اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فقه القواعد الفقهية [3] للشيخ : حمد الحمد
قال المصنف رحمه الله:
[ وترجع الأحكام لليقين فلا يزيل الشك لليقين ]
هذه أيضاً قاعدة من القواعد الفقهية الكبرى، وهي: اليقين لا يزول بالشك:
ومرادهم بهذه القاعدة أن الشيء المتيقن والشيء يغلب على الظن وجوده لا يزول بالشك. فاليقين عند الفقهاء يدخل فيه الشيء المتيقن المجزوم به، ويدخل في ذلك أيضاً غالب الظن، فإذا كان عندك تردد بين أمرين لا تدري أيهما الصواب، فنقول: ارجع إلى اليقين أو غلبة الظن.
ويدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد : (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).
فإذا كنت متيقناً أنك على وضوء وعندك شك هل حصل ناقض لهذا الوضوء أم لا، فأنت -مثلاً- متيقن أنك توضأت لصلاة المغرب، فلما حضرت صلاة العشاء صرت لا تدري هل انتقض الوضوء أم لا؟
فنقول: المتيقن هو الوضوء والناقض مشكوك فيه، وعلى ذلك فنأخذ بالمتيقن وهو الوضوء فنقول: أنت على وضوء، واليقين لا يزول بالشك.
وإذا كان الأمر بالعكس، كأن تيقنت الناقض وشككت في الوضوء بعده؛ فمثلاً تقول: إنك قد قضيت حاجتك بعد صلاة المغرب وتقول: أنا لا أدري هل توضأت بعد أن قضيت حاجتي أم لا؟
فنقول: هنا المتيقن هو الحدث والوضوء مشكوك فيه، وعلى ذلك فخذ بالمتيقن وهو عدم الوضوء، فاليقين لا يزول بالشك.
إذا كنت لا تدري في صلاتك هل صليت ثلاثاً أم أربعاً، فالمتيقن هو الأقل، فتصلي رابعة وتسجد للسهو قبل السلام.
وإذا كنت في الطواف فحصل عندك شك هل طفت ستاً أم سبعاً، فنقول: الأقل هو المتيقن، فأنت في حكم من طاف ستة أشواط وعليك أن تطوف الشوط السابع.
كذلك إذا شك هل طلق امرأته أم لا؟ فنقول: الأصل بقاء النكاح لأنه المتيقن.
وإذا شك كذلك هل طلق امرأته طلقة أو طلقتين فنقول: المتيقن هو طلاق مرة، وأما القدر الزائد فهو مشكوك فيه.
وهكذا، فاليقين لا يزول بالشك.
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى:
[ والأصل في مياهنا الطهارة والأرض والثياب والحجارة ]
يقول الشيخ رحمه الله في هذا البيت: إن الأصل في المياه وفي الأرض وفي الثياب وفي الحجارة الطهارة.
فالأصل في المياه الطهارة، وقد جاء في مسند أحمد وسنن الأربعة إلا ابن ماجه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
فالأصل الطهارة في مياه البحار والأنهار والعيون وغيرها، فإذا أصابك ماء من ميزاب لا تدري هل هذا الماء طاهر أم نجس، فنقول لك: إن الأصل في المياه الطهارة وعلى ذلك فلا تغسل ثوبك منه؛ لأن الأصل في المياه الطهارة، فلا يلزمك أن تغسل ثوبك منه.
كذلك إذا وجدت إناءً فيه ماء فلك أن تتوضأ منه أو تغتسل، فإن قلت: لعله يكون نجساً؟
فنقول: إن الأصل في المياه الطهارة.
وكذلك الأرض: فلك أن تصلي في أي بقعة من الأرض لم تعلم نجاستها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)، رواه الإمام أحمد والترمذي .
وقال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، متفق عليه.
وكذلك الثياب: فإذا وجدت ثوباً لا تعلم نجاسته فلك أن تلبسه وتصلي فيه وإن كان من كافر؛ لأن الأصل في الثياب الطهارة.
وثياب الكفار وإن كانت مستعملة فلنا أن نصلي فيها ما لم نعلم نجاستها؛ لكن الأفضل أن تغسل، ومثل ذلك الأواني.
واعلم أن الأشياء الأصل فيها الإباحة، قال الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، واللام هنا للاستحقاق، فكل شيء هو حلال ما لم يرد تحريمه.
وجاء في سنن ابن ماجه والحديث حسن أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت الله عنه فهو عفو).
وقال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145].
فالمحرم من الأطعمة هو ما استثني؛ لأن الأصل ما أبيح لا ما حرم، وهكذا كل الأشياء، فمن حرم شيئاً طولب بالدليل؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، نعم.
قال المصنف رحمه الله:
[ والأصل في الأبضاع واللحوم والنفس والأموال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحل فافهم هداك الله ما يمل ]
أما الأبضاع فالأصل فيها التحريم، وكذلك اللحوم، وكذلك النفوس وكذلك الأموال.
الأبضاع: جمع بضع، وهو الفرج، فليس لك أن تطأ فرجاً حتى تعلم السبب المبيح له، لأن الله جل وعلا قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6].
إذاً ليس لك أن تطأ فرجاً إلا أن يكون مباحاً لك بملك يمين أو عقد نكاح، لأن الأصل في الفروج هو التحريم، ولو أن رجلاً بينه وبين امرأة رضاع، وهي من آل فلان، ولا يعلم عينها، كمن قالت له أمه: إني قد أرضعت ابنة من آل فلان خمس رضعات معلومات، ولا يدري هل هي فلانة أم فلانة أم فلانة، في نساء محصورات، فنقول: لا يحل لك أن تنكح أي واحدة منهن لا فلانة ولا فلانة ولا فلانة؛ لأن الأصل في الأبضاع التحريم.
لكن إن كانت النساء غير محصورات، كمن قالت له أمه: إني قد أرضعت بنتاً من المدينة الفلانية خمس رضعات، فهل نحرم عليه بنات تلك البلدة كلهن؟ الجواب: لا.
كذلك إذا كانت في قبيلة كبيرة فلا، لأن في ذلك مشقة وحرجاً، أما إذا كانت النساء محصورات فلا يحل له أن يطأ امرأة منهن، حتى يعلم أنها ليست هي التي رضعت معه.
وكذلك: الأصل في اللحوم التحريم:
فإذا أتيت بلحم فليس لك أن تأكل منه حتى تعلم السبب المبيح له، إما أن يكون قد ذكي وإما أن يكون قد صيد، فلابد أن تعلم السبب المبيح لأكله من ذكاة أو صيد.
قال جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121].
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل).
لكن إن علمت أن الذي يأتي به لا يأتي إلا بلحم مذبوح فلك أن تأكل، فتسمي الله أنت وتأكل.
إذاً: لو أنك أتيت بلحم ولا تدري هل ذكر اسم الله عليه أم لا، فليس لك أن تأكل حتى تعلم السبب المبيح من ذكاة أو صيد، ولذا فإذا حصل شك في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وهو التحريم، فمثلاً: لو أنك رميت طائراً بسهم فوقع في ماء فمات، فلا يحل لك أن تأكل منه شيئاً؛ لأنك تشك في المبيح فلا تدري هل سهمك هو الذي قتله أم الماء، كما جاء هذا في حديث عدي بن حاتم في الصحيحين.
إذاً: الأصل في اللحوم هو التحريم، وليس المراد أنك إذا دعيت عند مسلم فأتى بلحم أنك لا تأكل حتى تسأله، لأن الأصل في اللحوم التي تقدم من المسلمين أنها مذكاة، لكن لو أنك أتيت إلى بلد فيه المسلم وفيه الكافر وفيه الكتابي، فوجدت لحماً لا تدري هل ذكي أم لا؟ وهل ذكر اسم الله عليه أم لا؟
فليس لك أن تأكل منه شيئاً؛ لأن الأصل في اللحوم التحريم.
كذلك أيضاً: الأصل في النفوس التحريم.
فلا يجوز أن تقتل النفس المعصومة، ولا أن يقطع طرفها، ولا أن تجرح إلا بسبب مبيح.
وفي الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)، كما جاء في الصحيحين.
وجاء في الصحيحين أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا).
إذاً: لا يحل أن يراق دم المسلم بقتل ولا بجرح، ولا بأن يقطع طرفه، إلا بسبب مبيح، فالأصل في النفوس المعصومة التحريم.
كذلك في الأموال: لا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك إلا بحق، أي: إلا بسبب مبيح، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
إذاً الأصل في الأشياء الإباحة إلا الأبضاع واللحوم والنفوس والأموال، فإن هذه الأصل فيها التحريم.
قال المصنف رحمه الله:
[ والأصل في عاداتنا الإباحة حتى يجيء صارف الإباحة ]
الأصل في العادات الإباحة:
العادات: هي ما اعتاده الناس من التصرفات والأقوال والأفعال، فالأصل فيها الإباحة.
مثال ذلك: جلوسهم على الطعام على الأرض أو على الكراسي، هذا من العادات، فالأصل فيه الإباحة.
ومن العادات أن هذا يأكل بيده وهذا يأكل بالملعقة، فالأصل في ذلك الإباحة.
هذا يلبس ثوباً بطريقة معينة، وهذا يلبسه بطريقة أخرى، الأصل في هذا الإباحة.
كذلك أيضاً في التحية، هذا يبدأ بكلمة وهذا يبدأ بكلمة أخرى، هذا يقول: مساء الخير وهذا يحيي بتحية أخرى، فنقول: هذا كذلك جائز لأنه من العادات، ولذا قال جل وعلا: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].
لكنا نقول: إن الأكمل في التحية ما جاء في الشرع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إذاً: العادات الأصل فيها الحل.
كذلك بعض الناس يكتفي بالمصافحة، وبعضهم يعانق، وبعضهم يضع الأنف على الأنف، وبعضهم يضع الخد على الخد، فهذه عادات الأصل فيها الحل، إلا أن يأتي دليل يدل على التحريم، فإذا كانت هذه العادة فيها تشبه بالنساء، قلنا: إنها لا تحل للرجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
قال المصنف رحمه الله:
[ وليس مشروعاً من الأمور غير الذي في شرعنا مذكور ]
الأصل في العبادات التوقيف:
فليس للعبد أن يتعبد الله جل وعلا إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال جل وعلا: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد).
فنقول: إن الأصل في العبادات التوقيف على ما جاء بالنص، فليس لك أن تتعبد الله إلا بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهي قاعدة معروفة.
قال المصنف رحمه الله:
[ وسائل الأمور كالمقاصد واحكم بهذا الحكم للزوائد ]
هذه قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد، قال جل وعلا: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9].
الوسيلة لها حكم مقصدها، فإذا كان المقصد مأموراً بها كانت الوسيلة مأموراً بها، وإذا كان المقصد منهياً عنه كانت الوسيلة منهياً عنها، فذهابك إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة الواجبة عليك واجب؛ لأن صلاة الجماعة واجبة.
وشراؤك الطيب لتتطيب به يوم الجمعة مستحب؛ لأن التطيب يوم الجمعة مستحب.
وتحصيلك الماء لتغتسل به من الجنابة واجب مع القدرة؛ لأن الغسل من الجنابة واجب.
وتحصيلك الماء للغسل يوم الجمعة مستحب؛ لأن الغسل يوم الجمعة مستحب إلا مع وجود رائحة كريهة تؤذي.
وشراؤك السلاح لتقتل به مسلماً محرم؛ لأن قتل المسلم حرام.
وشراء السلاح ليقام به حد الله واجب، وهكذا ..
قال هنا: (واحكم بهذا الحكم للزوائد):
الزوائد: هي المتممات، فمثلاً: ذهابك إلى المسجد هذا وسيلة لأداء الصلاة في المسجد، لكن رجوعك إلى منزلك بعد أداء الفريضة متمم.
ذهابك إلى الحج بالسيارة أو بالطائرة وسيلة؛ لكن رجوعك متمم.
فيقول: كما أن الوسيلة قد تكون عبادة يؤجر عليها وقد تكون بخلاف ذلك، فكذلك الزوائد المتممات، فكما أن لك في ذهابك إلى المسجد بكل خطوة حسنة تكتب وخطيئة تحط فكذلك رجوعك إلى البيت، ولذا جاء في الصحيحين أن الرجل الذي كان يذهب إلى المسجد ويجيء قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله قد جمع لك ذلك كله).
فالرجوع يثاب عليه لأنه متمم، إذاً الزوائد هنا هي المتممات.
قال المصنف رحمه الله:
[ والخطأ الإكراه والنسيان أسقطه معبودنا الرحمن
لكن مع الإتلاف يثبت البدل وينتفي التأثيم عنه والزلل ]
الخطأ: هو ضد العمد، ومنه الجهل، ومن أخطأ فلا إثم عليه.
ولذا جاء في ابن ماجه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وهو حديث حسن.
وقال الله جل وعلا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] الآية، قال الله: (قد فعلت)، كما جاء هذا في صحيح مسلم .
إذاً: الخطأ لا يؤاخذ عليه المكلف ولا يأثم، والخطأ هو ضد العمد ومنه الجهل، سواء كان الخطأ في حق الله جل وعلا، كأن يصلي إلى غير القبلة مع عدم وجود محراب ولا عدل يسأله، فلا يأثم وإن كان الوقت قد خرج، فالذي يترجح أنه لا يعيد.
وإذا كان الخطأ في حق الآدمي فلا إثم أيضاً، كأن يرمي بسهم ليصيد به فيقتل إنساناً معصوماً.
فنقول: لا إثم عليه ولكن عليه الضمان، فيضمن هذه النفس بالدية، ولذا قال الشيخ هنا:
[ لكن مع الإتلاف يثبت البدل وينتفي التأثيم عنه والزلل ]
وقلنا: إن من الخطأ الجهل، كالذي يصلي إلى غير القبلة جاهلاً، والجهل عذر ولكن مع عدم التفريط.
أما من كان مفرطاً فإنه لا يعذر بالجهل، وذلك إذا كانت أسباب العلم متيسرة، ثم إنه فعل شيئاً جهلاً وقال: إني لا أعرف الحكم ففعلت كذا، فنقول: إنك لا تعذر لتفريطك.
فمن كان مثله يجهل فإنه يعذر، ومن كان مثله لا يجهل فإنه لا يعذر.
مثال من كان مثله يجهل: رجل قد نشأ في بادية أو كان حديث عهد بإسلام فوقع في مسألة جهلاً فنقول: يعذر، لأن مثله يعذر، أعني أن الناشئ في البادية أو حديث العهد بالإسلام يقع منه الجهل فيعذر.
لكن لو أن رجلاً في مدائن الإسلام وقال: أنا لم أدر أن صلاة المغرب ثلاث ركعات، وقد صليت ركعتين، فنقول: لا تعذر.
أو قال: أنا لم أعلم أن الجماع في نهار رمضان مفطر، فنقول: لا تعذر؛ لأن مثلك لا يجهل مثل هذه المسائل.
لكن هناك مسائل قد يجهلها حتى من يعيش في المدن، كحق الفسخ عند وجود عيب في المرأة، كمن تزوج امرأة فدخل بها فوجد فيها عيباً لم يخبر به، وهو ليس ممن يحضر دروس العلم ولا يجالس الفقهاء، فمثله قد يجهل أن له حق الفسخ، فيطأ هذه المرأة لظنه أنه لا حق له في الفسخ.
فنقول: لك الفسخ وإن جامعتها لأنك تجهل؛ لكن لها الضمان في بضعها.
إذاً من كان في مدائن الإسلام فلا يعذر بالجهل إلا في المسائل الخفية.
تجد أن كثيراً من الناس يخفى عليهم أن إخراج القيء عمداً يفطر الصائم، فيقع هذا من كثير من الشباب ولا يدري؛ لكنه يعلم أن الأكل والشرب والجماع من المفطرات، فهذا لا نقول إنه قد أفطر إذا استقاء عمداً إلا بعد أن يعلم ويعرف، لأن مثل هذه المسائل يجهلها أمثاله.
وعلى ذلك فنقول: إن كان مثله يجهل فإنه يعذر، وإن كان مثله لا يجهل فإنه لا يعذر.
بعض الناس يأتون من بعض البلاد التي كانت تحت الحكم الشيوعي فيحجون بيت الله وقد يجامع أحدهم امرأته ليلة عرفة أو يوم عرفة قبل أن يتحلل التحلل الأول، ويقول: أنا لا أعرف أن الحج يفسد بذلك، بل لم أعرف أنه من محذورات الإحرام.
فنقول: هذا حجه لا يفسد ولا حرج عليه؛ لأن مثله يجهل.
لكن من كان في بلاد ينتشر فيها العلم فإنه لا يعذر بذلك، مثلما يوجد الآن في علامات المرور من إشارة وغيرها، لا يعذر في مخالفتها من يقود السيارة ويسكن المدن؛ لكن لو أتى رجل من بادية فإنهم قد يعذرونه في بعض الأخطاء.
وذكر أيضاً الإكراه؛ والإكراه على نوعين:
النوع الأول: إكراه ملجئ: بحيث يكون المكره كالآلة.
فلو أن رجلين رفعا رجلاً قهراً ورمياه على نائم فقتله، فهو هنا كالآلة، أي: كأنه حجر، فنقول: هذا كالآلة فلا إثم عليه ولا ضمان، وهذا هو الإكراه الملجئ.
النوع الثاني: الإكراه غير الملجئ: وهو أن يكره على فعل أو قول بالتهديد له أو لولده أو لوالده أو لصاحبه، ويغلب على ظنه أن هذا المهدد ينفذ ما هدده به.
كأن يقول له: إما أن تفعل كذا أو أقتلك، أو أقطع طرفك، أو أسجنك، أو أجلدك، فيهدده بشيء يغلب على ظنه أنه يقدر على التنفيذ، فهذا هو الإكراه غير الملجئ.
وهذا النوع يختلف حكمه باختلاف المسائل وباختلاف نوع ما أكره به:
فإذا أكره رجل على أن يسب الله وقيل له: إما أن تسب الله وإما أن نقتلك، وهو يخشى أن ينفذوا ذلك، فله أن يسب وقلبه مطمئن بالإيمان.
لكن لو قيل له: إما أن تسب الله والرسول وإلا جلدناك عشرة أسواط، فهذا لا يعد إكراهاً.
ولو قيل له وهو رجل ذو شرف ومكانة في المجتمع: إما أن تطلق امرأتك وإما أن نذهب بك إلى مجتمع الناس ونجلدك ثلاثة أسواط، فهذا يعد إكراهاً في مثله؛ لأنه رجل شريف، لا يتحمل أن يضرب سوطاً أمام الناس.
ولو أن رجلاً قال لامرأته: إما أن تكتبي هذا البيت باسمي أو أطلقك، فهذا يعد إكراهاً؛ لأن الطلاق أشد من ضرب السياط على ظهرها، فلها أن تطالب بحقها في هذا البيت لأنها مكرهة.
لو أن رجلاً شريفاً ذا مكانة في الناس قيل له: إما أن تهب لنا كذا وكذا وإلا نشهر بك في الجريدة، فهذا يعد إكراهاً بالنسبة له.
إذاً: الإكراه يختلف باختلاف المسائل، فننظر إلى المسألة وننظر إلى نوع الإكراه، ويقرر هل يعد هذا إكراهاً أم لا بحسب المسألة:
هذا رجل قيل له: إما أن تسب الدين أو نؤخر دخولك إلى هذه البلد عشر ساعات، فهذا ليس بإكراه.
وإن كان قد أكره على أن يقتل أحداً أو أن يقطع طرفه أو أن يجرحه، فنقول: هذا يأثم، وعليه الضمان، لأن المكلف ليس له أن ينقذ نفسه بهلكة غيره.
لكن لو قيل له: إما أن تحرق مزرعة فلان أو نقطع يدك، فأحرق المزرعة نقول: الضمان على من أكرهه، لأن له أن يفدي نفسه من قطع اليد ومن القتل بإتلاف مال غيره، ويكون الضمان على من أكرهه.
وذكر المؤلف النسيان:
والنسيان: هو ذهول القلب عن شيء معين.
فالناسي معذور لا يأثم للحديث المتقدم؛ لكن إن نسي مأموراً فعليه أن يأتي به، وإن نسي منهياً فلا شيء عليه، أي أنه فعل محذوراً من المحذورات ناسياً، فلا شيء عليه وإن نسي فترك مأموراً فعليه أن يأتي به أو بما يجبره.
نسي هذا الرجل فتجاوز الميقات بدون إحرام، والإحرام من الميقات واجب من واجبات الحج.
نقول: لا إثم عليك في النسيان فقد رفع عنك الإثم، ولكن إما أن ترجع وإما أن تجبره بدم؛ لأنه ترك مأموراً ناسياً.
وإن فعل محذوراً كأن أكل أو شرب ناسياً في رمضان، أو تطيب ناسياً في الحج، أو صلى بثوب نجس ناسياً.
فنقول: لا شيء عليك، فمن تطيب ناسياً فلا شيء عليه، ومن أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه، وقد أطعمه الله وسقاه.
إذاً: من ترك مأموراً ناسياً فعليه أن يأتي به أو بما يجبره، ومن نسي ففعل محذوراً فلا شيء عليه.
قال المصنف رحمه الله:
[ ومن مسائل الأحكام في التبع يثبت لا إذا استقل فوقع ]
هذه قاعدة: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً:
هناك أشياء لا تحل إذا استقلت، لكن إذا كانت تبعاً فهي حلال، كبيع الحمل في البطن، مثلاً لو قال: أبيعك ما في بطن هذه الناقة فإنه لا يجوز، لكن إن باع الناقة وما في بطنها فإنه يجوز، لأن الذي في البطن هنا تبع.
إن باعه زرعاً لم يشتد فنقول: إن هذا البيع باطل.
وإن باعه أرضاً وفيها زرع لم يشتد، فنقول: هنا الزرع الذي لم يشتد قد ثبت تبعاً للأرض، فيجوز بيعه؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
بيع الثمر قبل بدو صلاحه لا يجوز، فإن باع النخلة وعليها ثمر لم يبد صلاحه فلا بأس؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فقه القواعد الفقهية [3] للشيخ : حمد الحمد
https://audio.islamweb.net