اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المراهقون .. الوجه الآخر للشيخ : محمد الدويش
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
حديثنا بعنوان: المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثاً حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام، لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ومن ثم لا يسوغ أن تكون حكراً على أهل الاختصاص.
الحديث عن المراهقة والمراهقون يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح، وعند أهل التربية والتعليم، بل هو مع العصر الحاضر الذي نعيشه أصبح حديث الكثير من الناس، سواءً أكانوا شباباً يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عما يعانونه من أبنائهم وبناتهم أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل الذين عامتهم من أهل هذه المرحلة.
سيطر على كثير من الناس -وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط.
وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما تتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد الأستاذة، أو مع أحد ممن يتولى مسئوليته في بلاد المسلمين؛ تتحدث معه حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبدياً شكواك بما تراه عليه يجيبك: إنه مراهق!
وهذا يعني أن مرحلة المراهقة عذرُ لارتكاب الجريمة، عذر للانحراف، عذر للصبوة، عذر للطيش والغفلة، أو بعبارة أخرى: إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة.
وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو من يتولى تربيته مستوى أعلى ومرحلة غير تلك التي هو عليها يعتذر لك بأنه ما يزال شاباً مراهقاً.
فما مدى صحة هذه النظرة؟ أليس ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الوجه الذي نراه؟
بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعاً على التعريف بالمراهقة: وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون رهق أي: غشي ولحق أو دنا منه، سواءً أخذه أم لم يأخذه، والرهق محركاً السفه والخفة، وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم.
وراهق الغلام قارب الحلم، ودخل مكة مراهقاً أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، يعني الوقوف بعرفة.
وقد ورد هذا اللفظ أيضاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى : وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26].
أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة.
وأيضاً في قوله عن الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
وهي تعني هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، فرهق يعني دنا واقترب.
أما في علم النفس المعاصر: فهي المرحلة التي تلي البلوغ، وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين، فعلماء النفس يصنفون من كان في هذه السن مراهقاً تحكمه خصائص معينة وطبيعة معينة.
ما الفرق بين المراهقة والبلوغ؟
هناك من يعتبر أنهما مترادفان، وأن البلوغ يعني المراهقة، وهناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة لبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم، فالبلوغ يختص بالنمو الجسمي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذاك.
وعلى كل حال لا يهمنا كثيراً الوقوف حول المعاني اللغوية لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا، فحين يطلق علماء النفس مراهق فإنهم يعنون الشاب في هذه المرحلة.
أقول: نتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة أنها تعني الصبوة والانحراف والطيش وأنه ليس فيها إلا هذا العبث.
ثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة العاجلة للمراهق.
أول هذه العوامل: نشأة علم النفس ونباته أصلاً، فهو قد نشأ نشأة غربية، ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة أول ما نشأ في بلاد الغرب، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي.
الجامعات الإسلامية وجامعات بلاد المسلمين أكثرها فيها فروع مستقلة لعلم النفس، وسائر العلوم الإنسانية، لكن كيف تنظر هذه الجامعات وكيف تدرس علم النفس؟ وحينما تقلب الطرف في مكتبة من المكتبات العربية فإنك تجد قسماً خاصاً حول الكتب المؤلفة حول علم النفس باللغة العربية، وحول سائر العلوم لكن حينما تقلب الطرف في هذه الكتب ترى أنها لا تعدو أن تكون نقلاً حرفياً لما قرأه هؤلاء، ولا تعدو أن تكون ترجمة حرفية، والغالب أن تكون ركيكة لعلم النفس الغربي وما يطرحه الغرب، قد يكون مثلاً من المقبول أن نترجم علوماً مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة الإنسان، وحياة الإنسان لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلاً حرفياً.
وللأسف كثيراً من المهتمين بهذه الدراسات لا يزالون متأخرين في عرض هذه العلوم عرضاً إسلامياً، وفي دراسة هذه العلوم من وجهة نظر إسلامية، ولا يزال المسلمون في جامعات العالم الإسلامي يدرسون هذه الدراسات وفق نظرة أولئك، فيدرسون علم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأدب وسائر العلوم من وجهة نظر الغربيين.
وحين يكون علم النفس نشأ في البلاد الغربية فهذا يعني بالضرورة أنه سيعكس حياة الإنسان الغربي في تلك المجتمعات خاصة أنه من العلوم الإنسانية التي تعنى بدارسة الإنسان، وشتان بين الإنسان في هذه البيئة بين الإنسان كما خلقه الله وكما يريده الله وبين الإنسان في تلك المجتمعات.
ثانياً: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث فالذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية فلا يمكن أن يتخلص من شخصيته كنظرته مثلاً للإنسان، نظرته للأديان، نظرته للأخلاق للسلوك، لكل هذه الاعتبارات.
ولما كان هذا العلم وليد حياة أولئك فهو لا يعدو أن يكون انعكاساً لنظرتهم تجاه الإنسان وتجاه الدين والأخلاق، ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه استان ليبول ألف كتابه عام 1917م للميلاد، يقول فيه عن مرحلة المراهقة: والمراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق.
ويرى آخر وهو قراندر والذي كتب كتابه عام 1969م للميلاد أن المراهقة مجموعة من التناقضات.
ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تختطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج.
ويصفها البعض بأنها مرحلة جلود.
ويعتبر استان ليبول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية .
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها، فهم ممن نشئوا في تلك المجتمعات والبيئات.
أمر آخر: أن هذه الدراسات الإنسانية تتم على تلك المجتمعات، فالذين خرجوا لنا بهذه النظريات قاموا بدراساتهم في بلاد الغرب، وفي المجتمعات الغربية، فهم أجروا هذه الدراسات على مجموعات من المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في تلك المجتمعات، وهل يسوغ مثلاً أن نعمم النتائج التي وصلنا إليها في تلك المجتمعات على واقع المسلمين؟ هل يسوغ مثلاً أن نقارن بين مراهق يعيش في بلاد المسلمين، ومراهق يعيش هناك في بلاد الغرب؟ إن العالم الغربي يعيش عالماً من الضياع والانهيار، خاصة في أوساط الشباب والشابات.
ويوضح هذا تصريحٌ مشهور أطلقه الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1962م للميلاد مع أن الواقع قد تغير كثيراً الآن، يقول فيه: إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية، ثم هذا الواحد الصالح للجندية لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، لكن مستوى إقباله على الشهوات لم يصل إلى ذاك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية.
وتعرفون أنتم أن الشواذ جنسياً لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية، وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف أيضاً تصريحاً شبيهاً بهذا فيقول: إن مستقبل روسيا في خطر، وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك الفوضى الجنسية والخيانة الزوجية.
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته بهذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات، وأن النتائج التي يصل إليها هؤلاء حينما يتحدثون مثلاً عن طبيعة المراهق عن طبيعة الإنسان في هذه المرحلة أو تلك فإنما يصلون إلى هذه النتائج بناء على دراسات يجرونها على مجموعة من المراهقين أو المراهقات الذين قال عنهم قادتهم ما قالوا، فهل يسوغ أن نعمم هذه النتائج على سائر المجتمعات؟
أيضاً من العوامل المهمة التي تؤثر في هذه النظرة سيطرة نظرية في علم النفس المعاصر تسمى نظرية التحليل النفسي، وهي نظرية العالم النفسي الشهير فرويد والتي تقوم على أساس التفسير الجنسي لسلوك الإنسان، يقول فرويد : إن حياة الإنسان هي حياة الجنس، وإن الجنس يبدأ مع الطفل وهو رضيع، فإن الرضيع يرضع ثدي أمه بشهوة جنسية، ويقضي حاجته بشهوة جنسية، وإن الرضيع يتعلق بأمه بشهوة جنسية.
وكذلك أيضاً الفتاة تتعلق بأبيها بشهوة جنسية ثم ينشأ من ذلك ما يسمى بعقدة أوديب والتي تتولد عند الطفل حين يحس أن أباه قد استأثر بأمه.
والأخلاق والدين والسلوك ليست إلا مظاهر لكبت الشهوات الجنسية، ومن ثم دعا إلى الإباحية المطلقة وصار يفسر سلوك الإنسان بتفسير جنسي وهو متأثر بنظرية دارون التي تقول بحيوانية الإنسان، وبالمناسبة فإن فرويد هذا كان أحد العلماء اليهود.
نظرية التحليل النفسي ونظرية فرويد سيطرت على علم النفس المعاصر وصارت تدرس هذه النظرية حتى في جامعات المسلمين، ولهذا صار ينظر إلى عالم المراهقة وعالم المراهقين من خلال هذه الزاوية.
وأهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر فيما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة، هو أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يبلغ سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفاً شرعياً، فتجب عليه الواجبات الشرعية، ويجب عليه أن يمتنع عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل.
وحينها نتساءل: من الذي خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى! أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه؟ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل ما فيه، فهو أعلم بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته، ومع ذلك شرع سبحانه وتعالى تكليف الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي، فصار مؤتمناً على الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر التكاليف الشرعية.
حينما حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم قائمة من الشهوات، وأوجب عليه سبحانه وتعالى الواجبات، ألا يعني بالضرورة أنه قادر ومؤهل، قادرٌ على أن يمتنع من كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، ومؤهل لأن يتحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى إياه؟ بلى ولا شك.
بل إن اختيار هذه السن للتكليف فيه حكمة بالغة، فهو في هذه المرحلة وهذا السن أقرب ما يكون للعبادة، أقرب ما يكون للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لأن يتحمل أمانة التكليف، فهو سبحانه وتعالى أعلم من هؤلاء البشر، هو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق نوازعه، وهو الذي خلق شهوته، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، يعلم هذا الإنسان وما يحيط به، ومع ذلك كلف الله سبحانه وتعالى الناس كل الناس، الشباب والفتيات، في كل عصر وزمان ومكان اعتباراً من هذه السن، فما أن يصل الشاب أو تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ حتى يصبح مكلفاً بالتكاليف الشرعية، فلا يجوز له أن ينظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أن يمتع نفسه بشهوة محرمة، وفي المقابل يجب عليه أداء ما افترض عليه من الصلاة، والبر، والصدقة، وسائر الواجبات الشرعية، بل حتى الجهاد له ارتباط وثيق بهذه السن كما سيأتي بعد قليل.
إذاً فالله سبحانه وتعالى حين كلف الشاب وكلف الفتاة في هذه السن فهذا يعني أنه مؤهل، وهذا يعني أنه عاقل مهما كان ومهما قال الناس ومهما تحججوا ومهما أظهرت الدراسات فهي أقوال بشر وآراء بشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، فهذا التكليف يعني أنه قادر على أن يكون عفيفاً، قادر على أن يمتنع عن الفواحش، وأن يمتنع عن أكل المال بالباطل، وعن إيذاء الناس وإزعاجهم، وعلى أن يحافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى.
أمرٌ آخر: تقول معظم الدراسات المعاصرة في علم النفس: إن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهاً نحو التدين والعبادة، وهذا مما يكشف لنا السر والحكمة في كون التكليف الشرعي يبدأ من هذه المرحلة.
ولهذا يبدأ المراهق طرح الأسئلة على نفسه: من أين أنا؟ وكيف جئت؟ فيبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ولعلنا نلحظ أن الكثير ممن نراهم من الشباب في هذه المرحلة حين ينشأ في بيئة صالحة متدينة يقبل على الطاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى إقبالاً جماً، وذلك كما أنه يعيش مرحلة من الشهوات والنوازع، فهو أيضاً يعيش إقبالاً على العبادة والتدين وطاعة الله سبحانه وتعالى، وحتى لو لم يدرك البشر ذلك، ما دام الله سبحانه وتعالى قد شرع التكليف في هذه المرحلة فهو مؤهل، واختيار هذه المرحلة وهذا السن لم يكن ليأتي عبثاً.
حقيقة أخرى أيضاً: نماذج التاريخ، حين نقرأ في التاريخ، نرى نماذج ممن عاشوا في هذا السن، وهذه المرحلة تثبت لنا أن هناك وجهاً آخر لعالم المراهقة غير الوجه الذي يبديه علم النفس المعاصر، فتقرءون في القرآن الكريم قصة أهل الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:13-14].
ويحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قرية كاملة قد آمنوا ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد، وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء، وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى، فيؤمن الناس حين رأوه، وتبقى قصة محفوظة منقوشة في ذاكرة التاريخ، يتغنى بها الصغير والكبير، ويرددها الجميع.
وهكذا لنرى أن أثر ذاك الشاب -المراهق في المصطلح المعاصر- لم يكن قاصراً على أهل قريته، بل امتد على مدى الزمان ما دامت هذه القصة تتلى ويتحدث عنها الناس.
إنا حين نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونقرأ حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نرى نماذج عدة، ونرى عجباً من أولئك الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة؟ ولنستعرض أسماء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان لهم القدح المعلى، والذي نسمع دائماً ونقرأ في كتب السنة، عن فلان بن فلان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نتغنى بأمجادهم وبطولاتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم.
من هؤلاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاماً، وكان أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يحضر هذه الغزوة، واستشهد فيها والده، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما قال الله لأبيك؟ لقد كلمه الله كفاحاً .)، وهو ممن نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، ثم لم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم أيضاً عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه بايع بيعة الرضوان، وعمره سبع عشرة سنة، وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الموت، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
وأيضاً من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو جحيفة وهب بن عبدالله السوائي رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان مراهقا.
ومنهم أيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، فكانت عمره عندما بايع تحت الشجرة ستة عشر عاماً، فشهد بيعة الرضوان وهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وهم أيضاً الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد من بايع تحت الشجرة).
ومنهم أيضاً سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ومواقفه مشهودة مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب غزوة ذي قرد، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير رجالتنا سلمة وخير فرساننا أبو قتادة).
وهو الذي كان في غزوة حنين، فجاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجلس معهم ساعة ثم ولى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بلحاقه فلحقه على قدميه حتى أدركه وقتله، وكان عمره رضي الله عنه عند الهجرة ست عشر عاماً.
و عبد الله بن عباس رضي الله عنه ولد في الشعب قبل عام الهجرة بثلاث سنين، قال في حديثه المشهور في الصحيحين: (أقبلت على أتان وقد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى).
ومنهم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه كان عمره عند الهجرة عشرين سنة.
وعبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه أول مولود للمهاجرين في المدينة، كان فارس قريش في زمانه، وله مواقف مشهودة، قيل إنه شهد اليرموك وهو مراهق، بل في البخاري أن الزبير رضي الله عنه أركبه فرساً يوم اليرموك وهو ابن عشر سنين، وشهد فتح المغرب، وغزو القسطنطينية، بايع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين أو ثمان كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه.
ومنهم عبد الله بن السائب رضي الله عنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقرأ سورة المؤمنين قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذكر موسى وهارون أخذته سعلة فركع) قال مجاهد : كنا نفخر على الناس بقارئنا عبد الله بن السائب وبفقيهنا عبد الله بن عباس وبمؤذننا أبي محذورة .
ومنهم المسور بن مخرمة سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب علي رضي الله عنه ابنة أبي جهل ، سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتلم، روى الحديث أحمد ومسلم .
ومنهم أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن عشر سنين كما روى رضي الله عنه، ومات وهو ابن عشرين، روى ذلك الإمام مسلم وأحمد .
والحديث يطول حول نماذج من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد آثرت أن أقتصر على هذا العدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة العاجلة إلى مواقفهم، وكلنا نحفظ تلك المواقف التي كانت تتكرر في السيرة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعرض الجيش قبل الغزو، وحتى كان يرد الصغار فمنهم من يبكي، ومنهم من يتطاول، ومنهم من يذهب يمنة ويسرة حتى يغيب عن ناظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يرده.
هكذا كان أولئك، أما من بلغ الخامسة عشرة فإنه لا يرده صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، والكثير من الذين شهدوا الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في هذه السن، بل كثير ممن بايعوا تحت الشجرة كانوا دون العشرين عاماً.
ولهذا قال خطيب الخوارج:
أتعيرونني بأن أصحابي شباباً، وهل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا شباباً.
ولعلها تأتي فرصة أخرى نشبع فيها الحديث حول شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قضية أخرى أيضاً: تدعونا إلى إعادة النظر فيما يقال حول عالم المراهقة، هل كان المسلمون على مدى التاريخ يعانون من أزمات المراهقة كما نعاني الآن في هذا العصر؟
هذا السؤال لو طرحته على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، حين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم، فإننا لا نلمس أثراً لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم مثلاً يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجدون الحديث المستفيض عن مشكلات الشباب، وعن أزماتهم، وعن عالم المراهقة الذين نعيشه الآن، هل تجدونه في تراث العلماء الأوائل؟ وهل تجدونه في كتاباتهم؟
إنك لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً في كتاباتهم وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا.
إذاً: ما دامت غير موجودة فهذا يعني أن القضية ليست صفة ملازمة للإنسان، بل هناك عوامل أخرى وأمور أخرى تؤثر حتى ولدت هذه المشكلة التي تعاني.
نحن الآن نعاني من أزمات مزعجة في عالم المراهقة، حتى في مجتمعات المسلمين، وتجد الحديث المستفيض عن الشباب، وعن عالم الشباب، وانحراف الشباب والخطورة والمشكلات التي تواجه الشباب، هذا الحديث لا تجده كثيراً ولا تجد الإفاضة عنه في الحديث عند السلف، بل أنك حين تقرأ لسلف الأمة تجد هؤلاء ما أن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع فيه شوطاً، ثم أصبح يثني ركبتيه في مجالس العلم مستمعاً ومقيداً لما يسمع.
هكذا كان عالم الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن القضية ليست صفة ملازمة لعالم المراهقة أنه عالم الأزمات كما يقول علماء النفس المعاصرون، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الأزمة وهذه المشكلة.
أيضاً قضية أخرى: ثمة نماذج من العصر الحاضر، فمع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين، ومشكلات المراهقين إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرية الظالمة المتجددة.
من هم عمار المساجد؟ من هم حفاظ القرآن الكريم؟ لو أجريت الآن دراسة لمجتمعات المسلمين، وبحثت عن حفاظ القرآن الكريم ففي أي سن سوف تجد هذا العدد أكثر من غيره؟ قطعاً ستجد أن الكثير من حفاظ القرآن الكريم من هؤلاء المراهقين، ورواد مجالس العلم ودروس العلماء هم المراهقون، بل هم السبب أصلاً في قيامها؛ لأن هؤلاء لو لم يأتوا ولم يعمروا هذه المجالس لما استطاع الشيخ أن يلقي درسه آنذاك.
لو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن عامة الحاضرين وأكثرهم من هذه السن.
وفي عالم الجهاد لا ننسى جميعاً قضية أفغانستان، وكم هم الشباب من المراهقين الذين دفنوا هناك في بلاد العجم، في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة، إلى حيث قضاء الشهوات المحرمة، وحينذاك كان جمع من شبان المسلمين يعيشون عالم المراهقة أطهاراً أبرياء، ذهبوا وهم يتمنون ألا يعودوا، ولسان حال أحدهم يقول:
أذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء
هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ولا نخل أسافلها رواء
لسان حالهم لسان عبد الله بن رواحه رضي الله عنه وقد قال حين ودعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مؤتة قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا. قال: لا ردنا الله إليكم. ثم قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةوضربة تنفث الأحشاء والكبدا
هكذا كان شعارهم، وهكذا كان سؤالهم، كان أحدهم إذا سجد يبكي في سجوده وهو يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة، وأن لا يعيده إلى أهله وإلى بلاده.
ورأينا نماذج فذة من أولئك الذين شاركوا وضربوا أصدق الأمثلة، وكنا وكان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن الاستبسال والشجاعة والشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبداً في ذاكرة التاريخ، فإذا بهم يرونها حية أمام ناظريهم، يرونها حية يفتحها ويعيدها أولئك الذين لا زالوا يعيشون عالم المراهقة.
إذاً: هذا النموذج الذي نراه في هذا العصر مع أزماته ومشكلاته يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ظلم وجور أولئك الذين يصفون عالم المراهقة بأنه عالم الانحراف، وعالم الأزمة وعالم الفساد.
وحقيقة أخرى نختم بها الحديث حول هذه الحقائق: شواهد علم النفس نفسه، فالكثير من علماء النفس وعلماء التربية يشككون في صحة هذه المقولة، وفي صحة هذه الدعوى، سواءً كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرهم. وقد سبق أن أشرت إلى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن الشاب يعيش في مرحلة المراهقة توجهاً نحو التدين والعبادة والبحث عن الدين.
من علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية مارجريت ميت فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادية، وما دام هذا النمو يسير في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذا المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد مباشرة بعد احتفال تقليدي.
ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي : وجدير بالذكر أن النمو الجسمي في مرحلة المراهقة لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات ولكن النظم الحديثة هي المسئولة عن أزمة المراهقة.
والدكتور ماجد الكيلاني يقول: وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين تبريراً للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان، إنها مشكلة يمكن تجنبها كلياً في حياة الفرد، وأن لا يمر الإنسان بها أبداً، وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرضاً من أمراضهم الاجتماعية.
ونحن لسنا بحاجة إلى الإفاضة في ذكر الشواهد من كلام هؤلاء، لكن أيضاً مع الحقائق الشرعية الثابتة ومع الحقائق التاريخية ومع ما نراه من واقعنا المعاصر؛ مع ذلك كله هاهم علماء النفس المعاصر ينطقون بهذه الحقيقة ويشهدون بها.
إذاً: نخلص من هذه الحقائق السابقة إلى أن المقولة حول أزمة المرهقة وأن مرحلة المراهقة مرحلة متحكمة فيها الأزمات، والمشكلات، والصبوة والانحراف، مقولة خاطئة ولدها علم النفس المعاصر الذي نشأ نشأة غربية، فالباحثون هم أولئك الغربيون، والمجتمعات التي تجرى عليها الدراسات هي تلك المجتمعات الغربية، وهذا يعني أن يعيد الآباء النظر من جديد في تعاملهم مع أبنائهم، وأن يروا أن كون الابن شاباً لا يزال في ريعان الشباب ومرحلة المراهقة لا يعطيه مسوغاً بحال للانحراف والصبوة وأن يعب من الشهوات.
وينبغي أن يعيد الأساتذة ورجال التربية النظر أيضاً من جديد في نظرتهم للجيل الذي يعلمونه ويدرسونه، ينبغي أن نعيد النظر في تطلعاتنا وما نرجوه من الشباب في هذه المرحلة، وأن نعيد النظر أيضاً لأنفسنا إذا كنا نحن نعيش هذه السن وهذه المرحلة.
هذا كله لا يعني أبداً أن مرحلة المراهقة ليس فيها مشكلات، وليس فيها أزمات، وحينما ننفي ذلك نفياً قاطعاً فنحن قد نناقض الواقع الذي نعيشه، لكن فرق بين أن يكون هناك أزمات ومشكلات يعيشها المراهق، وبين أن تكون مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والمشكلة والانحراف والصبوة، فرق بين أن نلتمس له العذر من جراء هذا الانحراف وهذا الفساد لأنه مراهق، ولأنه لا يزال شاباً، ولأنه سيدرك بإذن الله أن يستقيم حين يكبر ويتقدم به السن؛ فرق بين هذا وذاك.
ثم إن الواقع الذي نعيشه والمشكلات التي نعيشها هي نتاج للعصر الحاضر الذي نعيشه بكل ما فيه من فساد وسوء، فالعصر الحاضر هو المسئول عما يسمى بأزمة المراهقة، ولهذا رأينا عالم المراهقة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعند سلف الأمة عالماً آخر يختلف تماماً عن هذا العالم الذي نعيشه.
إن المراهقين الذين أصبحنا نراهم الآن يلاحقون آخر الصرعات المعاصرة الهيبز والانحراف والأمراض الجنسية ونزلاء الدور الإصلاحية ودور الملاحظة، ونراهم يتزعمون عصابات الإجرام والفساد ولا يطيق ضبطهم آباؤهم ولا أمهاتهم ولا أساتذتهم ولا مجتمعاتهم ولا حتى أجهزة الأمن في هذه المجتمعات التي يعيشونها.
إن الشباب الذين يعيشون في هذه السن قد عاش قبلهم أولئك في السن نفسها أولئك الذين كانوا يتسابقون على ميادين الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، ويتسابقون على حلق العلم وحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فلو كانت القضية قضية السن لرأينا هذا النموذج عند أولئك السابقين.
إذاً: الحياة المعاصرة والمجتمع المعاصر هو المسئول عن أزمة المراهقة، من خلال أمور عدة:
أولها: ما أشرنا إليه قبل قليل بسيطرة التحليل الغربي، فعلم النفس كغيره من العلوم الإنسانية تلقفه المسلمون تلقفاً غربياً، فصار دور المسلمين دور النقد والترجمة كما ذكرنا، ولهذا سيطرت هذه النظرة على علماء النفس والتربويين والآباء، ولهذا صار أهل التربية والمسئولون عن التربية والتوجيه يتعاملون مع الشاب في هذه المرحلة على أنه معذور، وأن هذا هو ما ينتظر منه وما يتوقع أن يصل إليه.
المؤثر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات المعاصرة يساهم في طول مرحلة المراهقة، وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، فيعيش بعيداً عن الزواج، ونسبة ضئيلة جداً ممن يتزوج قبل أن ينتهي من الدراسة الجامعية، بل الكثير يحتاج إلى سنوات بعد إنهاء الدراسة الجامعية حتى تتيسر له أمور الزواج، ثم هو خلال هذه المرحلة وهذا السن يعتمد على أهله اعتماداً كلياً، ويعتمد على أبويه اعتماداً تاماً، بل حتى نظام التعليم يعيش فيه على التسول العلمي والفكري، ويعتمد على تلك المعلومات الجاهزة التي يقدمها له أستاذه والتي يقرؤها في الصفوف، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، غاية ما يقوم به هو أن يسمع ما يقول له الأستاذ سماعاً جيداً وأن يحفظ ما في الكتاب ثم يعبر عنه بعد ذلك برمته، وهذا يولد شخصية غير مستقلة تعتمد على غيرها وتعتمد على الآخرين، ولهذا أثبتت بعض الدراسات التي أجريت في بعض المجتمعات الأخرى أن عالم المراهقة عالم آخر كما في دراسة أجراها أحمد أبو زيد على قبائل الطوارق الليبية، وذلك أن قبائل الطوارق الليبية عندهم نظام خاص حينما يبلغ الشاب أو تبلغ الفتاة سن التكليف وسن البلوغ، يقومون باحتفال ويلبس ملابس خاصة ويعامل معاملة الرجال، فلاحظ أن أزمة المراهقة تختفي بذاك المجتمع، نظراً لأنه يعامل وينظر المجتمع إليه على أنه بلغ مبلغ الرجال، وأصبح يعتمد على نفسه.
أما في مجتمعات المسلمين المعاصرة فمع نظام التعليم المعاصر ومع نظام الحياة المعاصرة صار الشاب كَلاًّ على المجتمع كلاًّ على والده لا يعتمد على نفسه ولا يتحمل مسئولية، أيضاً لا تتيسر له سبل الزواج وبناء الأسرة، لهذا تطول هذه الأزمة.
المؤثر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وهي قضية لسنا بحاجة للحديث عنها، فقد صارت الأجهزة المعاصرة تصور غرف النوم تصويراً فاضحاً، تصور العملية الجنسية بكل وقاحة أمام المراهقين والمراهقات، وصارت الصور الفاتنة تعرض أمام شباب وفتيات المسلمين بكل ما فيها من إغراء وإثارة ويتفنن تجار الغرائز والمتاجرون بالفضيلة في الإثارة والإغراء حتى أصحاب السلع المادية وجدوا أن أفضل ترويج لها في استخدام صور المرأة وأساليب الإثارة الجسمية.
فالشاب والفتاة تعيش في المجتمع المعاصر في جو مشحون بالإثارة الجنسية والمغريات التي تدعوه إلى عالم الشهوات وصار يفتح عينيه في هذه المجتمعات وهو لا يرى إلا الشهوات، وما يدعوه إلى الشهوات والتمتع بها، ومن ثم كان من نتيجة ذلك ما نراه الآن من أزمات ومن معاناة المراهقين.
أما لو عاش الناس عيشة سوية بعيداً عن مظاهر الإثارة والإغراء لكان الأمر يختلف.
العامل الرابع غياب التوجيه والقدوة والمثل الأعلى:
من هم الذين يبرزون الآن أمام شباب المسلمين، وأمام فتيات المسلمين في مجتمعات المسلمين المعاصرة؟ هم أهل الفن، أهل الغناء والتمثيل والرقص، أهل الرياضة والمجون، هذه هي النجوم اللامعة، والأسماء المشتهرة بين شباب وفتيات المسلمين، فهل يرى هؤلاء القدوات الصالحة التي تضرب لهم المثل الأعلى؟
وهل يسمعون بكل وضوح وكل طمأنينة الكلمة الواعية العميقة الناصحة التي تحدثهم عن مشكلاتهم وعن معاناتهم، والتي تحدثهم عن الدين حديثاً يربطهم بعالمهم وواقعهم المعاصر؟
فحين تثار أمامهم الغرائز والشهوات، وحين يعولون الاعتماد على غيرهم، وحين تفتح أمامهم القدوات السيئة والساقطة حينها يعيشون فعلاً أزمة المراهقة.
المقصود -أيها الإخوة- من هذا الحديث كله هو أن هذه النظرة السائدة عن المراهق بحاجة إلى مراجعة، فهذه النظرة -كما قلنا- ولدت شعوراً خاطئا عند الشباب والمراهقين أن مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والانحراف والشهوات التي ولدت النظرة عند الأب أن ابنه أو ابنته ما دام في مرحلة المراهقة فهو معذور ولا يرجى منه إلا ذاك، هذه النظرة التي ولدت عند المجتمع بأسره التماس العذر لهؤلاء نظرة خاطئة، لا تتفق مع النظرة الشرعية التي ترى أنه فرد مكلف وأنه إنسان مطالب بسائر التكاليف الشرعية.
وهذا كما قلنا لا ينفي أنها مرحلة ذات صعوبة أو أنها مرحلة فيها أزمات ومشكلات؛ لكن هذه المشكلات ليست كلها عائدة إلى طبيعة الشاب أو طبيعة الفتاة أو طبيعة السن، بل هناك عوامل عدة تساهم في التأثير عليها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب، ونترك بقية الوقت للإجابة على الأسئلة.
السؤال: كتب تنصح بقراءتها عن المراهقة.
الشيخ: طبعاً الذي يحتاج للقراءة عن المراهقة هو من يتعامل مع المراهق، وليس هو المراهق نفسه، فهناك كتب كثيرة ومن أفضلها كتاب (مراهقون) للدكتور عبد العزيز الرمش عميد كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة والأستاذ عبد العزيز يقول: إنه زاركم أمس في المخيم.
كتاب كتب بلغة مبسطة ومناسبة فهو يناسب الأب والأستاذ الذي قد لا يكون بالضرورة متخصصاً، وكذلك سيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر.
وأيضاً (تربية مراهق)، و(تربية الشاب في المدرسة والبيت) لـخالد الشحتوت .
فهذه بعض الكتب التي كتبت حول هذه المرحلة، وفي النية أن نقوم إن شاء الله بدراسة حال واقع الشاب ونذكر بعض النماذج من الصحابة ونماذج واقعية فعلاً لشباب المسلمين وقدوات حية لهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين على ذلك.
السؤال: يعاني بعض الشباب من مشكلة النظر إلى المردان؟
الشيخ: لا شك أن النظر إلى الحرام والشهوة المحرمة من أكبر المشكلات التي يواجهها الشاب في هذه السن، وذلك أنه حين يبلغ سن التكليف وتقوى عنده حدة هذه الغريزة يعيش في بداية هذه المرحلة وشهوته في حدتها وفورانها، ثم يواجه ما يواجه من مثيرات ومغريات في مجتمعات المسلمين والتي أصبحت للأسف تلاحق الشاب في كل مكان وكل مجتمع.
وأيضاً ضعف قدرته على ضبط النفس وقلة خبرته في هذه الأمور قد تولد عنده هذه المشكلة.
لكن علينا أن نجتهد في غض البصر، والبعد عن هذه المنكرات والمغريات قدر الإمكان، وأن نجاهد أنفسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
ومن لطائف هذه الآية أن الله ختمها بقوله: (خبير بما يصنعون)، وذلك أن الإنسان قد ينظر نظرة حرام ومن حوله لا يدرك سر هذه النظرة، لكن الله سبحانه وتعالى خبير، وفرق بين التعبير بخبير وعليم، فهو هنا إدراك دقيق، فخائنة الأعين لا يدركها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إياكم والجلوس في الطرقات قالوا : يا رسول الله ما لنا منها بد وهي مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقها، قالوا : وما حق الطريق؟ قال : غض البصر ورد السلام ....) إلى آخر الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجلوس في الطريق ابتداء حتى لا يتعرضوا للنظر الحرام مع أن ذلك المجتمع كان مجتمعاً عفيفاً نزيهاً بعيداً عن السفور والفساد.
فعليك أن تبتعد أصلاً عما يثير النظر الحرام، عليك أن تبتعد عن الأسواق وعن المواطن التي تدعوك إلى هذه الأمور، ثم تغض بصرك وتبعد نفسك عن التفكير بمثل هذه الأمور والانسياق وراءها.
السؤال: أنا شاب أجد كثيراً من المشاكل التي بدورها تدفعني إلى الانحراف، ومن أول ذلك الفراغ وتشدد أهلي في مصاحبة أي شخص خوفاً أن أنحرف وأخرج عن الجادة والطريق القويم.
الجواب: الكثير من الآباء يعمد إلى منع ابنه من المشاركة مع الناس والذهاب والإياب معهم، وهذا لا شك نتيجة لما يراه من فساد وسوء في المجتمع، وصار لا يثق بأي شخص، ولا شك أن حرص الأب على منع ابنه عن أن يصحب أي شخص لا يثق فيه ولا يعرفه ناشئ عن دافع خير وحرص على استقامة الابن وصلاحه، لكن يجتهد الشاب في إقناع والده في أن يتعرف والده على أولئك الذين يريد أن يصاحبهم، وبعدها إن شاء الله يمكن أن يقتنع والده بصحبته لهؤلاء وأن هؤلاء لم يجد منهم إلا الخير والفائدة.
السؤال: ما هو السبب الذي استحثك على طرح هذا الموضوع مع أني أتوقع أن هذه جرأة منك لمخالفة الواقع والتصور الآن ... إلى آخره.
الجواب: الواقع والتصور الآن إذا كان غير صحيح كان مرفوضاً غير شرعي ينبغي أن نناقش فيه.
وأيضاً: فمن حق الإنسان في المجتمع أن يناقش الأفكار والقضايا المطروحة في المجتمع وخاصة إذا كانت قضايا شرعية وقضايا يسندها العلم الشرعي، ومن حق أي إنسان أن يعبر عما يرى، فما كان حقاً قبل وما كان باطلاً يرفض، وإذا كان فيه حق وباطل يقبل الحق ويرفض الباطل.
ونحن ما تحدثنا مثلاً عن دراسات نفسية ولا قضايا نفسية، نحن نتحدث عن قضايا شرعية، وعلم الإنسان ليس حكراً على أولئك الغربيين أهل المجون والفساد والسوء؛ لأنه لا يحق لأحد أن يتكلم إلا من خلال ما يراه فرويد أو دوركايم أو دارون أو غيرهم، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بخلقه عز وجل.
السؤال: يعاني بعض الشباب من مشكلة التعلق والإعجاب بصور بعض رفقائهم مما يكون عائقاً أمام التزامهم وزيادة إيمانهم، فما نصيحتك لهؤلاء حفظك الله ووفقك لكل خير.
الجواب: النفس إذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فإذا لم تشغلوا أنفسكم بطاعة الله سبحانه وتعالى، والحرص على العبادة، وتلاوة القرآن، والانشغال بحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي فإنكم لا بد أن تنشغلوا بهذه الأمور، وما رأيت أكثر شغلاً للشاب وملئاً لوقته وفراغه من تعلقه بالعلم الشرعي والقراءة، لأن مشكلة الشاب تأني غالباً من الفراغ، وإذا بقي في البيت بدأ يفكر أو جلس ينظر للتلفاز؛ لكن حينما يكون عنده عناية بالعلم الشرعي وولع بالقراءة والاطلاع فإنه يتمنى الفراغ، وإذا تيسرت له ساعة فراغ رأيته في مكتبته يقلب الكتب ويقرأ ويتصفح ويبحث فتمضي عليه الساعات الطوال وهو بين كتبه، ويعيش في عالم آخر.
ولهذا كان السلف مشغولين بالعلم والتعلم وكانوا بعيدين عن هذه المشكلات، لكن عندما يعيش الشاب في فراغ من هذه الأمور فلا شك أنه يفكر ويبدأ الشيطان يدعوه ويستدرجه.
أما الذي ينشغل بالعلم فهو يعيش في عالم آخر بعيداً عن كل هذه المشكلات، ويحرص على الاستزادة من الطاعة والعبادة وخاصة وقت السر، فإن هذا مما يزيده قرباً من الله سبحانه وتعالى، ويستعين بالله عز وجل في كل وقت، نسأل الله أن يعينه وأن يوفقه وأن يجنبه أسباب هذه الفتن وهذه الشهوات.
السؤال: هذا سؤال طويل يقول: إني أسرفت على نفسي بالمعاصي والكبائر وفعلت وفعلت مما لا أستطيع ذكره في مثل هذا المجلس، ولكن أنعم الله علي بالتوبة النصوح ثم يسأل عما وراء ذلك.
الجواب: بالنسبة للمعاصي التي بينك وبين الله سبحانه وتعالى لا يلزمك إلا أن تتوب وتستغفر الله عز وجل وتقبل عليه، ولا يلزمك شيء بعد ذلك.
أما ما يتعلق بالمخلوقين مثل أخذ مال أو هتك عرض، فإذا كنت قد أخذت مال أحد ظلماً أو غشاً أو سرقة فإن عرفته واستطعت أن تعيده إليه بأي وسيلة ولو بغير وسيلة مباشرة فحسن، وإلا فتصدق به عنه على أنك متى رأيته فإنك ستعطيه إياه، وحين تكون صادقاً مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقضي عنك، وييسر لك أن يعفو عنك هذا عن حقه يوم القيامة.
ولا تقنط فالله عز وجل يقول: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54].
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:68-71].
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54].
والآيات والنصوص في هذا كثيرة فينبغي لك أن لا تيئس مهما بلغت الذنوب: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).
السؤال: يقول: إنه يسأل نفسه: من أين أتى؟ وكيف؟ فما علاج ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب: عند المراهق أفضل توجه نحو التدين، طبعاً في تلك المجتمعات التي لا يعرف فيها إله يبدأ يفكر كيف خلق ولماذا ومن أين؟ لكن في مثل مجتمعات المسلمين وفي مثل مجتمعاتكم يعيش الإنسان فيها بين أبوين مسلمين فلا يجد أصلاً مشكلة في هذا لأنه تعلم منذ الصغر أن الله هو الذين خلقه، وأن هناك جنة وناراً؛ لكنه قد تبدأ عنده مشكلة أخرى وهي التي يبدو دفعت الأخ للسؤال فيبدأ يتساءل ويشكك مع هذه السن والمرحلة؛ لأنه يبدأ المراهق مع النمو العقلي يناقش وما يسلم بكل ما يتلقاه، ويحتاج إلى أن يقتنع بكل شيء، فيبدأ يفكر في مثل هذه الأمور.
وهذا أمر ذكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يخر به من السماء أحب له من أن يتكلم به! فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان).
ليس صريح الإيمان هو الوسوسة إنما كونهم يخشون من ذلك، ويتمنى أحدهم أن يخر من السماء ولا يتكلم بذلك، فعليه أن يقول: آمنت بالله، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويبتعد عن مثل هذه الأفكار ويكثر من تلاوة القرآن، والتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه سرعان ما يزول عنه ذلك، وما دام لا يتحدث به وهو مجرد توارد أفكار فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).
السؤال: هناك أسئلة كثيرة حول عادة أقلقت كثيراً من المراهقين وهي العادة السرية، فما مضارها وما حكمها؟
الجواب: لا شك في تحريمها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:29-31].
وسؤال الشخص دليل على أنه يشعر أن فيها مشكلة، فهو يقول: ما الحكم وما الدليل، ولو أنه يشعر أنه ليس فيها مشكلة لما سأل أصلاً حول هذه القضية.
ثم إن لها أضراراً نفسية وأمراضاً على جسم الإنسان، وهي كما قلنا مما يعانيه المراهقون من جراء ما يرونه أمامهم من الشهوات والفتن، وهو لا يجد المصرف الشرعي، لذلك فأولاً يجب أن نقتنع أن شأنها شأن سائر المعاصي، ومادمت مكلفاً فأنت قادر أن تتركه، لأنك الله عز وجل أمرك ونهاك، ولم يأمرك إلا بما تستطيع فعله، ولم ينهك إلا عما تستطيع تركه، فما دام قد نهاك عن هذا الأمر فأنت تستطيع أن تتركه، وما دام قد أمرك بهذا الأمر فأنت تستطيع أن تفعل.
فرق بين كون الشيء صعباً وشاقاً وبين كونه مستحيلاً، لأنه قد يكون الأمر فيه صعوبة في فعله أو صعوبة في تركه، ولكن لا يمكن أن يوجد أمر شرعي بشيء مستحيل، أو نهي عن شيء يستحيل تركه، لكن الإنسان عليه أن يجاهد نفسه بسد الطرق والأبواب ابتداء من نفسه، بحيث يبتعد عن التفكير والنظر للحرام والخلوة والمغريات التي تدعو إلى ذلك، ثم يقوي إيمانه بالصيام، وتقوى الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى.
ثم لو وقع في شيء من ذلك فعليه أن يتوب ويقبل على الله عز وجل ويعمل عملاً صالح ولا ييئس، ولا يتصور أن هذا دليل على الانحراف والضلال والفساد، فهذه معصية شأنها شأن سائر المعاصي إذا وقع فيها المسلم عليه أن يبادر ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويستغفر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إذا تاب عبده فإنه يقبل توبته: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).
وأنا أنصح الأخ السائل أن يقرأ كتاب العادة السيئة للشيخ محمد المنجد ، فهو كتاب طيب حول هذه القضية.
وأيضاً كتاب آخر حول هذا الموضوع وحول النظر الحرام وهو كتاب سهم مسموم للأخ أحمد حفظه الله ووفقه وإيانا جميعاً.
السؤال: يقول: أريد إيضاح بعض السبل لتنمية التوجه للعبادة والتقوى في نفس الشاب المراهق مما يبعده عن الانحراف والشبهة.
الجواب: من أهم الوسائل والطرق في ذلك الصحبة الصالحة التي تعين الإنسان؛ لأن الإنسان لوحده قد يتشجع ويقوم ببعض العبادات ويجتهد فيها لكن سرعان ما يدعوه داعي الشهوة، ويمل ويفتر، لكن حين يكون مع صحبة صالحة فإنه سيرى منهم مثلاً من هو أكثر منه طاعة وعبادة ومنهم من يفوقه في الميدان، ومنهم من يفوقه في الميدان الآخر، فيصبح الميدان ميدان تنافس على البر والتقوى، وميدان تسابق على العمل الصالح، ويرى أمامه قدوة صالحة حية تعينه بإذن الله عز وجل.
السؤال: أنا شاب أسترسل في المعاصي حتى أني قد فعلت العادة السرية في رمضان ثلاثة أيام، ولما أتى رمضان الثاني فعلتها سبعة أيام، فهل علي قضاء؟
الشيخ: نعم عليه قضاء؛ لأنه أفطر متعمداً.
ثم إن العادة السرية معصية في حد ذاتها، وفعلها في رمضان في وقت يصوم فيه الإنسان معصية أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء).
فالصوم علاج الشهوة، فإذا كان الإنسان يفعلها في رمضان فهذا دليل على مشكلة ينبغي أن يراجع فيها نفسه، وحتى الوقت الذي صام فيه لم يكفه ذلك عن هذه المعصية، ثم فعلها أيضاً في نهار رمضان، فهذا يجمع أموراً كثيرة، فعليه أولاً: أن يتوب إلى الله عز وجل، فالإفطار عمداً كبيرة من الكبائر.
ففعل العادة السرية ليس بالضرورة أن يكون كبيرة، لكن الفطر في نهار رمضان وبهذه الصورة كبيرة من الكبائر، فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويكثر من الاستغفار، والندم على هذا العمل، بل إن بعض أهل العلم يقول: إنه من أفطر متعمداً في نهار رمضان لا يقضي، وإنه لو قضى لم يصح؛ لأنه لو صام الدهر كله لم يقضه؛ لأن هذا يوم كان يجب عليك أن تصومه فمضى، وكما هو القول أيضاً في من فاتته الصلاة، فمنهم من قال: إن من فاتته صلاة بأن أخرها متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يقضيها؛ لكن على كل حال عليه أن يقضي هذه الأيام، ثم الفقهاء يقولون: إنه إذا أتاه رمضان وعليه أيام من رمضان قبله فإنه يطعم عن كل يوم فاته من رمضان السابق.
السؤال: ماذا تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة) فما هو رأيك في هذا الحديث؟ وما هو تعليقك عليه؟
الجواب: الذي أعرف أن الحديث في المسند، وهو حديث ضعيف، لكن حتى لو صح الحديث فلا يعني أن المراهق يعيش أزمة، ونحن ما نفينا أن المراهقة فيها مشكلة، وأن المراهقة فيها صعوبة، لكن كلامي يتحدث عن أننا أردنا أن نبرز الوجه الآخر، لأنه يقال الآن إن المراهقة تعني الفساد والانحراف والصبوة، وأنه معذور على كل الأحوال، وهناك فرق بين أن يكون الشاب أكثر عرضة للانحراف، وأكثر إقبال على الشهوات، وبين أن نقول إن المراهق ليس له ذنب وإن الله عز وجل سيهديه عندما يكبر.
السؤال: يقول: لقد علمت ما أصاب إخواننا المسلمين من البلاء، فكيف استشعار المسئولية نحوهم ؟ ثم كيف يربي الإنسان نفسه على الجهاد والقتال وهو يكره الجهاد والقتال؟
الجواب: كره القتال طبيعة جبلية، قال الله عز وجل في القرآن: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].
هذا شيء طبيعي أن يكره المسلم هذا الأمر، والله عز وجل قال : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7].
هذه قالها الله عز وجل في أهل بدر، هذا وضع طبيعي أن يوجد هذا الأمر، لكن فرق بين الإنسان الذي يكرهه وبين أن ينظر للجهاد ولا يريده ولهذا: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة النفاق).
فالمسلم يهيئ نفسه بالشجاعة يهيئ نفسه بالصبر والتعود على التخلي عن الملذات، ثم يهيئ نفسه بالإقبال على الله عز وجل، ويشعر ويسعى الشاب أن يخدم الأمة، ويخدم الإسلام والمسلمين بكل وسيلة، وأنت قادر بكل ميدان مثل الفصل الدراسي، ومع زملائك وأقاربك في الحي، وأن يقول كلمة، ينصح أحد يقدم هدية: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
فلا تحتقر أي شيء ولا أي عمل أو كلمة تقولها، فرب كلمة تقولها لشخص تكون سبباً في هدايته بعد توفيق الله عز وجل فأي عمل تقوم به ينبغي لك أن لا تحتقره.
وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الطيب المبارك أن يجمعنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه سميع مجيب.
هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ..
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المراهقون .. الوجه الآخر للشيخ : محمد الدويش
https://audio.islamweb.net