اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لماذا لا نعمل؟ للشيخ : محمد الدويش
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
فلماذا لا نعمل؟
يُقال: إن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، ونحن أحوج ما نكون في تفكيرنا إلى أن ننظر إلى الأمام دائماً، وهناك قضايا قد استقرت في أذهاننا وأذهان الناس، إعادة مناقشتها وتقريرها والتأكيد عليها أظن أنه رجوع إلى الوراء، اللهم إلا إذا كانت وصايا للتذكير وإعادة الحافز فهذا أمر نراه في كتاب الله سبحانه وتعالى كثيراً.
مشكلة تُطرح كثيراً ونُعاني منها في أوساط جيل الصحوة وشباب الصحوة، ذلكم أن قضية الدعوة إلى الله عز وجل أظن أنها أصبحت قضية مُدركة عند الجميع، فالجميع يدرك وجوب الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم، ولا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل في حق شباب الصحوة وجيل الصحوة قد غدت فرض عين، وأننا يجب أن نبحث عن الأساليب والوسائل ويجب أن ندعو ونعمل، وهي قضية لا يجادل فيها شخص ولا يناقش، لكن حينما نقارن بين هذه القناعة الموجودة عند الشباب وبين أثرها الواقعي -أي: بين القناعة وبين العمل- سنجد المفارقة، سنجد أن المسافة شاسعة جداً بين أولئك الذين يقتنعون بضرورة الدعوة والعمل والمشاركة، وبين أولئك الذين يعملون، وحتى تدرك صدق هذه الدعوى فانظر إلى أي تجمع في أي مكان، كمدرسة فيها ثمانمائة طالب أو يزيدون ستجد فيها مثلاً عدداً من الشباب المتدينين الذين يشاركونك هذا الشعور، وكل واحد منهم يشعر بأن الدعوة إلى الله عز وجل واجبة عليه، وأنه ينبغي أن يساهم فيها، لكن كم هم الذين يعملون من هؤلاء؟ ولو كان هؤلاء يعملون لرأيت أثرهم واضحاً ظاهراً في هذا التجمع الذي يعيشون فيه.
تجمع مثلاً في حي سكني، لو فتشت فيه عن أولئك الذين يقتنعون تمام الاقتناع ولا يخالجهم أي شك أو تردد في وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وضرورة المشاركة والعمل ثم قارنت بين حجم هؤلاء وبين عملهم ونتاجهم لوجدت أن المسافة شاسعة جداً.
من الطبيعي مثلاً أن تجد أناساً لا يعملون وهم يقتنعون، وقد لا تحصل مشكلة كبيرة عندما نجد اثنين أو ثلاثة بهذه الصفة، لكن حينما نجد أن المسافة واسعة إلى هذا الحد نشعر بهذه المشكلة، وأظن أننا جميعاً نشعر بهذه المشكلة، بدليل أننا نتساءل عن ذلك، وأنا أتوقع أنني سأجد اليوم من الأسئلة التي ترد إلي: أني شاب مقتنع بأني في الدعوة لكني لا أعمل، ما هو الحل في نظرك؟ فنحن نتساءل كثيراً، إذاً: نحن مقتنعون تماماً بهذه المشكلة، ويدفعنا شعور بضرورة حل هذه القضية، وبضرورة تحطيم هذه الحواجز التي تحول بيننا وبين العمل، فنتصور أن هذا الحل إنما يتم بإقناع الناس فيه بالدعوة، بإقناع الشباب بأهمية الدعوة، بإقناعهم بوجوب الدعوة إلى الله عز وجل، أنا أظن أن هذا رجوع إلى الوراء في التفكير.
يا أخي هؤلاء مقتنعون تماماً بأن الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم قد غدت واجبة، بأن المشاركة في حقهم قضية ينبغي أن لا يناقشوا فيها، لكن لا يعملون؟ إذاً: هناك مشكلة أخرى غير هذه القضية، فيجب أن نفكر لماذا نحن لا نعمل؟ لماذا الناس لا يعملون؟
تذكير الناس بأهمية الدعوة، تذكير الناس بوجوبها، تذكير الناس بالقضايا البدهية المستقرة عندهم أمر لا شك فيه والنفس تحتاج إليه، ولهذا يأتي التكرار كثيراً في القرآن والسنة، لكن حينما نتصور نحن أن مكمن الداء هنا ومكمن المشكلة هنا! فهذا يعني أننا كما قلت نرجع بالتفكير إلى الوراء..
يا أخي هذه قضية تجاوزناها، ويجب أن نقول للناس إننا تجاوزناها، وأنا أقول بصراحة لمن يحتاج إلى أنه تقنعه بضرورة الدعوة والمشاركة: أنا أقترح أن ندعه جانباً ونتجاوزه، والوقت لا يحتمل، ويجب أن يشعر أنا نقول له: إننا قد اتجهنا إلى الأمام والقضية التي تريد أن نخاطبك فيها قضية قد تجاوزناها نحن، ونحن الآن همنا ومشكلتنا في البحث عن الوسائل، في البحث عن المشكلات، في البحث عن قضية: لماذا هؤلاء لا يعملون؟ أما أن نقنعك بأن هذه قضية مطلوبة! فهذه قد صارت قضية الناس كلهم، ربما من مرحلة سابقة كانت قضية الدعوة والدعاة مصطلحاً للنخبة كما يُقال، يعني: كانت قضية تهم جيل الصحوة، أما الآن فحينما تقول: فلان داعية فهذه كلمة لا تحتاج إلى توضيح، ولا تحتاج إلى شرح عند عامة الناس، عند الجميع، ولم تعد قضية خاصة بجيل الصحوة.
إذاً أقول: إننا ونحن نريد من جيل الصحوة أن يعمل يجب أن نبحث عن مكمن الداء، وما هو أساس هذه المشكلة، وأنا أتصور أنه ليس أساس المشكلة هو أن هؤلاء يحتاجون إلى أن نقنعهم بالدعوة وضرورتها وفضائلها.. هذه قضية يمكن أن نذكرها من باب التذكير، من باب الحث مثلاً، عندما نشعر أن الهمم قد ضعفت وفترت، وهذا لا بد منه بين آونة وأخرى، أما أن نتصور أن هذه مكمن الداء وهذه المشكلة أنا أظن أنه رجوع بتفكير الناس إلى الوراء.
يجب أن نشعر أن هناك قضايا كثيرة نحن بحاجة أن نتطلع إليها، وأن نتحدث عنها، وأن نفكر فيها ولا نعود بتفكيرنا للوراء ولا يتصور الواحد منا أنه وصل إلى تقاعد.
وأنتم عندكم قضايا فقه الآداب مثلاً، في آداب المجلس، وآداب الأخوّة في الله، وآداب أعمال اليوم والليلة هذه سمعتها كثيراً واستوعبتها، قضايا في الدعوة مثنى صفات الداعية، واجبات الداعية، نماذج من الدعاة.. هذه قضايا استوعبتها، إذاً أنا وصلت إلى مرحلة التشبع الفكري ووصلت إلى مرحلة التقاعد، وفعلاً هذه عبارة ربما تسمعها من بعض الشباب أنه يشعر أن هذه القضايا التي تُطرح الآن عند أوساط الشباب وفي جيل الصحوة قضايا استوعبناها وقضايا سمعناها ومللنا منها، وهذه نتيجة أننا نعود بتفكيرنا إلى الوراء، لكن لو كنا نفكر إلى الأمام لكان الشخص الذي انقطع عن هذه المنابع فترة يشعر أن القطار قد فاته فعلاً وأن الناس قد تجاوزوه، لهذا كانت هذه المحاولة في الحديث حول هذا الموضوع.
وهذا ليس موضوعاً علمياً ولا موضوعاً فكرياً عميقاً ولا مدروساً، إنما هو محاولة للتفتيش عن الداخل، يعني: للتفكير لماذا نحن مقتنعون بأن العمل واجب وأنه يجب أن نعمل ثم نعمل؟ ما هي الأمور التي تعوقنا فعلاً عن العمل؟ هناك قضايا كثيرة والمعوقات كثيرة، ولو طلبت منكم الآن أن تبحثوا لي عن هذه المعوقات لأعطاني كل واحد منكم قائمة طويلة، لكن على الأقل أنا أريد أن أثير الانتباه إلى بعض هذه القضايا ومن خلالها يمكن أن نصل إلى الكثير من هذه المعوقات، ربما نشعر أن جزءاً من هذه المعوقات موجود لدينا.
إذاً: هذا ما نريد أن نطرحه، وهو محاولة لتفسير هذا اللبس أو حل هذه المشكلة.
من أول العوائق: العجز والكسل.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله عز وجل منهما يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
ومرجع بلاء الإنسان أصلاً كله إلى العجز والكسل فإن الإنسان الذي يمتنع عن إتيان عمل إما أن يكون غير قادر على أداء هذا العمل، وهذا هو العجز، أو أن يكون قادراً لكنه لا يريد أن يعمل وهذا هو الكسل.
والعجز والكسل هما مصدرا الهم والحزن أيضاً، فإن الهم والحزن قرينان، فالإنسان إن كان مصدر قلقه وألمه عن أمر مضى فهذا حزن، وإن كان مصدر قلقه عن أمر سيأتي فهذا هم، ومصدر الهم والحزن أصلاً يعود إلى العجز والكسل؛ لأن الإنسان مثلاً عندما يشعر بأن هناك شيئاً أمامه يمكن أن يواجهه ويعيش هماً وألماً وقلقاً فهذا في الواقع نتيجة عجز وكسل.
يا أخي هذا الذي سيأتي وتتوقعه إن كنت قادراً عليه فتخلص من همه واعمل، وإن كنت غير قادر فعلاً فسلم أمرك لله وفكر كيف تتعامل مع هذا الأمر الواقع؛ لأن هذا أمر واقع فرض نفسه فكيف تتعامل معه؟
والحزن كذلك، هذا أمر مضى فهل تستطيع أن تعالج آثاره، وتتخفف منه فاعمل وبادر، وإذا كنت لا تستطيع فسلم الأمر لله عز وجل وفكّر فيما ينفعك، فالانشغال بالهم والحزن إنما هو صورة من صور العجز والكسل، ونتيجة للعجز والكسل.
والمقصود أن العجز والكسل هو الذي يعوق الإنسان عن مصالح دينه ومصالح دنياه، وكم يرى الإنسان أن هناك فرصاً كثيرة يمكن أن تتاح في أي ميدان من الميادين.
على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه النقطة؛ لأن هذا الأمر ندركه في أنفسنا، وستأتي قضايا لها ارتباط بهذا الأمر.
عائق ثان: خوف الفشل.
وهذه مشكلة خاصة في بداية الطريق عند أولئك الذين لا يعملون، هناك فئة من الناس يجيد أن يتصور الفشل، يا أخي أنت إذا أردت أن تعمل فلماذا تنظر نظرة سلبية؟ إذا كنت تريد أن تعمل فإن أمامك احتمالين: احتمال أن تنجح، واحتمال أن تفشل.. فلماذا تغلب احتمال أن تفشل؟ لماذا لا تفترض أنك ستنجح في العمل؟
والإنسان الذي يتصور الفشل في أي مشروع وأي عمل لا يمكن أن يعمل، وأعطيك نماذج من حياتك التي مرت عليك، فمثلاً: جميع الشباب الذي أمامي يدرسون وكثير منهم قد تجاوز المرحلة الثانوية، وعدد من الإخوان تجاوز المرحلة الجامعية، وربما يدرس دراسات ما بعد المرحلة الجامعية، كل واحد منكم وهو يسجّل في المرحلة الثانوية، أو وهو يدرس عنده احتمال واحتمال قوي أن يفشل، فلماذا لم يسيطر عليك هذا الاحتمال؟ ولم تتردد إطلاقاً في الدخول في هذا الميدان مثلاً حتى لا تفشل؟
وعندما تدخل الامتحان في أي مادة من المواد الصعبة يكون عندك احتمال كبير أن تفشل، فهل تغيب شخص يوماً من الأيام عن الامتحان، والسبب أنه خائف أن يفشل، وربما بعض الطلاب عنده احتمال النجاح بنسبة (1%)، يقول: يا أخي أنت ويش خسران، ادخل الامتحان ويمكن تفشل لكن افرض أنك فشلت فلا يضرك شيئاً، كثير من الطلاب قبل الامتحان يتخوفون كثيراً، ونسبة منهم عندما يرى الأسئلة يبدأ مؤشر النجاح يزيد عنده ومؤشر الفشل ينخفض، والبعض بالعكس، لكن ستجد نسبة كبيرة من هؤلاء عنده احتمال أن يفشل فعلاً، وبعد أن يطّلع على الأسئلة عنده احتمال فشل، وقبل النتيجة وهم في انتظار النتائج لا يزال عنده احتمال الفشل، والطلاب المتفوقون هم أكثر الناس خوفاً من الفشل؛ لأنه إذا كان الفشل بمقياسك هو الرسوب! فهو إذا حصل في هذه المادة على أقل من تقدير ممتاز فإنه يعتبر هذا فشلاً بالنسبة له، وهو من أكثر الناس هواجس، أنت ربما تعودت أن تأخذ بعض المواد في الدور الثاني أو تحملها معك إذا كنت في مرحلة جامعية وصارت القضية عندك سهلة، لكن هذا الطالب المتفوق من أكثر الناس خوفاً من الفشل..
المقصود أن هذه الآن تجربة مرت علينا جميعاً ولم تكن عائقاً لنا عن هذا العمل، مع أنه ربما يصل عندنا نسبة احتمال الفشل إلى نسبة كبيرة، ومر معنا مواقف في حياتنا الدراسية كنا نخاف فيها من الفشل ونجحنا واستطعنا أن نتجاوز هذه العقبة، وخذ كل الناس الذي يعملون في الحياة، أحياناً يأتي إعلان عن وظيفة، يقول لك: ليس عندنا إلا فرصة واحدة من خمسين واحد، أو مائة واحد، أو ثلاثمائة واحد..! وما عنده مشكلة، فيتقدم ويدخل مقابلة شخصية ويقدم مؤهلاته ولو كان يشعر أن في هؤلاء كثيراً ممن يتفوقون عليه بالمؤهلات، لكن قدم واعمل ولن تخسر شيئاً.
وفي سنة من السنوات في مرحلة من المراحل كانت الفرص قليلة عندنا، وكنت أقول لكل طالب يأتي في المقابلة: إن نسبة قبولك واحد إلى عشرة، يعني: من كل عشرة متقدمين سوف نقبل واحداً، فيجب أن تضع هذا في ذهنك، ويدخل المقابلة وهو بهذا الشعور مع أنه يعرف كل شيء، أنت الآن معدلاتك أقل من معدلات غيرك، مؤهلاتك قدراتك؟ يقول لك: أنا أدخل مقابلة ولن أخسر شيئاً، يا أخي أنا مستغرب صراحة من الروح التي عند هؤلاء، فكل واحد من هؤلاء يدخل وهو يعرف أنه لن يُقبل إلا بنسبة عشرة بالمائة!
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سينحسر الفرات على جبل من ذهب سيقتتل الناس عليه وما يبقى إلا واحد، وكل واحد يقول: يمكن أن أكون أنا الواحد.
على كل حال أنا لو ضربت لكم أمثلة من حياتكم اليومية لطال بنا الوقت، لكن أظن أن الأمثلة التي ضربتها كافية، وكل واحد منا مرت عليه مواقف ولم يكن يوم من الأيام هاجس خوف الفشل عائقاً عن هذا العمل، خذ الناجحين في أي ميدان من الميادين في الحياة، مثلاً رجل تاجر، هل تتصور أن التجارة عامل مربح مائة بالمائة؟ لا يا أخي، هو عرضة لأن يفشل، ويمكن أن يفلس، وعرضة أن يدخل السجن لأجل مشكلة مالية، وقد يدخل صفقة كبيرة ممكن أن ينجح فيها ويحصل على أرباح طائلة وممكن أن يخسر فيها كل ما أنفق، ومع ذلك لا يعيقه هذا الاحتمال عن الدخول في الصفقة.
خذ أي إنسان ناجح في الحياة، فالكاتب قد يكتب كتاباً ويفشل، متحدث، خطيب، شاعر، أي شخصية تعجبك ضعها في ذهنك، واعلم أنها كانت عرضة للفشل، ولو كان يفكر بالعقلية التي تفكر بها لما أقدم على هذا العمل أبداً..
إذاً يا أخي هذه طبيعة الحياة كلها، والفشل احتمال لكل من يعمل، فلماذا يسيطر علينا وحدنا هاجس الفشل، بينما أصحاب المطامع الدنيوية ليس عندهم مشكلة، ولا يخافون الفشل، حتى المجرمين واللصوص عنده احتمال فشل بنسبة عالية، ومع ذلك لا يعوقهم هذا الأمر عن مواصلة مسيرتهم.
هذا مع أن قضية الفشل غير واردة عندنا أعني في الأمور الدعوية، افترض أنك قمت بأي عمل دعوي كأن تلقي موعظة، فأكبر مصيبة يمكن أن تحل عليك هي أن تقوم أمام الناس ثم يُغمى عليك، فافترض أن هذا قد حصل، فهل تعتبر هذا فشلاً؟ لا، ليس هو بفشل.
ويمكن أن تتكلم وتتلعثم وتخطئ لكنك ستقول شيئاً مفيداً ولا شك، ويكون تقييمك لنفسك مثلاً أن هذه التجربة فاشلة بنسبة (100%). وأنا أقول: لا يا أخي، هذه ليست فاشلة! لأنا نريد منك أن تعمل، والله عز وجل إنما يحاسبك على العمل، فأنت قطعت خطوات ووفرت وقتاً وبذلت جهداً، وقلت كلاماً، فسوف تؤجر، أما قضية النجاح فهي قضية أخرى.
ستنصح إنساناً وتحاول تؤثر عليه لكن هذا الإنسان ما استفاد ولا اقتنع، فهل يعني هذا أنك فشلت؟ لا يا أخي، ما فشلت أبداً، لأنك أنت عملت وأجرك على الله عز وجل، فهي إحدى الحسنيين، فإذا كان الناس الذي يستجيبون لك أكثر فهذا إن شاء الله مدعاة لأن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وإذا لم يستجب لك أحد فلعلك أن تكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (بدأ هذا الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) وردت روايات كثيرة في تفسير الغرباء منها: أنهم أناس صالحون قليل في أناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
إذاً: يا أخي إذا كان الذين يطيعونك أكثر ممن يعصونك فأنت إن شاء الله سوف يحصل لك أجر هؤلاء، وكل خير عملوه بسبب دعوتك وبسبب ما قدمت لهم سيحصل لك أجرهم، وإن كان الذين يعصونك أكثر ممن يطيعونك فأنت ممن ينطبق عليهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الغرباء. وهي إحدى الحسنيين كما كان المسلمون يقولون في الجهاد، ولاحظ هنا أن الذين كانوا لا يخافون الفشل في الجهاد كانوا يقولوا: إن هي إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، فقضية الفشل قضية غير واردة.
وإذا أخطأت وشعرت أن مشكلة عدم نجاح هذا العمل أو عدم نجاح هذا المشروع يعود إلى تقصيرك لأنك لم ترتب المشروع ترتيباً جيداً، فلا تيأس واعتبر هذه خطوة نحو النجاح، لأنك لو كنت مثلاً تريد أن تصل إلى نسبة عالية من النجاح، فلا يمكن أبداً أن تقفز إليها مرة واحدة.
مثال: أنا أتحدث إليكم الآن وليس أمامي ورقة أقرأ منها، فهل تتصور أني كنت أتحدث أمام الناس بمثل هذه الطلاقة التي تراها منذ أول مرة؟ لا. وهكذا أي متحدث أو خطيب أو كاتب، لا شك أنه قد مرت عليه مرات يقيمها ويعتبرها ضمن خانة الفشل، لكن فشل ثم فشل ثم بعد ذلك نجح، أقول: وحياتنا كلها نطبّق فيها هذا السلوك.
أمر ثالث: الخوف من تبعة الأخطاء: الشخص الأول يخاف أن يفشل والشخص الثاني يخاف من تبعة الأخطاء، يقول: إني أخاف أن أقع في خطأ فأتحمل تبعة هذا الخطأ، فهو مثلاً يخاف أن يتحدث مع الناس ويقول كلمة يزل بها فيأثم، أو يخاف أن ينكر على شخص بطريقة معينة فيتسبب في كرهه للمعروف، وصده عن الخير.
تعالوا مثلاً إلى الناس الذين كانوا في قمة النجاح بعد الأنبياء، وهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مرت عليهم مواقف وقعوا فيها في أخطاء، ومع ذلك لم تكن عائقاً، مثلاً أسامة رضي الله عنه عندما أراد أن يقتل رجلاً فلاذ منه ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قتله، وأتى أسامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، قال: أشققت عن قلبه؟) حتى ضاق الأمر على أسامة وقال: (وددت أني أسلمت يومئذ) من ثقل الأمر عليه.
الآن أسامة وقع في خطأ بسبب الجهاد، فهل توقف أسامة عن الجهاد بعد ذلك؟ كلنا نعرف أنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جهّز جيشاً يقوده أسامة مع أنه وقع في الخطأ، لو كان يفكّر بنفس العقلية التي نفكّر فيها كان على الأقل يقول: يا أخي أنا أعيش مع الناس لكن عندما أقود الجيش أي مسئولية كبيرة سأتحملها؟ لكن كان يشعر أن هذا خطأ وقع فيه، وانتهى والله عز وجل يغفره، وفعلاً ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصعدوا المنازل العالية وليرتقوا وهم يفكرون هذه الأفكار، أو يعيشون هذه الأوهام التي نعيشها.
خذ على سبيل المثال أيضاً: سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا في الشهر الحرام، وأنزل الله عز وجل فيهم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:217] ومع ذلك ما صدهم هذا ولا عرف أن واحداً من هؤلاء الذين قاتلوا في هذه السرية تخلف عن الجهاد حتى لا يقع في الخطأ نفسه، وهي مواقف كثيرة نراها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نرى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقعون في الخطأ بحكم الطبيعة البشرية؛ ومع ذلك لم يكن هذا الخطأ صاداً لهم عن أمرهم.
أمر آخر: تهويل الأمر أو تهوينه.
هما نقيضان، أحياناً يهول إنسان أمراً فيصور أنه قضية صعبة جداً، وهذه قضية لا يطيقها إلا الناس الكبار، فمثلاً: عندما تذكر الدعوة يقول: الله المستعان! الدعوة تحتاج إلى إنسان يحمل العلم الشرعي، يجب أن يكون إنساناً حليماً، يجب أن يكون إنساناً شجاعاً، يجب أن يكون إنساناً وقوراً، يجب أن يكون له قيمته وكلمته عند الناس، يجب يجب يجب..، ويذكر قائمة طويلة جداً من الأمور التي أجزم لك أنها لا يمكن أن توجد في أحد، لأن الناس بشر، فيمكن أن تجد إنساناً عنده علم لكنه إنسان سريع الغضب، أو تجد رجلاً حليماً لكن عنده قصور في العلم، أو عنده قصور في قدرته على الإقناع.
وأنت لو قرأت في تراجم السابقين لوجدت أن منهم من كان يغضب، ومنهم من كان فيه صفة أخرى وما كانت تنقص من قدره، وبقي إماماً ورجلاً مشهوراً، لا تزال الأمة تتغنى به وبما فعل.
أقول: أحياناً يصور للناس أن الدعوة قضية صعبة جداً لا يقوم بها إلا أناس يحملون مواصفات معينة، أو أنه يهوّن لك القضية ويعتبرها قضية تافهة، وكلاهما مما يعوق عن العمل.
من العوائق أوهام المستقبل:
بعض الناس يجيد تصور الأوهام، ويجيد وضع احتمالات السوء، فيقول: محتمل أن يقع كذا، وكذا، والإنسان الذي يعيش هذه الاحتمالات لا يمكن أن يصنع شيئاً، وربما كان هذا جزءاً من القضية التي أشرنا إليها قبل قليل وهي قضية الفشل، لكن هذا قد يطرح لك قضايا أخرى، ويبدأ الإنسان يتخوف من أي عامل، ومن أي مؤثر، ويبدأ يخلق أمام نفسه حواجز وأوهاماً عجيبة جداً، وأنت تجد هذا عندما تطرح أي مشروع على شخص، يقول لك: يا أخي يمكن أن يحدث كذا، ويمكن أن يقال لك كذا، ويمكن أن يفهمك الناس خطأ، ويمكن كذا... إلى آخره.
نحن نقرأ كل يوم سير الأنبياء والمصلحين، فهل تتصور أنهم يعيشون على الأوهام التي نعيشها؟ فأنتم تقرءون في القرآن مثلاً مواقف إبراهيم وكيف بذل؟ وكيف دعا؟ وكيف تحمل؟ وكان يعرف هو أن الموقف الذي كان يقفه سيجد من ورائه تبعات.
وكذلك تقرأ قصة موسى في القرآن، وتقرأ قصة هود، وصالح، وغيرهم من الأنبياء..
دعنا من الأنبياء وانظر في قصة مؤمن آل فرعون، فلا شك أنه كان يتوقع أشياء كثيرة لكن مع ذلك قام بهذا الدور حتى قص الله علينا قصته في القرآن فصارت عبرة لمن جاء بعده.
تقرأ في القرآن مثلاً قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، وحين سمع رجل بهذه القضية جاء وقام بدوره وقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22] وحصل له مشكلة حتى قتل، وأظن أن هذا لو كان يفكّر بالعقلية التي نفكّر فيها ما كان يمكن أن يقوم بأي دور ولا أي عمل.
من العوائق الورع الزائد:
أحياناً تقول: يا أخي قل كلمة، افعل هذا الأمر، فيقول لك: يا أخي الله المستعان، ما أنا بأهله، وهذا منطق عجيب! فهو جاد يرى أن من الورع أن لا يقول هذه الكلمة.
ذات مرة كان هناك طالب علم ورجل خيّر فقلت له: يا أخي أريدك أن تلقي كلمة أو محاضرة، فقال: لسنا أهلاً لهذا الأمر والله المستعان، قلت له: أنت الآن تدرس وتعلم طلاب العلم، وتقول كلاماً وتأخذ عليه أجراً فهل تورعت في يوم من الأيام وأنت تعلم العلم وتوقع عن رب العالمين وتدرس الناس العقيدة، أو تدرس الناس تفسير كلام الله عز وجل..! إنك لم تفكر أبداً أنك تكون ممن قال في القرآن بما لا يعلم، ولا فكّرت يوماً من الأيام أنك تخشى أن تقول على الله عز وجل بغير علم في العقيدة أو الفقه لأنك تأخذ أجراً على هذا العمل، لكن حين تلقي موعظة على الناس تحسب ألف حساب وتتخيل أن هذا من الورع، إنها المفارقات عجيبة! ومنطق عجيب جداً!
دعنا من هذا، فيمكن أن أعطيك سؤالاً آخر: أنت الآن تورعت عن أن تتكلم لكن أليس هناك باباً آخر في الورع؟ ألا تتورع عن السكوت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فبدأ بقول الخير، إذاً فأنت قل خيراً أو اصمت، لكن حينما تشعر أنك قادر أن تقول الخير فإنك يجب أن تقوله.
أنت تتصور الآن أن من الورع أن تسكت، وأن لا تتكلم.. لكن يا أخي أليس من الورع أن تتكلم؟ وما فكّرت يوماً من الأيام أنك حين تهم بالسكوت، أو تهم بالقعود عن العمل أن الورع يدفعك إلى العمل، وأنك ترى أن من ورعك أن تعمل، لأنك عندما تفكر تجد أن هذا كلام لا بد منه، لأني عندما أعرف ما عند الناس من فساد، وأعرف حاجة الناس إلى ما عندي، وترددت بين أمرين: إما أن أسكت ولا أعمل شيئاً ورعاً، وإما أن أجتهد وأبذل السبب وأعمل ولو وقعت في خطأ ووقفت بين يدي الله عز وجل أقول له: يا ربي لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فقد أتيت بما في وسعي واجتهدت، والله عز وجل يغفر للإنسان: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران).
وهذي ليست قضية خاصة بالحاكم، فكل إنسان اجتهد في ميدان بذل وسعه وخطا خطوة وكانت خطوة غير صائبة فهو مثاب على ذلك، وإن أصاب فله أجران!
الأنبياء هم أئمة الورع وهم الذين قص الله عز وجل قصصهم في القرآن، هل تورع واحد منهم في يوم من الأيام عن النصح، وأخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه أنه أخذ الميثاق على الذين آتاهم الكتاب: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187] وأنتم كلكم أوتيتم الكتاب، فأنتم تقرءون القرآن، وعدد منكم يحفظ القرآن أو يحفظ أجزاء من القرآن، أو على الأقل القضية الذي نريد القيام قد أوتيها من الكتاب، فهو يعلمها ويعلم حكمها، إذاً فقد أُخذ عليك الميثاق أن تبين للناس، وأن لا تكتم ما عندك، فلا مجال للورع في هذا الأمر.
أفلا تشعر أنه قد أُخذ عليك ميثاق غليظ؟
ألا تشعر أن من الورع أن تتورع عن كتم هذا الأمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً أوتيه أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)؟ أم تتصور أن هذا الخطاب خاص بالعلماء؟
لماذا أنت تتورع أن تقول ما لا تعلم، أو تخشى أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت آمركم بالخير ولا آتيه) لكن لم تفكر في يوم من الأيام أنه يمكن أن ينطبق عليك: (أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)، والله عز وجل يقول في كتابه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].
وهذه الآية ليست خطاباً لفئة خاصة من الناس، بل كل إنسان يعلم شيئاً أنزله الله عز وجل للناس ثم كتمه مستحق لهذا الوعيد، فلماذا لا تتورع عن أن تنزل عليك لعنة الله، وأن يلعنك اللاعنون؟
فالذي يتصور أن من تمام الورع أن لا يقول كلمة، من تمام الورع أن لا يأمر بمعروف، من تمام الورع أن لا ينهى عن المنكر، من تمام الورع أن يغلق عليه بابه، وأن يعيش لوحده ويقول: أشغل نفسي بالعبادة والدعوة سيقوم بها غيري .. نقول له: لا يا أخي! الورع الحقيقي أن تتورع عن السكوت، أن تتورع عن عدم العمل.. ولا شك أننا لا ندعو الناس إلى أن يتهوروا، ولا ندعو الإنسان أن يقول ما لا يعلم، وأن يتصدى لما لم يتأهل له، لكن على الأقل الورع له ضوابط معينة، وكما يكون في الفعل فهو أيضاً في الترك، فكما أنك تتورع عن فعل شيء يجب أن تتورع عن ترك أمر هو واجب عليك.
من المعوقات الانشغال بالأمور المفضولة:
أحياناً يشغل الإنسان نفسه بأمور خيّرة وهي أمور مشروعة، لكنها أمور مفضولة، وقضية التفاضل قضية نسبية بين الناس، وأضرب لكم مثالاً تقيسون عليه: كلكم سمعتم وتسمعون لعدد من العلماء والدعاة والمتحدثين وقرأتم وتقرءون لكثير من المتحدثين وتدينون بالفضل لكثير من هؤلاء، وتعرفون أنكم استفدتم فائدة كبيرة من هؤلاء، أفلا تتصورون أن هذا العالم الذي سمعتم منه أو الكاتب الذي قرأتم له كان يود لو تفرغ للقراءة حتى يستفيد أكثر وهو من أكثر الناس شعوراً بالحاجة للعلم لأن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد علماً بحاجته للعلم، وازداد علماً بجهله، فلو كان العالم يفكر هذا التفكير لقال: أنا سأجلس وأتفرغ للتعلم فهذا خير لي.
فنقول: نعم التعلم أمر فاضل، لكن حينما تنشغل بتحصيلك الذاتي عن تعليمك للناس، عن الإفتاء، عن القضاء بين الناس، عن التدريس، عن التأليف فقد انشغلت بمفضول عن فاضل، وهكذا قس على ذلك أموراً كثيرة، فبعض الناس مشتغل بأعمال من أعمال الخير عن هذه القضايا، وعندما تخاطبه يقول لك: أنا منشغل بكذا وكذا! وهذا صحيح لكن -يا أخي- هناك ميادين هي أولى من ذلك!
دعني أضرب لك مثالاً.. افترض شخصاً من الناس تقتدي به الأمة ولو ذهبت إلى أي ميدان من الميادين ستجد اسم هذا الشخص معروفاً وخيره قد عم الجميع، فلو تصورت أنه تفرغ لأن يتتبع أحوال اليتامى وينفق عليهم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فأيهما أولى وأيهما أفضل بالنسبة لهذا الشخص: أن ينفق على الأيتام أم أن يخرج حتى يعلم الناس فيهتدي الكثير بسبب دعوته؟ إنه لو تفرغ للإنفاق على الأيتام عن الدعوة والتعليم لكان قد انشغل بعمل مفضول عن عمل فاضل.
والقضية قضية نسبية، فقد يكون الأفضل لك أن تنفق على الأيتام، والأفضل لفلان أن يفعل كذا، والأفضل لفلان أن يفعل كذا.. المقصود أننا يجب أن نفقه مراتب الأعمال، والشيطان من وسائله في إضلال الناس أن يُشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فلابد أن نفقه مراتب الأعمال، وألا يتصور كل واحد منا أنه مجرد أن يعمل عملاً مفيداً أن هذا كاف بل يجب أن يفكر: هل هذا هو أفضل عمل يمكن أن يعمله أو لا؟
من المعوقات عدم الاقتناع بإمكانية التغيير:
بعض الناس غير مقتنعين بضرورة التغيير، فدع هؤلاء جانباً، لأن الانشغال بهم من إضاعة الوقت، ومن الانشغال بمفضول عن عمل فاضل..، لكن قد تكون مشكلتنا مع إنسان مقتنع أن المجتمعات الإسلامية فيها فساد، بل ربما يكون متشبعاً بهذه القناعة حتى صار عنده يأس من التغيير، وصار يشعر أنه لا يمكن التغيير مطلقاً.
نحن طريقنا طيب يا أخي طريقنا طريق الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي أرسل الله إليهم نبياً، لكن هذه الأمة ليس فيها إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه أن الأمة مؤهلة أن تقوم بدور الدعوة وحمل الرسالة، ولو لم تكن مؤهلة لأرسل الله فيها أنبياء.
فلنأخذ سير الأنبياء، كان يرسل الله نبياً والناس مطبقون على الشرك، وكان يغير الله حالهم به، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعث وليس في مكة من يقول لا إله إلا الله، وإنما فيها ستة أو أربعة من الحنفاء كانوا يعتزلون الناس، وبقية الناس في شرك مطلق، فكانت البلاد كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله نظر إلى الناس عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب) فلما جاء صلى الله عليه وسلم غيّر الله به الأمة.
قد تقول لي: إن هذا نبي ورسول مؤيد من الله، فأقول: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان الإسلام لم يتجاوز الجزيرة، ولما جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استلموا الأمر وهم على مصيبة كبيرة حصلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي الردة، حيث لم يبق إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولها، ولو فكّروا هذا التفكير لقالوا: إن الناس أسلموا واهتدوا فكيف يرجعون مرة ثانية؟ لكن جاهدوا حتى أعادوها إلى الإسلام ولم تنقض خلافة أبي بكر حتى كانت الفتوحات قد بدأت تطرق أبواب فارس والروم.
وبلاد العراق وخراسان ومصر والشام كانت مطبقة على الشرك، ومع ذلك وصل عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى أذربيجان فاتحاً، ودفن أبو أيوب عند أسوار القسطنطينية، وهكذا .. ولو كان هؤلاء يفكرون هذا التفكير لقالوا: هؤلاء الناس لا يعرفون لغة العرب، وليس فيهم مسلم، ومع ذلك كانوا يشعرون أنهم يمكن أن يغيروا، واستطاعوا أن يغيروا.
يا أخي الأمة مر بها حالات كثيرة، كيف كانت هذه البلاد قبل أن يأتي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؟ والله لو كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يفكر بهذه العقلية الذي نفكر بها لما عمل شيئاً.
ويمكن أن أعكس عليك الصورة، فقد كانت مجتمعات المسلمين مجتمعات محافظة وتغيرت نحو الفساد، فما الذي غيرها؟ وأياً كان السبب فكما أنها كانت صالحة وتغيرت نحو الفساد فيمكن أن تكون فاسدة وتتغير نحو الصلاح، والمجتمعات كلها تتغير عندما يكون عندها إرادة.. فهذه أوروبا اليوم بلاد العلم والتقدم.. وقد كانت يوماً من الأيام بلاد الظلمات وكان أهلها لا يفقهون شيئاً، بل كانوا في قمة التخلف في كل مجالات الحياة، ثم بدءوا يتعلمون وتغيرت حياتهم.
نحن نعرف أن هذا تغير فيه انحراف، لكن المقصود أن المجتمعات إذا أرادت تستطيع أن تغير ويمكن أن تغير، والله عز وجل أرسل هذه الرسالة الخاتمة، وأرسل هذا الدين وتعبد الناس به لأنهم قادرون أن يغيروا.
ومن المعوقات الانشغال بالنقد:
ولا شك أن النقد ضروري ومطلوب، ونحن لا يجوز أن نسكت الناقدين، ولا نعترض على أي إنسان ناقد، ولا يسوغ أبداً أن نتصور أن حسن النية ونبل القصد وسلامة الأهداف تجعلنا نستعصي على النقد فإنه يمكن أن نخطئ وتوجد أخطاء، لكن أحياناً يتحول النقد إلى صورة أخرى مثبطة عن العمل، وتوجد نماذج كثيرة من الناس تجيد النقد والتفكير بالنقد على حساب العمل، فهو مثلاً يقول لك: رجال الهيئات عندهم كذا وكذا وكذا! الدعاة يقعون في أخطاء، ويفعلون كذا وكذا! والشباب فيهم كذا وكذا، وهناك أناس يفعلون كذا وكذا.. ويبدأ يعطيك قائمة طويلة من هذه الأخطاء، وعندما تقول له: لماذا لا تعمل في أي ميدان من الميادين؟ يعدد هذه الأخطاء، فنقول له: هذا الكلام صحيح لكن لماذا لا تعمل أنت؟ ولماذا لا ترينا العمل السليم من هذه الأخطاء، ونحن نتمنى أن نجد عملاً سليماً من الأخطاء.
هذا النوع من النقد أحياناً تشعر أن صاحبه جاد، وفيه خير، وربما يعطيك أشياء صحيحة وواقعة، لكن أحياناً يكون هذا النقد حيلة نفسية، حيث يكون الإنسان مثلاً متخوفاً من العمل لأي سبب، أو لا يريد أن يعمل، أو لا يستطيع أن يعمل، فيشعر بالفشل، ويتصور أن الذين يعملون في حلقات تحفيظ القرآن مثلاً أناس ناجحون فيلجأ إلى النقد هروباً من الواقع.
وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه، والعاملين للدعوة، وأن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
السؤال: أحب العمل لله تبارك وتعالى، ولكن يغلب علي الانشغال بالاهتمام بنفسي، فكيف أوفّق بين العمل للناس ودعوتهم والاهتمام بنفسي ورفع مستواي من طلب العلم وغيره؟
الجواب: هذا السؤال يرد كثيراً، ولكن لماذا نفترض أن هناك مشكلة؟ ونفترض أن الاهتمام بالنفس وتعلم العلم يعني أن لا أدعو، وأن الدعوة تعني ألا أتعلم ولا أهتم بنفسي، مع أني أستطيع أن أعمل الأمرين كليهما.
يعني دعني مثلاً أضرب لك مثالاً: كل واحد منا لا بد أن يعيش في مجتمع شاء أم أبى، سواء في ذلك الطالب، والمدرس، والموظف، والتاجر وغيرهم، ولابد أن يتعامل مع المجتمع، وهذه قضية لا ينفك عنها أحد، فهل فكرت أن تترك الدراسة حتى تتفرغ للعلم، أو فكرت أن تترك الوظيفة حتى تتفرغ للعلم، أو فكّرت أن تترك التجارة، أو تترك أي عمل.
نحن نريد منك أن تسيطر عليك الدعوة وأنت في ميدانك .. في دراستك، في تدريسك، في عملك، في اختلاطك مع الناس.. أن تقوم بالدعوة فتقول كلمة هنا وكلمة هناك وتنصح فلاناً، والإنسان الداعية يشعر أن الدعوة قضية لا تفارقه في كل ميدان من الميادين، هذه أول قضية.
قضية ثانية: هناك قدر مطلوب من الاهتمام بتربية النفس وتعلم العلم، لكن إلى متى؟ أعني هل تتصور أنه سيأتيك وقت تشعر أنك انتهيت؟ لا يمكن، فكلما تعلمت تشعر أنك بحاجة إلى مزيد من العلم والتعلم، أنا مثلاً عندما أتيت وقلت لك هذه الكلمة ووجهت أنت السؤال، أنا أجزم أني لو جلست في البيت أقرأ أو أتعلم سأستفيد، وأجزم أن مجيئي كان على حساب نوع الاهتمام بنفسي في أي جانب من الجوانب، لكن لما قارنت اقتنعت أنه ينبغي أن آتي، ولو فكّر الناس هذا التفكير لما عمل أحد ولا دعا، وكل إنسان سيقف.
وليس هذا دعوة إلى إهمال النفس، لكن عندنا أوقات كثيرة، فأنت الآن في إجازة وعندك أوقات كثيرة تستطيع أن تقرأ فيها وتتعلم وتحضر دروس أهل العلم، وتستطيع أن تنشغل ببرامج دعوية، وتجمع بين كل هذه الأمور، والوقت في سعة إذا نظم الإنسان وقته وصار جاداً.
ونحن الآن نجد ونرى من الناس من يحفظ القرآن وهو يدعو إلى الله عز وجل، ومن يتعلم العلم ويصل إلى مراتب عالية وهو قد قطع خطوات وله أدوار كبيرة.
السؤال: عندما أذهب إلى المسجد أرى بعض الشباب يقفون على الرصيف ولا يصلون وأنا لا أستطيع الإنكار عليهم باللسان ولكن أدعو لهم بالهداية، فما هو الحل في نظرك؟
الجواب: لماذا لا تستطيع؟ إن أكثر شيء يردون به هو أن يسخروا منك، وهذا لا ضرر فيه، إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38].
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:29-31].
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110].
فأكثر شيء يمكن أن يحصل لك هو السخرية، أما الدعاء لهم بالهداية، فهل تتصور أنك مجاب الدعوة، إذا كنت غير قادر على الإنكار عليهم باللسان، فكيف تتصور أنك بلغت القمة في الإيمان والصلاح والتقوى حتى صرت مجاب الدعوة وشعرت أن ذلك يكفي الأمة.. إذاً فادع للأمة حتى تحل مشكلاتها، ولا أظن أن هذا يسقط عنك الواجب أبداً.
السؤال: الأخ يشكو من غض البصر ويقول: أنه كثيراً ما يُطلق النظر إلى الحرام ويُبتلى بذلك، فما هي الخطوات العملية لغض البصر؟
الجواب: لماذا تعقد المشكلة، وهل تتصور أن هناك وصفة طبية تنجيك؟ يا أخي أمر حرّمه الله عز وجل وحذّرنا منه ومن آثاره ونتائجه فتخلص أنت منه، وجاهد نفسك، فالقضية تحتاج إلى جهاد.. كل هذه القضايا تحتاج إلى مجاهدة للنفس، وهذه هي الخطوات العملية: مجاهدة النفس وصبر وتحمل، ولجوء إلى الله بالدعاء.
نحن أحياناً نعقد القضية أو نوهم أنفسنا أنه توجد خطوات معينة تساعدنا على حل المشكلة، بعض القضايا أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أن يبتعد الإنسان عن المواطن التي تكون مدعاة لإطلاق البصر، فلا يذهب للأسواق مثلاً، لا يذهب إلى مكان فيه مجال للتبرج والإثارة، يسعى قدر الإمكان إلى أن يبتعد عن المواطن التي يمكن أن يُطلق فيها البصر، وحينها يستعين بالله عز وجل ويتوكل على الله عز وجل ويسأل الله ويدعوه ويتوجه إليه.
فإذا ابتعدت عن مواطن السوء التي هي مجال للنظر المحرم فإنك تكون قد أغلقت الأبواب ولم يبق إلا أبواب يسيرة يسهل أن تجاهد نفسك وأن تتخلص منها.
أيضاً: أنا أتصور أن جزءاً من منشأ المشكلة هو نسبة التفكير، وأن قضية الشهوات مسيطرة علينا، لكن لو أن الإنسان شُغل بهموم، أو شغل بعبادة الله، وبطاعة الله وإصلاح نفسه، وتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله لما وجد وقتاً للانشغال بكل هذه القضايا، وشعر أنه مشغول بهم أكبر من كل هذا الهم، ولم يجد في ذهنه مجالاً للتفكير بهذه الأمور.
السؤال: كيف نميّز بين الفاضل والمفضول من الأعمال في مجال الدعوة؟
الجواب: هناك أعمال معروفة في الشرع أن بعضها أفضل من بعض، ثم إن هناك اعتبارات أخرى للتفاضل، فقد يكون هذا العمل أفضل باعتبار المكان، أو باعتبار الزمان، فالأفضل تعليم العلم في زمن الجهل مثلاً، وفي وقت تسلط الأعداء فالأفضل الجهاد، وقد يكون الفضل باعتبار الشخص نفسه، فيكون هذا الشخص أفضل لهذا العمل، والآخر أفضل لهذا العمل..
ومن علم القواعد الشرعية، والأدلة الشرعية ورزقه الله البصيرة في هذا استطاع أن يميز بين المفضول والفاضل، مع ملاحظة قضية الاختلاف بالنسبة للأشخاص، والاختلاف بالنسبة للزمان، والاختلاف بالنسبة للمكان.
السؤال: مجالات الدعوة المقدمة غير الفرص المتاحة الآن.. حلقات القرآن، والمراكز الصيفية والمكتبات، أم هي محصورة في هذه المجالات فقط؟
الجواب: لا هو أحياناً من المشكلات التي تسيطر علينا أنا نحصر أنفسنا بأنماط معينة من التفكير، ونتصور أنه لا يمكن أداء هذه الأعمال إلا من خلال هذا الأسلوب فقط، وأن غيره لا يمكن أبداً، مع أننا لو فكّرنا لوجدنا مجالات وميادين كثيرة، ووجود ميدان من الميادين نجح وظهر أكثره لا يعني أنه ليس إلا هذا الميدان.
مثلاً تجد الآن ميادين دعوية اكتشفت واتجه إليها الناس، ولو كنا نفكّر بهذه العقلية ما وصلتنا هذه الميادين، فدعنا نستمر ونفكر بهذا التفكير حتى نجد ميادين ووسائل أخرى تخدم الدعوة، هذا جانب.
الجانب الثاني: نحن الآن نملك طاقات كثيرة من الشباب، وطاقات من طلاب العلم، والبعض مثلاً لا يصلح له هذا الميدان، ويصلح لغيره، أعني أن بعض الناس لا يستطيع أن يتفرغ كل يوم لأجل أن يدرس في حلقة قرآن، والبعض لا يستطيع أن يتفرغ للعمل هنا، والبعض ليس عنده علم شرعي فلا يستطيع أن يلقي دروساً.. فعندنا طاقات كثيرة ومتفاوتة، ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى أن نفتح ميادين وفرصاً حتى نشغل هذه الطاقات.
جانب آخر أيضاً: أن الناس المدعوين طبقات وفئات مختلفة، فهم أيضاً بحاجة إلى أن ننوع؛ لأنه كلما نوعنا المجالات والميادين استطعنا أن نخاطب ونتعامل مع فئات أوسع.
أيضاً: أحياناً نحن نخسر بعض الميادين لسبب أو لآخر، فعندما نحصر أنفسنا في الميادين الأخرى قد نصل إلى مرحلة الإفلاس، لكن أطلقوا أفكاركم لا تضعوا أية حواجز أبداً، فقد تأتون بأفكار جديدة تخدم الدعوة، يمكن أن يأتي واحد بفكرة والثاني كذلك والثالث والرابع..، وقد آتي بفكرة فتطورها أنت، وهكذا حتى نحقق نجاحاً أكبر.
السؤال: هل يجوز عد طبقة المثبطين في أوساط الشباب من العوائق في العمل؟
الجواب: أنا أتصور أن هذه لا تعوق، أعني أن الذي عنده استعداد وهو جاد ليس عنده مشكلة، وأنا أضرب لكم مثالاً.. لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب والمسلمون إلى غزوة تبوك كان بعض المنافقين يقول: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، وبعضهم يقول: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49] وهكذا، ولكن هذا التثبيط ما صدهم. وهكذا في غزوة الأحزاب. وعلى العموم فإن التثبيط موجود، وهو يصد الناس الضعاف، كمن عنده بذرة من الفشل وليس عنده إرادة.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لماذا لا نعمل؟ للشيخ : محمد الدويش
https://audio.islamweb.net