم تركوا الحق واختاروا الضلال.

وهداية البيان والإرشاد ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، أي: إنك لتبين وترشد إلى الصراط المستقيم وإلى طريق الصالحين.

النوع الثالث من أنواع الهداية: هداية التوفيق، أي: توفيق العبد إلى طريق الهدى، فهذه الهداية متعلقة بإرادة الله عز وجل وحده، وليس لأحد فيها نصيب ولا حتى الأنبياء، فقال الله عز وجل: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93]. ومن هذه الهداية: تحبيب الإيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وهذه الهداية منفية عن جميع الخلق حتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلت، قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]. وهداية التوفيق متعلقة بالله عز وجل دون أحد من خلقه، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.

وقال الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ [النحل:37]، وهذا الكلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]، يعني: رغم حرصك يا محمد! صلى الله عليه وسلم على هداية هؤلاء فإن الله تعالى لا يهدي من كتب عليه الضلال، وعلم أنه سيختار الضلال في الأزل.

النوع الرابع من أنواع الهداية: هداية المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، قال الله تعالى عن المؤمنين بعد دخولهم الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف:43]. فهذا إقرار واعتراف بأن الهادي إلى الجنة هو الله عز وجل، قال: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

حكم من أنكر القدر

وكان أول من قال بنفي القدر هو معبد الجهني ، وقد أخذ ذلك عن شيخه سوسن النصراني ، فقد كان رجلاً نصرانياً بالبصرة يقول بالقدر ويعتقده، فتلقاه عنه معبد الجهني ، ومن بعده ظهرت الفتنة، وكل فرقة من الفرق فيها غلاة وفيها أتباع ورعاع، وقد حكم العلماء على معبد الجهني وغيره بالكفر؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

وقد حكم عليهم عبد الله بن عمر بالكفر، ولا يزال أهل السنة يتشبثون بحكمه إلى يومنا هذا وما بعده إن شاء الله تعالى، فالقائل بنفي القدر عن الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء ابتداء، وأنه لم يكتبها ولم يقدرها ابتداء قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

فوائد الإيمان بالقدر

والثمرة المرجوة والمسلك العملي الذي يعود على من آمن بقدر الله:

الإلحاح في دعاء لله عز وجل بأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، فإذا علمتُ أن هدايتي وضلالي بيد الله عز وجل، وأن الجنة والنار والخير والشر بيد الله عز وجل فهذا يدعوني لأن أضرع إلى الله عز وجل وأستغيث وأستعيذ بالله عز وجل من كل شر، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح والهداية، ومن أهل الجنة في الآخرة، ومن أهل السعادة في الدنيا والآخرة.

وكذلك الجدية في العمل والمسارعة إلى الخيرات، كما جاء في الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). فنسأل الله حسن الخاتمة؛ لأن أقدار الله غالبة، والعاقبة غائبة -أي: غائبة عنا-، فعلى العباد الاجتهاد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونصح به.

فإذا كان أمري معلوماً عند الله عز وجل يقيناً وأنا لا أعلمه فإن ذلك يدفعني إلى الاستزادة من العمل الصالح؛ رجاء أن يتقبل الله عز وجل هذا العمل مني، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح.

وكذلك التسليم الكامل لما قدره الله وقضاه؛ لأنه لا يجوز أبداً الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما الواجب الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بك مصيبة بعد أن اتخذت كامل الأسباب وعوامل الاحتياط في دفعها، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل. وهذا كلام المؤمنين النابع من إيمانهم بقدر الله عز وجل فإذا وقعت المصائب بأحدهم كالمرض مثلاً أو كالسقوط أو وقوع الجدار أو نزول أي بلية بعد أخذ الاحتياط اللازم لدفعها فعليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ثم يصبر بعد ذلك ويحتسب، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت به المصيبة.

ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما على المصائب، وهذا لا يكون أيضاً إلا بعد اتخاذ الأسباب، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وهنا يظهر الإيمان بالقدر، فإذا مات والدك فلا تصح وتبكي وتلطم خدك وتشق جيوبك مدة ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم تقول: أستغفر الله العظيم، قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون. فالإيمان بالقدر يظهر في وقته، فتقول في نفس الوقت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.

ووقوع الخير أو وقوع الشر في العباد له منافع، فمثلاً المرض فيما يبدو للعبد شر، ولكنه في علم الله عز وجل خير، وإن بدا لنا أنه شر، حتى إن بعض الأطباء يقولون: إن هناك جراثيم لا يمكن أبداً أن يقتلها دواء أو غيره، ولا يقتلها إلا مرض أو أمراض معينة تصيب العبد، فالمرض وإن كان شراً للعبد إلا أن الله عز وجل قد خبأ له الخير.

والزنا شر، والله عز وجل فرض حداً على العبد الزاني إما جلد مائة وتغريب عام، أو الرجم، فلو أن الزاني رجم في ميدان عام، وتفرج العالم على هذا الحد فلاشك أن من يريد الزنا سيراجع نفسه ألف مرة قبل أن يقدم عليه. وهذا خير. فالخير والشر من الله عز وجل خلقاً وإيجاداً، ولكنه من العبد اكتساباً وفعلاً.

ومن فوائد الإيمان بالقدر أنه يورث التسليم الكامل بما قدره الله عز وجل وقضاه، فإذا وقعت مصيبة بالعبد سلم أمره إلى مولاه دون جزع، وقد قال بعض السلف: القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعايب، فإذا أذنب العبد ذنباً استغفر، ولا يجوز له الاحتجاج بالقدر؛ لأن الله تعالى خلقه وهداه، وجعل له مشيئة، كما قال: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28].

ولما زنى عبد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيء به إلى عمر فقال: ما الذي حملك على هذا؟ قال: القدر، فأمر برجمه، فقال: يا أمير المؤمنين! أترجمني في شيء قدره الله تعالى علي؟ قال: نعم، فإنما وقعت فيما وقعت فيه بقدر الله، وإنما نعاقبك بقدر الله عز وجل، يعني: العقاب نفسه من قدر الله عز وجل، بل هو من قدر الله الشرعي الذي أمر به وأحبه، وحث عليه في كتابه وفي سنة نبيه، وأما الذي وقعت فيه فإنما هو من قدر الله الكوني القدري.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - ما روي في أن أول من قال بالقدر معبد الجهني للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net