إسلام ويب

لقد وصف الله عز وجل الجنة في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وصفاً يشد من الهمم، ويضاعف من العزائم، ويزهد من الدنيا، ويجعل العبد يشتاق لما عند الله من النعيم السرمدي الأبدي، ومهما تخيل الإنسان نعيم الجنة فإنه لن يدرك حقيقته.

تجارة العبد مع الله سبحانه وتعالى

أحمد الله حمداً يوافي نعمه علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثالثة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، وهي بمشيئة الله سبحانه الحلقة الثانية عن الجنة.

أيها الإخوة الأحباب! الحديث عن الدار الآخرة يرقق القلوب الجامدة، ويجعل العيون التي لم تتعود على البكاء من قبل تذرف الدموع، وذلك عندما تتفكر أن صاحبها سوف يقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهذه الدروس تذكر الإنسان بالحقيقة الأساسية: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

ويؤتى بالموت على هيئة كبش بين الجنة والنار ثم ينادي: ما هذا يا أهل الجنة؟ ما هذا يا أهل النار؟ فيقول الفريقان: هذا هو الموت الذي كنا نخاف منه، فيؤمر بالموت فيذبح، ثم ينادي المنادي من قبل العلي الأعلى جل في علاه: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، يا أهل النار! خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار غماً وكمداً وحزناً، اللهم اجعلنا مع الذين رضيت عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، آمين يا رب العالمين!

هذه الدروس إن لم تخفك من الله فلا فائدة فيها، هذه الدروس إن لم تقربك إلى الله، وتجعل قلبك رقيقاً لمجالس العلم، رقيقاً لكلام الله، محباً لطاعة الله عز وجل، محباً لأهل الله عز وجل، محباً للسائرين في طريق الله سبحانه فلا خير فيها، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحبك كل عمل يقربنا إلى حبك يا رب العالمين.

وكل شيء له مفتاح، والجنة لها مفاتيح، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يحدثنا فيما رواه أبو نعيم والإمام أحمد في مسنده وصححه الحاكم ، حيث قال: (إن لله عباداً مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ومن العباد عباد مغاليق للخير، مفاتيح للشر، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، ويا بؤس عبد جعله الله مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).

فهناك أناس معهم مفاتيح الخير يفتحون بها قلوب الناس، وهناك أناس والعياذ بالله رب العالمين معهم مفاتيح يغلقون بها أبواب الخير على عباد الله، ويفتحون لهم أبواب الشر، وأيضاً يحدثنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تشم منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثوبك، وإما أن تشم منه ريحاً خبيثة)، ولذلك من فضل الله عز وجل -وهو الستار الحليم- أنك تصنع الذنب وتخرج أمام الناس فيرونك ولا يدركون ولا يعلمون من أمر ذنبك وسيئاتك شيئاً.

يرونك في المسجد ويظنونك ملكاً من الملائكة، وصالحاً من الصالحين، وعالماً من العلماء، يظنونك محباً لأهل العلم وربما كان في قلبك غير ذلك، وربما هذه الرؤية تجعل الغير يدعو لك بالخير، فيجعل الله لك في هذه الدعوة الخير كله، فالإنسان لا يدري من أين يأتيه الخير، وربما دعوة مسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب يستجيب الله له، فيهدي الله عز وجل الاثنين إلى طاعته ورحمته.

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا يا ربنا واصرف عنا شر ما قضيت، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.

والإنسان المسلم بفضل الله عز وجل مفاتيح الخير لا تسبب له قلقاً؛ لأن مفاتيح الخير لا تكلف شيئاً؛ لأن الله عز وجل يقول في سورة التوبة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

هذه الآية فيها أحد عشر لوناً من ألوان البلاغة، وألوان الأوامر، وألوان الفضل الإلهي:

قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى [التوبة:111]، بدأت الآية بحرف التوكيد (إن)، وذكرت اسم المشتري: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى [التوبة:111]، ولفظ الجلالة (الله) هو اسم إن، فالله هو المشتري، و(اشترى) هذا فعل ماض، فالله قد اشترى بفضله سبحانه.

ثم ذكر البائع فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:111] اللهم اجعلنا منهم يا رب! أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] الأنفس والأموال أعطاها لك الله ثم هو يشتري منك ما منحك بدون مقابل، أعطاك الله الجسد والروح، والدورة الدموية، والدورة التنفسية، والعقل، والفكر، والمشاعر، والعواطف، والأحاسيس، والود والرحمة، والمحبة، والإخلاص، كل هذا أعطاه لك ربنا، وأنت ماذا أعطيته عندما أعطاك هذا؟!

إذاً: الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين شيئاً قد وهبه لهم بدون مقابل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، المال أيضاً هو من مال الله، لكن الناس مالوا بالمال عن حقيقة المال، وقلنا: في اللغة سمي المال مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق، معاملتك مع أخيك المسلم تكون جيدة، فإذا دخل المال فيها مالت علاقتك معه؛ لأن المال يميل بالقلوب إليه، المال تميل إليه القلوب والنفوس بطبيعتها، ولذلك يقول سيدنا علي:

النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبتفجميع ما في الأرض لا يكفيها

ولذلك وقف الإمام الشافعي رضي الله عنه لما سافر إلى سيريلانكا -سيلان اليوم- وقال:

أمطري لؤلؤاً سماء سرنديبوأفيضي آبار تكرور تبراً

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا

لأنه يعلم أن الرزاق هو الله، وأن المانح هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المعز هو الله، وأن المذل هو الله، ولا شيء إلا الله، فوحد الله وعبده، وسار في طريق الله، فكانت عنده عزة إلا في الصلاة، تنحني جبهته أمام عظمة الله، ويتواضع أمام ربه وأمام المسلمين، لكن في غير ذلك كان رأسه في السماء بعزة المؤمن، فهو مع الكافرين عزيز بعزة الله له؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إذاً: الله سبحانه وتعالى رزقك المال بدون أن تعطيه مقابلاً، ثم أراد أن يشتري منك، والبيع دائماً يكون فيه مكسب للطرفين -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل سوف يشتري منك النفس والمال وهو لمنفعتك والله غني عنه، يقول الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] كلنا فقير إلى الله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا.

يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.

يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسأل كل واحد منكم فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إذاً: كلهم جائع إلا من أطعمه الله، وكلهم عار إلا من كساه الله، وكلهم ضال إلا من هداه الله، فلو أن الكل أطاع الله ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، ولو أن الكل عصى الله عز وجل ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، ثم قال الله عز وجل: لو أن الجميع قد وقفوا في صعيد واحد، وكل واحد سأل الله مسألة، فأعطى كل واحد مسألته، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً أن يعطي كل سائل مسألته!

إذاً: ما الفائدة التي تعود على المشتري في هذه الحالة بأن اشترى رب العباد سبحانه نفسك ومالك؟

الجواب: ليس له فائدة عائدة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] أي: التي رزقهم الله إياها.

وقلت من قبل: لو أنك عبدت الله مائة عام متواصلة، وربنا يكافئك بدل المائة العام في الدنيا مائة عام في الجنة، ثم ضاعف السنوات إلى عشرة أضعاف؛ لأن الحسنة عنده بعشر حسنات، ثم يضاعفها لك إلى سبعمائة ضعف، فتكون سبعين ألف سنة، ثم مكثت في الجنة سبعين ألف سنة ثم بعدها أين ستذهب؟ لا أكرم من الله، ولا أحن من الله عز وجل، فهو حنان منان يجود على العباد دون أن يسأل.

إذاً: أعطاك الجنة مقابل أن بعت له نفسك ومالك، قال تعالى: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، كيف سيحصلون عليها؟ قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].

قالت إحدى الصحابيات الجليلات: يا رسول الله! ابني الذي استشهد معك في أحد أفي النار هو فأبكيه، أم في الجنة فأصبر؟! إن كان في النار فهو يستحق البكاء؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة، لكن لو كان في الجنة فإنها ستصبر؛ لأن الله أبدله من الدنيا ما هو خير.

فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو في الفردوس الأعلى) اللهم ألحقنا بهم يا رب العالمين! قال تعالى: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111] لم يعد وعداً مطلقاً، بل أكد هذا الوعد فقال: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111]، أين هذا الوعد؟ في الكتب المنزلة من التوراة، والإنجيل، والقرآن ثم قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أي: لا أحد أوفى بعهده من الله، ثم في الآخرة يبشر المؤمنين فيقول: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111] يعني: الذي باع وتاجر مع الله سلم نفسه والمال لله فليستبشر: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] اللهم اجعلنا من أهل الفوز العظيم يا رب العالمين!

مفاتيح الإيمان وحياة القلب

من مفاتيح الإيمان التفكر في مخلوقات الله

إذاً: الإيمان له مفتاح، ومفتاحه التفكر في كل شيء.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

أصحاب الهندسة المكنيكيه يقولون: أصعب اختراع في الآلات الآلة الماسكة، وهي التي تشبه يد الإنسان، فالله جعل للعبد أربع أصابع في اتجاه واحد، وإصبعاً يرجع عليها في اتجاه آخر، قال تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] هناك تفسير يقول: الله عز وجل برحمته جعل لك أصابع متفرقة وكان الله قادراً أن يجعلها لك مثل خف الجمل لا تستطيع أن تمسك بها، لكن عمل كل أصبع لوحده؛ حتى تقدر على الحركة، وجعل لكل إصبع بصمة تختلف عن البصمة الأخرى.

يوجد ملايين البشر بصماتهم غير متشابهة ولا متماثلة، فسبحان الذي خلق، وسبحان الذي صور، وسبحان الذي أبدع؛ لأن هناك جماعة منحرفين يقولون: يوجد تناسخ أرواح في الأبناء والأحفاد والأجيال، يعتقدون أن الأرواح قد انتهت فلا يوجد فيها جديد، يقول تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] وخزائنه لا تنفد!

الإنسان عليه أن يتفكر في نفسه وجسمه وبدنه الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، قال الشاعر:

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

ولذلك قال سيدنا علي :

والله لا موسى ولا عيسى المسيح ولا محمد

كلا ولا النفس البسيـ ـطة لا ولا العقل المجرد

بل أنت يا رسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلّد

من أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد

فدنى فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد

التفكر في ذات الله هلاك، ولكن التفكر في رحمة الله وفي صفاته وفضله وعظمته وقدرته مفتاح الإيمان، انظر إلى هذه الرياح كيف تنقل حبوب اللقاح! وتأتي رحمة الله، وتحرك السحاب من أرض إلى أرض فنزل المطر، والرياح تسير المركب في البحار والأنهار، كل هذه من نعم الله فلنشكر ربنا عليها.

مع أنه يجب أن نشكر الله عليها؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يشكر الله إلا على نعمة خاصة به، وكما قلت لكم من قبل: إن الله عز وجل يقول: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19] قال أهل العلم: لو أعطيت مفاتيح الجنة لأحد المؤمنين لأقفل الباب وراءه؛ لأنه بطبيعته طماع، يحب الخير لنفسه، لكن من رحمة الله أن الملك يومئذ لله، فالمؤمن عندما يرى النعيم ينشرح صدره، ويخاف عندما يعصي الله، ويرجو الله عندما يطيع، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] اللهم اجعلنا من الذين يحذرون الآخرة، ويرجون رحمتك يا رب العالمين!

فساعات التفكر هذه مفاتيح للإيمان، ولذلك المسلم يتفكر في نفسه أولاً، ثم يتفكر في مخلوقات الله وهذا باحث في عالم الحشرات، قعد مع النمل سبع سنين فكان يضع للنمل كل نوع من أنواع الحبوب فتكسر النمل الحبة نصفين؛ لأن أي حبة لو مكثت تحت أي ظروف من بخار ماء لنبتت، فالنملة عندما تدخل الحب في الجحر، أول ما تأخذه تكسره إلى نصفين، لكن هناك نوع يشذ عن جميع أنواع الحبوب في كيفية تكسيره هو حبوب الكزبرة، وضع لها الباحث حبة الكزبرة فوجد أن النمل تقسم الحبة إلى ثلاثة أقسام، من الذي علم النملة هذا الفعل؟ لم تدرس النمل في أي كلية أكاديمية أو علوم أو طب أو زراعة، وإنما الذي علمها هو الله سبحانه، ولذلك استغرب هذا الباحث وقال: لعل النمل تعلمت هذا الفعل من آبائها، بحكم الوراثة في المعرفة، فحاول أن يعزل مجموعة من النمل لم تعرف آباءها ولا أمهاتها، فجعلها في مكان لوحدها، ثم جعل يعطيها حبوب الكزبرة، وإذا بالنمل يكسرها إلى ثلاثة أكسار، فهو يتحدث عن نفسه قائلاً: لم نصل إلى معرفة هذا السر، ولم يعلم أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولذا قال فرعون لموسى وهارون في سورة طه: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50].

وهناك طائر يطير وهو أعمى ولا يصطدم بالحيطان، اكتشف العلم الحديث أن له خلايا كهرومغناطيسية غير مرئية، وكل ذلك من قدرة الله أولاً وأخيراً. وتجد الثعبان له عضلات يمشي بها على الأرض، وله أكل معين، وحياة معينة، والحشرات لها حياة معينة، والدود في الأرض، والضفادع وغيرها من الكائنات.

أما البحار فهي عالم آخر، جعل الله البحر مالحاً؛ لأنه توجد فيه من الكائنات البحرية آلاف الملايين وهي تموت فيه، والملح الذي في باطن البحر يحفظ هذه الكائنات الحية التي تموت، فلا تخرج منها روائح كريهة، ولو لم يكن في البحر والمحيط ملح لمات أهل الأرض جميعاً من نتن رائحة البحر، فهذه نعم تستوجب الشكر والتأمل، اللهم اجعلنا من المتفكرين يا رب العالمين!

تدبر القرآن

أول مفتاح يبعث على حياة قلبك الإيمانية هو التدبر في كتاب الله، واسمعوا إلى مؤمن آل فرعون عندما قال: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]، هذا خطاب أهل العلم، وخطاب الرسل كلهم، ومن يحمل رايتهم: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]، يقول لهم: تعالوا أهدكم سبيل الرشاد، وقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32]، وقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ [غافر:29]، أنتم اليوم عظماء وملوك على الكراسي، ولكن يوم القيامة من ينفعكم؟

قلنا: الأم تنادي ابنها يوم القيامة قائلة: يا بني! كان بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء، هل من حسنة تنفعني بها هذا اليوم؟ فيقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، ولكن هل عندك أنت من حسنة تنفعني؟

ويقول الابن لأبيه: يا أبت! كنت باراً بك، وشفوقاً بك، ورحيماً بك ألا من حسنة؟ فيقول له: يا بني! أنا أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟

ثم يفتدي المرء نفسه بأقاربه قائلاً: خذ أبوي خذ أولادي، خذ امرأتي، حتى الأنبياء يقولون: نفسي نفسي! إلا سيدنا محمداً فإنه يقول: يا رب أمتي! يا رب أمتي!

قام صلى الله عليه وسلم ليلة بآية يقرؤها ويبكي حتى أذن الفجر وهي قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فأرسل الله جبريل فنزل عليه وقال: يا محمد! ما يبكيك؟ قال: (من لأمتي من بعدي يا جبريل)، وهذا رواه الإمام أحمد ، ورواية الإمام مسلم : (لن يحن عليكم من بعدي إلا الرحماء من أمتي)، الناس الذين يجالسون العلماء في مجالس العلم، ويحبون أهل الخير، هؤلاء هم الذين سيرحمون الأمة، أما الذي يظهر في التلفاز يرقص ويضيع صلاة الظهر والعصر ومشغول بالسهرة في الماء ويومه كله ضاع في نظرة وفي كلمة وفي سيئة وفي غيبة ومشاهدة للبطل والبطلة؛ لأنه مفتاح للشر مغلاق للخير فهذا لن يرحم أحداً، وإنما يسن سنة سيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يخرج قبل الفجر يتفقد الرعية، فبينما هو يمشي إذ سمع قارئةً للقرآن تقرأ أول سورة الطور إلى أن بلغت قول الله عز وجل: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، فأغمي عليه، حتى إن الصحابة عادوه أياماً.

إذاً: مفتاح حياة القلب تدبر القرآن، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] القرآن فيه كل ما يحتاجه الناس، قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، كل شيء موضح في القرآن، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم لا يخلق من كثرة الرد، عندما تقرأ سورة سيدنا يوسف تحلو كل ما قرأتها، وتزداد حلاوة كل مرة تقرؤها.

إن عبداً من بني إسرائيل عبد الله خمسمائة عام، ثم جيء به، فقال الله لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا يا رب ادخل الجنة بعملي، فقال الله لملائكته: زنوا له أعماله، فوزنوا أعماله، ثم وضعوا أعماله في كفة ونعمة البصر في كفة، فوجدوا أن نعمة البصر رجحت على أعماله، فصار مديوناً لله فقال: أدخلوا عبدي جهنم، فقال: لا يا رب! أدخل الجنة برحمتك! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً غرتهم الأماني، يقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).

من مفاتيح الإيمان التضرع في الأسحار

كذلك التضرع في الأسحار، الذي يقوم في وقت السحر، وقد نامت العيون، وهدأت النفوس، وخلا كل حبيب بحبيبه، وخلا أحباء الله بربهم وحبيبهم، في هذا الوقت والسماء صافية تكون الأبواب مفتوحة، والله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل في وقت السحر، فالمسلم لا ينبغي له أن يضيع وقته هباءً منثوراً، فلا يضيع الليل كله في النوم، قال تعالى: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] السحر وقت من الأوقات التي يتجلى الله فيها على عباده، وإن عز المؤمن وشرفه قيام الليل، ولأجل أن يطيب قلبك ويحيا قم من الليل ولو قليلاً، عود نفسك على صلاة ركعتين، ثم صلاة أربع ركعات، ثم يفتح الله عليك بجزء من القرآن في ثمان ركعات، ثم بجزئين من القرآن في عشرين ركعة، ثم ثلاثة أجزاء من القرآن، وهكذا تترقى في العبادة؛ ولذلك مر رجل من التابعين على صديق له بجوار بيته في الثلث الأخير من الليل، فما سمع صوتاً، فلما لقيه في الفجر قال: يا فلان أكان البيت نائماً قبل الفجر؟ قال: نعم، ما استيقظنا إلا عند صلاة الفجر، فقلب كفيه وقال: عجباً لمسلمين ينامون طوال الليل.

إذاً: قيام الليل نور المؤمن، يقول أحد السلف: رأينا الحسن البصري وعليه نور وكان رجلاً أسمر، وإذا به كل يوم عليه هالة من النور! قال: فقلت: يا حسن ! عهدناك آدم البشرة فما هذا النور الذي علاك؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا ربنا من جماله وجلاله.

سلكوا الخط ودخلوا على باب الله الذي ليس له بواب فدخلوا إلى الله عز وجل؛ فأكرمهم برحمته، اللهم أكرمنا معهم يا رب العالمين!

إذاً: مفتاح حياة القلوب تدبر القرآن، والتضرع في السحر؛ لأن الله تعالى قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، ادع الله يا رب! يا رب! يا رب! ولذلك نحن سمعنا أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد ما انتهى من صلاة الصبح في المسجد نادى على شاب، وقال له: ماذا كنت تقول في الليل؟ قال: قمت الليل بآية أقولها وأبكي: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... [النمل:62] إلى آخر الآية، سيدنا الحبيب يقول له: (يا غلام! لقد أبكيت أعين كثير من الملائكة) تجاوبت السماء مع دعاء العبد؛ لأن الملائكة بطبيعتها تؤمن على دعائك، والذي أمنت الملائكة على دعائه إن شاء الله يكون دعاؤه مستجاباً.

قال تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ... [غافر:9] يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة العشاء في جماعة ونام على ذكر الله عز وجل، فلما نام ما منعه من الذكر إلا النوم، تكتب الملائكة طوال نومه أنه جالس وواقف يصلي لله) لأن النوم هو الذي عطله؛ لأنه لابد أن ينام؛ فهو بشر يحتاج إلى النوم، فتقول الملائكة: إنه لو كان صاحياً لاستمر في الذكر، ولواصل الصلاة اللهم اجعلنا من أهل قيام الليل، اللهم اجعلنا من القائمين لله بالليل، اللهم اجعلنا من القائمين لك بالليل يا رب العالمين!

مفتاح الرزق

لنأت إلى طلب الرزق وأسبابه، السبب الأول: السعي، لا تقعد في بيتك وتقول: يا رب! ارزقني، لابد من السعي الأول.

كذلك كثرة الاستغفار؛ لأن من أكثر من الاستغفار فرج الله همه، وأذهب كربه، وكشف غمه، ورزقه من حيث لا يحتسب؛ لأن سيدنا نوحاً قال لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [نوح:10] هذا الأول، يمسح الله الذنوب بالاستغفار.

ثم قال: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:11] تنزل الأمطار فتكثر الزروع والثمار، وتجري الأنهار.

ثم قال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [نوح:12]، الأموال رزق، والبنون أيضاً رزق.

ثم قال: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:12-14].

يذكرهم بنعم الله عليهم.

فإذا أردت الرزق فعليك بكثرة الاستغفار، فأنت تستغفر وأنت مستحضر للذنب الذي أذنبت، فتستغفر الله منه، وإلا كان استغفارك غير صحيح؛ ولذا قال الإمام الغزالي : استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وتوبتنا تحتاج إلى توبة، فالمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، تخيل امرأة غير محجبة تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله! وهي عريانة في الشارع! كيف سيغفر الله لها؟! وشخص من الموظفين يرتشي ويضع الفلوس في الدرج ويقول: أستغفر الله أستغفر الله!

مفتاح العزة طاعة الله ورسوله

مفتاح العز طاعة الله وطاعة رسوله، فالله عز وجل جعل لطاعته عزاً وللمعصية ذلاً، وجعل شجرة الطاعة ثمرتها كلها خير، وشجرة المعصية والعياذ بالله ثمرتها كلها شر، وأصل مفاتيح الجنة طاعة الله عز وجل، وكل عبادة لها باب في الجنة، اللهم افتح لنا أبواب جنتك يا رب، واسمع إلى وصف هذه الأبواب وسعتها! يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بين مصراعي باب الجنة كما بين بصرى إلى صنعاء)، يعني: الباب عرضه من العراق إلى اليمن، فعندما يفتح الباب تكون حلقة منه في العراق وحلقة منه في اليمن، يقول تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ [ص:50]، فهل هناك أحد يهرب من النعيم؟

لكن أبواب النار مؤصدة أي: مغلقة ومقفولة؛ لأن المعذب في النار يريد أن يهرب من العذاب فأبواب النار مغلقه؛ ولذلك يقول تعالى في سورة الزمر: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73]، وقال تعالى في أهل النار: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71]، الواو موجودة مع أهل الجنة، وغير موجودة مع أهل النار، لماذا هذا؟ نقول: الجنة محفوفة بالمكاره والمصاعب والحواجز، فالذي يتعدى الحواجز في الدنيا ويتغلب على المكاره، يكون الدخول سهلاً يوم القيامة، وتنتهي كل الحواجز والمكاره.

فالجنة حتى تصل إليها فهناك حواجز كثيرة وموانع، وأول مانع: عدم الصبر، قال الحسن البصري رضي الله عنه: الإنسان عدو للأمر، لو أمرنا الله بالجزع لصبرنا، ولكن أمرنا بالصبر فجزعنا.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75]، اصبر يا أخي على أذى المؤذين في الله.

من ثمرات الطاعة جلب الطاعة بعدها

الطاعة شجرة لها أغصان، ولها ثمار، فأول وأحلى ثمرة في الطاعة جلب الطاعة بعدها، فأنت عندما تأتي المسجد تقابل إخوانك وتقول: السلام عليكم، ثم إذا دخلت المسجد تبسمت في وجه أخيك على يمينك وشمالك يقول صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فيكتب لك حسنة، وإذا جاء المسلم إلى الصلاة وانتظر الصلاة فهو في صلاة إلى أن تقام الصلاة، يعني: أنت قاعد في المسجد والملائكة تكتب لك حسنات وكأنك تصلي وأنت قاعد.

ثم بعد ذلك تصلي جماعة فينظر الله في قلب الإمام فإن وجده صالحاً قبل صلاته وصلاة من معه، فإن لم يجد قلب الإمام صالحاً نظر في قلوب المأمومين، فإن وجد بينهم صالحاً قبل صلاة الجميع من أجله، فإن لم يجد بينهم رجلاً صالحاً، قال: يا ملائكتي! أرأيتم عبادي وقد اصطفوا يصلون من أجلي كما تفعلون؟ أشهدكم أني قبلت صلاتهم، وغفرت ذنوبهم، ورضيت عنهم ما أكرمك يا رب!

ثم بعدما ينتهي من الصلاة جلس للاستماع إلى الدرس، وعند ذلك يفاخر الله بك ملائكته قائلاً: يا ملائكتي! أنظرتم إلى عبادي وقد أدوا الفريضة وينتظرون أخرى؟! يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت لهم! فمن ثمرات الطاعة عمل طاعة أخرى بعدها!

جاء رجل إلى علي بن أبي طالب وقال له: عندي داء عضال فما دواؤه قال له: ما داؤك؟ قال: دائي البعد عن الله، قال: عليك بورق الصبر، وعروق التواضع، وماء الحب لله وضعه في إناء الخشية، وأوقد عليه بنار الحزن، وأنزل عليه ماء الخوف من الله، ثم تمضمض بالحزن والورع، وأبعد نفسك عن الشره والطمع، تشف من مرضك بإذن الله.

فهذه وصفه صعبة جداً، لكن ليجرب الواحد منا هذه الوصفة من الصيدلية الإلهية، اللهم اشفنا من أمراضنا الظاهرة والباطنة يا رب العالمين!

من ثمرات الطاعة بهاء الوجه

كذلك من ثمرات الطاعة: بهاء في الوجه.

تنظر إلى المطيع وإلى الشاب الصالح تقول: يا أخي! الواحد يحب أن ينظر إلى هذا الوجه الذي فيه نور الإيمان، لكن انظر إلى الولد المرمي في النادي طوال اليوم ترى شكله والعياذ بالله مثل الكلب تجده بحاجة إلى من يجره ويضع له رخصة: لا إله إلا الله، عاش في موسيقى وقطع صلاة ومحرمات، ترى على وجهه القترة والغبرة، لكن انظر إلى العبد الصالح تجده بشوشاً، وكلامه هادئ، وهو لطيف متواضع، سلس سهل، راضٍ قانع، غير غضبان، فبهاء الوجه من ثمرات الطاعة ورقة القلب، والإقبال على الله، والمحبة في قلوب الناس، فمن اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوه.

جاء أعرابي إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان العرب أهل فراسة فنظر إلى رسول الله وقال: أشهد أن هذا ليس بوجه كذاب، هذا إنسان صادق، ولذلك لقي الأعرابي الرسول وبيده ضب فقال: كيف حالك يا محمد؟ قال له: بخير حال، ألا تسلم يا أعرابي، قال له: ومن يشهد لك؟ قاله: صحابتي، قال: لا؛ لأنهم يحبونك، فقال له: الضب الذي في يدك، فنظر إلى الضب وجده يقول بلسان عربي مبين: أشهد أنه رسول الله!

ولقي النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً آخر وقال له: ألا تسلم يا أعرابي؟ قال له: ومن يشهد لك؟ فقال له: هذه الشجرة، ثم أمرها بأمر الله أن تأتي، فجاءت، ثم قال لها: عودي إلى مكانك بإذن الله، فقال: أشهد أنك رسول الله، فهذه المعجزات الحسية؛ وهذه أحاديث صحيحة، والرسول لا يحتاج إلى شهادة أكبر من شهادة الله له، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

وصف نعيم الجنة

إذاً: الجنة الذي يريد أن يدخلها لابد أن يجتاز الحواجز، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73]، الواو في سياق ذكر الجنة، فلابد أن يصبر المسلم على المصاعب، فيصبر على امرأته وعياله، ويصبر على جاره، ويصبر على رئيسه، ويصبر على الدولة، ويصبر على أهل السوء، فهذه كلها مصائب، قال تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] فهي تأخذ وقتاً في الفتح؛ لأن هناك مكاره؛ لأن الجنة لما قالت: قد كثر حريري وإستبرقي وقصوري ونوري وحوري وأنهاري وأشجاري وأطياري، فأرسل إلي عبادك المؤمنين، قال: لك كل مؤمن ومؤمنة لا يشرك بي شيئاً، ويؤمن بيوم الحساب فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال الله عز وجل: طوبى لك منزل الملوك! يقول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض) فكل منا لابد أن يحن إلى جنة الرضوان، ولذلك كان عمار يقول يوم وقعة صفين:

اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه

أما أهل النار فيقول الله فيهم: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71]، أي: على الباب حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] يعني: هو يمشي وفجأة فتح الباب فيرمونه فيها، ثم بعد ذلك يقول الله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32].

أما المؤمن فهو في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، آمن يوم الفزع؛ لأنه كان خائفاً في الدنيا، وإن الله لا يجمع علينا أمنين ولا خوفين، من أمنه في الدنيا أخافه في الآخرة، ومن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة، اللهم أخفنا منك في الدنيا، وأمنا يوم القيامة يا رب العالمين!

مفتاح الاستعداد للآخرة: قصر الأمل، فطول الأمل هذه مصيبة تجد العبد يؤمل إلى ما بعد عشرين أو ثلاثين سنة، سيدنا أسامة بن زيد اشترى فصيلاً من الإبل، فقال له الرسول: (ما هذا يا أسامة ؟ قال: هذا فصيل اشتريته لشهرين، فقال: أتعجبون من أسامة ؟! إن أسامة لطويل الأمل) اشتراه على سداد شهرين وإذا به طويل الأمل! فلابد أن يكون عندنا قصر في الأمل، فتشعر أنك ضيف، والضيف لابد أن يمشي، وأنه سوف يعود إلى وطنه، قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ [الفجر:27-28]، ارجعي إلى مكانك الأصلي.

إذا كنت مؤمناً وأغضبتك زوجتك أو شتمتك قالت الحور العين من زوجاته في الجنة: ويحك! عما قليل سوف يحل عندنا فيرى كل النعيم، فلا يسمع قلة أدب، ولا يسمع لساناً بذيئاً.

وقد جاء في وصف الحور العين أنها لو بصقت في البحر الملح الأجاج لحولته عذباً فراتاً، ولو أخرجت طرف أصبعها في الليل البهيم لأحالته نهاراً مشرقاً، يرى المؤمن وجهه في صفحة خدها، تقول الحور العين: (نحن الناعمات فلا نبأس أبداً، الراضيات فلا نسخط أبداً، الخالدات فلا نموت أبداً، المقيمات فلا نظعن أبداً، فطوبى لمن كان لنا، وطوبى لمن كنا له)، ويقول سيدنا الحبيب: (لولا أن الله لم يكتب الموت على أهل الجنة لماتوا من حلاوة صوت قعقعة الجنة)، يعني: صوت الضرب على باب الجنة، والله أعد في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

كذلك في قصور الجنة أبواب، الباب الأول يدخل عليك منه زوجتك من الحور العين، والباب الثاني: يدخل منه الملائكة، وقبل ما يدخلون يستئذنون عليه: يا ولي الله! معك هدية من عند الله سبحانه.

الباب الثالث: يدخل عليك منه الغلمان والخدم، قال الله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19]، فالخدام مثل اللؤلؤ في الجمال.

الباب الرابع: تدخل أنت منه على الله رب العالمين، يدخل عليك الملك ببطاقة مكتوب فيها بحروف من نور: عبدي اشتقت إليك، فيطلب المولى منك الزيارة، وبينما هم ذاهبون لزيارة الله تعترضهم السحاب فتمطر عليهم مسكاً رائحته من أطيب الطيب، ثم يقول الله عز وجل: يا ملائكتي! هؤلاء هم جيراني وعبادي، وأهلي، ووفدي، أكرموهم، وأطعموهم، فتطعمهم الملائكة فيقول الله: هل أطعمتموهم؟ فيقولون: نعم يا رب! قال: اسقوهم، فتسقيهم، ثم يقول: اكسوهم وطيبوهم، فتأتي السحاب وترش عليك مسكاً مرة أخرى، ثم يقول الله: عبادي حرموا على أسماعهم الخنا في الدنيا فأنا أعوضهم، قم يا عبدي داود ورتل عليهم الزبور، وكان صوت سيدنا داود جميلاً في الدنيا، حتى إنه من جماله يردد وراءه الطير والجبال، قال تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ:10]، ولذلك سيدنا الحبيب سمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويصلي وحده فلما انتهى من صلاته قال له: (يا أبا موسى ! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، قال: لو كنت أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً، أي: لكنت حسنت صوتي، انظر إلى حنان الحبيب مع الصحابة، وحب الصحابة للحبيب، اللهم لا تحرمنا من رؤية وجه الحبيب في الجنة.

فأهل الجنة إذا سمعوا الغناء كادوا يفقدون وعيهم فيقول: يا عبادي! هل سمعتم أفضل من ذلك؟ فيقولون: لا يا رب وعزتك وجلالك ما سمعنا أفضل من هذا، فيقول: وعزتي وجلالي لأسمعنكم أفضل منه، فيقول لحبيبنا محمد: رتل عليهم سورة طه، وتخيل أنك تسمع الحبيب المصطفى يرتل، ثم يقول الله: هل سمعتم أفضل من هذا؟ فيقولون: لا وعزتك، فيقول الله: وعزتي وجلالي لأسمعنكم أجمل وأفضل من هذا، ثم يكشف رب العباد عن وجهه لعباده ويرتل سورة الرحمن، ثم بعدما ينتهي يقول: يا عبادي! هل سمعتم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وعزتك وجلالك ما سمعنا أفضل من ذلك، ثم يقول: سوف أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب! وهل هناك أفضل من ذلك؟! قال: سوف أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، وذلك تفسير قول الله عز وجل: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72].

اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم ارض عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

نقول جميعاً: تبنا إلى الله! تبنا إلى الله! تبنا إلى الله! ورجعنا إليه، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا عزماً أكيداً على أننا لا نخالف أمراً من أوامر الله، وبرئنا من كل دين يخالف دين الإسلام، والله على ما نقول وكيل.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة الدار الآخرة وصف الجنة للشيخ : عمر عبد الكافي

https://audio.islamweb.net