إسلام ويب

لقد اتفق أهل الحق وأهل الباطل في العلوم الحسية والبدهية، بينما قام الخلاف على أشده بينهم في الإلهيات والغيبيات والأخلاقيات، وسبب ذلك هو المناهج الفاسدة التي انتهجها الفلاسفة والمتكلمون لتقرير العقيدة، فالوحي عندهم محكوم بالمقررات العقلية، والدلالات الوحيدة على النبوة هي المعجزات، فحدث عندهم من الاضطراب في تقرير الدين ما جعلهم في حيرة من أمرهم، لا يهتدون سبيلاً.

طرق المخالفين لأهل السنة في تقرير الدين

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فقبل أن نبدأ أحب أن أنبه إلى أن الشيخ ذكر أنواع العلوم والفنون التي اتفق عليها والتي اختلف فيها، فذكر أن العلوم الحسية والبدهية متفق فيها بين أهل الحق وأهل الباطل؛ لأنها علوم تجريبية تقوم على العلم الطبيعي الذي لا يكابر فيه أحد، لكن الخلاف في علوم أخرى والتي منها: الأخلاقيات والإلهيات والغيبيات، وإن كانت الغيبيات تدخل في الإلهيات.

إذاً: فمواطن الخلاف ليست العلوم الحسية والبدهية؛ لأن هذين العلمين ليسا وسيلة لفهم العلوم الغيبية.

كما أن العلوم الحسية والبدهية ليسا أيضاً الطريق إلى الاستدلال بالأمور الشرعية، إنما هي أدلة عاضدة لا يمكن أن تخالف الشرع، وما صار علماً من التجريبيات والحسيات والبدهيات فهو حق، لكن لا يمكن عن طريقه فهم الغيبيات ولا إدراك الغيبيات، ولا يمكن أن يكون عن طريقه أيضاً فهم الشرائع والتوحيد.

إذاً: الخلاف يكون في الأصول الأخلاقية وفي الإلهيات وفي الغيبيات كما قرر الشيخ فيما سيأتي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وأما الأخلاق مثل: استحسان العلم والعدل والعفة والشجاعة؛ فجمهور الفلاسفة والمتكلمين يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع التي تفتقر إلى دليل؛ وهو قول غالب المتكلمة المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف أمراً قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية.

ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان.. ].

سيذكر الشيخ منهج أهل السنة والجماعة متأخراً، لكن أشير إليه هنا من أجل أن نستصحب في أذهاننا الميزان الشرعي، فالشيخ سيذكر طوائف الناس في تقرير الدين:

فأولاً: طريقة أهل السنة والجماعة في تقرير الدين هي الاعتماد على الوحي؛ لأن الدين دين الله عز وجل، والله هو المشرع، والدين ينبني على ما يرضي الله عز وجل، وما يحقق للبشر السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وهذا مما لا يمكن أن تحيط به مدارك البشر على الكمال، لا يدركه إلا الله عز وجل، فلذلك أهل السنة والجماعة يقررون الحق، وهو أن الطريق لتقرير الدين جملة وتفصيلاً هو الوحي.

والآن سيذكر الشيخ طرائق المخالفين.

قال رحمه الله تعالى: [ أما المتكلمة المتبعون للنبوات فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة تلقوا منها السمعيات: وهي الكتاب والسنة والإجماع وفروع ذلك ].

يعني: أن أهل الكلام من متكلمة الأشاعرة والماتريدية وكذلك المعتزلة وبعض الجهمية يقوم منهجهم على استخدام الأدلة العقلية لصدق الوحي، فإذا توصلوا بذلك إلى صدق الوحي؛ بدءوا هناك يقررون الوحي، لكنه محكوم عندهم بالمقررات العقلية، وأول ذلك عند غالبهم إثبات الخالق عز وجل بالمقدمات العقلية.

ثم الصفات التي تثبت بها النبوة على طريقتهم، وهذه الصفات ترجع إلى إثبات المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي، ويزعمون أن المعجزات هي الدلالة الوحيدة على النبوة، وهذا خطأ كما تعلمون؛ ولذلك بعضهم لما تناقضت عنده أدلة النبوة، خاصة عندما عجزوا عن تحديد معنى المعجزة، واختلطت عندهم المعجزة بالكرامة وخوارق العادات، وبخوارق الكهان والدجالين، لما اختلط عندهم الأمر صار عندهم ريب واضطراب في تقرير الدين؛ لأنه بُني على هذا الأصل المضطرب عندهم، وحصروا دلالة النبوة في المعجزات.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما المتفلسفة فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها.

ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود وإلى العقول والنفوس.

ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداءً من جهة أن الوجود لا بد فيه من واجب ].

يعبر الفلاسفة عن وجود الله عز وجل بكلمة: (واجب الوجود) وهذه كلمة فلسفية، وليس كل الفلاسفة يقصدون بها وجود الله على المعنى الشرعي الاصطلاحي المعهود عندنا، بل غاية ما عندهم هو إثبات الخالق؛ ولذلك يقولون: الصانع.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سايرهم في هذه العبارة ربما لإقامة الحجة عليهم، والله أعلم، وإلا فالأولى ألا تقال كلمة الصانع مجاملة لهم، ولا واجب الوجود، لكن لا يمكن لهم أن يفهموا خطابنا، والشيخ أحياناً يكتب لهم، ويقصدهم بالكتابة، أو يقصد تسليح بعض المسلمين المتمكنين من مناقشة هؤلاء باستخدام هذه المصطلحات.

فهم كثيراً ما ينزعون إلى إثبات وجود الله عز وجل تحت مسمى واجب الوجود أو الصانع.. أو نحو ذلك، لكن مع ذلك من منهم أثبت وجود الله عز وجل بعقله، ووقف على هذه الضرورة الفطرية؟ إنهم لا يصفون الله عز وجل بما يجب له من الكمال والجلال، بل إنهم لا يعظمون الله حق التعظيم، ويسلبونه حتى الربوبية، فإذا أقروا بوجود واجب الوجود أو الصانع كما يعبرون عنه؛ جعلوا تدبير الكون للعقول والنفوس والأفلاك والآلهة التي يعبدونها؛ ولذلك نشأت عندهم الوثنية المطورة؛ لأن الوثنية عندهم نوعان:

الوثنية الساذجة: مثل وثنية الأمم الساذجة الهمجية التي تعبد كل ما أمامها، أو تعبد كل مظاهر الكون من حولها: حيوانات، أشجار.. ونحو ذلك من معالم الكون.

والثانية: الوثنية المقننة، وثنية اليونان والرومان، وبعض وثنيات الديانات الكبرى في الهند وشرق آسيا وغيرها؛ هذه وثنية نشأت عن الفلاسفة مقننة ومطورة، بمعنى أن لها نظماً ولها أساسيات وفلسفات، فصار ذلك من أسباب صرف الناس أو الخلق عن هدى الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن المشركين السذج أقرب استجابة إذا دعوا إلى الهدى من المشركين أصحاب الحضارات والمدنيات التي قامت على فلسفة الفلاسفة.

أردت بهذا أن أبين معنى قول الشيخ أنهم ينزعون إلى إثبات واجب الوجود، أو إلى العقول والنفوس، بمعنى أنهم إذا أثبتوا واجب الوجود جعلوا تدبير الكون ليس لله عز وجل، بل إلى النفوس والعقول والأفلاك.. ونحو ذلك.

سمات مناهج المخالفين لأهل السنة من الفلاسفة والمتكلمين وفسادها

قال رحمه الله تعالى: [ وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد: أما المقاصد فإن حاصلها بعد التعب الكثير.. ].

قبل أن نتمادى في الفقرات أحب أن نضع لها عنواناً وهو: سمات مناهج المخالفين من الفلاسفة والمتكلمين، وسمات هذه المناهج تميز مناهجهم الفاسدة عن مناهج أهل السنة الصالحة.

وقد وضع الشيخ أكثر من عشر سمات:

الأولى: قوله: (هذه الطرق فيها فساد كبير من جهة الوسائل) هذه السمة الأولى.

السمة الثانية: فسادها من جهة المقاصد، قال: (والمقاصد) يعني: الوسائل والطرق التي استخدموها في الوصول إلى هذه القناعات الموجودة عندهم، فمن سماتهم فساد الوسائل، وهو الاعتماد على العقل والمصطلحات الفلسفية في الوصول إلى الغاية.

ثم الغاية عندهم فاسدة، وهي التي عبر الشيخ عنها هنا بالمقاصد؛ لأن المقاصد عندهم لا توصلهم إلى عبادة الله عز وجل، ولا إلى تعظيم الله حق التعظيم، ولا توصلهم إلى الأخذ بطريق الهدى، المقاصد فقط توقفهم على الإيمان بمجرد وجود الله، ثم وصفه بأوصاف لا تليق، والحيدة عن عبادته.

قال رحمه الله تعالى: [ هذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد، أما المقاصد فإن حاصلها بعد التعب الكثير والسلامة خير قليل، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ].

هذه كلمة عظيمة في الحقيقة، من أعظم الكلمات التي وصف بها الشيخ مناهج المتكلمين وسمات أعمالهم.

يقول: إنهم قد يحصلون خيراً قليلاً؛ لأنهم من أهل الاعتراف بوجود الله، ولا شك أن الاعتراف بوحدانية الله أنه خير، لكنه قليل الفائدة؛ لأنه لا يؤدي المطلوب من العباد، وهو عبادة الله، فهو قليل بالنظر إلى المطلوب من العباد، بالنظر إلى الغاية من خلق الناس، كما قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، هذه الغاية العظمى ما وصلوا إليها؛ فلذلك هم وصلوا إلى خير قليل.

ثم قال: هذه الوسائل والمقاصد التي وصلوا إليها مثل لحم جمل غث، يعني: ليس بطيب وتعافه النفس، على رأس جبل وعر، فالارتقاء إليه لا يؤدي إلى نتيجة، ويكون صعباً جداً، فالإنسان قد يتعب ويلهث وأخيراً يجد لحماً غير صالح للأكل، فهو لم يصل إلى الغاية، قال: (لا سهل فيرتقى) يعني: الجبل، (ولا سمين) يعني: لحم الجمل فينتقل.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا ].

هذه هي السمة الرابعة.

الأولى: وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل.

الثانية: من جهة المقاصد.

الثالثة: أن الخير فيها قليل.

الرابعة: أنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما الوسائل: فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات ].

هذه السمة الخامسة.

قال رحمه الله تعالى: [ ينقطع السالكون فيها كثيرًا قبل الوصول ].

هذه السمة السادسة.

قال رحمه الله تعالى: [ ومقدماتها في الغالب إما مشتبهة يقع النزاع فيها ].

هذه السمة السابعة.

قال رحمه الله تعالى: [ وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء ].

هذه السمة الثامنة.

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا لا يتفق ].

هذه السمة التاسعة من سمات مناهج أهل الأهواء: أنهم لا يتفقون، وهذه من أبرز سماتهم لكل متأمل.

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادراً، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يعرف إلا بطريقته، وإن كان جمهور أهل الملة بل عامة السلف يخالفونه فيها.

مثال ذلك: أن غالب المتكلمين يعتقدون أن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم، ثم الاستدلال بذلك على محدثه، ثم لهم في إثبات حدوثه طرق، فأكثرهم يستدلون بحدوث الأعراض؛ وهي صفات الأجسام.

ثم القدرية من المعتزلة وغيرهم يعتقدون أن إثبات الصانع والنبوة لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل.. ونحو ذلك من الأصول التي يخالفهم فيها جمهور المسلمين.

وجمهور هؤلاء المتكلمين المستدلين على حدوث الأجسام بحدوث الحركات يجعلون هذا هو الدليل على نفي ما دل عليه ظاهر السمعيات، من أن الله يجيء وينزل.. ونحو ذلك.

والمعتزلة وغيرهم يجعلون هذا هو الدليل على أن الله ليس له صفة: لا علم، ولا قدرة، ولا عزة، ولا رحمة.. ولا غير ذلك؛ لأن ذلك بزعمهم أعراض تدل على حدوث الموصوف ].

هذه هي الطرق التي ذكر الشيخ منها ما سبق، ثم سيذكر طريق السنة والجماعة بعد قليل، ثم طريق المتكلمين، ثم طريق المتفلسفة، ويقصد عامة الفلاسفة، وهنا ذكر طريق المصنفين من الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، أعني: المنتسبين إلى الإسلام وليسوا من الإسلام في شيء، وهذا مما ابتلينا به حقيقة من دفاع الناس عن ابن سينا وأمثاله، هل هم مسلمون أم غير مسلمين؟ وهذا في الحقيقة نزاع عديم الجدوى، ثم هم ليسوا من الإسلام في شيء.

نعم، هم رفعوا شعار الإسلام وانتسبوا إليه، لكن في عقائدهم وأصولهم ما لهم من الإسلام حظ، فما يظهر عندنا في كتاباتهم وعقائدهم وما قالوا عن أنفسهم، وما قال عنهم الثقات ليس لهم من الإسلام نصيب، لكن هم انتسبوا إلى الإسلام، وغالبهم باطنية، وتعرفون الباطنية هم أبعد عن الإسلام من اليهود والنصارى كما هو معلوم، وليس هذا من العبارات التي نقولها على سبيل المبالغة كما يفعل كثير من الناس، أقول: إن الباطنية ومنهم: ابن سينا والفارابي ومن سلك سبيلهم ليس لهم من الإسلام نصيب، بل اليهود والنصارى أقرب إلى الحق منهم في كثير من الأشياء.

قال رحمه الله تعالى: [ وأكثر المصنفين في الفلسفة كـابن سينا يبتدئ بالمنطق، ثم الطبيعي والرياضي، أولاً يذكره، ثم ينتقل إلى ما عنده من الإلهي.

وتجد المصنفين في الكلام يبتدئون بمقدماته في الكلام: في النظر والعلم والدليل، وهو من جنس المنطق، ثم ينتقلون إلى حدوث العالم، وإثبات محدثه.

ومنهم من ينتقل إلى تقسيم المعلومات إلى الموجود والمعدوم، وينظر في الوجود وأقسامه، كما قد يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي ].

بعد ما ذكر الشيخ طرائق القوم وهي ثلاث طرائق، ذكر الرابعة هنا وهي طريقة أهل الحق في تقرير الدين.

أول دعوة الرسل وطريقة أهل السنة في تقرير الدين

قال رحمه الله تعالى: [ فأما الأنبياء فأول دعوتهم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

وقد اعترف الغزالي بأن طريق الصوفية هو الغاية؛ لأنهم يطهرون قلوبهم مما سوى الله، ويملئونها بذكر الله، وهذا مبدأ دعوة الرسول؛ لكن الصوفي الذي ليس معه الأثارة النبوية مفصلة يستفيد بها إيماناً مجملاً، بخلاف صاحب الأثارة النبوية، فإن المعرفة عنده مفصلة.

فتدبر طرق العلم والعمل؛ ليتميز لك طريق أهل السنة والإيمان من طريق أهل البدعة والنفاق، وطريق العلم والعرفان من طريق الجهل والنكران ].

هنا أشار الشيخ إلى منهج المتصوفة، وألحقه بالمنهج الشرعي، ألحقه من حيث الابتداء، والمتصوفة يقوم مبدؤهم على الاعتراف بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنها هي المبتدأ، وهي المنهج، لكنهم يقولون ذلك على سبيل الإجمال، فإذا قرروا عقائدهم ودينهم على جهة التفصيل حادوا عن الحق، بل ربما أخذوا بمسالك الفلاسفة في التعبد، وبمسالك الأمم الأخرى الضالة.

إذاً: هو يشير إلى أن الصوفية يبدءون معنا في أول الطريق في تقرير الدين على قاعدة أن الأصل هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك تتفرق بهم السبل، ويحيدون عن الاستمرار في هذا الطريق؛ ولذلك أشار إلى طريقة الغزالي ؛ لأنه يمثل منهج الصوفية في تقريره لهذا الأصل، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

حكم قنوت النوازل دون إذن الإمام وحكم الدعاء التفصيلي على الكفار

السؤال: هل قنوت النوازل يحتاج إلى إذن الإمام؟ وهل الدعاء على الكفار كقول: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً جائز؟

الجواب: هذا سؤال جيد، وللمشايخ حفظهم الله فتاوى في هذا كثيرة، وفيها إجابة نصية على مثل هذه الأسئلة؛ فأرجو الرجوع إليها.

ومعلوم ابتداءً أن القنوت في النوازل أنواع وأصناف، والنوازل على درجات أيضاً.

وكذلك الإذن من الإمام هو محل خلاف، لكن ينبغي أن نعود أنفسنا في مثل هذه الأمور ألا نخرج عن توجيه مشايخنا وعلمائنا إذا وجهوا بشيء، حتى لو كان هناك رأي لإمام أو قول لبعض الأئمة، إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة الأمة الكبرى، أو بأحوال مجموع طلاب العلم، أو بموقف يحسب على العلماء والمشايخ؛ فينبغي الرجوع إلى المشايخ، ويلتزم قولهم، وتلتزم فتواهم؛ لأنهم يعالجون الأمر على ما تقتضيه النصوص الشرعية، ويجتهدون أيضاً في تطبيق قواعد الشرع ودرء المفاسد وجلب المصالح.

والنوازل أصناف، فهناك نوازل تكون في البلد نفسه، في نفس المدينة أو القرية، فإذا نزلت بهذه الصورة، مثل: الوباء الذي نزل على إخواننا في جيزان فهنا يشرع لهم أن يدعو دعاء القنوت، ولا أحد من أهل العلم يعارضهم، ولا يلزم إذن الإمام في مثل هذا الحال؛ لأن الأمر صار يمس البلد نفسها، ولا بد من تعويد الناس اللجوء إلى الله عز وجل، ولفت نظرهم إلى مشروعية القنوت في مثل هذه الأحوال.

أما إذا كان بعيداً عن البلد فيختلف في مدى البعد، وما نوع النازلة، وعلى هذا أقول: ينبغي لطلاب العلم أن يتثبتوا في هذه الأمور ولا يستعجلوا ولا تأخذهم العواطف.

وأما الدعاء على الكفار فينبغي دائماً للمسلم أن يدعو بالمجملات، ولا يلجأ إلى التفصيلات والاعتداء في الدعاء، الذي هو الدخول في الجزئيات والعبارات الدقيقة إلا عندما يقتضي الأمر ذلك، وليس على سبيل الدوام، فقول: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، لا ينبغي أن يكون دعاءً دائماً؛ لأنه من الدعاء المجزأ، والله عز وجل بصير بعباده، أنت ادع عليهم بدعاء مجمل، والله عز وجل يفعل ما يشاء، ليس بشرط أن يعاقبهم على هذه الصورة، التي هي إحصاء العدد والقتل البدد وألا يغادر منهم أحداً، ما يلزم، يمكن أن يعاقبهم الله عز وجل بأي صورة، وعلى أي وجه يراه ويقدره سبحانه، فلا ينبغي لنا أن نعود ألسنتنا على مثل هذه الأدعية المخصصة، التي الإكثار منها تنفر منها الطباع والفطر السليمة، لكن إذا طرأ على الإنسان أمر موجب؛ فله أن يستعمل مثل هذا الدعاء عند الموجب وليس دائماً.

حكم الخوارج عند شيخ الإسلام رحمه الله

السؤال: في تبويب شيخ الإسلام في فضل السلامة من البدعة والشرك والكبائر، ثم ذكر الخوارج، فهل يرى الشيخ تكفيرهم؟

الجواب: ما يلزم أنه يرى تكفيرهم، بل الذي أعرف أن الشيخ لا يرى تكفيرهم عموماً، الخوارج ليسوا كفاراً، ولكنهم من أهل البدع، ولا يلزم من قتال المبتدع أن يكون كافراً، ولذلك قاتلهم الصحابة وعلى رأس الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما سئل عنهم قال: هم إخواننا بغوا علينا، ثم لما قيل له: هم كفار؛ قال: لا والله من الكفر فروا.

فينبغي أن نفهم أنه لا يلزم من القتال الكفر، فقتال أهل البغي والخارجين عن الإمام، أحياناً يكون من الصالحين، لكن يقاتلون متأولين، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في مسلم وغيره أنه من خرج على الإمام المسلم الذي له بيعة وعهد وعلى الجماعة فإنه يقاتل كائناً من كان.

وأهل الذنوب الذين تقتضي ذنوبهم قتلهم، مثل الزاني إذا استحق الرجم، هذا ما يخرج من الملة، مع أنه يقتل قتلة فيها نوع من التعزير الشديد، لكن لله في ذلك حكمة، فالمهم أنه لا يلزم من قول الشيخ في سياق حديثه عن الخوارج وقتالهم أنه يرى كفرهم.

المهم أن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج لم يقاتلوهم حتى بدءوا هم، وهذا اجتهاده وبعض الصحابة، لكن بعض الجيش مع علي رضي الله عنه من المسلمين المجتهدين كانوا يرون أن يقاتلوا قبل أن يبدءوا، علي رضي الله عنه إمام المسلمين في ذلك الوقت كان لا يرى قتالهم حتى يحدثوا وحتى يقاتلوا.

يعني: أنه يقصد أنا لا نتحقق من بدعتهم حتى يعملوا بمقتضاها، فلا نستطيع أن نلزمهم بأنهم ارتكبوا بدعة التكفير، فربما يكون قول بعضهم، أو لهم في التكفير أعذار من جهل.. أو نحو ذلك.

فلما قاتلوا تبين إصرارهم على بدعة التكفير، واستباحتهم للدم دليل على أن هذه البدعة تعمقت، وأنها ليست مجرد عوارض، وأنها ليست قول البعض، بل أجمعوا واتفقوا عليها، فمن هنا استباح علي رضي الله عنه قتالهم؛ لأن بدعتهم ظهرت وتأكدت من خلال تصرفهم.

أما الأحاديث فهي مطلقة، وردت في الخوارج القدامى، ووردت في الخوارج المتأخرين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري وغيره: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية)، ثم سرد صفاتهم والقول فيهم إلى أن قال: (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن لمن قتلهم الجنة).

هذا فيما جاء في سياق الحديث عن الخوارج الذين يخرجون في آخر الزمان، والراجح من كلام كثير من المحققين من أهل العلم أنهم غير الخوارج الأولين؛ لأن هؤلاء جاء فيهم نصوص وهؤلاء جاء فيهم نصوص، وكلهم خوارج.

إذاً: فقتل الخوارج لا يلزم منه خروجهم من الملة، ولا أن بدعتهم بدعة مكفرة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [4] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net