إسلام ويب

لقد حفظ الله تعالى السنة برجال جمعوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقاموا بتنقيتها وصيانتها من الكذب والوضع، ومنهم الإمام مسلم رحمه الله صاحب الصحيح الذي تلقته الأمة بالقبول، كما تلقت صحيح البخاري، وقد نهج الإمام مسلم في تصنيف صحيحه نهجاً مميزاً حيث قسم فيه الحديث إلى ثلاثة أقسام، ثم قسم رجاله إلى ثلاث طبقات، وبعد أن أتم جمع صحيحه عرضه على شيخه الحافظ الإمام أبي زرعة الرازي رحمهم الله جميعاً.

سبب اختيار صحيح مسلم في هذا الدرس

الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد:

فمرحباً بكم وأهلاً في بداية دروس منهجية في شرح صحيح مسلم.

الحقيقة كانت رغبتي تناول الصحيح للإمام البخاري، ولكني استشرت في ذلك شيخي وأستاذي الشيخ محمد بن عبد المقصود فقال: مسلم أخف، فوافقته على رغبته وإن كانت رغبتي في الكتاب الآخر؛ لأني أدرس صحيح مسلم منذ أربع سنوات في الهرم، فكنت أود أن أبدأ بكتاب آخر؛ حتى أحصّل الفائدة لنفسي، كما ورد عن بعض شيوخ العصر أنهم كانوا يقرءون الكتب على التلاميذ لا لأجل التلاميذ ولكن لأجل نفعهم ومصلحتهم، فكنت أود أن أقرأ البخاري، ولكن طلب مني شيخي ولا يسعني مخالفته فوافقته على صحيح مسلم، وربما بلغ الخبر أخانا الشيخ فوزي السعيد خطأ، فسمع البخاري مكان مسلم فقال: صحيح البخاري.

على أية حال في كليهما الخير الكثير. هذا أمر.

والأمر الثاني: كنت أتصور أن المقبلين على طلب العلم الشرعي أكثر من ذلك، وبناء عليه فقد أعددت العدة للعدد الكبير، فهان الأمر عليّ الآن على اعتبار أن الإمام مسلم حينما صنّف صحيحه كانت له شروط، فقضيت في هذه الشروط وقتاً طويلاً حتى أبيّن المسألة، وإذا كنا سنبدأ في كتاب الصحيح من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أولاً أن ندرس سيرة الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، ثم بعد ذلك ندرس كتابه الصحيح حتى يعظم عندنا وفي قلوبنا المصنِّف والمصنَّف كذلك، فإذا استقر الأمر على الاستمرار في هذا الصحيح علمنا سلفاً قيمته وفضله، فيحسن بنا أن نبدأ هذا الدرس بذكر ترجمة الإمام مسلم ، ثم نثني بعد ذلك بذكر ترجمة شارحه وهو الإمام النووي عليه رحمة الله؛ لأن الأمر يلزمنا أن ندافع عن الإمام النووي ؛ لأن كثيراً من الألسنة التي انطلقت في علماء السلف انطلقت أيضاً في الإمام النووي ، وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى سنعلم ما وجِّه إليه من طعون. ونُعان بإذن الله تعالى على الرد عليها.

ثم بعد ذلك نشرح منهجنا أو نبيّن المنهج الذي نسير عليه في شرح هذا الكتاب العظيم وهو صحيح مسلم.

ترجمة الإمام مسلم رحمه الله

نسبه

نقول مستعينين بالله عز وجل: الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح هو: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد النيسابوري البلد والموطن والنشأة، القشيري.

وقشير: هي قبيلة معروفة من قبائل العرب، يُنسب إليها الإمام ولاءً، هو إمام أهل الحديث في عصره، وأحد الحفّاظ المتقنين الأفذاذ.

مولده

أما مولده فقد اختلف فيه بين سنة (204هـ أو 206هـ) والصحيح هو القول الثاني؛ لأن الإمام قد مات سنة (261هـ) عن (55) عاماً، فهذا يرجّح القول الثاني وهو أن مولده كان سنة (206هـ).

طلبه للعلم وشيوخه

أول سماعه للعلم كان سنة (218هـ) أي: كان بعد مولده بـ(12) عاماً، معنى ذلك: أنه بدأ طلب العلم مبكراً، وهدي سلفنا في بداية طلبهم للعلم أنهم كانوا يقبلون على القرآن الكريم أولاً فيحفظونه ويتقنونه إتقاناً جيداً كما قال عبد الله بن مسعود : الحفظ الإتقان.

فلما فرغ من هذه المهمة التي هي بمثابة الخطوة والعتبة الأولى في طلب العلم دُفع به بعد ذلك إلى مجالس المحدثين، وكان ذلك في مقتبل عمره سنة (218هـ)، فسمع من يحيى بن يحيى التميمي وهو أكبر شيخ له، روى عنه نسخته عن مالك بن أنس الأصبحي إمام أهل المدينة.

وكثير من الناس يُخطئ في هذا الأمر فيظن أن يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن الإمام مالك هو الذي يروي عنه الإمام مسلم في الصحيح، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن يحيى بن يحيى الذي يروي عن مالك الموطأ إنما هو يحيى بن يحيى الليثي ، وأما يحيى بن يحيى الذي يروي عنه مسلم عن مالك في صحيحه فإنما هو يحيى بن يحيى التميمي وليس الليثي فليعلم هذا جيداً؛ لأن كثيراً من المحققين يخطئ في ذلك.

فـيحيى بن يحيى التميمي هو أكبر شيخ للإمام مسلم ، وهذا يدلنا أيضاً على أن مسلماً بدأ السماع في سن مبكرة، وحج في سنة (220)هـ وهو أمرد أي: لا لحية له، فسمع بمكة من الإمام القعنبي وهو إمام جليل، وهو كذلك من أجل شيوخ الإمام مسلم . اسمه عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، فهو أكبر شيخ له كذلك، وسمع بالكوفة من أحمد بن يونس وجماعة، وسمع ببغداد أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة وآخرين، وسمع بالري محمد بن مهران وأبا غسان ، وسمع بالحجاز سعيد بن منصور وهو إمام عظيم جليل من أئمة الهدى، له مصنف في العلم اسمه سنن سعيد بن منصور ، وسمع كذلك أبا مصعب وآخرين، وسمع بمصر عمرو بن سواد المصري وحرملة بن يحيى صاحب الإمام الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا يدل على أن الإمام مسلماً كان واسع الرحلة في أول عمره، والرحلة إنما هي سنة من سنن علمائنا وهديهم، كانوا إذا بدءوا بطلب العلم أخذوا علم أهل بلادهم أولاً، فإذا أتوا عليه وفرغوا منه بدءوا بالتفكير في أن يرحلوا إلى أقرب البلاد ثم أقربها فأقربها، وهذا الذي فعله الإمام مسلم ، وكانت له رحلة واسعة إلى بلاد الغرب والشرق حتى حصّل علوماً كثيرة، وجاء بمسموعات وفيرة.

وممن سمع منهم الإمام مسلم غير من ذكرنا أيضاً: أحمد بن سعيد الدارمي ولا نستطيع أن نذكر كل الشيوخ الذين روى عنهم الإمام مسلم ، إنما نذكر الأئمة العظام خاصة الذين أكثر عنهم مسلم في كتابه الصحيح؛ لأننا لو أردنا أن نتقصى شيوخ الإمام مسلم لما استطعنا، وعلى أية حال من الممكن أن نعد له ثلاثة آلاف شيخ، وكذلك البخاري كان له أكثر من هذا العدد.

فالإمام مسلم روى أيضاً عن أحمد بن سعيد الدارمي وابن منيع والحسن بن علي الخلال الإمام، وإسحاق بن منصور الكوسج . وهو تلميذ الإمام أحمد بن حنبل ، وكذلك روى عن شيبان بن فروخ وزهير بن حرب وسويد بن سعيد ، وزهير بن حرب هذا هو أبو خيثمة النسائي أول شيخ للإمام مسلم في صحيحه، وكذلك روى عن عبد بن حميد صاحب كتاب المنتخب -واسمه عبد الحميد بن حميد - وعبد الله بن أبي شيبة وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أبي شيبة هو المعروف بـأبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف، مصنف ابن أبي شيبة الكبير الضخم، وهو إمام جبل كالجبال الرواسي في العلم.

و عمرو الناقد وقتيبة بن سعيد وابن رمح وابن المثنى وهارون الحمال وهناد بن السري صاحب كتاب الزهد، وابن معين إمام الجرح والتعديل صاحب التاريخ، وغيرهم بلغوا (220) رجلاً، أخرج لهم مسلم في صحيحه.

وله شيوخ عدة سوى هؤلاء لم يخرّج عنهم في صحيحه، رغم أنهم أئمة كـعلي بن الجعد صاحب الجعديات، لم يخرّج له الإمام مسلم ؛ لأنه كان ينتحل مذهب الجهمية، والإمام مسلم كانت فيه حدة وكانت فيه عصبية، وهذا مما دفعه إلى ترك رواية كثير من أهل العلم من الأئمة وغيرهم.

وكذلك من شيوخه علي بن المديني إمام الجرح والتعديل أيضاً، ومحمد بن يحيى الذهلي.

أثر فتنة خلق القرآن وما أدت إليه

محمد بن يحيى الذهلي هو أول من سمع منه مسلم بنيسابور، وكان شيخاً جليلاً، وكان إمام نيسابور في الحديث، فالإمام مسلم تلميذه وخريجه كذلك، ولكنه لم يرو عنه في صحيحه، حتى قيل: إن الإمام مسلم أخذ عن محمد بن يحيى الذهلي مقدار حِمل بعير من الأحاديث والأسانيد، ولكن حدثت شحناء بين الإمام مسلم وبين شيخه محمد بن يحيى الذهلي ، واختلف أهل العلم في سبب هذه الشحناء فقيل: إن علي بن داود حينما نزل نيسابور عقد مجلساً حضره مسلم كما حضره يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي ، فأُثيرت مسألة، فأراد يحيى الذهلي أن يتكلم في هذه المسألة؛ فقال علي بن داود : اسكت أنت، فغضب لهذا الإحراج، ثم انصرف من المجلس، فأتى إلى أبيه وقال: لقد حدث كذا وكذا. قال: من حضر المسجد؟ قال: مسلم . قال: أولم يذب عنك؟ قال: لا، فغضب محمد بن يحيى الذهلي ، وتنكّر بعد ذلك للإمام مسلم ، ثم عامله الإمام مسلم بمثل معاملته أيضاً، ولكن هذا سبب لا أظن أنه يؤثر على مثل الإمام الذهلي ، كما أنه لا يؤثر على مثل الإمام مسلم .

ولعل الراجح في سبب الشحناء بين الإمامين هي الفتنة التي أُثيرت في ذلك الزمان وهي فتنة خلق القرآن الكريم.

وأنتم تعلمون أن أول من تعرّض لهذه الفتنة هو الإمام أحمد بن حنبل وصبر فيها، وأيد الله عز وجل الدين بثباته وقيامه على هذا الأمر، وذبّه عن حياض صفات الله عز وجل، فهذه الفتنة كانت هي بمثابة البلاء والاختبار لأهل العلم من المحدثين والفقهاء في صدر الدولة العباسية، حتى أتى بعد ذلك من خلفاء الدولة العباسية من أخمد هذه الفتنة، وعلى أية حال في حياة الإمام البخاري ومسلم كانت هذه الفتنة في أوجها، فتعرّض لها الإمام البخاري في بغداد وفي بخارى وفي نيسابور كذلك، وحينما دخل الإمام البخاري إلى نيسابور كان محمد بن يحيى الذهلي يحث الناس على الخروج لاستقبال الإمام البخاري على مشارف المدينة، حتى خرج الناس وسدوا الطرق احتفاء بالإمام البخاري ، ولكن هذا أثّر بعد ذلك على مجلس الإمام محمد بن يحيى الذهلي ، وأهل العلم يغار بعضهم من بعض كما تغار التيوس في زرائبها، فدخل في نفسه من الإمام البخاري، حيث أن الناس أقبلوا على البخاري حتى ملأ الناس الشوارع والبيت، وصعدوا السطح الذي كان يسكنه الإمام البخاري ، في الوقت الذي انفضوا عن الإمام محمد بن يحيى الذهلي ، فوشى به عند السلطان في أمر خلق القرآن، والحق أن كلام الإمام البخاري هو الذي يوافق أهل السنة والجماعة، وانتحل مسلم أيضاً مذهب البخاري في مسألة خلق الأفعال.

إن الإمام محمد بن يحيى الذهلي لم يدفعه إلى ذلك سوء اعتقاده في المسألة، إنما الذي دفعه إلى ذلك حنقه وحسده على الإمام البخاري ، فلما حدث هذا وأُخرج البخاري من نيسابور بسبب هذه الفتنة أيضاً، كما أُخرج من بغداد وبخارى وغيرها، أقبل الطلاب بعد ذلك على مجلس الذهلي ، ولكن الذهلي لم ينس انصراف مسلم عنه وإقباله على البخاري ، فقال في المجلس: من قال باللفظ في القرآن فليعتزل مجلسنا، يقصد بذلك الإمام مسلم ، ففهمها مسلم وكان معه كراريس وعباءة، فوضع العباءة على كتفه وأخذ كراريسه تحت إبطه وقام من المجلس وانصرف، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أرسل له بكل مسموعاته، أي كل ما سمعه من الذهلي أرسله إليه مع حمّال أو قال جمّال، فكان ما أرسله حِمل بعير.

يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذه الحادثة: فما ضر الذهلي عند الله عز وجل ما فعله مسلم ، ولكنه ضر مسلماً، ثم إن الإمام مسلماً في المقابل -الذي لا يخطر على بال- أيضاً امتنع من الرواية عن الإمام البخاري .

أي: أن سبب الفتنة التي بينه وبين الذهلي هو الإمام البخاري ، ومع هذا يمتنع من الرواية عن الذهلي وعن البخاري في الوقت نفسه.

ولذلك الخطيب البغدادي يقول: وإنما كان ذلك لحدة في خُلقه. أي في خلق الإمام مسلم ، والإمام البخاري كذلك هو من أجل شيوخ مسلم ، ولكنه لم يرو عنه لا في الصحيح ولا في غيره.

تلاميذه ومن رووا عنه

أما الراوون عنه فهم كثرة، زادوا عن الثلاثين ألفاً، ولكنا لا نعد بعض هذا العدد الكثير إنما نعد منهم بعض الأئمة لنرى كيف أخذ هو عن الأئمة، وكيف أخذ عنه الأئمة.

فممن أخذ عنه صالح جزرة وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وكذلك الإمام الترمذي روى عن الإمام مسلم كثيراً، كما روى أيضاً عن الإمام البخاري، فكثيراً ما يقول الإمام الترمذي في صحيحه: سألت محمداً عن فلان، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فإذا قال ذلك فإنما هو محمد بن إسماعيل البخاري ، وأما مسلم فهو شيخه، وتخرّج عليه الإمام الترمذي ، ولكنه لم يرو عنه في جامعه في السنن إلا حديثاً واحداً، هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) الحديث السابع والثمانون بعد المائة السادسة.

وكذلك الذي روى عن الإمام مسلم هو إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه، وهو الذي روى عنه كتابه الصحيح.

إذاً: هذا الكتاب الذي بين يديك وهو الصحيح عن الإمام مسلم من رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه.

وكذلك من الراوين عنه ابن أبي حاتم ابن الإمام وهو إمام كذلك، وأحمد بن سلمة الحافظ -أحمد بن سلمة حافظ نيسابور- وكان قرينه -أي: كان معه في طبقة واحدة، يعني: مثله تماماً في الحفظ والضبط والإتقان والمعاصرة- وقد لزم أحمد بن سلمة الحافظ النيسابوري الإمام مسلم في رحلته إلى البصرة وغيرها.

وإمام الأئمة ابن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة روى عن الإمام مسلم، وهو تلميذه وخرّيجه كذلك، وأبو العباس السراج الإمام، وأبو عوانة الإسفراييني . وغيرهم كثير.

كلام أهل العلم في الإمام مسلم

أما الإمام مسلم فقد حاز مكانة عالية ومنصباً رائعاً عند أهل العلم، فأثنوا عليه بكلمات هي أحلى من العسل، فقال شيخه إسحاق بن منصور الكوسج في حقه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.

هذا كلام خرج من الشيخ لتلميذه، فإذا كان الأمر كذلك فما بالكم بالشيخ القائل لهذه المقولة؟ فإن إسحاق بن منصور الكوسج رباه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهاهو يقول هذا الكلام الطيب العذب في الإمام مسلم ، وهذا يدلنا على مكانة مسلم عند الأئمة من شيوخه وأساتذته، فإذا كان هذا الإمام بهذه المنزلة عند شيوخه فلا شك أنه لا بد أن يكون أعظم من ذلك عندنا.

وقال أيضاً إسحاق بن راهويه وهو شيخه كذلك: أي رجل يكون هذا؟ يعني: يستبشر له بمستقبل باهر مذهل، أي: لو عاش هذا الرجل فإنه سيكون له أمر عظيم.

وقال ابن أبي حاتم : كان مسلم ثقة من الحفاظ، كان ابن أبي حاتم وأبوه أبو حاتم يأتون بألفاظ الجرح والتعديل بلطف شديد جداً، فإذا قال أبو حاتم : صدوق فإنما هذا يعني عنده: أنه ثقة؛ وذلك لأن أبا حاتم نفسه قال: مسلم بن الحجاج صدوق، فأنت إذا وقفت على هذه الكلمة فستقول: كيف يكون صدوقاً وهو إمام متقن! فهذه الكلمة عند الإمام أبي حاتم تعني ما فهمت أنت: أنه إمام متقن، ولذلك لا بد من معرفة مصطلحات أهل العلم؛ لأن فيها معرفة كيفية الحكم على الرجال وعلى الرواة وعلى الأحاديث كذلك، فمثلاً الإمام البخاري إذا قال في الراوي: فيه نظر، فهو ضعيف، وإذا قال: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن خبره منكر.

وقال ابن بشار وهو محمد من شيوخ الإمام مسلم أيضاً: حفّاظ الدنيا أربعة -أي في ذلك الزمان-: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، والبخاري ببخارى، والدارمي بسمرقند، فعد من بين حُفّاظ الدنيا في ذلك الزمان مسلماً بنيسابور، وقدّمه على شيخه محمد بن يحيى الذهلي ، وربما كان ذلك لاتساع رحلة الإمام مسلم .

وهذا أيضاً من بركة الرحلة والحفظ، وقدّمه ابن عقدة على البخاري في روايته عن أهل الشام على جهة الخصوص، وقال: إن البخاري إنما كان يهم أحياناً في روايته عن أهل الشام، وليس كلامه هذا صحيحاً، ولكنه على أية حال قدّم الإمام مسلماً في روايته عن أهل الشام على الإمام البخاري ، وكذلك فعل المغاربة، فإنهم قدموا صحيح مسلم على صحيح البخاري ، وسنعرف وجه هذا الكلام إن شاء الله تعالى بعد قليل.

وأثنى عليه كذلك أبو عبد الله بن الأخرم ، وابن الصلاح أثنى عليه خيراً في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، قال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماماً حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وفاة الإمام مسلم رحمه الله

وأما وفاة الإمام مسلم فتوفي سنة261هـ كما قلنا عن عمر يناهز (خمسة وخمسين) عاماً.

وقيل في سبب وفاته ما جاء عن أحمد بن سلمة رفيقه في رحلته وصاحبه كذلك أنه قال: عُقد لـمسلم مجلس للمذاكرة، ومجلس المذاكرة يختلف عن مجلس التحديث، فمجلس التحديث هو أن يتهيأ الشيخ للتحديث إما إلقاءً وإما عرضاً، أن يتكلم الشيخ ويلقي ما عنده من أسانيد وأحاديث على الطلاب، وإما أن يكون المجلس عرضاً على الشيخ، أن يتكلم المستملي ويسمع الشيخ ثم يجيز بعد ذلك.

أما مجلس المذاكرة فهو مجلس أشبه بالمسامرة والأخذ والرد، فمجلس المذاكرة عُقد للإمام مسلم وذُكر فيه حديث لم يعرفه الإمام مسلم ، وكان هذا أيضاً أمراً منكراً عند أهل المجلس، كما أنه منكر عند مسلم كيف يفوته هذا الحديث؟ فانصرف إلى منزله بمجرد أن سمع هذا الحديث الذي لم يعرفه، وأوقد السراج وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، وهذا فهم طالب العلم، فإنه لا يستطيع التركيز ولا البحث الحقيقي إلا إذا كان في خلوة، فلا يمكن أبداً لطالب العلم أن يعيش في وسط زوجة وأولاد.. وهذا يصيح.. وهذا يطلب.. وهناك شيء من الضجّة. كيف يحصِّل العلم؟ فلا بد أن يكون لك في بيتك غرفة خاصة بك تدخل -بعد أن تقضي مصالح أهلك- وتغلق عليك بابك، ثم تختلي بـالبخاري وتختلي بـمسلم وبكتب أهل العلم، هذا إذا أردت علماً وأردت تحصيلاً.

فدخل مسلم وأوقد السراج وقال لمن بالدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، فقيل له: أُهديت إلينا سلة تمر، فقال: قدّموها ولا يدخل أحد منكم عليّ، فقدّموها فصار يأكل تمرة ويبحث: يأكل ويبحث.. يأكل ويبحث حتى أصبح وقد فني التمر ووجد الحديث. هذه القصة رواها البيهقي والحاكم ثم زاد الحاكم قال: وبلغني أنه منها مات، أي: من سلة التمر.

على أية حال منها أو من غيرها فقد مات سنة (261)هـ.

حول صحيح مسلم ومقدمته

دوافع مسلم لتصنيف صحيحه

ما الذي دفع الإمام مسلم إلى أن يصنف هذا الصحيح؟

الدوافع كثيرة جداً للتأليف والتصنيف. منها:

أنك تُعجب بموضوع لن تجد من سبقك فتفرده بالبحث وتصنف فيه كتابك.

ومنها أنك تُعجب بشخص فتُصنّف في أخلاقه وسلوكه ودينه وعقيدته تصنيفاً.

ومنها أن يكون ذلك رداً للجميل، كشخص صنع لك جميلاً ومعروفاً فأردت أن تذكره بالخير، وأن تخلّد ذكره بين الناس فتصنّف في مناقبه كتاباً.

ومنها غير ذلك كثير، ولكن أعلاها وأفضلها هو التصنيف لنصرة دين الله عز وجل.

ومنها التصنيف لطلب عزيز عليك، شخص يعزك أو تعزه ولا تستطيع أن ترد له قولاً أو طلباً أو أمراً؛ فإذا أمرك أو طلب منك لا يسعك المخالفة، كما فعل الإمام أحمد بن سلمة الحافظ مع الإمام مسلم ، فإنه هو الذي طلب منه أن يصنف في الصحيح كتاباً، ذكر هذا الإمام مسلم في مقدمة كتابه، ولكنه لم يسم الذي سأله، وسماه الحافظ البغدادي في كتاب تاريخ بغداد. قال: وهو أحمد بن سلمة حافظ نيسابور، وكذلك الإمام أحمد بن سلمة لمّح تلميحاً بهذا الأمر وأنه كان صاحباً لـمسلم في أثناء تصنيفه لهذا الكتاب.

وشر الدوافع والأهداف للتأليف والتصنيف الاعتداء على شرع الله عز وجل وسب الله كما فُعل في هذا الزمان، فهناك من ألّف ليسب المولى عز وجل، ومن ألّف ليسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ألّف ليسب أزواجه رضي الله تبارك وتعالى عنهن، فلا شك أن هذا شر وكفر محض، والدافع له ما كان مكنوناً في قلبه وفؤاده من نفاق وزندقة وإلحاد، وللأسف أن الناس يجتمعون حول من يرفع هذا اللواء من هنا ومن هناك، ويؤيدونه بالأموال، ويساندونه بجميع المسانيد حتى يستمر في مسيرته المشئومة، ويساعدونه بالأموال الطائلة، وربما طبعوها مجاناً، ليلقوا بها بين الناس وبين ضعاف النفوس والقلوب: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] فدين الله عز وجل مهما ناطحه ناطح فلا شك أن الناطح المصاب، فإن الله تعالى يحفظه بحفظه ويرعاه برعايته سبحانه وتعالى.

هذه بعض الدوافع التي تدفع المؤلف لأن يؤلف، ولكن ينبغي على من أراد أن يؤلف أو يصنف أو يحقق -ولا أبرئ نفسي- أن يكون الدافع له إلى التأليف تقوى الله عز وجل، وأن يكون الدافع له نصرة دين الله عز وجل؛ لأنه إن كان غير ذلك فلا شك أنه سيحرج بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، ثم ليكن همه بعد ذلك في أمر التحقيق والتصنيف مطروحاً لنفع المسلمين، ولنفع دين الله عز وجل.

جهود الإمام مسلم في تصنيف صحيحه

يقول أحمد بن سلمة : كنت مع مسلم في تأليف صحيحه (15)سنة، انظروا إلى هذا العمر وهذا الزمان الذي ألّف فيه مسلم الصحيح، فهو لم يتعجل كما يتعجل الكثيرون، فإن بعض المطابع تخرج علينا في كل يوم بعشرات بل مئات، ولا أكون مبالغاً إن قلت بآلاف الكتب والمجلات والصحف التي تلقى بين الناس، والناس يقرءون، وربما وجدت هذه الكتب والمصنفات قلوباً خاوية خالية فتمكنت منها، وكثير من القراء يقرءون كتباً لا يعرفون ضررها من مصلحتها ونفعها، فإذا قرأ كتاباً يقول: كيف يرده؟ ولذلك أنت تسمع كثيراً من الطلاب إذا قلت لهم هذا الكتاب فيه خطأ. الصفحة الفلانية أو السطر الفلاني يقول: كيف يكون كتاباً وفيه خطأ؟ وهذا أمر طبيعي؛ لأن الناشرين -إلا من رحم الله- فقدوا التقوى أو قلت عندهم، فجُّل همهم تحصيل المال والشهرة، فهم يدفعون بالكتاب قبل أن يستوي عوده لأجل تحصيل المال، لا يهمهم نشر العلم الصحيح ولا نفع المسلمين ولا غير ذلك.

يقول: ألّف هذا الكتاب من (12.000) حديث، أي: أن مجموع ما في صحيح الإمام مسلم من الأحاديث (12.000) حديث، هذا بالمكرر، ومعنى المكرر: أنه إذا كان للإمام المصنّف كالإمام مسلم عشرة شيوخ في رواية الحديث الواحد يُعد هذا الحديث عشرة أحاديث، وهو في الحقيقة حديث واحد، ولكن هذا التعداد الكثير إنما هو تعداد على حسب شيوخ الإمام في روايته لهذا الحديث، وهو بغير المكرر لم يبلغ الأربعة آلاف، وكذلك الإمام البخاري .

فالإمام مسلم عليه رحمة الله انتقى هذه الأحاديث من بين (300.000) حديث، وهذا هدي العلماء تحت قاعدة التقميش والتفتيش، والتقميش هو التجميع، ثم التفتيش وهو الانتقاء، فكان الواحد منهم إذا طلب العلم كتب كل شيء يسمعه الغث والسمين، الجيد والرديء، ولكنه إذا انتصب للتدريس انتقى حديثه، وإذا انتصب للتصنيف انتقى حديثه، فالإمام مسلم انتقى (12.000) حديث من(300.000) حديث، وكيف لا وقد فعل شيخه أحمد بن حنبل مثل فعله، فقال الإمام أحمد : انتقيت هذا المسند وهو لم يبلغ (30.000)، وقيل بالمكرر أيضاً: (40.000) أو (42.000) ، قيل: إنه انتقاها من بين (750.000) حديث، فهذا هدي العلماء عندما يطلبون العلم، يكتبون كل شيء، فإذا أرادوا أن يصنفوا أو يعلموا غيرهم انتقوا علمهم.

قال الإمام مسلم عليه رحمة الله: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة، فكل ما أشار عليّ في هذا الكتاب أن له علة وسبباً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة فهو الذي أخرجت.

هذا الكلام نستطيع أن نستفيد منه أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون له شيخ يرجع إليه، فما يقره الشيخ له كان هذا هو الذي يعتمد عليه الطالب، وإذا أنكر منه شيخه شيئاً كان ينبغي للطالب أن يُنكره أيضاً، فالإمام مسلم لم يصنّف كتاباً ثم يذهب سريعاً إلى المطابع ثم ينشره، وإنما كان حرصه أن يخرج العلم الصحيح الذي ليس فيه علة ولا سبب قادح للمسلمين، وبناء على ذلك كان أول شيء فكّر فيه أن يعرض صحيحه على العلماء الأفذاذ، فعرضه على أبي زرعة ، فالذي أنكره أبو زرعة في الصحيح أخّره مسلم ، والذي استبقاه في الصحيح أبقاه مسلم .

قال الإمام مسلم : ولو أن أهل الحديث كتبوا الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا المسند.

وهذا نص من الإمام يبيّن لك فائدة الصحيح، كما قال أيضاً من قبله شيخه الإمام أحمد بن حنبل لولده عبد الله : يا بني! احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماماً.

وكذلك قال ابن الأعرابي عن سنن أبي داود وهو كتاب مخصوص في الأحكام فقط، فهو أعظم مصنّف في الإسلام في باب الأحكام.

قال ابن الأعرابي : لو لم يكن في بيتك إلا كتاب الله تعالى الذي فيه كلامه وهذه السنن لكفاك، فهناك كلمات نستشعر منها عظمة المصنَّف.

كما أنه ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل، ومع استمرارنا في هذا الدرس سنبيّن ما هو الحديث العالي وما هو الحديث النازل؟

فعوالي الإمام مسلم قليلة، مما جعل الحفاظ يعمدون إلى أحاديث الكتاب، فيخّرجون عليها المستخرجات، والمستخرج هو: أن يعمد إمام إلى أحاديث كتاب من الكتب فيأتي بها بإسناد من غير طريق المصنِّف.

فإذا كان الإمام مسلم روى حديثاً عن يحيى بن يحيى التميمي عن مالك فأراد أحد الأئمة أن يعمل لهذا الحديث مستخرجاً أو أن يدخله في مستخرجه فإنه يأتي به من طريق مالك من غير طريق مسلم ، ولو كان مداره على رواية مسلم عن يحيى لما سُمّي مستخرجاً.

فقلة العوالي في صحيح الإمام مسلم جعلت بعض الأئمة يصنفون المستخرجات على هذا الصحيح، منها مستخرج أبي عوانة الإسفراييني ، ومستخرج أبي جعفر الحيري وأبي الوليد الفقيه ، وأبي حامد الهروي ، وأبي بكر الجوزقي ، وأبي علي الماسرجسي وأبي نعيم الأصفهاني وغيرهم كثير.

مقدمة الإمام مسلم على الصحيح

افتتح الإمام مسلم كتابه بمقدمة نفيسة، ولكن ينبغي أن نعرف أولاً أن الإمام حينما صنّف كتابه اشترط شروطاً، وكذلك البخاري فعل، والسؤال الآن: هل المقدمة التي جعلها الإمام مسلم كالباب للدخول إلى صحيحه اشترط فيها مثل ما اشترط في أصل الصحيح؟ الجواب: لا، إنما كان شرط مسلم في صحيحه، وأما المقدمة فلها حكم آخر.

فالإمام مسلم افتتح كتابه بمقدمة نفيسة ضمّنها فوائد جليلة من تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد في ذلك الآيات والأحاديث التي ترهّب وتوعّد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، والخلود فيها، فهذا باب عظيم لمن أراد أن يتعرف على هيبة الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام بما لم يكن عنده به علم، ثم نهى المرء عن الحديث بكل ما سمع: (كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع) ، وعقد له باباً وفصلاً مخصوصاً، ثم استدل لذم الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، فهذه ثلاثة أبواب من أهم أبواب المقدمة.

ثم عقد فصلاً لبيان أن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء في دين الله ما شاء، وذكر فيه أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو باب جيد فيما استدل به الإمام مسلم من أدلة، فالأصل أن ترجع أنت إلى هذه المقدمة، وكذلك إلى مقدمة الإمام النووي ؛ لتدرس هاتين المقدمتين دراسة جيدة واعية متفحصة؛ لأن دراستك لمقدمة أي كتاب هي بمثابة المفتاح الذي يُفتح به مغاليق الكتاب، ولولا أنك تقرأ مقدمة كل كتاب لما استطعت حل كثير من رموز الكتاب، وهذا في أي كتاب فضلاً عن كتب العلم المصنفة المسندة، ولو أننا تناولنا مقدمة الإمام النووي ، وكذلك مقدمة الإمام مسلم لقضينا فيها عاماً كاملاً حتى مل الناس، ولكننا نبدأ بأول الصحيح تيمناً حتى لا يمل المستمع والقارئ، فينبغي عليك ألا تركن إلى هذا إذ لا بد أن تدرس المقدمة، فكثيراً ما يقول النووي في أثناء الكتاب وعلى مداره: وهذه المسألة بحثناها وتقدمت في المقدمة.. وهذه المسألة تحريناها وقد تقدمت في المقدمة، فينبغي لك أن تقرأ المقدمة، ثم تأتي بعد ذلك لنبدأ سوياً في أصل الكتاب.

الحديث المعنعن .. بين البخاري ومسلم

يقول: ثم عقد باباً خاصاً لإثبات صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن.

والحديث المعنعن هذا هو بيت القصيد بين الإمام البخاري والإمام مسلم ، وهذا الباب أهم الأبواب في المقدمة على الإطلاق؛ لأنه محل خلاف عظيم بين السلف والخلف، فالإمام البخاري يقول كما قال شيخه علي بن المديني أيضاً: لا بد أن يثبت لدينا ولو مرة واحدة أن هذا الراوي التقى بشيخه الذي أخذ عنه العلم، فلا يكفي أن يقول: عن فلان، فالذي يثبت لدى البخاري أن هذا التلميذ التقى بذلك الشيخ، وأن يأتي هذا مسنداً، أي: يثبت بالدليل القطعي أن التلميذ التقى بشيخه، ولكن الإمام مسلماً يوافق البخاري في جزئية ويخالفه في أخرى. يقول: هذا في حق المدلّس، إذا كان الراوي مدلساً لا بد أن يثبت لقاؤه بشيخه، بل لا بد أن يثبت لقاؤه به في كل حديث يرويه، فلو أن المدلّس قال: عن فلان عن فلان عن فلان، وعدد شيوخه نتوقف في قبول روايته إن كان من أهل الطبقة الثالثة، والمدلسون خمس طبقات، فإن كان من أهل الطبقة الثالثة توقفنا في قبول حديثه حتى يصرّح بالتحديث، كأن يقول: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو أنبأنا فلان؛ لأن هذه الألفاظ والمصطلحات تعني: حصول التحديث والسماع، أما لو قال: عن فلان، فيُحمل على الانقطاع في أغلب أقوال أهل العلم، فهذه الجزئية وافق فيها الإمام مسلم الإمام البخاري ، وخالفه في جزئية أخرى. قال: لو أن الراوي ثقة لم يرم بالتدليس ولم يُتهم به، فما قيمة هذا الشرط وهو ثبوت اللقاء، فالإمام مسلم يقول: تكفي المعاصرة في إثبات اللقاء.

والمعاصرة: أن يعيش الشيخ والتلميذ في عصر واحد، وهذا كاف في إثبات اللقاء ما لم يكن التلميذ الراوي مدلساً، وهذا كلام مقبول ومقبول جداً.. الإمام البخاري يقول: وإن كان ثقة لم يرم بالتدليس لا بد من ثبوت اللقاء، فالخلاف بين البخاري ومسلم في هذه المسألة متعلق بمسألتين: اللقاء، والمعاصرة.

فالمعاصرة محل اتفاق بين البخاري ومسلم ، إنما الإشكال كله في لزوم ثبوت اللقاء، فـالبخاري يشترط ذلك، وأما مسلم فإني أسمع من الناس من يقول: لا يشترط ذلك! والصحيح أنه يشترط ذلك، وكل ما هنالك أنه قال: إن المعاصرة كافية في إثبات اللقاء ما لم يكن الراوي مدلساً، فكثير من طلبة العلم يردد: الإمام البخاري يشترط ثبوت اللقاء ولا يشترطه مسلم ! فقولك: ولا يشترطه مسلم هذا خطأ، والصواب: أن مسلماً يشترط، ولكنه يجعل المعاصرة كافية في إثبات اللقاء بشرط ألا يرمى الراوي بالتدليس، والإمام البخاري يقول: رُمي أو لم يرم لا بد من إثبات اللقاء.

فإن قيل: هل البخاري عليه رحمة يشترط ثبوت اللقاء كشرط خاص له في داخل الصحيح، أم أن هذا شرط في أصل الصحة؟

الجواب: جمهور أهل العلم يقولون: إن البخاري اشترط هذا الشرط في أصل صحة الحديث، سواء رواه في صحيحه أو في غير صحيحه، وربما نظر الناظر فوجد وترجّح لديه أن هذا الشرط إنما اشترطه البخاري في داخل صحيحه فقط؛ لأنك تجد الإمام الترمذي في جامعه يقول بعد أن يروي حديثاً: وسألت عنه محمداً فقال: صحيح، فإذا نظرت في هذا الحديث فإنك تجده خالياً من شرط البخاري وهو لزوم ثبوت اللقاء.

ثم إن الإمام البخاري نفسه يروي في خارج الصحيح من كتبه أحاديث كثيرة ليست على شرطه، قد أجمع أهل العلم على صحتها، فهذا أمر يدلك على أن شرط البخاري إنما كان في داخل صحيحه دون ما عداه، وهذه فائدة لطيفة ينبغي أن تحرص عليها.

منهج الإمام مسلم في ترتيبه لصحيحه

أما عن منهج الإمام مسلم في كتابه صحيح مسلم ، فقد قسّم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، والطبقات إلى ثلاث طبقات؛ أي أنه قسّم الحديث نفسه إلى ثلاثة أقسام، وقسّم الرواة إلى ثلاث طبقات، وكل طبقة مرتبطة بقسم، فالطبقة الأولى من الرواة مرتبطة بالقسم الأول من الحديث، والطبقة الثانية بالقسم الثاني، والطبقة الثالثة بالقسم الثالث.

فهو يروي عن الحفاظ الضابطين المتقنين الأئمة الأعلام القسم الأول، لكن كثيراً من الناس فهم خطأ هذا التقسيم، فقال: إن الإمام مسلماً حين صنّف الصحيح على ثلاث طبقات، جعل الثلث الأول من الكتاب حديث الحفاظ، والثلث الثاني من الكتاب حديث أهل الصدق والأمانة، ثم جعل القسم الثالث رواية المختلف فيهم، وهذا كلام غير صحيح، وأما قولنا: إنه صنّف الأبواب على هذه التقاسيم وهذه الطبقات، فهذا يعني: أنه فعل ذلك في الباب الواحد، يقول مثلاً: باب تحريم الكذب، فيأتي بثلاث روايات:

الرواية الأولى من رواية أهل الحفظ والضبط والإتقان من الأئمة الحفاظ، فيكون اعتماد الإمام مسلم على هذه الطبقة وعلى هذا القسم في الاحتجاج بهذه الرواية على صحة الباب.

والطبقة الثانية من طبقات الرواة هم من نزلوا عن الطبقة الأولى درجة، ولكنهم لم يخرجوا عن حد الاحتجاج، فهم أهل صدق وهم أهل أمانة وعدل، ولكن كل ما في الأمر أن روايتهم تنزل درجة عن رواية الحفاظ المتقنين أصحاب الطبقة الأولى.

فـمسلم عليه رحمة الله يأتي بأهل هذه الطبقة وهذا القسم استئناساً وتأصيلاً بجوار القسم الأول والطبقة الأولى.

وأما الطبقة الثالثة فهم قوم اختلف فيهم أهل العلم بين جرح وتعديل، فـمسلم عليه رحمة الله حين أورد روايتهم إنما أوردها استئناساً أي: لمجرد أن تكون شاهداً للرواية الأولى والثانية، ولم يوردها تأصيلاً واحتجاجاً، وأنه ليس في الباب غيرها، وإنما قد صح الباب من خلال الطبقة الأولى والقسم الأول، والطبقة الثانية والقسم الثاني، فكونه أوردها أو لم يوردها لا يؤثر ذلك في الحكم العام، فبان لنا بهذا أن الإمام مسلماً قسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام كما قسّم الرواية إلى ثلاث طبقات.

والإمام مسلم بن الحجاج من أئمة الجرح والتعديل، وما كان للإمام أن يورد حديث من رد هو روايته وخبره، فلا شك أن أهل الطبقة الثالثة إنما هم أقوام اختلف فيهم أهل الجرح والتعديل، وكون مسلم احتج بهم فلا بد أن يكون له قول حسن فيهم، وليس هذا بشرط في أصل الرواية وفي علم الجرح والتعديل، فربما روى إمام الجرح والتعديل عن راو ضعيف، ولا تكون رواية ذلك الإنسان عن ذلك الضعيف توثيقاً له، ولكن إذا كان هذا في داخل الصحيح للإمام مسلم وهو من أئمة هذا الشأن فإنما يكون ذلك تعديلاً له، فهذه فائدة مهمة أيضاً.

وادعى الحاكم عليه رحمة الله أن الإمام مسلماً وافته المنية قبل أن يفي بما وعد، فلم يأت إلا بالطبقة الأولى فقط، وتبعه على ذلك تلميذه الإمام البيهقي ، ولكن هذا كلام قد رده أهل العلم، منهم القاضي عياض رحمه الله، وبيّن أن مسلماً وفى بهذا التقسيم في صحيحه وهو القول الراجح والصواب.

الدفاع عن الإمام مسلم في إخراجه أحاديث من هم محل نظر عند أهل العلم

أما الرجال الذين أخرج لهم مسلم وهم محل نظر عند أهل العلم، ولا شك أنهم أصحاب الطبقة الثالثة منهم: مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وعبد الله بن عمر العمري مكبّراً أخو عبيد الله الثقة، والنعمان بن راشد وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب ومحمد بن عبد الله بن عقيل وغيرهم.

عاب العائبون على مسلم روايته عن هؤلاء، وهم بين ضعيف ومبتدع ومخلّط وغير ذلك، ولكن هذا ليس بعيب في حق الإمام مسلم، والدفاع عنهم من وجوه:

أولاً: أن يكون الراوي ضعيفاً عند غيره ثقة عنده كما قلنا؛ لأنه من أئمة الجرح والتعديل، فإذا كنت أنت ضعيفاً عند غيري ثقة عندي فما الذي يمنعني ويحجبني أن أحتج بكلامك وروايتك؟ ولا يقال في هذه الحال: الجرح مقدّم على التعديل، حيث لم يثبت لدى مسلم الجرح المفسّر الذي يطرح به رواية ذلك الراوي.

وأما الدفاع الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أن مسلماً وإن وافق أهل الجرح والتعديل في تضعيف هذا الراوي إلا أننا مع البحث نجد أن الإمام احتج بروايته في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أنه احتج به في القسم الثالث.

والدفاع الثالث: أن يكون ضعف الضعيف أو اختلاط المختلط حصل له بعد أن أخذ عنه مسلم في زمن استقامته، فلا يقدح ذلك في روايته في الصحيح كـأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، أي: أن مسلماً حينما رحل إلى مصر أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو في عنفوان شبابه وقوة ذاكرته، فعندما خرج مسلم من مصر وكبر أحمد بن عبد الرحمن بن وهب اختلط بعد ذلك، وحصل ضعف في عقله، فاختلطت عليه الأسانيد بمتونها، فعيب على مسلم أنه أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقد اختلط، فقال: إنما أخذت عنه قبل الاختلاط، وحينما كنت بمصر لم يكن حدث له الذي حدث وأنا بمصر، فلا بد أن يميّز بين رواية الضعفاء والمختلطين قبل ما حدث لهم من ضعف واختلاط وبعد ما حدث لهم، فإن الرواية عنهم قبل الاختلاط لا شك أنها مستقيمة، وبعد الاختلاط إن تميزت فبها ونعمت، وإن لم تتميز رُدّت.

وأما الدفاع الرابع: أن يكون الحديث عالياً بسند ضعيف عند الإمام مسلم ، أي: أن الإمام مسلماً عنده حديث بسندين: أحدهما عالٍ والآخر نازل.

والعالي إلى النبي عليه الصلاة والسلام: أن يكون بينك وبين النبي عليه الصلاة والسلام أقل في الإسناد العالي مما بينك وبينه في الإسناد النازل في الحديث الواحد.

فلو أنني رويت الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فكان بيني وبينه (25) رجلاً، خير من أن يكون بيني وبينه (30) رجلاً؛ لأنه كلما كان العدد أكثر كان الإسناد أبعد، وهذا الذي نسميه إسناداً نادراً، ولكن حينما أرتفع وأختصر خمسة من الرجال وخمس طبقات من الإسناد، فلا شك أنني أعلو بسندي وأقترب به من المتكلم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا بالنسبة لي إسناداً عالياً، وكان السلف مولعين بمسألة الإسناد العالي، حتى قيل لأحدهم: ماذا تشتهي؟ قال: بيتاً خالياً وإسناداً عالياً.

ومن أعظم أسباب علو الإسناد الرحلة في طلب الحديث، ألا تنظرون إلى ذلك الرجل الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا رسول الله! أتانا رسولك فقال: إن الله تعالى قد فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة آلله أرسلك بهذا؟ قال: نعم، ثم عدد بقية الشرائع) هذا الرجل لم يتقصد اتهام رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن يأتي بإسناد عالٍ، فبدلاً من أن يأخذ عن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.

فلو أن محمداً قال قولاً أبلغني به إبراهيم وأنا بإمكاني أن ألقى محمداً، فقد ذهبت إليه ولقيته وقلت له: أأنت حدثت إبراهيم بكيت وكيت وكيت؟ فقال: نعم، فقلت له: حدثني به فحدثني به، فلو أني رويت هذا الكلام عن إبراهيم عن محمد خير أم عندما أرويه عن محمد مباشرة؟ الجواب: عن محمد مباشرة خير، وهذا هو الذي نسميه إسناداً عالياً.

فأحياناً يقع للإمام مسلم حديث واحد بإسنادين أحدهما نازل بإسناد صحيح وكل رواته ثقات، والثاني إسناد عال لكن فيه راو ضعيف، ومسلم لولعه بالإسناد العالي يترك الإسناد الصحيح النازل ويأخذ الإسناد العالي الذي فيه ضعف، وليس هذا من باب أنه يفضّل الإسناد العالي وإن كان ضعيفاً، ولكن من باب أن الأمر في كل الأحوال ثابت في الشرع بهذا الدليل وبغيره، فما دام الأمر معلوماً عند أهل الشأن أنه ثابت والأدلة فيه كثيرة فـمسلم انتقى فائدة وهي علو السند، فآثر أن يأخذ هذا الإسناد على طعن فيه ويترك الإسناد الصحيح النازل؛ لأن المسألة معلومة بداهة عند أهل الشأن.

مميزات صحيح مسلم على صحيح البخاري

لو أردنا أن نعقد موازنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم لذكرنا أولاً المميزات والسمات البارزة التي ترجّح صحيح الإمام مسلم على صحيح البخاري ، وبعقد هذه المقارنة بإمكاننا أن نكون قد أحطنا علماً بالكتابين؛ كتاب الصحيح للإمام البخاري وكتاب الصحيح للإمام مسلم .

اعتناء مسلم بالتمييز بين ( حدثنا وأخبرنا) وتقييد ذلك على مسالكه

فالإمام مسلم امتاز عن الإمام البخاري ببعض المميزات:

أولها: أن الإمام مسلماً سلك مسلكاً في صحيحه، وهو أنه سلك طريقة طريفة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرّح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه لا يهتدي إليها إلا أفراد في الآثار، كاعتنائه بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا)، وتقييد ذلك على مسالكه، فالإمام مسلم يفرّق بين قوله: (حدثنا وأخبرنا) كما يفرّق بين قوله: (حدثنا وحدثني)، فإذا قال الإمام: حدثنا زهير بن حرب فهذا يعني: أنه حدثه في مجلس التحديث، أي: في اجتماع الناس، في هذا المجلس يقول رجل: (حدثنا فلان) ولا يقول: (حدثني فلان)، بل حتى اللغة لا تشهد له بذلك، فإذا قال الراوي: (حدثنا) أي: حدثنا في جمع، وإذا قال: (حدثني)، أي: حدثني وحدي.

وكذلك يفرّق بين لفظ: (حدثنا وأخبرنا)، فـ(حدثنا) هو من لفظ الشيخ ما لم يُقيد بخلاف (أخبرنا) فـ(أخبرنا) هو أن يكون الأمر عرضاً على الشيخ، وذلك بأن يقرأ أحد الحضور والشيخ يسمع، ثم يقر هذا الحديث أو هذا الاستملاء، فهذا يقول فيه جمهور أهل العلم: (أخبرنا) ولا يقولون فيه: (حدثنا)، وغيرهم يقول: (حدثنا فلان عرضاً عليه)، فهذا تقييد، ولو كان الأمر مهملاً بلا تقييد لحُمل اللفظ (أخبرنا) على العرض على الشيخ.

فكذلك اعتنى مسلم بضبط هذه الألفاظ في متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبته أو غير ذلك.

أهمية صحيح مسلم من حيث تتابع رواياته وطرقه في الباب الواحد

الصفة الثانية التي انفرد بها مسلم عن البخاري : أنه انفرد بكونه أسهل تناولاً، وهذا في الحقيقة هو الذي رجّح أن ندرس صحيح الإمام مسلم ، أنه أسهل في التناول.

فالإمام مسلم إذا أراد أن يحتج لباب أورد أدلته كما قلنا على التقاسيم والطبقات، وكانت روايته متتابعة في الباب الواحد، فالذي يريد أن يبحث عن حديث أو عن باب عند الإمام مسلم يجد هذا الحديث بكل طرقه التي رواها مسلم في مكان واحد، فلو أنك مثلاً أردت أن تبحث عن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لوجدت أن الإمام مسلماً رواه في كتاب الإمارة في موطن واحد، لكنَّ الإمام البخاري قطّع هذا الحديث ورواه في عدة مواطن، بلغت سبع مواطن في الصحيح، ولا شك أن تقطيع الحديث يُذهب ببهائه، ولكن الإمام البخاري إنما قطّعه لفائدة فقهية، أو نكتة حديثية أو غير ذلك، فهو يورده في سبعة أبواب، فإذا رجعت إلى هذا الحديث لوجدت أن إيراده تحت كل باب فيه فائدة تختلف عن الفائدة التي سبقت.

مثال آخر: حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس) وفي رواية (ست) لوجدت الإمام البخاري قطّع هذا الحديث أجزاء، كل جزء جعله تحت باب معيّن.

والإمام مسلم يورد هذا الحديث بطرقه في مكان واحد، فلا شك أن تقطيع الحديث فيه صعوبة في الحصول عليه بخلاف إيراده في مكان واحد، فإنك إذا وصلت إليه وصلت إلى بغيتك وانتهى الأمر، ولكنك إذا بحثت عن حديث قطّعه الإمام البخاري في الصحيح فربما بلغت إلى موطن واحد وظننت أنه لم يخرجه إلا في هذا الموطن، وإذا بك تخرج من هذا الباب ولم تأخذ بغيتك، ولم تأخذ ما كنت ترجوه عند الإمام البخاري ، ثم بعد ذلك نراك تقول: ولم يخرجه الإمام البخاري إلا في الموطن الفلاني، وكنت أظن أنه يخرجه في باب كذا أو باب كذا، أو يستشهد به على كيت وكيت، ولكنه لم يفعل غير أنه أورده في موطن واحد، والحقيقة أن الأمر ليس كما ظننت، وهذا الكلام أقوله قبل أن تظهر مسألة الفهارس والتحذيرات، فأنت عندما تبحث الآن عن حديث رواه البخاري بإمكانك من خلال تحفة الأشراف للإمام المزي أن تصل إلى كل أماكن الحديث من خلال كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، فمن خلال كتب أطراف الأحاديث وأوائل الأحاديث تصل إلى الأماكن والمواطن التي خرجها صاحب الصحيح أو غيره في صحيحه أو في الكتب الأخرى.

قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب الجزء العاشر صفحة (127): حصل لـمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح البخاري ، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى.

بخلاف البخاري فإنه يفرق هذه الدقائق المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكرها في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به لدقيقة يفهمها الإمام البخاري نفسه؛ فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث، كأن الحديث معلق في مكان وموصول في مكان آخر.

يقول النووي : وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم.

قلة المعلقات في صحيح مسلم

الميزة الثالثة كذلك عند الإمام مسلم على البخاري : أن المعلقات التي في الإمام مسلم قليلة جداً إذا قورنت بالمعلقات عند الإمام البخاري ، فالمعلقات كما قال أبو علي الغساني عند الإمام مسلم بلغت (14) موطناً، وأما الموقوفات فهي كثيرة عند مسلم ، ولكنها في أعقاب الأحاديث المرفوعة، أي: بعد أن يذكر حديثاً مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: وقال فلان: كذا، وقال أبو هريرة ، وقال عبادة ، وقال أنس كذا، قوله: (وقال) هذا تعليق، فالمعلقات عند الإمام مسلم أقل بكثير جداً من المعلقات عند الإمام البخاري .

والأمة على أية حال تلقت هذين الكتابين بالقبول على الإجمال لا التفصيل، بدليل أن هناك بعض الأئمة كـالدارقطني وغيره انتقد على البخاري ومسلم بعض الروايات، فتبين أن قبول الأمة لهذين الكتابين إنما هو على سبيل الإجمال لا التفصيل، أي أنها تلقت الكتابين هكذا جملة وقدمتهما على رأس الكتب المصنفة، فهما أصح الكتب المصنفة، ولا نقول: أصح الكتب المصنفة بعد كتاب الله، فكتاب الله غير مصنّف.

فالأمة حينما تلقت هذين الكتابين بالقبول اختلف أهل العلم في تقديم البخاري على مسلم، أو مسلم على البخاري على ثلاثة أقوال: منهم من جعل الكتابين سواء: البخاري كـمسلم ومسلم كـالبخاري .

ومنهم من قدّم البخاري وهو الصحيح.

ومنهم من قدّم مسلماً.

مميزات صحيح البخاري على صحيح مسلم

استفادة مسلم من البخاري واعترافه بأنه ليس له نظير في الحديث

وينبغي تقديم مسلم على البخاري بما ذكرناه من مميزات ميّزت مسلماً عن البخاري ، وأما غير ذلك فيرده الواقع والمشاهد، فإن الإمام البخاري لا شك أن صحيحه مقدم على صحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم وذلك من عدة وجوه:

صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في الحديث، حتى ثبت عنه أنه قال: دعني أقبّل قدميك يا طبيب الحديث! وانظروا إلى هذا الأدب الجم من مسلم للبخاري ، ومسلم حينما قال هذا القول كان إماماً، إذ لم يقل هذا القول وهو تلميذ، أو هو يقرأ كتاباً كفقه السنة ثم صار شيخاً، ولكنه قال ذلك في حال كونه إماماً مبجلاً عظيماً قدّمه في ذلك الوقت إسحاق بن راهويه وابن منصور الكوسج وأبو زرعة قدموه ورفعوه، وفي هذا الوقت ثبت أنه قال للبخاري : دعني أُقبّل قدميك، لم يقل له: يديك ولا رأسك، وإنما قال: قدميك يا طبيب الحديث! ومعلوم أن الطبيب إنما يداوي العلل، فقوله: يا طبيب الحديث! أي: يا من ينقّب عن الأحاديث وعن عللها، فيميّز منها الصحيح من السقيم.

والإمام الدارقطني يقول: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء.

وحين سُئل بعض أهل العلم عن صحيح الإمام مسلم قال: وما ذاك؟ إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجه، أي: عمد إلى كتاب البخاري فأتى بأحاديثه من غير طريق البخاري كما قلنا في بيان المستخرج، فهذا لا شك أنه مرجّح لصحيح البخاري على صحيح مسلم ، والبخاري أجل من مسلم وأعلم في صناعة الحديث منه، وقد انتخب علمه ولخّص ما ارتضاه وهذّبه في (16) عاماً، ومسلم صنّف صحيحه في (15) عاماً.

سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم

المرجّح الثاني سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم .

اتفقنا على صحة الشرطين، لكن يبقى هناك شرط أسد وأقوى، وقد تكلمنا في مسألة اللقاء الذي اختلف فيه البخاري ومسلم وشنع فيه مسلم في مقدمة صحيحه حتى قيل: إنه يقصد البخاري ، وقيل: إنه يقصد علي بن المديني ، وعلى فرض أنه يقصد مذهباً ولا يقصد شخصاً، فإنه لا شك أن الذي يشرط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه أقوى ممن اكتفي بمجرد المعاصرة، وإن كنا نقول بصحة شرط الإمام مسلم إلا أننا نقول: إن شرط البخاري أصح وأسد وأقوى وأكثر اطمئناناً للنقل.

فما دام هذا الشرط أسد وأقوى فهذا مرجّح يرجّح البخاري على مسلم .

فالرجال المتكلم فيهم عند الإمام البخاري أقل من الرجال المتكلَّم فيهم عند الإمام مسلم ، وهذا وحده كاف في ترجيح البخاري في الجملة على مسلم ؛ لأن النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام البخاري أقل من النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام مسلم .

البخاري أكثر تمييزاً لرواياته من مسلم

وفائدة أخرى: أن الرجال المطعون فيهم عند الإمام البخاري هم شيوخه هو، وأما المطعون فيهم عند الإمام مسلم فليسوا بشيوخه وإنما هم شيوخ شيوخه ومن علا، ومعلوم أن الرجل إن كان يعلم أن شيخه وجّهت إليه التهم فلا شك أنه يتحفّز ويتأهب للرواية عنه وينتقي حديثه، ومعلوم أنك إذا كنت شيخاً لي وأنا أعلم أن حديثك فيه نظر فهذا يدفعني إلى انتقاء حديثي ولا آخذ منه إلا أجوده وأحسنه، فالرجال الذين انتقدوا على الإمام البخاري هم شيوخه، وقد عني بحديثهم، وميّز بين صحيحه وسقيمه فاختار الجيد وترك الرديء.

أما الإمام مسلم فلا شك أن الرواة الذين انتقدوا عليه إنما هم شيوخ شيوخه ومن علا؛ ولذلك قل تمييزه بين هذه الروايات، وهذا أيضاً مرجّح يرجّح صحيح البخاري على صحيح مسلم .

فـالبخاري يخرّج عن أصحاب الطبقة الثانية، ونحن عرفنا أن عند مسلم طبقات ثلاث. قلنا: الطبقة الأولى: هم أهل الحفظ والإتقان والضبط الثقات الأئمة.

والطبقة الثانية: أهل الصدق والأمانة والعدل.

فالإمام مسلم يخرّج لأهل الطبقة الأولى والثانية تأصيلاً في الباب، أي: أنه يحتج بروايتهم، وأما الطبقة الثالثة فيأتي بها استئناساً، لا استشهاداً ولا تأصيلاً.

أما الإمام البخاري فإنه يروي عن الطبقة الأولى تأصيلاً، وعن الطبقة الثانية استئناساً.

فالإمام مسلم يروي عن الطبقة الثانية تأصيلاً، في الوقت الذي يروي عنهم الإمام البخاري استئناساً لا استشهاد، وهذا أيضاً مرجّح من المرجحات.

تميز البخاري بتبويب صحيحه تبويباً يظهر فقهه

من مميزات البخاري على مسلم أن مسلماً رتب كتابه على الأبواب، فهو مزود، أي: أن مسلماً حينما أراد أن يرتب الكتاب الصحيح رتبه على الأبواب، ولكنه لم يبوب، يعني: لم يذكر: باب كذا وكذا، ولكن الذين أتوا من بعده وشرحوا الصحيح هم الذين بوبوا؛ ولذلك مع كثرة شروح الإمام مسلم وكثرة التبويب وكل شارح يبوب حسب ما يتراءى له من فوائد وأحكام صار منها الجيد ومنها الرديء؛ لأنها ليست من صنع الإمام، أما الإمام البخاري فيختلف، إذ هو الذي ذكر تراجم الأبواب، وهو الذي بوّب لأبوابه وكتبه.

ولذلك فإن البخاري ليس محدثاً فحسب، وإنما تلحظ أن الإمام البخاري فقيه بمجرد التبويب، ولو أنك نظرت في كتاب الإيمان، أو في كتاب الصلاة، أو في كتاب العتق، أو في كتاب الرق، أو في أي كتاب من الكتب لوجدت أن مجرد عناوين الأبواب دالة على فقه الإمام البخاري ، فـالبخاري لم يكن محدثاً فحسب، ولكنه كان فقيهاً إلا أنه غلب عليه الحديث، كما كان الإمام أحمد بن حنبل وهو شيخه كذلك، كان محدثاً عظيماً، وكان فقيهاً كذلك، والإمام الشافعي كان محدثاً، ولكنه غلب عليه الفقه، والإمام أبو حنيفة كان محدثاً وغلب عليه الرأي والفقه، والإمام مالك صاحب الموطأ كان محدثاً وهو أول من صنّف في الصحيح على الإطلاق، ولكنه أيضاً غلب عليه الفقه، وهذا يُرد به على الذين يريدون أن يطعنوا في علمائنا حين يقولون عنهم: المحدثون ليسوا فقهاء، والفقهاء ليسوا محدثين، فأئمتنا كانوا محدثين وفقهاء في الوقت نفسه.

ذكر بعض الكتب الشارحة لصحيح مسلم

يجدر بنا أن نذكر بعض الكتب التي تناولت صحيح الإمام مسلم بالشرح، ورتبتها على الترتيب الزمني، فأولها: شرح مسلم لـأبي عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني المتوفى سنة (520هـ).

والمفهم في شرح الإمام مسلم للإمام عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي المتوفى سنة (529هـ).

وكتاب الإيجاز والبيان لشرح خطبة كتاب مسلم مع كتاب الإيمان، وهذا شرح لجزء من الصحيح وهو كتاب الإيمان فقط، لـابن الحاج قاضي قرطبة أيضاً. توفي سنة (529هـ).

وكتاب شرح مسلم لـأبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة (535هـ)، ولكنه لم يتم.

وكتاب المعلم بفوائد مسلم ولم يتم، أيضاً للإمام المازري ، وفي أثناء دراستنا لهذا الصحيح سنعلم أن الإمام النووي استفاد من الإمام المازري والإمام القاضي عياض استفادة عظيمة جداً، لدرجة أنه قيل: إن الإمام النووي لم يكن له جهد وفضل في شرح الصحيح، إنما جمع كتاب المازري وكتاب القاضي عياض ونقل منهما، وأكمله القاضي عياض بكتاب سماه إكمال المعلم بفوائد مسلم ، وهو عمدة النووي أيضاً في الترجيح.

وشرح مسلم لـعماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلي المصري المتوفى سنة (624هـ).

وكتاب صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لـابن الصلاح المتوفى سنة (643هـ).

وكتاب المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم لـأبي عبد الله محمد بن يحيى الأنصاري المتوفى سنة (646هـ).

وشرح مسلم لـسبط بن الجوزي المتوفى سنة (654هـ).

وكتاب المفهم في شرح مسلم للإمام القرطبي -وهو كتاب جليل- المتوفى سنة (656هـ).

وكتاب المنهاج شرح مسلم بن الحجاج ، واسمه شرح الإمام النووي المتوفى سنة (676هـ).

وكتاب شرح مسلم للنابلسي المتوفى سنة (734هـ).

وكتاب غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السخاوي المتوفى سنة (902هـ).

وكتاب الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السيوطي وهو قرين الإمام السخاوي ومات سنة (911هـ).

وكتاب شرح مسلم للقاضي زكريا الأنصاري المتوفى سنة (926هـ).

وشرح مسلم لـملا علي القاري المتوفى سنة (1016هـ).

وكتاب شرح مسلم لـعبد الرءوف المناوي المتوفى سنة (1031هـ).

وكتاب السراج الوهاج في كشف مطالب مسلم بن الحجاج لـصديق حسن خان المتوفى سنة (1307هـ).

وكتاب فتح المنعم بشرح صحيح مسلم للدكتور موسى شاهين ياسين من المعاصرين.

وهناك جهود أخرى بُذلت في استنباط الدرر والفوائد المتينة في هذا المصنف القيم، والله تعالى يبارك الجهود ويكللها بالتوفيق والسداد. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

حكم حديث الخاطب مع خطيبته

السؤال: هل يجوز أن يتحدث الخاطب مع خطيبته قبل العقد؟

الجواب: من حيث الجواز يجوز إذا كان الزواج قائماً، والتحدث مع المرأة الأجنبية إذا أُمنت الفتنة ودعت المصلحة جائز، فكذلك المخطوبة من باب أولى.

ولكني سمعت شيخنا الألباني ينهى عن ذلك ويشدد فيه، حتى قال: لا يجوز ولا حتى الاتصال بالهاتف، فلك أن تأخذ بهذا، والله تعالى أعلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net