إسلام ويب

من لوازم العبودية الحقة لله تعالى ألا يسأل العبد إلا الله تعالى في كل أموره، وألا يستعين ولا يستعيذ ولا يتوكل إلا على الله. والعبادات مبناها على الإخلاص والمتابعة، فلابد من اجتماعهما حتى تكون العبادة مقبولة عند الله تعالى.

فصل في ألا يسأل العبد إلا الله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا في الفتاوى لـشيخ الإسلام في المجلد الأول، وقد وصلنا إلى فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله، وهو امتداد للكلام عن موضوع العبودية، وكما تعرفون أيضاً أن أغلب هذا المجلد بل سائره في تقرير مسائل العبودية، وبيان ما ينافيها، والرد على المخالفين في هذه المسائل.

مشروعية الرقية الشرعية وحكم طلبها من الآخرين

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله.

قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وفي الترمذي: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)، وفي الصحيح أنه قال لـعوف بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: (لا تسألوا الناس شيئاً. فكان سوط أحدهم يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه).

وفي الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)، والاسترقاء: طلب الرقية، وهو نوع من السؤال ].

لقد كثر الكلام فيما يتعلق بمسألة طلب الرقية، وخاصة في الآونة الأخيرة مع كثرة فزع الناس إلى الرقاة، وكثيراً ما يرد السؤال عن وصف الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم -أعني: السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب- من كونهم لا يسترقون، وهل هذه من الأمور التي يستطيعها كل إنسان؟ وهل يجب على كل مسلم ألا يسترقي؟ الظاهر من سياق الحديث أن هذا لا يعني عدم جواز الرقية، فالرقية مشروعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي غيره ورقاه جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرقية وأيدها، وذكر لها ضوابط وأوصافاً، وعرض عليه الناس أنواعاً من رقاهم فأقر منها ما يصح ومنع منها ما لا يصح، والذين يخلطون بين وصف السبعين ألفاً وبأنهم لا يسترقون وبين جواز الرقية، يخطئون أشد الخطأ.

وعلى هذا فإن المقصود بكونهم لا يسترقون أموراً وإن اُختلف في أكثرها، لكن أغلب أهل العلم الذين شرحوا هذا الحديث يتفقون على جملة أمور في معنى (لا يسترقون)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، ومن جملة هذه الأمور كما قلت أنه لا يشك أحد من أهل العلم بجواز الرقية ومشروعيتها.

أيضاً: أن هذا الوصف ليس وصفاً لجميع المسلمين، وإنما هو لأهل العزم، وليس كل الناس يستطيع أن يرقى إلى درجتهم؛ لذا ينبغي لكل مسلم أن يسعى إلى ذلك، وأن يكون من السابقين إلى الخير، وهذا مطلب عزيز يحتاج إلى مواصفات عديدة في الشخص، ولا يكون تركيزه فقط على عامل الرقية، بل يصلح أحوال قلبه وأعماله، وأن تكون صلته بالله عز وجل قوية، وأن يكون دائم السباق إلى الخير عاملاً بالفرائض مقيماً للنوافل، وأن يكون من السبّاقين إلى كل وجوه الخير، ثم بعد ذلك يسدد ويوفق.

كما أنهم أيضاً اتفقوا على أن (لا يسترقون) بمعنى: لا يطلبون الرقية، لكن لماذا لا يطلبون الرقية؟! وهل طلب الرقية عيب أم لا؟

هذه مسألة أخرى، والراجح فيها والله أعلم: أن وصفهم بأنهم لا يسترقون، يعني: أنهم من قوة اعتمادهم على الله عز وجل، ومن قوة توكلهم واستكانتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل، ومن قوة توجههم في التعبد إلى الله بقلوبهم وجوارحهم، فإن نفوسهم لا تنزع إلى طلب الرقية أصلاً، ولا يعني: أنهم يتكلفون عدم طلب الرقية، أو أنهم يصبّرون أنفسهم على عدم طلب الرقية، وإن كان هذا قد يكون مقصوداً، لكن المقصود أعظم من ذلك، وهو أنهم لقوة صلتهم بالله عز وجل، وقوة تعلق قلوبهم بالله ينسون طلب الرقية، بل ولا ترد على بالهم أصلاً، حتى وإن أصيبوا بالضر والمرض لا يرد عليهم طلب شيء من الناس، فهم يلجئون إلى الله عز وجل في السراء والضراء.

ويبدو لي أن هذا المعنى واضح، وإن كان هذا النص أيضاً يحمل معاني أخرى، لكن هذا المعنى نجده واضحاً في نماذج لسلف هذه الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته الذين اشتهروا بالعبادة، واشتهروا أيضاً بقوة الاعتماد على الله عز وجل، وكذلك كبار التابعين وتابعيهم، نجد منهم نماذج وصل بهم الحال مع قوة الصلة بالله عز وجل وقوة التوكل عليه والاعتماد عليه إلى أن أحدهم لا يفكر أصلاً في أن يطلب الرقية.

أما الذين تكلفوا في البحث عن هذا المعنى فيبدو لي أنهم تكلّفوا في أمر لا ينبغي التكلف فيه؛ لأن النص ظاهر.

حكم سؤال الناس الأموال وغيره

قال رحمه الله تعالى: [ وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة، كقوله: (لا تحل المسألة إلا لثلاثة ..)، وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله ..) الحديث، وقوله: (لا تزال المسألة بأحدهم ..)، وقوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه ..) وأمثال ذلك، وقوله: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته) .. الحديث.

فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم فليس من هذا الباب؛ لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه، بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال)، ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [المائدة:101]، وكنهيه عن أغلوطات المسائل.. ونحو ذلك ].

أغلوطات المسائل: هي المسائل الصعبة العويصة المتضمنة للأمور المعضلة التي تحمل شيئاً من المحارات التي تحار فيها العقول، أو هي المسائل التي لا تحدث أو لا يتوقع حدوثها، أو هي المسائل الغريبة، كالافتراضات.. ونحوها، وكل هذه من الأمور التي لا تجوز في الدين.

وأما مسألة السؤال فأقول: بعض الناس قد يضيّق ويحصر معنى السؤال الذي لا يجوز شرعاً في التسوّل فقط، بينما الأمر فيما يبدو لي من ظاهر النصوص أوسع من ذلك، فالسؤال حتى لو لم يكن سؤالاً باللسان أو سؤالاً باليد، فأحياناً يكون بالفعل وبالتصرفات التي يعملها المسلم حتى يكون عالة على الناس، وهذه الظاهرة كثرت في الآونة الأخيرة عند كثير من أجيال المسلمين أو أبناء المسلمين، لا سيما الذين تطرأ عليهم بعض الظروف الاقتصادية، فيكون عندهم شيء من الشح في المال بعد الغنى، وهذا كثير في بعض الشباب الناشئين، فقد يقعون في مثل هذا وهم لا يشعرون، بمعنى: أنهم قد تعودوا -هذا راجع إلى سوء التربية- مع الأسف بأن يكفوا مؤنتهم وأحوالهم المادية، وأن تُصرف عليهم المصارف الضرورية وغير الضرورية، فإذا طرأت عليهم أمور أو على بعضهم بقي على الحال التي أبقيناه عليها أشبه بالسائل المحتاج، فلا يسعى إلى أن يسد حاجته أو حاجة من يعول، بل يبقى أشبه بالعالة على الآخرين، على الأقارب أو الأعمام أو الأصدقاء أو الجيران.. أو غير ذلك.

وهذا قد كثر في الآونة الأخيرة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا على ذلك، لا سيما أن كثيراً من الشباب -حتى بعض الشباب الصالحين والمتدينين- يأنفون كثيراً من الأعمال، وهذا خطأ، فيبقى عالة على الناس، ويقترض من هذا ويتدين من هذا، ويطلب أمه وأباه وقد لا يملكون شيئاً، أو يطلب إخوانه ومن حوله من الأقارب وقد لا يملكون شيئاً، مع أنه ينبغي عليه أن يبحث عن عمل مباح، حتى يسد حاجته وحاجة من يعول، وكثير من الشباب الآن حرم الفرص والوظائف؛ لأنه ليس بمستعد أن يعمل بألف أو ألفين أو خمسمائة ريال.. أو نحو ذلك، وهذا خطأ، بل ينبغي لأي شاب يحتاج للعمل مهما كان الأجر أن يعمل، وهو بذلك مأجور، وقد يعينه الله عز وجل ويسدده، وقد يكون أيضاً هذا العمل وسيلة إلى أن يرتقي إلى ما هو أوسع وإلى ما يطمح إليه.

أقول: إن كثيراً من شبابنا اليوم قد حرموا كثيراً من الوظائف؛ بسبب أنهم تعودوا على البذل والعطاء ممن كانوا يقومون على إعالتهم، كما أنهم قد تعودوا أن تكون جيوبهم مليئة، فلا يرضى الواحد منهم أن يعمل بالمبلغ الزهيد، وهذا خطأ، ولذا فإذا ما وجد الشاب ما يسد حاجته إلا بأن يعمل بمبلغ زهيد فليعمل، بل يجب عليه أن يعمل ولا يمد يده كل يوم للناس، حتى في مصاريفه الضرورية، ولذلك فإن هذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق ليس فقط بتربية الشخص، أو في الأحوال المادية والاقتصادية، بل تتعلق حتى بالعقيدة، فيعد ترك العمل ضعفاً في التوكل على الله، وعدم العمل بما أمر الله به من أن يكون المسلم عزيزاً، وأن تكون يده عليا، وأن يأنف أن يكون في مقام السائل.

الخلاصة: أن السؤال ليس محصوراً في مد اليد أو السؤال باللسان أو الإلحاح، بل السؤال يتضمن أيضاً أن يقعد القادر عن العمل فيكون عالة على غيره، وهو في الحقيقة قد وقع في الإثم فضلاً عن الذلة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا شبابنا على هذه المسألة؛ حتى لا تستفحل في المجتمع المسلم، مع أنه في الآونة الأخيرة قد كثرت هذه الظاهرة؛ بسبب الظروف والأحوال التي اضطرت الناس إلى ذلك.

حكم سؤال وطلب الدعاء من الآخرين

قال رحمه الله تعالى: [ وأما سؤله لغيره أن يدعو له فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : (لا تنسنا من دعائك)، وقال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة)، وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له؛ لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم كما قال للذي قال: (أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم، كسائر أمره إياهم بما أمر به؛ وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم، فإنه قد صح عنه أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكاً كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله) ].

ما يتعلق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بأن يدعوا له ويصلوا عليه له وجه آخر، ذكره شيخ الإسلام وغيره في مقام آخر، وهو أن ذلك من التشريع الذي أمر الله به، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ، وهو عليه الصلاة والسلام عندما أمرنا بأن نحبه أكثر مما نحب أنفسنا وأولادنا وما نملك فإن ذلك بأمر الله عز وجل له، ولم يقصد بذلك رفعة نفسه، بل الله رفعه وأمره أن يبلغ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب منا أن نصلي ونسلم عليه وذكر الأجر على ذلك إنما ذلك هو حق له صلى الله عليه وسلم شرعه الله.

وعليه فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بلغنا شرع الله ولم يطلب لنفسه شيئاً، فإنما هو مبلغ عن الله تعالى، ومن هنا يزول الإشكال في كون النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن تدعو له، وأن تسلم عليه، وأن تصلي عليه، وأن تحبه، وأن تتبع شرعه وأن تقتدي به، وكل ذلك إنما هو بأمر الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فصل العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع ].

هذه من القواعد العظيمة في الشرع، وقد أشار الشيخ هنا إلى العبادات؛ لأنه في مقام ذكر توحيد الإلهية والعبادة، لكن في الحقيقة أن هذه قاعدة أشمل من هذا النص، ولذا فيجوز أن يخصص هذه القاعدة ويجوز أن يعممها، فنقول: الدين كله -العبادة والعادة والأحكام .. وغيرها- مبناه على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، كما يجوز لنا أن نأخذ هذه القاعدة في كل علم بحسبه، فنقول مثلاً: الأحكام مبناها على الشرع والاتباع، والعقيدة مبناها على الشرع والاتباع، والعبادات مبناها على الشرع والاتباع، ومن هنا حصلت العبادة؛ لأن المقام مقام الحديث عن العبادة، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهي من خصائص قواعد السلف التي تميزوا بها عن غيرهم، وهي من الفوارق الكبرى بين منهج السلف ومنهج المخالفين، فالسلف كلهم يتفقون على هذه القاعدة بإجماع، بينما أهل الأهواء منهم من يخرق هذه القاعدة نظرياً، ومنهم من يخرقها نظرياً وعملياً، ومنهم من يخرقها عملياً فقط، أي: أنه يخالف هذه القاعدة عملياً فقط؛ لأن هناك من أهل البدع من يدعي هذه القاعدة، لكنه يخالفها في العمل، فيبتدعون أموراً ما أنزل الله بها من سلطان.

إذاً: لابد لهذه القاعدة من فروع وضوابط وأسس سيتكلم عن بعضها الشيخ بعد قليل.

الإسلام مبني على أصلين عظيمين وهما الإخلاص والمتابعة

قال رحمه الله تعالى: فإن الإسلام مبني على أصلين:

أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له.

والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الجاثية:18-19].. الآية، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، من واجب ومستحب، لا يعبده بالأمور المبتدعة، كما ثبت في السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال الترمذي : حديث حسن صحيح، وفى مسلم : (أنه كان يقول في خطبته: خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).

وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده، فلا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا بيت الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يخاف إلا الله، ولا ينذر إلا لله ولا يحلف إلا بالله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفى السنن: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً. لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد. وتوحيد معه كذب خير من شرك معه صدق، ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) مرتين أو ثلاثاً، وقرأ قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك فكيف الناذر لغير الله؟ والنذر أعظم من الحلف، ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين، مثل: أن ينذر لغير الله صلاة، أو صوماً، أو حجاً، أو عمرة، أو صدقة.

ولو حلف ليفعلن شيئاً لم يجب عليه أن يفعله، قيل: يجوز له أن يكفر عن اليمين، ولا يفعل المحلوف عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، فإذا كان النذر لا يأتي بخير فكيف بالنذر للمخلوق؟ ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان في طاعة، وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء، فإنما تنازعوا: هل فيه بدل أو كفارة يمين أم لا؟ لما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).

فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة فهو من الضالين، كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة أو تدفع عنهم مضرة.

وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين، وقد تخاطبهم بكلام، وقد تحمل أحدهم في الهواء، وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو طعام أو كسوة.. أو غير ذلك، كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب، وهذا كثير، موجود في هذا الزمان وغير هذا الزمان، للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، وإما بعبادة لم يشرعها الله.

وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئاً خارقاً للعادة لم يخرج عن أن يكون حالاً شيطانياً، أو محالاً بهتانياً، فخواصهم تقترن بهم الشياطين، كما يقع لبعض العقلاء منهم، وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء، لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة، إما كفر وإما فسق، وإما جهل بالشرع، فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفاراً جعلهم كفاراً، وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقاً أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك!!

ولهذا قال الأئمة: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي. ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هي التي تحمله، لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين ].

موقف الإسلام من خزعبلات وخوارق بعض المبتدعة

في الحقيقة مثل هذه الحال مما يلتبس على كثير من الناس قديماً وحديثاً، وهو ما يحدث لبعض الناس أو لبعض المبتدعة من بعض الخوارق التي يغتر بها الجاهل، فيظنون أن هذا من باب الإعانة والتوفيق من الله عز وجل، وأن هذا دليل على أن صاحب هذا العمل الخارق على حق، ولذلك أرشد السلف رحمهم الله إلى قاعدة عظيمة في هذا، ألا وهي: أن من يعمل مثل هذا تعرض أعماله على الكتاب والسنة، فإن كان لها أصل وإلا فهي مردودة، حتى وإن ظهرت هذه الخوارق التي يزعم أنها كرامات وهي في الحقيقة من عادة الشياطين، ثم يعرض عمله أيضاً على خيار الأمة في عصره وقبل عصره، فإنهم هم القدوة والحجة؛ ولأن الله عز وجل كما قد تكفل بحفظ الدين تكفل بحفظ القرآن وحفظ السنة وحفظ النصوص، فقد تكفل أيضاً بحفظ وجود القدوة، وذلك بيِّن في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، ومعنى (ظاهرين)، أي: أنه يراهم ويقتدي بهم كل من وفقه الله عز وجل، وأنهم تقام بهم الحجة.

فإذاً: هؤلاء الذين يندون ويشذون عن أئمة الهدى بمثل هذه التصرفات والحركات والأقوال توزن أعمالهم على الشرع وعلى منهج أهل السنة والجماعة، فما وافق سبيل المؤمنين فهو حق، وما لم يوافقه فهو باطل، مهما بلغ من الدجل والإثارة والغرابة.. ونحو ذلك مما يبهر الجهلة، هذه مسألة.

قاعدة جليلة في الرد على أهل البدع: أن الدين مبناه على الشرع

المسألة الأخرى: وهي المتعلقة بهذا الموضوع، وتقرر قاعدة من عرفها استطاع أن يقيم الحجة -حتى وإن لم يكن عالماً- على كثير من أهل البدع، وهي مسألة أيضاً كثيراً ما يقع فيها أو يحار فيها بعض طلاب العلم الصغار، وبعض الناشئين، وبعض العوام خاصة إذا واجهوا أهل البدع، فيحرجونهم أو يوقعونهم في الشك، فيقولون لهم: هذا العمل خير، وأنتم ضد الخير! أو يقولون: هذا العمل من جنس الأعمال المشروعة! ولنضرب مثلاً: ما يحدث من كثير من أهل البدع في هذا الشهر، أعني: شهر رجب، فإنهم يعملون فيه أعمالاً ما أنزل الله بها من سلطان، كالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ويزعمون أنها في العشر الأواخر من شهر رجب، ومنهم من يخص هذا الشهر كله بالصيام، ويقول: إنه أفضل من شهر رمضان أو مثله أو دونه، لكنهم يخصونه بصوم من أوله إلى آخره، ومنهم من يعمل أعمالاً أخرى يظن أن لها مزية في هذا الشهر، ولا شك أن هذا الشهر من الأشهر الحرم، وقد يكون له شيء من الفضل عند الله عز وجل، لكن لم يتحدد فضل معين، وعلى هذا لم يشرع العمل فيه بشيء معين محدد.

ولذا أقول: من ابتلي بمثل هذه الأمور، أو رأى مثل أصحاب البدع هؤلاء، وقالوا له مثل هذا القول المجمل الملبس، بأن يقولوا له: هذا عمل خير، وهل أنت ضد الخير؟ أو هذا شهر فاضل، ونحن نعمل العمل الفاضل في الشهر الفاضل، فعليه أن يلجأ إلى هذه القاعدة حتى ولو لم يدخل في التفاصيل، وليقل: إن الدين مبناه على الشرع، أي: على ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل عبادة وكل أمر من أمور الدين لا يجوز العمل به إلا بدليل، لاسيما إذا خالف ما عليه أهل الحق، بخلاف الأعمال المستفيضة والمشهورة بين المسلمين، مما أجمع عليها المسلمون، مثل: إقامة الصلوات الخمس، فهذه تحتاج إلى دليل عند العامي.. أو نحوه؟! لكن الأمور المحدثة الغريبة التي تطرأ من بعض الناس، أو من بعض أهل البدع، فلا يجوز أن نناقشها أو نجادل فيها، بل يقول لصاحب البدعة: عليك الدليل؛ لأن الله لا يُعبد إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).. وغير ذلك من النصوص التي يعرفها عامة طلاب العلم، بل حتى العوام يعرفونها، فيقول للمبتدع: أنت الذي يجب عليك الدليل؛ لأن الأصل خلاف ما أنت عليه، وهذا أمر لا نعرفه وفي نفس الوقت ننكره، فإن أتى بدليل صحيح، وكان استدلاله على وجه سليم فهو محق، وإن كان استدلاله على وجه سليم، لكن لم يأت بدليل فتقوم عليه الحجة، لذلك ينبغي أن يلقن الناس مثل هذه الأمور لاسيما مع كثرة دعاة البدعة الآن.

وكذلك يحسن بطلاب العلم أن يلقنوا الشباب وطلاب العلم والعوام هذه الأمور المجملة العامة التي يسلمون بها، وكم من مواقف نجد فيها من طلاب العلم ومن شباب أهل السنة ومن عوام الناس من يقعون في ربكة وشك في دينهم؛ بسبب قوة صاحب البدعة واستعداده للحوار، وعدم وجود الأصل عند صاحب السنة.

لذا فأقول: ينبغي أن نعلم الناس مثل هذه الأصول العامة، وهو أنه لا يُعبد الله إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن كل من أحدث شيئاً لم يكن يعرف عند أهل الحق والسنة فعليه بالدليل، وإلا فهو مبطل متقول على الدين.

إذاً: فهذه قواعد من عرفها استطاع بإذن الله أن يقيم الحجة ولو لم يكن عالماً، لكن بإجمال، ولا يدخل في المراء والجدال؛ لأن الجدال مهلك.

الفرق بين الأحوال الرحمانية لأهل الحق والأحوال الشيطانية لأهل البدع

قال رحمه الله تعالى: [ ومن هؤلاء: من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لابد فيه من الإحرام، والوقوف بعرفة، ولابد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة، فإنه ركن لا يتم الحج إلا به، بل عليه أن يقف بمزدلفة، ويرمي الجمار ويطوف للوداع، وعليه اجتناب المحظورات والإحرام من الميقات.. إلى غير ذلك من واجبات الحج، وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم في الهواء، ويحمل أحدهم بثيابه، فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة، حتى يرى في اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة.

ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة، فيراه من يعرفه واقفاً، فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة! فإذا قال له ذلك الشيخ: أنا لم أذهب العام إلى عرفة، ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ومثل هذا وأمثاله يقع كثيراً، وهي أحوال شيطانية، قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [طه:123] إلى قوله: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126]، ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها، وإن حفظ حروفها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقرأ هذه الآية.

فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي، وأضله الشيطان وأشقاه.

فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان، فإن هذه حال أوليائه، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وتكون نعمة لله على عبده المؤمن في دينه ودنياه، فتكون الحجة في الدين والحاجة في الدنيا للمؤمنين، مثلما كانت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كانت الحجة في الدين والحاجة للمسلمين، مثل: البركة التي تحصل في الطعام والشراب، كنبع الماء من بين أصابعه، ومثل: نزول المطر بالاستسقاء، ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء، ومثل: الأخبار الصادقة والنافعة بما غاب عن الحاضرين، وأخبار الأنبياء لا تكذب قط.

وأما أصحاب الأحوال الشيطانية، فهم من جنس الكهان يكذبون تارة ويصدقون أخرى، ولابد في أعمالهم من مخالفة للأمر، قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] الآيتين].

في الحقيقة إن من الأمور التي ينبغي التفريق بينها ما يحدث لكثير من أهل البدع من الخوارق، وما يحدث من كرامات لأهل الحق والولاية الشرعية، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، فالكرامة لا تحصل إلا من مستقيم على السنة، وقد تحدث من مقصر، لكن لا تحدث في تأييد بدعته أو في تأييد معصيته، وإنما قد تحدث له عند الضرورة، أو عندما يلجأ إلى الله عز وجل في أمر يتعلق بمصالح الأمة أو بنصر الدين، فهو وإن كان فاسقاً أو فاجراً قد تحدث له من الكرامة في سبيل نصرة الحق أو في سبيل كشف كربته أو ضرورته، لكن لا يمكن أن تحدث الكرامة في نصر البدعة أو نصر المبتدع، بل ولا تحدث الكرامة على يد المبتدع فيما يتعلق بتأييد الحق، ثم إن الكرامة أيضاً في الغالب تكون مؤيدة للشرع، بمعنى: أن نتيجتها لابد أن توافق الدليل الشرعي، سواء كانت النتيجة قولية أو عملية أو في أحكام.. أو في غيرها، فيستفيد منها المسلم أو يستفيد منها المسلمون.

ثم إن الكرامة في الغالب أنها تحدث بغير قصد لها أو تعمد لها، فهي تحدث إكراماً من الله عز وجل للعبد، كأن يلجأ إلى الله عز وجل، أو يحدث منه ما يرضي الله عز وجل من العبادة الصادقة.. ونحو ذلك عن غير طلب لها، فإن طلبها فقد تحدث له مرة، لكن إن تكررت فالغالب أنها تكون ابتلاء وتنقلب من كونها كرامة إلى كونها مخرقة، وقد ابتلي كثير من العباد الصالحين الذين يعبدون الله على جهل بالبدع؛ بسبب ما يقع لهم من الكرامات الدائمة، لذلك فإنه قد تحدث لبعضهم كرامات قد تكون فعلاً موجبها أموراً قلبية صحيحة، وأحوالاً قلبية صحيحة في أول الأمر، لكنه لجهله يغتر فيقع في طلب الكرامة والإلحاح عليها، فيستدرج إلى البدعة بالكرامة، فتنقلب الحال من كرامة تكون من الملائكة إلى استغلال الشيطان لهذا التوجه عند الشخص، فيدخل عليه الشيطان من هذا الباب فتكثر عنده المخارق، فتختلط عليه الكرامة بالمخرقة والدجل، ثم إن الكرامة لابد أن تكون مما يستأنس بها المؤمن والمسلم المستقيم، يعني: يكون فيها نوع من البشارة ونصر الحق، أو التفريج عن مسلم .. أو نحو ذلك، بخلاف المخارق ففي الغالب أنها تكون في تأييد أحوال أهل الفسق والفجور والبدع، ثم إنه في الجملة فالكرامات لا تكون من أهل البدع المغلظة، بينما أهل المخارق يكونون غالباً من أهل البدع المغلظة، ولذلك تكثر عندهم هذه الأحوال، لذلك كان من علامات انحراف بعض الجماعات عن السنة في عصرنا الحاضر كثرة تعويلهم على هذا الباب، نعم الكرامات حق، لكن إذا صاروا يعولون كثيراً من أمورهم وأحوالهم العلمية والعملية والمادية، وحتى شئون الدعوة.. وغيرها على الكرامات أكثر مما يعولون بها على ما أمرهم الله به عز وجل من الاستعداد والعمل، فهذا فيه نوع ابتداع واتكال على أعمال قد يدخل عليهم الشيطان من بابها وهم لا يشعرون، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء ملابساً الخبائث من النجاسات والأقذار التي تحبها الشياطين، ومرتكباً للفواحش أو ظالماً للناس في أنفسهم وأموالهم.. وغير ذلك، والله تعالى قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ].

إذاً: إذا كان الأمر الخارق يقر ظلماً أو يقر عدواناً أو يؤيد بدعة أو يؤيد مبتدعاً، أو يكون فيه نوع من الإخلال بالأحوال القلبية كالتوكل.. وغيره، أو إخلال بما أمر الله عز وجل به من طلب الرزق، أو بما أمر الله به من الأمور المباحة، أو كانت هذه الأحوال تؤدي إلى تحريم حلال أو تحليل حرام.. أو نحو ذلك مما هو من خصائص أهل البدع غالباً، فنحكم بأنها من المخارق الشيطانية وليست من الأحوال والكرامات التي يؤيد الله بها العباد.

ولذلك نجد أن الكرامات يقل ذكرها عند المؤمنين؛ لأن الغالب أنها لا تؤدي إلى هذه الأمور، ثم إنه أيضاً من ضوابط الكرامة: ألا تؤدي إلى الغرور، فإن أدت إلى الغرور والتعالي والاستعلاء بها والتمدح بها، فإنها قد تنقلب بعد ذلك إلى خوارق شيطانية.

قال رحمه الله تعالى: [ وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور، وهذه جملة لها بسط طويل لا يتسع له هذا المكان، والله أعلم ].

فصل جامع في أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم

قال رحمه الله تعالى: [ فصل جامع:

قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد، وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم ].

يقصد الشيخ هنا العدل بمعناه العام، والظلم بمعناه العام؛ لأن العدل معناه واسع، وهو ضد الجور وضد الميل، والجهل كذلك ضد الاعتدال وضد الاستقامة، وأغلب ما يستعمل الناس العدل فيما هو ضد الجور وضد الميل، لكن معناه الواسع قد يغفل عنه كثير من الناس، والشيخ هنا قصد المعنى الواسع، فالعدل هو الاعتدال، وهو صراط الله المستقيم الذي فيه جميع الشرع، العقيدة والشريعة، وكل ذلك هو العدل وهو مقتضى العدل، وليس فقط العدل مع الناس أو العدل في الحكم أو العدل ضد الجور أو ضد الميل، وإنما العدل الاستقامة على دين الله عز وجل.

ولذلك نجد هذا المعنى العام موجود حتى عند العوام، فيقولون: هذا الطريق عدال، أي: مستقيم، وهو معنى جيد لمفهوم العدل، وكذلك الظلم ليس فقط معناه هنا مجرد ظلم الآخرين، بل ظلم النفس وظلم الآخرين، وكذلك من الظلم الجور عن الحق، والميل عنه.

قال رحمه الله تعالى: [ وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكلما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم ].

الشيخ هنا فسر الظلم بمعناه العام فقال: (وكل ما نهى عنه -الشرع- فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم).

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29]، فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين، والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم، كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب، فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب، ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء، أو بعضه ككفار أهل الكتاب.

وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين:

أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك، ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات، فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله.

والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله.

وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).

ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك.. ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصل دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات، ولهذا قال لهم المسيح عليه السلام: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة، وأفعال مجملة، فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما قررته في غير هذا الموضع: بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك، فإن إخلاص الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم ].

والنتيجة أو الخلاصة لهذا الحديث كله: هي أنه قصد في هذا الفصل الجامع أن العدل هو إخلاص الدين لله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك إخلاص الدين لله في العبادة والأحكام، وفي المستحبات والواجبات والفرائض.

كما قصد رحمه الله أن الظلم هو الشرك بالله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك الشرك الأكبر والشرك الأصغر وظلم النفس وظلم الغير، وهذه من الأمور والقواعد الجيدة التي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يعوها ويستفيدوا منها؛ لأن مثل هذه القواعد في الغالب أنها تصبح بمثابة الموازين، حيث إنه إذا استوعبها طالب العلم ففي الغالب بإذن الله أنه يوفق ويسدد إذا التزم قواعد الاستدلال ونهج السلف في ذلك، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [8] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net