إسلام ويب

الخمر مفسد للعقل مضر بالبدن، فمنافعه قليلة وأضراره كثيرة، وقد حذر الشرع منه وبين عقوبة فاعله في الدنيا والآخرة.

حد السكر

الدليل على تحريم المسكر وأقوال العلماء في ذلك

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: حد المسكر].

السكر: لذة ونشوة يذهب معها العقل، فلا يدري صاحبها ما يقول ، قال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، وقد أجمع أهل العلم على تحريم الخمر، وإنما وقع الخلاف في ما لم يسكر قليله من غير العنب، وأما ما أسكر قليله فلا خلاف بين أهل العلم في تحريمه كله، سواء كان من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير، أو العسل، وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير).

وأما إذا كان قليله لا يسكر لكن كثيره يسكر فأجمعوا كذلك على تحريمه إذا كان من العنب، فما كان من العنب فإنه حرام وإن كان قليله لا يسكر ما دام أن كثيره مسكراً، وأما إذا كان من غير العنب فقال أهل الكوفة: إنه جائز، وهذا خلاف ما ذهب إليه عامة أهل العلم، فعامة أهل العلم على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وقد جاء هذا صريحاً كما عند الخمسة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وفي أبي داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) .

وأما أهل الكوفة فأجازوه من غير العنب إن كان قليله لا يسكر، ولا يشرب كثيراً يسكره.

إذاً: فهم يقولون: أولاً: ألا يكون من العنب، ثانياً: أن يكون قليله لا يسكر، فإذا قدر مثلاً أن شراب الشعير يسكر منه قدر لترٍ فشرب منه ربع لترٍ، وكان ربع اللتر هذا كما تقدم في هذا الحد لا يسكر فلا حرج عليه في ذلك، هذا هو قولهم، فلا يقولون بشرب النبيذ مطلقاً كما يفهم بعض الناس ويغلط، بل يرون أنه له أن يشرب هذا القليل الذي لا يسكر، ولو زاد فشرب زيادةً سكر، لكنه لم يشرب إلا هذا القدر الذي لا يسكر، ومع ذلك فقد ذهب عامة أهل العلم إلى القول بتحريم ذلك، بل قالوا: بأن شارب هذا القليل يحد، ولم يقولوا ذلك في النكاح بلا ولي؛ لأن الأحاديث فيه أظهر.

والجمهور يقولون: إن من نكح بلا ولي فإنه لا يقام عليه الحد، وأما من شرب النبيذ من غير العنب الذي يسكر كثيره وقد شرب منه قليلاً فقالوا: إنه يحد؛ قالوا: لأن هذا ذريعة إلى شرب الكثير، ولأن الأحاديث فيه أصرح.

قال الإمام أحمد رحمه الله في الأحاديث في تحريم ذلك: تثبت من عشرين وجهاً، وقال رحمه الله: لا يصح في الرخصة في المسكر حديث.

وقال ابن المنذر رحمه الله: وقد استدل أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها وذكرنا عللها. إذاً: لا يصح في هذا الباب حديث.

حد من شرب مسكراً

قال: [ من شرب مسكراً مائعاً أو استعط به ] ؛ لأن المقصود من ذلك: أن يدخل بدنه سواء كان هذا بشربٍ أو استعاط، والاستعاط من الأنف، [ أو احتقن به ] كحقنة في الدبر، [أو أكل عجيناً ملتوتاً به ] ، أي: أكل عجيناً عجن بالخمر، ولو لم يسكر لما تقدم، ما دام أن كثيره مسكر فإن ذلك لا يجوز.

وأما لو استُهلك كالذي يخلط في ماء فيستهلك ويبقى الاسم للماء كبعض المشروبات التي يكتب على عبواتها أن فيها نسبة من الكحول، لكن هذه لو تشرب منها الكثير فإنه لا يسكر، فهذا قد استهلك وذهب، ولا يخلو كثير من الأشربة من وجود نسبة معينة من كحول، لكن هذه النسبة مستهلكة، ولذا لا حرج في شرب ما يصنع من الشعير الذي لا يسكر، ويأتي ما ثبت من شربه عليه الصلاة والسلام لذلك إذا لم يتجاوز ثلاثة أيام، يأتي ذلك إن شاء الله.

قال: [ ولو لم يسكر حد ثمانين إن كان حراً ]، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الحشيشة بذلك، وهذا ظاهر، ولذا قال عمر رضي الله عنه: (والخمرة ما خامر العقل)، فما أذهب العقل فهو خمر، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، رواه مسلم في صحيحه.

قال: [ حد ثمانين إن كان حراً ] ، وأما العبد فإنه يحد أربعين، كما تقدم في حد الزنا -يعني: قياساً على حد الزنا- والدليل على أنه يحد ثمانين ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: (أتي النبي عليه الصلاة والسلام برجل شرب الخمر فأمر بضربه بجريدتين نحواً من أربعين، وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر رضي الله عنه استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون، فأمر به) إذاً: فهي سنة عمرية.

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جلد النبي عليه الصلاة والسلام أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي) يعني: الجلد بالثمانين، فهذه زيادة على ما كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ما كان في عهد أبي بكر ، وهذه الزيادة دعا إليها استشراء الخمر وكثرة شربها، فلما رأى عمر ذلك رأى أن يحد بثمانين، وكان ذلك بمحضرٍ من الصحابة، ولذا قال علي كما تقدم (وكل سنة، وهذا أحب إلي).

وقال بعض أهل العلم وهو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن أحمد : بل يحد أربعين؛ لأن هذا هو الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعلى عهد أبي بكر ، والذي يترجح ما كان في عهد عمر رضي الله عنه، لكنا نقول: إن الأربعين حدٌ والأربعين الأخرى تعزير، وعلى ذلك فـعمر رضي الله عنه ضربه ثمانين: أربعين منها حد، وأربعين منها تعزير.

حكم قتل من تكرر منه شرب الخمر

هل يصل الحد بشارب الخمر إلى القتل؟ ذهب إلى ذلك أهل الظاهر إن شربه في الرابعة وقد حد قبل ذلك ثلاثاً، وقد جاء عند الخمسة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه) إذاً: أقيم عليه الحد ثلاثاً.

ثم قال رسول الله: (ثم إذا شرب في الرابعة فاضربوا عنقه)، والحديث رواه الخمسة وإسناده صحيح، وقد أخذ به أهل الظاهر، وأما الجمهور فلم يأخذوا به، وقالوا: جاء في الصحيحين أن رجلاً لعنه أحد الصحابة وقال لما أتي به ليجلد: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، وكان ذلك في شرب الخمر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلعنوه؛ فقد علمت أنه يحب الله ورسوله)، ولم يقتل.

وفي أبي داود عن قبيصة -وهو من صغار الصحابة- قال: (ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، قال: ورفع السيف فكانت رخصة).

فالجمهور قالوا: هذا منسوخ، وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من أهل العلم وقالوا: بل هو من باب التعزير، فإن رأى الإمام ذلك عزر به. أي: أن الأصل هو الحد ولو أتى عشر مرات، لكن إن رأى الإمام التعزير بالقتل فإنه يعزر به.

شرط إقامة الحد على شارب الخمر

قال: [ وأربعين إن كان رقيقاً، بشرط كونه مسلماً مكلفاً مختاراً ]؛ لأن الحدود إنما تقام كما تقدم على المكلف، فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً.

قوله: [ مسلماً ]؛ لأن الخمر ليست بحرامٍ عند الكفار، بخلاف الزنا فإنه عند أهل الذمة حرام، ولذا فإنه لا يقام عليهم الحد في شرب الخمر.

قال: [ بشرط كونه مسلماً مكلفاً مختاراً لشربه ]، وأما إذا كان مكرهاً فلا شيء عليه لما تقدم.

قال: [ عالماً أن كثيره مسكر ]، قال عمر رضي الله عنه كما في مصنف عبد الرزاق : (لا حد إلا على من علمه)، فما دام أنه لا يعلم أن كثيره يسكر فلا شيء عليه.

قال: [ ومن تشبه بشرّاب الخمر في مجلسه وآنيته حرم وعزر ]، مثل أن يجمع أصحابه ويقول لهم: اجلسوا على هذه الصفة: وأتى بكئوس يشرب بها الخمر عادة، وأتى بما يصب به الخمر عادة، ووضع فيه عصيراً أو نحو ذلك، وأخذ يدور عليهم بهذا كصفة شرب الخمر تماماً، فهذا قد تشبه بهم، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم، وسداً لهذا الباب فإنه يعزر، فيحرم هذا الفعل ويعزر.

يحرم شرب العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يطبخ

قال: [ ويحرم العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يطبخ ]، فقد ثبت في صحيح مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينبذ له الزبيب فيشربه عليه الصلاة والسلام اليوم والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة أمر أن يهراق أو يسقى الخدم يبادر به الفساد)، أي: يسقى الخدم ليبادر قبل فساده، يعني: يشربونه فوراً قبل أن تتم هذه الأيام الثلاثة بلياليها، وهذا الحديث الذي رواه مسلم يدل على أن هذا العصير الذي ينبذ يكون من تمرٍ؛ لأن هذا الذي كان ينبذ للنبي عليه الصلاة والسلام من الزبيب ومثله التمر، ونحو ذلك مما يتخمر إذا ترك، يعني: يشتد ويكون فيه شدة إذا ترك ثلاثة أيام، فتكون فيه رطوبة فيسكر، فيوضع مثلاً عند فراشه ويشربه ثلاثة أيام، وبعد اليوم الثالث لا يُشرب.

حكم شرب العصير إذا طبخ وذهب ثلثه

قال: [ ولم يطبخ ]، إذاً: فالطبخ يجيزه، فيطبخ حتى لا يبقى إلا ثلثه، يعني: يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه في الطبخ فإنه تزول آفته من الرطوبة، وفي ذلك آثار عن الصحابة رضي الله عنهم: عن عمر وأبي موسى وغيرهما، وعلى ذلك إذا مضت عليه ثلاثة أيام ثم طبخ فذهب ثلثه يعني: تبخر ثلثه، وبقي ثلثه؛ فإنه جائز.

حكم إقامة الحد على من ظهرت منه رائحة الخمر أو تقيأها

قد تقدم لكم أن حد الخمر يثبت بالبينة وهي شهادة اثنين عدلين، ويثبت كذلك بالاعتراف، وتقدم إيضاح ذلك، وهل يثبت بظهور رائحته، أو بأن يتقيأ الخمر؟ قال الجمهور وفيهم الحنابلة: لا يقام الحد بذلك، قالوا: لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

والقول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم : أنه يقام عليه الحد؛ لأنها لم تظهر الرائحة إلا وقد شرب، ولم يتقيأها إلا وقد شربها، ولذا قال عثمان رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: (إنه لم يتقيأها إلا وقد شربها)، وهذا أيضاً قد صح عن عمر رضي الله عنه كما في ابن أبي شيبة .

وهذا القول أظهر لا سيما مع القرائن، كأن يكون الرجل معروفاً بالفسق ويحكى عنه شرب الخمر ونحو ذلك، فيقبض عليه وهو يتقيأ، أو وقد ظهرت منه هذه الرائحة.

التعزير

تعريف التعزير

قال: [ باب التعزير ].

التعزير: هو في اللغة المنع، وأما في الشرع: فهو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

تقدم لكم في مسائل كثيرة أنه إذا لم يكن هناك حد فالتعزير، والتعزير هو التأديب في كل معصيةٍ لا حد فيها ولا كفارة، فالزنا فيه حد، فلا تعزير فيه إذاً، ولا تعزير في جماع الرجل لامرأته في نهار رمضان؛ لأن في ذلك الكفارة.

إذاً: لا يكون فيها حد؛ لأنه إذا كان فيها الحد فيجب أن يقام الحد، ولا كفارة فيها، فكل معصية مثل أن يخلو بامرأةٍ ويباشرها دون الفرج، فهذا فيه تعزير، وليس فيه حدٌ ولا كفارة.

التعزير في كل معصية لا حد فيها

قال: [ يجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ]، هذا هو المذهب، لكن القول بالوجوب يشكل عليه ما ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعزر كثيراً من العصاة، منهم الذي أتاه وذكر له أنه أصاب من امرأة كل شيءٍ إلا النكاح، وقال له: (أصليت معنا) الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، ولم يعزره عليه الصلاة والسلام، وكذلك في أحاديث كثيرة لكثير من العصاة لم يثبت تعزيرهم، ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أخرى عنه خلافاً للمشهور: إنه مندوب، يعني: التعزير.

والقول الثالث وهو أصحها وهو قول بعض الحنابلة ومذهب الشافعية: أن التعزير يرجع إلى الإمام بحسب المصلحة، فإذا رأى أن هذه المعصية قد انتشرت وأنه يجب أن يعزر فيها الناس بعقوبة تردعهم عنها فعل ذلك، وإلا ترك، إذاً: هذا يرجع إلى ما يراه الإمام، وهذا من سياسة الناس بالشرع، وهذا هو الراجح.

التعزير حق من حقوق الله تعالى فلا يشترط فيه مطالبة المجني عليه

قال: [ وهو من حقوق الله تعالى لا يحتاج في إقامته إلى مطالبة ]، التعزير حق لله لا يحتاج إلى مطالبة؛ لأنه كما تقدم في كل معصية، وعلى ذلك فلا يحتاج إلى مطالبة، بل هو حقٌ لله سبحانه وتعالى، فالإمام إذا رأى التعزير عزر، ولا يحتاج هذا إلى مطالبة.

قال: [ إلا إذا شتم الولد والده، فلا يعزر إلا بمطالبة والده ] ؛ قالوا: لأن الأب له أن يعزر، وله أن يؤدب ولده، فلو شاء أدبه، فما دام أنه لم يؤدبه فننظر إن طلب التأديب، فقد يكون عاجزاً عن التأديب فيطلب من الحاكم ويذهب إلى القاضي ويقول: أدب ولدي، وهذا ما ذكره في الإقناع، وظاهر المنتهى خلافه، لكن ما ذكر هنا هو الأظهر، وأن الولد لا يؤدب؛ لأن الأمر راجع إلى الوالد إن شاء أدبه، وإن عجز طالب.

لا يعزر الوالد بحقوق ولده

قال: [ ولا يعزر الوالد بحقوق ولده ]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك).

لا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواط

قال: [ ولا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواط ]، يقولون: أقصى حد في التعزير هو عشرة أسواط، فلو خلا رجلٌ بامرأة وباشرها لكنه لم يطأها، وقبض عليه أو اعترف، أو كانت هناك بينة وأراد الحاكم أن يعزره فإنه لا يعزره إلا بعشرة أسواط فأقل.

واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله).

وفي المسألة أربعة أقوال لأهل العلم، القول الثاني في المسألة: أن للإمام أن يعزر بما رأى، يعني: ولو بمائتي سوط، وهو مذهب المالكية.

القول الثالث وهو مذهب الأحناف والشافعية ورواية عن أحمد : أن له أن يعزر بما دون الحد، وهو ثمانون بالنسبة للحر، وأربعون بالنسبة للعبد، وعلى ذلك فلو خلا بامرأة وبات عندها لكنه لم يطأها، فللحاكم أن يجلده تسعة وتسعين سوطاً، ولا يجلده مائة، وإن كان عبداً فتسعة وأربعين.

القول الرابع وهو أصحها وأحسنها كما قال ابن القيم ومال إليه شيخ الإسلام كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف: أنه لا يبلغ به الحد إذا كانت المعصية في جنسها حدٌ، فإن لم يكن في جنسها حد فله أن يعزر بما يرى.

وهذا قريب من المذهب الذي قبله لكنه أضبط، يقول: ننظر إلى المعصية: فإن كانت هذه المعصية فيها حد فإنا لا نتعدى هذا الحد، فإن خلا رجل بامرأة ولم يطأها، فإن الشرع قد قضى بأن الزنا فيه مائة جلدة، فإنا لا نعزره بمائة جلدة فيما إذا خلا بها، وإنما نعزره بتسع وتسعين فأقل.

وأما إذا كانت المعصية ليس في جنسها حد فله أن يعزر بما يرى، فلو أن رجلاً مثلاً شرب الماء في نهار رمضان أمام الناس وخشي الإمام أن يترتب على ذلك استطالة للخلق في هذا الباب، فرأى أنه يجلد مثلاً خمسمائة سوط، في كل أسبوع مثلاً يجلد مائة، ولا يجلد في اليوم أكثر من مائة فهذا لا يتحمله، لكن تجزأ ففي كل أسبوع يأتون به ويجلد، إذا رأى ذلك فلا بأس به، بل لو رأى أن يعزر بالقتل فله ذلك، ولذا ذهب المالكية وهو اختيار ابن القيم ووجه في مذهب أحمد : أن الداعية إلى البدعة قد يصل التعزير به إلى القتل إذا لم تندفع مفسدته إلا بذلك، فإذا كان يدعو إلى بدعة مغلظة ولم تندفع بدعته إلا بذلك، فمذهب المالكية وهو وجه في مذهب أحمد واختاره ابن قيم الجوزية : أنه يجوز للإمام أن يعزره بالقتل. وقد تقدم الكلام في تعزير شارب الخمر.

حكم الرجل إذا وطئ أمة له فيها شرك

قال: [ إلا إذا وطئ أمة له فيها شرك فيعزر بمائة سوطٍ إلا سوطاً ]؛ لثبوت أثرٍ في ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه فيما رواه عبد الرزاق في مصنفه، إذاً: استثنوه لهذا الأثر، والآثار في هذا الباب كثيرة، فقد تقدم أن عمر زاد في حد الخمر أربعين، وعند الطحاوي بإسناد حسن أن علياً رضي الله عنه جلد رجلاً شرب الخمر في رمضان أربعين جلدة، وهذا فوق الحد، يعني: جلده الحد وجلده عشرين زيادة على الحد، وليس في الأثر أنه يزيدها في نفس المجلس. فالمقصود أنه جلده عشرين سوطاً، وهذه أكثر من عشرة أسواط.

حكم من شرب مسكراً في نهار رمضان

قال: [ وإذا شرب مسكراً نهار رمضان فيعزر بعشرين مع الحد ]؛ لأثر علي رضي الله عنه عند الطحاوي ، ولا بأس بتسويد وجه من يستحق التعزير، وروي ذلك عن عمر ، والمناداة عليه بذنبه، فهذه كلها أنواع من التعزير يقدرها الإمام، فأخفه التوبيخ بالكلام وأعلاه القتل، والتوبيخ بالكلام مثل أن يقول له: أنت لا يصلح لك مثل هذا الفعل أنت ابن فلان، أنت من الأسرة الفلانية، أنت من بيت شرف فكيف تفعل هذا؟ فهذا قد يكون أشد عليه من السياط.

إذاً: فباب التعزير هذا يرجع إلى القاضي، فيعزر بما يرى، فقد يكون ذلك بكلمة تكون أشد عليه من السياط، وقد يكون بالجلد، وقد يكون بالحبس، وقد يكون بالقتل كما تقدم.

حكم التعزير بحلق اللحية

قال: [ ويحرم حلق لحيته ]، هذا لا يجوز؛ لأن الشرع لا يأتي بذلك، ولأن هذا مثلة، بل لأنه يخالف الشرع أيضاً، وهذا يفعله بعض أهل البادية.

حكم التعزير بأخذ المال

قال: [ وأخذ ماله ]، فإذا أتى بمعصية لا يؤخذ شيء من ماله تعزيراً، يعني: لا يغرم غرامة مالية تؤخذ من ماله من باب التعزير، هذا هو المذهب وهو قول الجمهور: أن المال لا يؤخذ في التعزير، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن قيم الجوزية : أنه يجوز إتلاف المال وأخذه في باب التعزير.

قال شيخ الإسلام : وهذا جارٍ على أصول أحمد ، ولهذا أدلة كثيرة، فمنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بتحريق متاع الغال وهذا في الصحيح، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يحرق الثوبين المعصفرين، وهذا في صحيح مسلم ، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يهراق الخمر، وأن تكسر آنيته، مع أنها يمكن أن تغسل، وهذه مال، والحديث في الترمذي .

وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد : (فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا) قال ذلك فيمن منع الزكاة، فأخذ شطر المال هو من باب التعزير؛ لأنه منع الزكاة، وثبت عن عمر كما في ابن أبي شيبة : أنه أحرق بيت شارب خمر.

إذاً: هذه كلها آثار تدل على ذلك، وهذا هو الراجح، وهذا جارٍ على أصول أحمد كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ، ويكون هذا بالعدل لا بالإضرار، ويكون المقصود من ذلك سياسة الناس بالشرع، ولا يكون المقصود من ذلك أخذ مكوس عليهم ويكون ذلك ظلماً لهم، وإنما هذا يكون بناءً على المصلحة.

الألفاظ الموجبة للتعزير

حكم قول المسلم لأخيه يا كافر

قال: [ فصل: ومن الألفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره: يا كافر ]

هذا اللفظ ليس فيه حد القذف، وإنما فيه التعزير كما تقدم، أو يقول: [ يا فاسق، يا فاجر، يا شقي، يا كلب، يا حمار، يا تيس، يا رافضي، يا خبيث، يا كذاب، يا خائن، يا قرنان، يا قواد، يا ديوث، يا علق ] فهذه الألفاظ فيها التعزير، أما لو قال: يا زانٍ ورماه بالزنا ففيه الحد كما تقدم.

حكم أن يقال للذمي يا حاج

قال: [ ويعزر من قال لذمي: يا حاج ] لأنه شبه قصد الكنائس بقصد بيت الله، وهو لا يريد ذلك، ولو كان يريد ذلك فهذا كفر، لكن هذه الكلمة: يا حاج! إنما تقال للمسلم، وعلى ذلك فيعزر، لكن بعد أن يعلّم ذلك إذا كان يجهل؛ لأن بعض الناس يقول كلمة: يا حاج! لكبير السن، وقد لا يفهم ماذا يراد بقوله يا حاج، ولذا يقولون: يا حاج لمن لم يحج، وهم يعلمون أنه لم يحج، وإنما أصبحت تقال من باب التكريم لكبير السن، وعلى ذلك فيعلم ويبين له أن ذلك لا يجوز قبل أن يعزر.

حكم لعن الذمي بلا موجب

قال: [ أو لعنه بغير موجب ]، إذا لعن ذمياً: نصرانياً أو يهودياً وقال: لعنك الله فإن ذلك لا يجوز، ويعزر على ذلك إلا إذا كان هناك موجب، أما إذا لم يكن هناك موجب فإن هذا لا يجوز، ولعن المعين في أصح القولين لا يجوز، والذي يجوز هو اللعن على العموم: لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، وأما أن تلعنه بعينه فتقول له: لعنك الله، فهذا لا يجوز، ولذا لما لعن النبي عليه الصلاة والسلام أولئك الثلاثة قال الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دليل الطالب كتاب الحدود [3] للشيخ : حمد الحمد

https://audio.islamweb.net