إسلام ويب

اختلفت أقوال العلماء في حد الحديث الحسن، فقد عرفه الخطابي بتعريف، والترمذي بتعريف، وابن حجر بتعريف، وغيرهم، وحاصل أقوالهم مرده إلى تعريف الحسن لذاته والحسن لغيره.

تعريف الحديث الحسن لذاته

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

من قبل قسَّمنا الحديث من حيث وروده إلينا -أي: بعدد طرقه- إلى متواتر وآحاد، وما كان منه مروياً بطرق غير محصورة فهو المتواتر، وما كان منه محصوراً بطرق محددة فهو الآحاد؛ فإن كان مروياً بطريق فهو الغريب، وهو الفرد، وإن كان بطريقين فهو العزيز، وإن كان بثلاث طرق فهو المشهور؛ هذا التقسيم الأول.

ثم قسمنا بعد ذلك الآحاد من حيث القبول والرد إلى مقبول ومردود، وقلنا: إن المقبول هو الصحيح والحسن، والمردود هو الضعيف بجميع أنواعه.

وقسمنا هناك الصحيح إلى نوعين: صحيح لذاته ولغيره، وكذا الحسن: حسن لذاته ولغيره، وقد فرغنا -بحمد الله تعالى- من الكلام عن الصحيح لذاته، وقد فرغنا من الحديث الصحيح لذاته، فكان من الطبيعي أن نتعرض -بعد أن فرغنا منه- للحديث الصحيح لغيره، ولكننا نرجئ هذا النوع إلى ما بعد بيان ومعرفة ما هو الحسن لذاته، وإذا تبين لنا الحديث الحسن لذاته علمنا الصحيح لغيره من تلقاء أنفسنا.

أما الحسن لذاته فاختلف فيه أهل العلم اختلافاً عظيماً إلى أكثر من عشرين قولاً، كلهم جعلوا حداً وتعريفاً لمعنى الحسن ، هذه التعريفات إما أنها جامعة غير مانعة، وإما أنها مانعة غير جامعة، ومرد هذه التعريفات المختلفة لأهل العلم في بيان حد الحديث الحسن وتعريفه إلى أمرين، ومن هذه التعريفات:

تعريف الإمام الخطابي للحديث الحسن والتعقيب عليه

تعريف الإمام الخطابي الذي يقول فيه: هو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء.

لو نظرنا إلى هذا التعريف لوجدنا أنه يمثل اتجاهاً للتعريفات، ومعنى ذلك: أن كثيراً من التعريفات العشرين التي ذكرناها إنما تدخل وتنحصر في هذا التعريف، فهذا التعريف كالرائد لكثير من التعريفات في حد الحديث الحسن؛ ولذلك اخترنا في هذا الاتجاه التعريف الذي يشمل كثيراً من التعريفات، وهو تعريف الإمام أبي سليمان الخطابي رحمه الله.

قوله: (هو ما عرف مخرجه) هذا الكلام غير مانع؛ لأن الحديث الصحيح معروف المخرج أيضاً، بل وكذلك الحديث الضعيف معروف المخرج، ولكن شتان ما بين المعرفتين، فالحديث الصحيح معروف مخرجه من حيث توثيق رجاله وحفظهم وإتقانهم وسلامة رواية كل راو عن شيخه، واشتهاره بذلك الشيخ، فهذا أيضاً معروف المخرج، والحديث الضعيف معروف المخرج.

فإذا روى راوٍ معين عن شيخ، وهذا الراوي معلوم معروف بأنه ضعيف عن ذلك الشيخ على وجه الخصوص فيكون معروف الخرج، لكنه ضعيف، كمن يروي من غير عبد الله بن يزيد المقري ، وعبد الله بن المبارك ، وعبد الله بن وهب المصري عن ابن لهيعة ؛ فإن هؤلاء الثلاثة معروف أن روايتهم عن ابن لهيعة مستقيمة، وما عداهم روايتهم فيها نظر، فإذا كان الراوي عن ابن لهيعة من غير هؤلاء الثلاثة قيل: إنه معروف المخرج بالضعف، وأما إذا كان أحد الثلاثة العبادلة الذين ذكرناهم فإنه يقال: إنه معروف المخرج بالصحة والاستقامة.

و قتادة بن دعامة البصري إذا كان يروي عن أهل البصرة فمعروف أن حديثه على استقامة، وإن كان عن غيرهم فمعروف أن روايته فيها نظر؛ لأجل التدليس، لا لغيره.

مثال آخر في حديث قتادة : إذا كان الراوي عن قتادة شعبة فيستوي بعد ذلك أن يقول قتادة : (عن) أو (حدثنا)؛ لأن شعبة قال: أكفيكم تدليس قتادة ، فما أتاكم من حديث قتادة عن طريقي فإنما هو من صحيح حديثه؛ لأن قتادة لم يكن يدلس في حضرة شعبة ، فإذا ذهب شعبة بدأ يدلس على الموجودين، والتدليس أنواع.

وكذلك هشيم بن بشير كان يدلس أمام الناس جميعاً، لا يضره بعد ذلك أن يكون هناك طالب من الطلبة يختبر حديثه أم لا؟ وكان يدلس نوعاً من التدليس اسمه تدليس العطف، والتدليس حوالي ثمانية أنواع، فتدليس العطف اشتهر به هشيم بن بشير ، فكان يحدث وهم ألوف مؤلفة بأحاديث كثيرة وعظيمة وهم لا يعترضونه، ففي آخر المجلس قال: فرغنا، هل دلست عليكم اليوم؟ قالوا: لا، ولا حديثاً واحداً، قال: والله! ما من حديث إلا وقد دلست فيه، قالوا: كيف؟ قال: إنما حدثتكم اليوم من أول المجلس إلى آخره بأن قلت: حدثنا فلان وفلان، حدثنا فلان وفلان، حدثنا فلان وفلان، فما قلت فيه: حدثنا فلان فهو حدثني، وما قلت فيه: وفلان، فلم يحدثني، أي: أنه عطف الرواية عن شيخه الثاني عليه هو، لا على لفظة (حدثنا).

يعني: الآن عندما أقول لك: حدثني فلان وفلان، فقولي: حدثني فلان، لا يحتمل إلا التحديث، إنما قولي: وفلان، يحتمل التدليس؛ ولذلك أهل العلم قالوا: من ألفاظ التدليس (وعن) في تدليس العطف بالذات، على اعتبار ما فعله هشيم ، فـهشيم قال: الواو لفظ من ألفاظ التدليس، وهو كقولك: حدثني فلان وفلان، فأنت لا تعطف الشيخ الثاني على الشيخ الأول الذي حدثك.

و هشيم فعل هذا ليثبت لطلبته أنهم لا يقدرون على التفريق بين ألفاظ التدليس، وليعلمهم، وإلا لو كان يريد أن يمرر حديثه لما بين لهم.

فقوله: (هو ما عرف مخرجه)، أي: الطريقة التي يروي بها الرواة بعضهم عن بعض، فإن كان هذا المخرج معروف الصحة فهو حديث صحيح لصحة المخرج، وأما إذا كان معروف المخرج بالضعف فهو ضعيف.

فقول الإمام الخطابي : الحديث الحسن: هو ما عرف مخرجه، هذا كلام غير مانع؛ لأن الصحيح كذلك معروف المخرج، والضعيف أيضاً معروف المخرج، فأنا عندما أقول لك: حدثنا فلان عن فلان، تقول لي: يا أخي هذا غريب جداً؛ ففلان هذا شيخك لا يروي عن ذلك الشيخ الذي يروى عنه، ولا هو معروف ولا مشهور بالرواية عنه، ففي هذه الحالة سأسميه: رواية غير معروفة المخرج.

أما إذا كان هناك شيخ ثقة يروي عنه تلميذ عرف بالملازمة والرواية عنه، فعندما أقول لك: حدثني فلان عن فلان؛ تقول لي: هذه رواية مقبولة؛ لأنه معروف عندك أن ذلك التلميذ إنما أخذ العلم عن ذلك الشيخ الثقة، فهذا معنى قولنا: حديث معروف المخرج.

وقوله: (واشتُهر رجاله)، وهذا الشرط الثاني، وهذا الكلام يرد عليه بما رد سابقاً على قوله: (ما عرف مخرجه)؛ لأن الرجل قد يكون مشهوراً إما بالصحة، أي: التوثيق، وإما بالضعف، يعني: ليس لزاماً أن تكون الشهرة بالتوثيق فقط، بل ربما تكون بالتضعيف، فيقال: هذا رجل مشهور بأنه ضعيف، وفلان مشهور بأنه كذاب، فليس لزاماً أن تكون الشهرة في التصحيح، مثل من يقول: أنا لا بد أن أفكر في عمل اشتهر به بين الناس، ولو سيئاً، المهم أن يخلد ذكره، ويذكر في الكتب، فبال في ماء زمزم حتى يقال إلى يوم القيامة: ذلك الرجل الفلاني الذي بال في ماء زمزم، ويكون فرحاً أنه سيذكر على الألسنة، وأن ذلك خير من عدم ذكره.

وقوله: (وعليه مدار أكثر الحديث)، أيضاً هذا كلام منتقد؛ لأنه عندما يقول: الحديث الحسن عليه مدار أكثر الحديث، وكأنه يقول: إن معظم السنة لم تثبت صحتها ولم يثبت ضعفها، وإنما هي وسط بين الصحيح وبين الضعيف، وهذا الكلام مرفوض.

فمدار الحديث على الصحيح، ثم من الذي حصر السنة حتى علم أن معظم السنة يدل على الحسن؟ هذا ليس في طاقة عالم، فضلاً عن غيره.

وقوله: (وهو الذي يقبله أكثر العلماء)، وهذا الكلام أيضاً مردود؛ لأن الذي يقبله أكثر العلماء هو الصحيح.

وقوله: (ويستعمله عامة الفقهاء)، وعامة الفقهاء يستعملون الحديث الصحيح والحسن بل والضعيف.

إذاً: هذا التعريف وجِّهت إليه انتقادات كثيرة، وهذا الحديث الحسن هو بيت القصيد في اجتهاد المحدثين، خاصة الحسن لغيره؛ لأنه فيصل ما بين القبول والرد، يعني: فيه اختلاف في الاجتهاد في قبول الحديث ورده، فمثلاً: الشذوذ وزيادة الثقة، ما الفرق بينهما؟

عندما نأتي للفرق بينهما سنختلف اختلافاً عظيماً جداً، فهل أرد هذا الحديث أم أقبله؟ فإن قبلته فهو من باب زيادة الثقة، وإن رددته فإنه من باب الشذوذ، وعندما نأتي إلى هذين النوعين سنبين المسألة.

فكذلك الحديث الحسن، والحسن لغيره على وجه الخصوص، هذا النوع هو الذي يظهر منه علم المجتهد وفهمه؛ لأن الحديث الحسن لغيره إنما أصله حديث ضعيف، ولكن لمجيئه من طرق متعددة ارتقى من الضعف إلى الحسن، لكن ليس الحسن لذاته وإنما الحسن لغيره، فمن ذا الذي يرقي الحديث من حال الضعف إلى حال الحسن إلا أن يكون عالماً مجتهداً خبيراً بأقوال أهل العلم في هذا الباب.

فتعريف الخطابي للحديث الحسن لذاته انتقد بانتقادات عظيمة.

تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن والتعقيب عليه

يقول الإمام الترمذي في تعريف الحديث الحسن: هو الذي لم يتهم راويه بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك.

قوله: (إن الحديث الحسن هو الذي لم يكن في إسناده راوٍ متهم بالكذب) هناك فرق بين راوٍ كذاب وراوٍ متهم بالكذب، وهناك فرق بين سارق ومتهم بالسرقة، فقوله: متهم بالسرقة، أي: لم تثبت عليه السرقة يقيناً، وإنما تدور الظنون والشوك حول أنه سارق، فكذلك الكذاب الذي يكذب في الحديث، فإن كان معلوم الكذب ومعلوم الرواية من جهة الوضع والكذب فهو كذاب، مثل ميسرة بن عبد ربه التراس الأكول ، ذكره الإمام الذهبي في كتاب ميزان الاعتدال في الجزء الرابع، وذكر من أخباره العجب العجاب، فإنه كان رجلاً أكولاً، وكان يكذب ويستمرئ الكذب، لا يستحله، وإنما يستمرئه، وكانت غايته وهمه أن يأكل ويضع الحديث، وكان يزوق أسقف البيوت، فقيل: إنه ذهب يزوق سقف بيت، وكان يعمل في المطبخ فنظر فإذا به يجد طعاماً، وكان صاحب البيت قد صنعه لثلاثين، فنزل وأكله، ثم صعد ليكمل عمله وكأن شيئاً لم يكن، فدخل صاحب البيت وقال: ما هذا؟ لابد وأنه من عمل الجن، فكثر الكلام حتى عرفه واحد من هؤلاء الثلاثين، فقال: هل عندكم ميسرة ؟! قالوا: نعم، قال: والله! إنه هو الذي أكل طعامكم، فقيل له: يا ميسرة ! قال: نعم، قيل: أنت الذي أكلت الطعام؟ قال: نعم، فلم يصدق صاحب البيت، ما زال يظنه من باب الهزل، ففصل ميسرة النزاع فقال: أنا الذي أكلته، وإن لم تصدقوا فاتركوه ثانياً وجربوا، يعني: أنا مستعد أن تعيدوا الكرة وأعيد أنا ذلك.

ونذرت امرأة أن تشبع ميسرة ، فأتت إليه تلك المرأة وقالت له: يا ميسرة ! أنا نذرت أن أشبعك فاتق الله فينا، تقول تلك المرأة: فكان ما يكفي ميسرة يكفي سبعين نفساً.

وقوله: وإن لم تصدقوا فجربوا، يبين أنه يمكن أن يأكل أكل ثلاثين آخرين.

وألقى له رجل مائة رغيف فأكلها، ثم ألقى للفيل مائة رغيف فأكلها إلا واحداً، فهو بهذا يأكل أكثر من الفيل.

ونزل ميسرة عند قوم، فأخذوا حماره وذبحوه وشووه وقدموه له فأكله، فلما أراد الانصراف أعطوه ثمنه، وغير ذلك من قصصه، حتى إنه قيل له: يا ميسرة ! كم يكفيك من الطعام؟ قال: من بيتي أم من بيت غيري؟ قال: من بيتك، قال: رغيف أو رغيفان، قال: فمن بيت غيرك؟ قال: اخبز واطرح.

ميسرة هذا وضع أحاديث في فضل سور القرآن سورة سورة، يعني: أنه وضع مائة وأربعة عشر حديثاً في فضل سور القرآن، فقيل له: يا ميسرة ! ما الذي حملك على ذلك؟ قال: وجدت الناس انصرفوا عن كتاب الله إلى موطأ مالك ، فأردت أن أصرفهم إلى كتاب الله، وهذه نية سليمة، لكنها لا تنفع؛ لأنه لا بد من استقامة العمل على المتابعة واقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهكذا كثير من أصحاب الفرق كالشيعة وغيرهم؛ فإن الشيعة وضعوا أحاديث عظيمة وكثيرة في فضل أهل البيت، وكل أسانيد الشيعة ممتلئة بالكذب والدجل وغير ذلك؛ ولذلك أهل السنة لم يعتمدوا أسانيد الشيعة مطلقاً؛ لأنهم يغلب عليهم الكذب.

المهم: هناك فرق بين الكذب الصريح والاتهام بالكذب، فهذا عندما يأتي ويقول: أنا وضعت، فهذا إقرار منه بالكذب، والإقرار سيد الأدلة، فإما أن يعرف الكذب بإقرار الكاذب، أو بالقرائن والشواهد التي تدل على أنه كذاب.

وإذا لم تكن هناك قرينة ولا شاهد يدل دلالة صريحة على أن هذا الرجل كذاب، ولكن الناس لا تطمئن إلى قبول روايته، فإن هذا يكون في حيز الاتهام، وعلامة الاتهام أنني لا أطمئن أبداً لحديثه ولا أرويه، وفي الوقت نفسه لا أثبت عليه الكذب صراحة، إذاً: هو يظل في دائرة الاتهام.

فهناك فرق بين الراوي الكذاب، والراوي المتهم بالكذب، فالكذاب حديثه موضوع، فإذا كان هناك إسناد فيه راوٍ حكم عليه أهل العلم بأنه كذاب أو وضاع -أي: يضع الحديث، ويختلقه، ويصطنعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فهذا الحديث حديث موضوع، وهو شر أنواع الأحاديث؛ لأن الكذاب شر أنواع التهم، أما إذا لم يثبت الكذب على الراوي فيبقى في مرحلة الاتهام، وهذا المتهم بالكذب لا أقول: إن حديثه موضوع، ولكني أقول: إن حديثه منكر، أو حديثه باطل، ففي كتب الرجال إذا قال الإمام الذهبي عن راوٍ: متهم؛ فإنما يتناسب هذا الحكم وهذا المصطلح أن تكون روايته باطلة أو منكرة، ولو أنك قلت: موضوع فقد غلوت؛ لأنه متهم فقط، وليس كذاباً.

فالإمام الترمذي يقول: الحديث الحسن: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ومغزى كلمة الإمام الترمذي يعني: لا يكون كذاباً ولا متهماً، يعني: ممكن أن يكون سيئ الحفظ، ممكن أن يكون اختلط، ممكن أن يكون عنده غفلة أو نسيان أو وهم، أو يكون مستوراً أو مجهول الحال؛ كل هذه العلل تقصر وتقل عن مرتبة الاتهام، ولو كانت هذه العلل في الإسناد وأتى هذا الحديث من إسناد آخر ومن وجه آخر وطريق آخر فيه نفس العلة ولكن براوٍ آخر؛ فسأقول: إن هذا الحديث يعضد ويقوي هذا الحديث، أو هذا الطريق يعضد ويقوي هذا الطريق؛ لأن الشخص المعلول هنا غير الشخص المعلول هنا، ولنفترض أن العلة هي جهالة الراوي، وأتى حديث من طريق أبي هريرة ، هذا الطريق فيه راوٍ مجهول الحال، فأقول مباشرة: هذا الحديث ضعيف؛ لأنه روي بإسناد فيه راوٍ مجهول، هذا الحكم عليه، ثم مع البحث والتتبع وجدت لهذا الحديث طريقاً آخر من حديث أنس ، وطريقاً من حديث عبد الله بن عمر ، وطريقاً من حديث سعد بن أبي وقاص ، ثم نظرت في هذه الأسانيد فإذا في كل إسناد من هذه الأسانيد راوٍ مجهول الحال، فلا شك أن كل إسناد على حدة ضعيف، لكن بانضمام هذه الأسانيد إلى بعضها يرتقي الحديث من الضعيف إلى الحسن، ففي هذه الحالة مسألة الارتقاء أصلها الضعف، لكن الحديث قوي بمجيئه من طرق أخرى، ولم يتوفر الحسن في الحديث لذاته، وإنما أتاه من غيره، أي: من طرق أخرى، فلم تتوافر شروط الحديث الحسن في ذات الطريق وفي ذات الإسناد، وإنما اكتسب الحديث القوة من مجموع الطرق التي قوي بها.

فالإمام الترمذي يقول: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، يعني: تكون تهمته خفيفة، لا تجعل حديثه منكراً ولا باطلاً، ولا أن يكون الحديث شاذاً ولا موضوعاً، ولا غير ذلك.

والسبب في ذلك: أن العلة خفيفة تجعل الحديث ضعيفاً فقط، لكن كل هذه علل: الكذب علة في الراوي، وسوء الحفظ علة، لكن عندي أن العلل بعضها يرتقي وبعضها لا يرتقي، فالكذب لا يرتقي، وإن أتى الحديث من ألف طريق في كل طريق راوٍ كذاب لا يرتقي الحديث؛ لأن مخرج الحديث في هذه الحالة يدل على أن هؤلاء اتفقوا على الكذب، وهم من الأصل كذابون، فلا ينفع بعد ذلك أن يكونوا تواطئوا على الكذب؛ فيعرف مخرج حديثهم بالوضع والاختلاق والاضطراب.

وإما إذا كان الراوي سيئ الحفظ وأتى الحديث الذي رواه من وجه آخر أو وجهين أو أكثر، وفي كل إسناد راوٍ سيئ الحفظ، فنقول: إنه في هذه الحالة ضبط هؤلاء الرواة الحديث؛ لأن سيئ الحفظ ليس سيئاً للحفظ دائماً، فأنت نفسك قد تقول: ذاكرتي ضعيفة، فهل يلزم من ذلك ألا يؤخذ منك كلام قط؟ فلما تقول: ذاكرتي ضعيفة، نحن نتعاون معك على أساسين:

الأساس الأول: أن الذي ضبطته وأتقنته سنأخذه منك، والذي أنت متردد فيه وشاك فيه لن نأخذه منك.

والراوي الضعيف قد يكون في أي طبقة، المهم أن يكون في الإسناد سواء في أوله أو آخره.

وقول الإمام الترمذي : (ولا يكون شاذاً)، والشذوذ سنرجئه إلى أن نتناول الحديث الشاذ.

وقوله: (ويروى من غير وجه مثل ذلك أو نحوه)، الإمام الترمذي هنا أراد أن يعرِّف الحديث الحسن.

وقوله: (وأن يأتي من وجه آخر نحو ذلك) يعني: ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، وألا يكون شاذاً، يعني: أن انتفاء الشذوذ شرط، ثم أن يكون في الإسناد من لم يتهم بالكذب، كأن يكون مثلاً مستوراً.. سيئ الحفظ.. مجهول الحال.. حديثه منقطع.. حديثه مرسل.. وغير ذلك.

فقوله: (وأن يروى من غير وجه نحو ذلك أو مثله)، يعني: أن يكون فيه نفس هذا الضعف أو نحوه، يعني: أن يكون الراوي هنا مستوراً، وهناك حديثه مرسل، أو أن يكون هنا انقطاع وأن يكون هناك راوٍ سيئ الحفظ؛ فهذه العلل كلها من العلل التي ترتقي، فمن العلل والضعف ما يرتقي، ومنه ما لا يرتقي، كما ذكرنا من قبل أن الكذب لا يرتقي، وكذلك النكارة والبطلان لا يرتقيان، وأما سيئ الحفظ والمجهول والمستور والانقطاع والإرسال وغير ذلك فإنها من العلل التي لو جاءت من طرق كثيرة لارتقت.

فالإمام الترمذي عندما يعرف هذا التعريف هل يعرف الحديث الحسن لغيره أو الحسن لذاته؟ أنا قلت من قبل أن كلمة: (لذاته) تستلزم أن أوصاف الحسن اجتمعت في ذات الحديث، ولم تأته من الخارج، فهل تعريف الإمام الترمذي يتنزل على الحديث الحسن لغيره الذي أتاه الحسن من الغير، أم أنه يعرِّف الحديث الحسن لذاته؟ الجواب: أنه يعرف الحسن لغيره؛ بدليل قوله: (ويروى من غير وجه) ولو كان يعرِّف الحديث الحسن لذاته لما قال: ويروى من غير وجه؛ لأن هذا شرط في حد الحسن عند الإمام الترمذي ؛ فدل ذلك على أنه يعرِّف الحديث الحسن لغيره لا لذاته.

تعريف الإمام ابن حجر للحديث الحسن والتعقيب عليه

فما هو تعريف الحديث الحسن لذاته؟

الحافظ ابن حجر في النزهة يعرف الحديث الصحيح فيقول: هو ما اتصل سنده بنقل العدل تام الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.

فإن قال قائل: نحن في الحديث الحسن ولسنا في الصحيح، فأقول: أنا عرفت الصحيح حتى يتضح به الحسن.

يقول الإمام ابن حجر : (فإن خف الضبط فالحس لذاته)، أي: مع استكمال بقية الشروط. إذاً: الفرق بين الحديث الصحيح الذي عرفه الحافظ ابن حجر وبين الحديث الحسن لذاته: الضبط، فإن كان الضبط تاماً في القمة فذلك الحديث صحيح، وإن خف الضبط -ولم ينعدم- فهو الحسن لذاته، والعلماء يعبرون عن كلمة (خف الضبط) بأن الراوي ينزل عن درجة (ثقة) إلى درجة: صدوق.. لا بأس به.. ليس في حديثه بأس، أو ليس فيه بأس، أو يعتبر بحديثه، أو صالح للاعتبار.. أو غير ذلك من الألفاظ التي ذكرها أهل العلم لبيان أن هذا الراوي نزل من أعلى الضبط إلى مستوى أقل قليلاً، ولم ينزل إلى الضعف.. ولم ينزل إلى سوء الحفظ والغفلة والاختلاط وغير ذلك، وإنما نزل درجة؛ لأن الضبط ثلاثة أنواع: ضبط أعلى، وضبط أدنى، وضبط وسط.

فالضبط الأعلى هو للحديث الصحيح.

والضبط الأدنى هو للحديث الضعيف.

والضبط الوسط هو للحديث الحسن، أي: الحديث الحسن لذاته.

فعندما يأتي إسناد كل رواته ثقات إلا راوياً واحداً صدوقاً، فالحديث حسن لذاته، فإذا كان الإسناد مكوناً من خمسة رواة، وكل منهم يروي عن شيخه، وأربعة منهم ثقات وواحد صدوق؛ ففي هذه الحالة سأقول عن هذا الحديث: إنه حسن لذاته، أي: أنه في أصله ليس ضعيفاً، ولا يحتاج أن يأتي من طرق أخرى؛ لأنه توافرت فيه شروط الحديث الصحيح إلا شرط الضبط؛ فإنه نزل عن درجة التوثيق إلى درجة الصدق والأمانة، فأقول عن راويه: هو صادق في الرواية، لا ثقة في الرواية، لم يكن عنده ضبط كامل وإنما خف الضبط قليلاً.

فالإمام الترمذي عرف الحديث تعريفاً يتناسب مع الحديث الحسن لغيره.

والإمام ابن حجر عرَّف الحسن لذاته.

والإمام ابن كثير ينكر أن هذا تعريف الترمذي ، ويقول: إذا كان هذا تعريف الترمذي ففي أي كتاب؟ وبأي إسناد؟

وسبحان الله! كم ترك الأول للآخر؟

يأتي من بعد ابن كثير فيقولون: إن هذا في آخر كتاب العلل الذي في سننه، يعني: العراقي رد عليه وقال له: كيف لا تعرف هذا الكلام؟ هذا الكلام موجود في كتاب العلل للإمام الترمذي ، صنفه الإمام الترمذي في آخر كتابه السنن، في آخر مجلد من كتاب السنن.

ثم يأتي الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله قبل خمسين سنة ويقول: هذا الكلام ليس موجود في العلل فقط، بل موجود في السنن نفسها، فبعد حديث معين قال الترمذي : والحديث الحسن عندنا هو كيت وكيت، وذكر هذا التعريف، فكم ترك الأول للآخر؟

تعريف الإمام ابن الجوزي للحديث الحسن والتعقيب عليه

تعريفات أخرى للحسن:

تعريف ابن الجوزي :

ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية وفي كتاب الموضوعات قال: الحديث الحسن: هو الذي فيه ضعف قريب محتمل.

فقوله: (قريب محتمل) مسألة نسبية، فما كان قريباً محتملاً عندك ليس بقريب محتمل عندي؛ لأن العلماء اختلفوا في مسألة الحكم على الرجال، فقد تجد راوياً يقول عنه عالم: ثقة، وفي نفس الوقت يقول عنه غيره: ضعيف، والذي يقول: ضعيف يقول أيضاً: لا يرتقي، وغيره يقول: ضعيف يرتقي.. وغير ذلك.

فتعريف ابن الجوزي للحديث الحسن بقوله: هو ما كان فيه ضعف قريب محتمل، هذا الكلام يتنزل على تعريف الترمذي .

لأنه يقول: الحديث الحسن: هو ما كان فيه ضعف قريب محتمل، ونحن قلنا قبل هذا: إن من الضعف ما لا يحتمل، ومنه ما يحتمل، فما كان يحتمل فيرتقي إلى الحسن لغيره، وما كان لا يحتمل يلحق بالبواطيل والمناكير والموضوعات.

أما الحافظ ابن حجر فهو كان يعرف الحديث الحسن لذاته الذي ينزل عن مرتبة الصحيح بقليل.

أما ابن الجوزي فهو يعرف الحسن لغيره، مثل الترمذي تماماً، فإن الترمذي قال: الحديث الحسن عندي: هو ما لم يكن في إسناده راوٍ متهم بالكذب، ولا يكون شاذاً ولا معللاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك أو مثله.

فكلمة: (ويروى من غير وجه نحو ذلك أو مثله) يدل على أنه يعرف الحسن لغيره.

وكذلك الإمام ابن الجوزي يعرف الحديث الحسن لغيره لا لذاته.

إذاً: فالحديث الحسن لذاته: هو ما نزلت فيه رتبة الراوي عن مرتبة التوثيق إلى مرتبة الصدق والأمانة.

والحديث الحسن لغيره: هو الذي يأتيه الحسن لا من ذاته ومن ذات الإسناد، وإنما بمجموع الأسانيد والطرق التي روي بها ذلك الحديث.

وسيأتي بعد ذلك الحافظ ابن الصلاح يلم شعث هذه التعريفات، ويقول: (وأنا نظرت فإذا بهذه التعريفات كلها إنما تدل على قسمين:

قسم يتنزل على الحسن لذاته.

وقسم يتنزل على الحسن لغيره..).

وسنأخذ هذا إن شاء الله تعالى في محاضرة قادمة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الباعث الحثيث - الحديث الحسن لذاته [2] للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net