إسلام ويب

أعظم الأمور حرمة بعد الشرك بالله الدماء، وقد عقد الفقهاء في كتب الفقه أبواباً وفصولاً تبين أحكام الجنايات، وفي هذه الأبواب يذكرون أقسام القتل وما يترتب على كل قسم من جزاء دنيوي أو أخروي.

القسم الأول من أقسام القتل: العمد العدوان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأشكر -أولاً- القائمين على هذه الدورة في إدارة الدعوة والإرشاد في دولة قطر على هذا الجهد المبارك في التنظيم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا في ميزان حسناتهم، وأن يزيدهم براً وخيراً إنه مجيب الدعاء.

وبين أيدينا كتاب الدليل للشيخ مرعي رحمه الله تعالى، وكنا قد تدارسنا في دورات سابقة هذا الكتاب، وقد وقفنا عند كتاب الجنايات.

والجنايات: جمع جناية، وهي في اللغة: التعدي على البدن أو المال أو العرض، فالسرقة جناية، والزنا جناية، هذا في اللغة.

وأما في الاصطلاح فهي كما قال المؤلف: [وهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً].

فالذي يوجب القصاص أو يوجب المال مما هو من قبيل التعدي على البدن فهو الجناية، هذا في اصطلاح الفقهاء.

إذاً: هذا الكتاب يجمع المسائل التي توجب القصاص أو توجب المال مما هي من التعدي على البدن.

تعريف القتل العمد العدوان وبيان اختصاص القصاص به

قال المصنف رحمه الله: [ والقتل ثلاثة أقسام:

أحدها: العمد العدوان، ويختص القصاص به، أو الدية، فالولي مخير، وهو أن يقصد الجاني من يعلمه آدمياً معصوماً، فيقتله بما يغلب على الظن موته به ].

ذكر المصنف رحمه الله أن القتل على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: العمد العدوان، وهذا القسم الأول هو الذي يختص به القصاص، فلا قود في غير العمد العدوان.

ومتى يكون القتل عمداً عدواناً موجباً للقصاص؟ قال المؤلف: [وهو أن يقصد الجاني من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به] أي: أن يقصد الجاني من يعلمه آدميا لا حيواناً كصيد، معصوماً لا حربياً.

إذاً: العمد هو قصد الجاني من يعلم أنه آدمي، وأنه معصوم الدم، بما يقتل غالباً، لا بما لا يقتل غالباً.

وما يقتل غالباً هو كالسكين أو البندقية، أو أن يخنقه، أو أن يرميه في البحر بحيث لا يقدر أن يخلص نفسه، أو أن يرميه في نار، أو أن يسحره بما يقتل غالباً، أو أن يرميه بمثقل كحجر كبير، فهذا كله مما يقتل غالباً.

نعم قد يسلم المرء إذا رمي بالمسدس، أو رمي بالحجر الكبير، أو خنق، أو إذا رمي في البحر، لكن الغالب عدم السلامة وأن هذه الأشياء تقتل.

إذاً: الضابط أنه يقتل في الغالب.

ضابط القتل العمد العدوان

وعلى ذلك يكون عندنا أمران في قتل العمد (العدوان):

الأمر الأول: أن يقصد الجاني من يعلمه آدمياً معصوماً، وعلى ذلك فلو قصد صيداً أو قصد هدفاً يتعلم به الرماية، أو قصد آدمياً لكن هذا الآدمي ليس بمعصوم، فهذا القتل ليس بعمد، وعلى ذلك فلا يوجب القصاص.

الأمر الثاني: أن يكون ذلك بما يقتل في الغالب، وعلى ذلك فلو ضربه بيده في غير مقتل، أو ضربه بعصاً، أو رماه بحجرٍ صغيرة لا تقتل غالباً، فلا يكون ذلك عمداً عدواناً، وإن مات به.

هذا هو قتل العمد، قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ... [النساء:92] إلى أن قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93].

وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً وستر الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له).

وهذا الحديث المتفق عليه يدل على أن قاتل النفس تقبل توبته وإن كان القتل عمداً، ولا خلاف بين السلف في هذا، ولذا قال: (ومن أصاب من ذلك شيئاً وستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) فدخل في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

الحقوق المتعلقة بالقتل

واعلم أن القتل تتعلق به حقوق ثلاثة:

الحق الأول: حق الله جل وعلا، فهذا القاتل قد تعدى حدود الله بإتيانه ما نهى الله عنه من قتل النفس المعصومة، وهذا الحق يزول بالتوبة أو المغفرة؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهو غافر الذنب وقابل التوب، أي: غافر الذنب وإن لم يتب صاحبه. وقابل التوب، فمن تاب ولو كان مشركاً فإن الله عز وجل يقبل توبته، وكونه غافر الذنب يعني: أنه يغفر الذنب الذي يكون دون الشرك، وإن لم يتب صاحبه؛ لأن ذلك تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، هذا هو الحق الأول.

الحق الثاني: حق المقتول، وحق المقتول إذا تاب القاتل يكون برفعة درجته في الآخرة، فيرفع الله درجة هذا القتيل، ويكفر عنه سيئاته.

وإذا لم يتب القاتل فإن المقتول يأخذ من حسناته، أو يضع هذا القتيل من سيئاته إلى سيئات هذا القاتل.

الحق الثالث: وهو حق الأولياء، وحقهم يكون بالقود أو الدية، قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعطى أو يقاد) يعني: إما أن يعطى الدية أو يقاد له من القاتل، فيكون له القصاص، فهو بخير النظرين، إن شاء أخذ الدية، وإن شاء اقتص من قاتل وليه.

هذه الحقوق الثلاثة كلها تترتب على قتل النفس التي حرم الله.

حق التخيير بين القصاص والدية في القتل العمد واستحباب العفو

إذاً: العمد كما تقدم يكون بأن يقصد الجاني آدمياً معصوماً بما يقتله غالباً، وهو يوجب القصاص، وقد ذكر هنا أن الولي مخير؛ للحديث المتقدم، وظاهره أن الخيار للولي ولو اختار المقتول قبل موته القصاص، واختار شيخ الإسلام تحتم القصاص إذا اختاره المقتول، وهو قوي، فهذا رجل قتل، وقبل أن تخرج روحه قال: أنا لا أرخص في قبول الدية، ولا أقبل إلا القصاص من قاتلي، فيتحتم على ذلك القتل؛ وذلك لأنه أولى بحقه من أوليائه.

قال: [ وعفوه مجاناً أفضل ]، أي: إن عفا الولي عفواً مطلقاً فقال: لا قصاص ولا دية، فهذا هو الأفضل، قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237].

وقد روى الخمسة إلا الترمذي : (أن النبي عليه الصلاة والسلام ما أتي بشيء من القصاص إلا أمر فيه بالعفو).

فالعفو أفضل، ولكن ليس كل عفو في القود، أو في قتل النفس أفضل، إنما يكون أفضل كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان متضمناً للعدل؛ لأنه لا يكون إحساناً إلا مع العدل، فإذا ترتب عليه ظلم وترتب عليه ضرر فإن العفو لا يكون من الإحسان بل هو من الإساءة فلا يؤمر به.

هذا رجل قد صارت النفوس عنده رخيصة، وقد قتل سابقاً، ثم إنه اعتدى الآن وقتل نفساً أخرى، فإذا عفي عنه فقد يعتدي مرة ثالثة ويقتل، فهذا الأفضل ألا يعفى عنه، وليس من الإحسان، ولا من العدل أن يعفى عنه.

كذلك: إذا ترتب على ذلك ظلم في المجتمع، كما يحصل في بعض القبائل، فيقولون: إنا إذا عفونا فإنا نقطع أن من أبنائنا من لا يرضى بهذا العفو، وقد يعتدي بالقتل ويزيد، ويقولون: إن حقنا لا يحفظ إلا بذلك، فإذا علم ذلك ورأينا المصلحة في ترك العفو، فإن العفو حينئذ لا يكون مستحباً ولا يكون مأموراً به.

إذاً: إنما يكون العفو مستحباً تبعاً للمصلحة؛ لأنه لا يكون إحساناً إلا مع العدل، لكن إذا ترتب عليه ظلم ورخصت معه الدماء وكثر الاعتداء، وقد يؤدي إلى حروب بين القبائل أو نحوها؛ فإن هذا لا يؤمر به.

قتل الجماعة بالواحد

شرط قتل الجماعة بالواحد

قال المصنف رحمه الله: [ فلو تعمد جماعة قتل واحدٍ قتلوا جميعاً إن صلح فعل كل واحد منهم للقتل ].

أي: لو اجتمع زيد وعمرو وبكر على قتل فلان؛ فإنهم يقتلون به جميعاً ولو كانوا مائة، وذلك في حالتين:

الحالة الأولى: أن يصلح فعل كل واحدٍ منهم للقتل، يعني: إذا نظرنا إلى فعل زيدٍ منفرداً رأيناه صالحاً للقتل، وإذا نظرنا إلى فعل عمرو وحده منفرداً رأينا أنه يكفي في القتل العمد العدوان، وإذا نظرنا إلى فعل بكر وحده رأيناه كذلك، فهذا يوجب القصاص على الثلاثة.

اجتمع ثلاثة ومعهم سلاح فرموه، هذا رماه في رأسه، وهذا رماه في قلبه، وهذا رماه في بطنه، فهنا نجد أن فعل كل واحدٍ منهم يصلح للقتل لو انفرد، وعلى ذلك فيقتلون جميعاً.

فإن كان فعل كل واحدٍ منهم لا يصلح للقتل لم يقتل أحدٌ منهم، كما لو اجتمعوا عليه بالسياط، هذا ضربه سوطاً وهذا سوطين، وهذا ثلاثة، وهذا أربعة؛ حتى جلدوه ألوف السياط حتى مات، فهنا فعل كل واحد منهم لا يصلح للقتل، فلا يقتل أحد منهم به.

وإن كان فعل بعضهم يصلح قتل به، كما لو أن أحدهم قطع يديه، والآخر أجهز عليه فقتله، فيقتل به الآخر، وأما الأول فإن في فعله الدية.

الحالة الثانية: أن يكون فعل كل واحد منهم منفرداً لا يصلح للقتل، لكن كان هناك تمالؤ على قتله، بأن كانوا قاصدين بهذا الفعل القتل، فإنهم يقتلون به، وهذا لا يعرف إلا ببينة أو إقرار.

فمثلاً: اجتمع عشرة رجال فقالوا: نحن نريد قتل فلان، ولو قتلناه بسيوفنا لقتلنا به، إذاً: ماذا نفعل؟ قالوا: نقتله بأحجار صغيرة، فكل واحد منا يأخذ كذا من الأحجار التي لا تصلح بمفردها للقتل، أي أنه إذا نظر القاضي إلى فعله منفرداً فإنه لا يحكم عليه بالقتل، ولكنهم يريدون قتل الرجل، فقد تمالئوا على ذلك، فإنهم يقتلون به، وإنما يعرف ذلك بإقرارهم أو ببينة. ونحن نقول هنا بالقصاص؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى رد ودفع القصاص.

وقد جاء في البخاري : أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل، قال رضي الله عنه: (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به).

أما الدية فهي واحدة، إذا عفا الولي، ولا نوجب على كل واحد منهم دية، وإنما هي دية واحدة.

لكن إن قال: لا أعفو حتى يدفع لي كل واحد من الجناة دية، وتراضوا على ذلك، فهذا صلح عن الدم، والصلح عن الدم يجوز لو بأكثر من الدية.

فلو قتل زيد عمراً وثبت القصاص، ثم إن الولي قال: أنا لا أعفو إلا بكذا وكذا من المال، وذكر أضعاف الدية، ورضي القاتل، فلا بأس بذلك، وهو صلح عن الدم، وهو جائز.

وأما قتل الخطأ فالدية فيه محددة من الشرع كما سيأتي تقريره، فلا يزاد فيها.

حكم من جرحوا المقتول جراحات مختلفة

قال المصنف رحمه الله: [وإن جرح واحد منهم جرحاً والآخر مائة فسواء].

يعني: لو أن أحدهما جرحه جرحاً قاتلاً واحداً، والآخر جرحه مائة جرح قاتل، هذا فعله يصلح للقتل، وهذا فعله يصلح للقتل، لكن أحدهما أشد، لأن هذا أخذ السكين فطعنه مرة واحدة، وهذا أخذ السكين وطعنه مائة مرة؛ فإنه لا فرق، هذا عليه القود وهذا عليه القود.

حكم من قطع سلعة خطرة من شخص فمات من ذلك

قال المصنف رحمه الله: [ ومن قطع أو بط سلعة خطرة من مكلفٍ بلا إذنه، أو من غير مكلفٍ بلا إذن وليه فمات، فعليه القود ].

من قطع أو بط -أي: شرط- سلعة خطرة. يعني: يكون هناك مثل القرحة الظاهرة تجتمع زائدة في موضع، فيأتي شخص ويشرطها، فمثلاً: وجد قطعة متدلية في بطن شخص أو في يده أو نحو ذلك فقطعها فمات، فما الحكم؟

قال هنا: إن كان هذا الميت مكلفاً وقد شرط منه هذا بلا إذنه؛ فإن عليه القود إلا أن يرضى الولي بالدية أو يعفو مجاناً، وإن كان من غير مكلف بلا إذن وليه فكذلك.

إذاً: المكلف لا بد من إذنه في شرط هذه، وأما غير المكلف فلا بد من إذن وليه.

القسم الثاني من أقسام القتل: شبه العمد

ضوابط القتل شبه العمد

قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: شبه العمد، وهو أن يقصده بجناية لا تقتل غالباً، ولم يجرحه بها ].

هذا شبه العمد، جاء في سنن أبي داود وغيره: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل العصا والسوط مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها).

وجاء في الصحيحين: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بحجر في بطنها فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام في الجنين بغرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على العاقلة).

هذا شبه عمد، فما هو ضابطه؟ قال المؤلف هنا: [ أن يقصده بجناية لا تقتل غالباً ].

إذاً: قصد الجناية مشترك بين العمد وشبه العمد، فقد قصد الجناية، ولم يكن قد ظن المجني عليه صيداً أو ظنه هدفاً، بل قصد الاعتداء على هذا الشخص، فهذا محل الاشتراك بين قتل العمد وشبه العمد، لكن هنا ذكر أنه قصده بما لا يقتل غالباً كالعصا والسوط، فإن العصا والسوط لا يقتلان غالباً، أو أن يغرز إبرة في يده، أو أن يلكزه في بطنه بيده، ونحو ذلك، فهذا لا يقتل في الغالب.

لكن إن كان هذا الشخص مما يقتله هذا في الغالب، أو كان الموضع موضعاً قاتلاً في الغالب، كما لو ضربه بعصا في مكان من الرأس هو مقتل، فهذا يقتل غالباً، نعم العصا لا يقتل في الغالب، لكن هذا الموضع إذا ضرب بالعصا يقتل في الغالب.

لو غرز إبرة في قلبه فذلك يقتل غالباً، مع أن الإبرة في الأصل لا تقتل غالباً لو غرزت في موضع آخر. أما في هذا الموضع فإنها تقتل غالباً.

جلد مائة سوط لا يقتل غالباً، لكن لو كان مريضاً شديد المرض فإن هذه تقتله غالباً.

إذاً: ننظر إلى الآلة والفعل، وننظر كذلك إلى الموضع أو الشخص، لنعرف هل هذا يقتل غالباً أو لا يقتل غالباً؛ فإذا كان لا يقتل غالباً وقد تعمد الجناية فإن هذا يكون شبه عمدٍ، وقتل شبه العمد كما تقدم لا قصاص فيه، لكن الدية فيه مغلظة أغلظ من قتل الخطأ، ولذا جاء في الحديث: (أن فيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها).

حكم الجرح بما لا يقتل غالباً

وقول المؤلف: [ ولم يجرحه بها ] هذا قيد، ومعناه: أنه لو جرحه بما لا يقتل غالباً فإن هذا عمد، فلو أخذ إبرة أو مشرطاً لا يقتل في الغالب، لكن خرج منه دم، ولو كان الجرح يسيراً فمات، فمقتضى المتن أن هذا يكون عمداً.

إذاً: الجرح هنا ولو كان يسيراً مؤثراً، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أن العبرة بكون فعله لا يقتل غالباً سواء جرح أم لم يجرح، وهذا أصح؛ لأن المؤثر هو كون هذا لا يقتل غالباً، أما كونه يجرح أو لا يجرح فهذا ليس بمؤثر خلافاً للمشهور في المذهب.

قال المصنف رحمه الله: [ فإن جرحه ولو جرحاً صغيراً قتل به ].

يعني: غرز فيه شيئاً حاداً لا يقتل غالباً فخرج دم ومات فإنه يقتل به؛ لأن هذا وإن كان لا يقتل غالباً لكنه جرح، والراجح كما تقدم: أن الضابط هو كونه لا يقتل غالباً سواء جرح أم لم يجرح.

القسم الثالث من أقسام القتل: القتل الخطأ

قال المصنف رحمه الله: [ الثالث: الخطأ، وهو أن يفعل ما يجوز له فعله من دق أو رمي صيد أو نحوه، فيبين آدمياً معصوماً، ففي القسمين الأخيرين الكفارة على القاتل، والدية على عاقلته ].

النوع الثالث: قتل الخطأ، وهو: أن يفعل ما له فعله، يعني: ما يجوز له فعله، كأن يرمي صيداً، أو يقصد هدفاً يتمرن به على الرمي، فهو يفعل ما يجوز له فعله، ولم يقصد الجناية.

إذاً: الفرق بين هذا القسم والقسمين اللذين قبله هو قصد الجناية، فهنا قاتل الخطأ لم يقصد الجناية، وأما قاتل العمد وقاتل شبه العمد فإنه قد قصد الجناية.

فقاتل الخطأ إنما أراد هدفاً أو أراد صيداً ونحو ذلك، أو كان يقود سيارته ولا يقصد الجناية، لكن لو حرف السيارة قاصداً الاعتداء على أحد من المشاة فإن هذا قصد في الجناية.

إذاً: قتل الخطأ ليس فيه قصد للجناية، ولذا قال: (أن يفعل ما يجوز له فعله من دق لشيء) أي: يريد أن يدق شيئاً، أو يرمي صيداً ونحو ذلك، أو ينقلب وهو نائم، كالأم تنقلب على وليدها وهي نائمة، فهذا هو قتل الخطأ، وهذا لا قصاص فيه، والدية فيه مخففة.

إذاً: ضابط قتل الخطأ هو: أن لا يقصد الجناية، بل يفعل ما يجوز له فعله، لكن فعله هذا يقتل إنساناً.

وقول المؤلف هنا: [ أن يفعل ما يجوز له فعله ] يفهم منه: أنه إذا فعل ما لا يجوز فعله، وإن لم يقصد الجناية؛ فإنه لا يكون قتل خطأ، ويتضح هذا بمثالين:

المثال الأول: رجل قصد أن يرمي شاة أو ناقة لمعصوم، فليس له أن يفعل ذلك، فمثلاً هذا رجل له مزرعة، فأتت الإبل لتدخل مزرعته، فأخذ سلاحه ورمى هذه الإبل، فليس له أن يفعل ذلك، ولكنه فعل فأصاب الراعي.

المثال الثاني: هذا رجل بينه وبين زيد من الناس مشكلة، فرفع السلاح يريد أن يقتله، ثم إن هذا الذي يراد قتله لم تصبه هذه الرصاصة، وإنما أصابت شخصاً آخر فقتلته.

فهو لم يقصد القتل بعينه، وإنما قصد الآخر، لكنه ليس له أن يفعل ذلك.

ففي المثالين جميعاً يكون قتله قتل عمدٍ، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد كما في المنتهى.

وفي الإقناع أن هذا خطأ في المثالين جميعاً، والذي يترجح لي التفصيل، أما في قصد الحيوان، فالذي يقوى أنه يكون قتل خطأ، وأما في قصد الآدمي فإنه يكون عمداً؛ لأنه قصد قتل نفسٍ فأصاب غيرها، وهذا نظير هذا.

وقول المؤلف: [ ففي القسمين الأخيرين الكفارة على القاتل، والدية على عاقلته ]، معناه أن الكفارة على القاتل في القسمين الأخيرين، يعني: في شبه العمد، وفي قتل الخطأ، وإن كان القاتل صبياً.

وعمد الصبي والمجنون يعد خطأً، وعلى ذلك فتكون الكفارة في ماليهما.

أما الدية فتكون على العاقلة، ويأتي شرح العاقلة إن شاء الله، فلا يؤخذ من ماله، وإنما يؤخذ من عاقلته، فمن قتل شبه عمدٍ أخذت الدية من عاقلته كما تقدم في قصة الهذليتين، وكذلك من قتل خطأً فلا تؤخذ من ماله، وإنما تؤخذ من عاقلته، وأما من قتل عمداً فإنها تؤخذ من ماله.

أحكام الآمر والمأمور بالقتل

حكم من أمر غيره بقتله

قال المصنف رحمه الله: [ ومن قال لإنسان: اقتلني أو اجرحني فقتله أو جرحه لم يلزمه شيء ].

هذا رجل قال لآخر: يا فلان! اقتلني. أو قال: اجرحني، وهناك بينة تشهد بذلك، أو إقرار من المجني عليه قبل موته، كأن قال: أنا الذي أمرته، فهنا يقول: إنه لا يقتل به، كما لو أمره أن يحرق ماله، أو أن يرمي متاعه في البحر؛ فإنه لا يضمن، فكذلك هنا لا يضمن النفس؛ لأن هذا قد أذن له بقتل نفسه، وظاهره: ولا كفارة عليه، وهو المذهب.

وقال بعض الفقهاء من الحنابلة: بل عليه الكفارة مع الإثم، وهذا هو الراجح؛ لأنه لا يجوز له أن يطيعه في ذلك، لكن هل يقتل به؟ لا يقتل به.

فلو أن رجلاً قال لآخر: اقتلني، أو اجرحني، فلا ضمان عليه؛ لأن هذا قد أذن له، لكنه يأثم؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه حتى يأذن بالقتل، ولذا نقول: إن هذا القاتل يأثم وعليه الكفارة، لكن ليس عليه قصاص ولا دية؛ لأن هذا قد أذن له في قتل نفسه.

حكم من دفع لغير مكلف آلة قتل ولم يأمره بالقتل أو أمره

قال المصنف رحمه الله: [ وكذا لو دفع لغير مكلف آلة قتل ولم يأمره به ].

يقول: لو دفع لغير مكلف آلة قتل كأن يعطيه بندقية، أو يعطيه مسدساً، ولم يأمره بالقتل، كأن حصلت مشاجرة بين أطفال، فأتى الأب وأعطى ابنه المسدس، ولم يقل له: اقتله به.

لكن إن كان هناك ما يدل على أنه أراد منه القتل فهذا أمر له في الحقيقة، فكأنه يقول: اقتله به، فهو آمر، لكن إذا أعطاه المسدس ولم تكن هناك قرينة أمر، ولم يأمره بالقتل صراحة؛ فإنه لا يقتل بذلك.

أما الصبي فعمده -كما تقدم- خطأ.

فإن أمره بالقتل فعليه القصاص، وذلك كما لو قال للصبي: خذ هذا المسدس واقتل فلاناً، فهذا الصبي غير مكلف، وكذلك لو كان مجنوناً، ولا فرق في الصبي بين أن يكون صبياً غير مميز أو صبياً مميزاً دون البلوغ؛ فإن الآمر هو الذي يقتل بذلك، ما دام المأمور غير مكلف؛ لأنه يكون كالآلة.

إذاً: إذا دفع لصبي أو لمجنون سلاحاً ولم يأمره بالقتل، ولم تكن هناك قرينة أمر؛ فإنا لا نثبت القود في ذلك، وإن كان أمر هذا الصبي، أو أمر هذا المجنون بالقتل؛ فإنه يقتل بذلك. يعني: يثبت القصاص.

حكم من أمر مكلفاً بالقتل

أما إن كان المأمور مكلفاً، فلا يقتل الآمر، ومثال ذلك لو أنه قال لمكلف: يا فلان! اقتل فلاناً، فقتله، فإنه لا يقتل الآمر به، بل يقتل هذا المكلف المأمور؛ لأنه المباشر.

لكن إن كان قد أكرهه فقال: إن لم تقتل زيداً قتلتك، فهذا إكراه، فيقتل المكره والمكره جميعاً، هذا هو المشهور في المذهب.

أما المكرَه فلأنه ليس له أن يفدي نفسه بقتل غيره؛ لأن هذا قتل، فكيف تريد أن تأمن من القتل وتوقع غيرك به.

وأما المكرِه فلأنه متسبب كالمباشر في القوة؛ أي: لأن قوة الإكراه تجعله كالمباشر.

إذاً: هناك فرق بين الإكراه وبين الأمر المجرد من الإكراه، فننظر في الأمر: إن كان قد توجه إلى غير مكلفٍ قتلنا الآمر، وإن كان قد توجه إلى مكلفٍ من غير إكراه قتلنا المكلف، وأما الإكراه فنقتل المكره والمكره جميعاً.

كذلك: إذا أمر بالقتل من يجهل تحريم القتل، كما لو أمر حديث عهدٍ بالإسلام وهو يجهل تحريم القتل، فيقتل الآمر.

كذلك السلطان إذا كان ظالماً فأمر بالقتل، وهذا القاتل يجهل أن السلطان ظالم؛ فإن السلطان يُقتل، وأما إذا كان القاتل لا يجهل، بل يعلم أنه ظالم فإنه يقتل هذا المأمور.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دليل الطالب كتاب الجنايات [1] للشيخ : حمد الحمد

https://audio.islamweb.net