إسلام ويب

للشفاعة شرطان يجب توافرهما حتى تقبل: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهذا الشرطان منتفيان عن المشركين وآلهتهم التي زعموا أنها ستشفع لهم عند الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ...)

قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22].

قال الله لنبيه: قل يا محمد! لهؤلاء الذين كفروا في عصرك ومن سيكفر بعد ذلك، قل لهم: يدعون من شاءوا ممن زعموهم آلهة مع الله، قل لهم أن يدعوهم ليرزقوهم وليعطوهم وليجعلوا لسليمان وداود ما جعلنا لهم من معجزات، وما أعطينا قوم سبأ من خيرات وأرزاق، فعندما أشركوا بالله وأعرضوا عن طاعته جازيناهم بالنقمة والعذاب وسلبناهم نعمنا، قل لهؤلاء الكفرة: ليدعوا من زعموهم آلهة من دون الله، ليعملوا عمل الله فيرزقون من يدعون وليحيوا ويميتوا، وهم أعجز من ذلك هم وآلهتهم المزيفة، ومع هذا قال الله: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ فهذه الآلهة المزيفة والأرباب المزعومة من قبل حزب الشيطان ليس لهم ملك في السماوات ولا في الأرض مقدار ذرة، والذرة: الهباء الذي في الهواء ولا يُرى إلا عند الشمس، ولو كان هناك شيء أذل وأحقر من الذرة لذكره الله تعالى، فهؤلاء لا يملكون ذرة لا في السماوات ولا في الأرض.

قال تعالى: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ أي: ليس لهؤلاء الأدعياء أرباب وآلهة من دون الله، وليس لهم شريك مع الله في السماوات ولا في الأرض، بل انفرد سبحانه بالملك والخلق، ولم يشتركوا معه في شيء، فهم أحقر وأذل من ذلك، وإنما يعبدون ما لم يستطع أن يقدّم لنفسه نفعاً ولا ضراً، وإنما يعبدون أصناماً وأمواتاً وعجزة.

قال تعالى: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي: وما لله ظهير من هذه الآلهة أي: معين ومساعد ومشارك، وليس لله حاجة إلى أحد منهم في العون والمشاركة، بل الكل خلق الله وعبيده، إذا لم يرزقهم ماتوا، وإذا لم يسقهم ماتوا، وإذا لم يحيهم لم يوجدوا، فهؤلاء الذين يدعون من دون الله أرباباً لا وجود لربوبيتهم ولا وجود لإلهيتهم إلا في الأوهام والأساطير.

فقل لهؤلاء: إن آلهتهم أعجز من أن يملكوا ذرة في سماء أو أرض، وليس لله حاجة إلى عونهم ومساعدتهم، فالله قادر على كل شيء، وهو الغني المطلق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] أي: الغني غنىً مطلقاً عن كل الخلق، وليست هذه صفة لواحد من الخلق، فالكبير والصغير لا يستطيع أن يقوم بنفع نفسه .. لا يخبز خبزه ولا ينضج طعامه، ولا يذبح شاته، ولا يبني داره، ولا يصلح طريقه، ولا يخيط ثوبه، ولكن الله سخر بعضنا لبعض؛ ليعين بعضنا بعضاً، وبهذا قامت السماوات والأرض، والمعين والمعان خلق لله وعبيد له، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، والله سبحانه هو الغني المطلق الذي لا يحتاج لمعين ولا مساعد، وليس هناك معين ولا مساعد لله، إن هي إلا أسماء سماها هؤلاء المشركون الجاحدون كذباً وزوراً وشركاً بالله.

تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ...)

قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] جل جلاله وعلا مقامه.

يقول تعالى: هؤلاء ليسوا شركاء، ولا يملكون في السماوات والأرض مقدار ذرة، ولا لله حاجة إلى واحد منهم أن يساعده أو يعينه، فالله الغني الغنى المطلق عن كل خلقه، بل هم خلقه وعبيده، وهم المحتاجون والفقراء إليه، ولا يجرؤ أحد أن يشفع عنده، قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ لأنهم قالوا عن آلهتهم: هم شفعاؤهم عند الله، فلن يكون هذا أبداً، ولن يشفع عند الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا بعد إذن الله له بالشفاعة، ولن يجرؤ أحد أن يتكلم بكلمة أو يقول قولاً بين يدي ربه شفاعة في أحد ما لم يأذن الله له، فإذا لم يأذن الله فليس لأحد قدرة ولا إرادة أن يشفع في أحد حتى في نفسه فضلاً عن غيره، والقرآن مليء بهذه المعاني.

وسيد البشر قد ذكر الله له مقاماً محموداً يوم القيامة، وهو يوم الشفاعة العظمى، مع مقامه وسيادته العامة على جميع الخلق، ومع ذلك عندما يريد أن يشفع يخر ساجداً لله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأدعو الله بمحامد لا أعرفها، فأبقى ساجداً ما شاء الله لي أن أسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع) إلى تمام الحديث على طوله، وهو متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة، ولن يشفع إلا بعد أن يخر لله ساجداً لربه، مستأذناً بالشفاعة إلى أن يؤذن له بعد زمن يطول أو يقصر، إذ إن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدّون، وهو يحمد الله، ويمجّده، ويوحّده، ويذكره جل جلاله، إلى أن يؤذن له بالشفاعة، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسمع لك، واشفع تشفّع. عند ذلك يشفع في جميع الخلائق ممن مات على التوحيد، أما من مات على الشرك فلا شفاعة، وقد حرّم الله الجنة على الكافرين أبد الآبدين، ويكون الخلق قد اشتد بهم الحال وعظم عليهم الكرب ويذهبون إلى أبينا آدم أبي البشر فيردهم ويقول: نفسي نفسي، نهاني الله أن آكل من الشجرة فعصيت، فيأتون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، وهكذا إلى إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فلا يذكر عيسى شيئاً عن نفسه، ولا يقول: نفسي نفسي، ولكنه يقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهب الناس جميعاً من جميع الخلائق والأمم، وهو اليوم الذي يبعثه الله فيه مقاماً محموداً تحمده فيه الخلائق كلهم صلى الله عليه وسلم، وذاك معنى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ليس لعالم فقط، وليس للأمة المحمدية فقط، ليس لمن عاصره ومن جاء بعده من أمته، ولكن للأمم السابقة من أمة آدم إلى أمته صلى الله عليه وسلم، فهو شفيع كل الخلائق عليه الصلاة والسلام، ومع مقامه هذا لن يشفع إلا بعد أن يأذن الله له، وهذا معنى قوله تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فكيف بمن زعم المشركون أنهم سيكونون لهم شفعاء عند الله، قالوا ذلك عن أوثانهم وأصنامهم، وهيهات هيهات، إذا كان نبي الله كذلك فمن دونه من الأنبياء والصالحين لن يشفعوا إلا بعد أن يأذن الله لهم، فكيف بمن لا وجه له، ولا كرامة له، ولن يجد ريح الجنة أبداً من المعبودين، أو من المشركين، أو ممن هو في الأصل جماد أو حيوان أو شيء من خلق الله؟!

قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ بعض المفسّرين قالوا: (فُزِّعَ) أي: زال الفزع، والتفزيع: زوال الفزع، كالتمريض: زوال المرض، فقالوا: هذا يكون عند الوحي الإلهي إلى جبريل عليه السلام، إذ يوحي الله لجبريل فيبلّغ جبريل أهل السماء السابعة والسادسة والخامسة إلى السماء الدنيا ومن يكون نبياً. وقد انقطع الوحي ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فلم يكن بينهما نبي ولا رسول، وما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذهاب عيسى ورفعه للسماء إلا بعد ستمائة وخمسين عاماً؛ فعندما يأتي الوحي من الله يغشى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع صوتاً كصلصال الجرس أي: الحديد يضرب بعضه ببعض، وقد فسّر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، وهو أشد عليه من غيره، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي البارد كأيامنا هذه في أرض الحجاز.

ولكن أكثر المفسرين قالوا: الآية ليست في سياقه ولا تقتضيه، بل تفسير الآية كما قال ابن عباس وغيره: إن هؤلاء عندما يفزّع عن قلوبهم يزول الفزع وهم في حال الاحتضار للموت، وذلك بعد أن يُصبح العلم بالغيب علم مشاهدة وحضور، فكل ما أخبر به الأنبياء من الإيمان بالغيب بعد الموت وعند الغرغرة بالروح يُصبح إيماناً بالمشاهدة وهيهات، فقد قال الله تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].

فالملائكة عندما تأتي لقبض الأرواح يقولون للكافر: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ وذلك بعد أن تزول غيبوبته ويزول فزعه، قَالُوا الْحَقَّ أي: قال هؤلاء الكفرة: قال الله الحق.

وهكذا اعترفوا بعد أن أصبح الاعتراف بالنسبة لهم لا يفيد؛ ولذلك فإن النبي كان كثيراً ما يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شُغلك، وغناك قبل فقرك) وآخرها الحياة قبل الموت، فما دام الإنسان في حياته لم يكسب خيراً، أي: لم يؤمن بالله ولا برسوله، ولم يؤمن بما جاء عن الله في كتابه، فإنه لن يعترف إلا عند الموت عند وصول الروح إلى الحلقوم، ومن باب أولى بعد الموت ولن ينفعه ذلك، فهو إذ ذاك يعترف للملائكة بأن الله قال الحق فيما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ولكن هذا الاعتراف لا يزيدهم إلا حسرة وتوجعاً وندماً؛ لأنه كما قال أهل المعرفة بالآداب والرقائق: إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فمن لم ينتهز حياته في طاعة الله وعبادته يوشك إذا مات أن يكون سيف الحياة قد قطعه غير مؤمن بالله ولا برسوله، ولن يفيده اعترافه وإقراره بعد الموت.

فقوله تعالى: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ أي: قالت الملائكة لهؤلاء الكفار: ماذا قال ربكم؟ فيجيبون: قَالُوا الْحَقَّ أي: قالوا: إن الله قال الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فالله جل جلاله هو العلي المنزّه عن كل نقص، وهو المتصل بكل كمال والعلي على خلقه العظيم جل جلاله، وهو الكبير المتعال فلا أكبر منه جل جلاله، فالكون خلقه، فهو أكبر من الطغاة والجبابرة والملوك؛ لأنه خالقهم والكل عبد له؛ ولذلك فإن شعار المؤمن: الله أكبر، وبها نستفتح الأذان للإعلام بدخول الوقت، وبها نستفتح الإقامة للدخول في الصلاة، وبها نشغل حركات الصلاة عند الدخول فيها: عند الركوع والرفع من الركوع، وعند الهوي للسجود إلى آخر أعمال الصلاة، وهي شعار الذاكر في حجه والملبي في حجه، وهكذا فالله الكبير المتعال العلي على خلقه العلي عن حاجتهم وعن عونهم، فكل الخلق عبيد لله فقراء إليه، وهو الغني الغنى المطلق.

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض ...)

قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

أي: قل لهؤلاء: من الذي يرزقكم من السماء؟ ومن يدبر أمر الملائكة بالخيرات والرحمات والأرزاق؟ ومن يرزقكم في الأرض؟ فمن ينبت شجرها وثمرها؟ ومن يغذي دوابها وطيرها؟ ومن يغذيكم لتعيشوا مدة إلى أجل مسمى؟ فالله قال لنبيه: قُلِ اللَّهُ ولم ينتظر جوابهم، وإلا فهم معترفون بذلك، ولكنهم يشركون بالله في الألوهية، ويجعلون معه شركاء من الملائكة والجن والأحجار والأخشاب والدواب، ومن عبادة النفس وتأليه هواها، وهم يعترفون لله برزقه ولا يعترفون له بتوحيد الألوهية، وهم بذلك قد ضلوا، والإيمان وحده لا يقبل التجزئة، ومن آمن بشيء وكفر بشيء فهو كافر لا محالة، ومن آمن ببعض شرائع الإسلام وكفر ببعضها فهو مشرك كامل ولا ينفعه الإيمان بالبعض دون البعض، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، فهذا جزاء من يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض فلم يفدهم اعترافهم بأن الله الرازق من السماء والأرض، وبأنهم آمنوا بربوبيته وأشركوا معه بعض خلقه ممن هم أعجز عن دفع الضر عن أنفسهم فكيف لهم أن ينفعوا غيرهم أو يضروا!!

قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ أي: قل: الله الرازق من السماوات والرازق في الأرض، فيرزق عباده من السماء بالأمطار، ومن الأرض بالإنبات، فهو الرازق من السماء بالتدبير وهو على عرشه جل جلاله قد استوى يدبّر الأمر، فالله الرازق في السماء والرازق في الأرض وليس لأحد أن يرزق أحداً من الخلق إذا لم يرد الله رزقه؛ وهذا الذي يرزق لم يرزق أحداً بما عنده، وإنما بخلق الله وبرزق الله وبإمداد الله، أما أنه يأتي بشيء من عنده! فهيهات هيهات، فقد تحدى الله الخلق وعجزوا عن أن يخلقوا ذبابة، قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] أي: ضعف الوثنيون المشركون وضعف من يعبدونهم من أوثان وشركاء زعموهم آلهة من دون الله.

قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أي: كلهم، قال: لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: قل يا رسول الله! لهؤلاء الكفار: نحن وإياكم إما على هداية أو على ضلالة، وليست أَوْ هذه للشك ولكنها للتفصيل، أي: نحن الذين على هداية فلقد أتينا بأدلة العقول على وحدانية الله وقدرته وخلقه لما تراه العين من خلقه للكون وتحس به، وأعظم شيء في الوجود الروح؛ ولذلك طالما تساءل الناس في الجاهلية والإسلام في مكة والمدينة وفي عصرنا هذا إلى يوم القيامة عن الروح، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] وهذا السؤال لا يزال قائماً إلى اليوم ورغم زعم المعاصرين أنهم تحضّروا وتعلّموا لو سألتهم: ما الروح؟ يقولون: لا ندري! ومن فسّر الروح بأنها حركات فهذا أثر الروح وليست الروح، فلكل من الإنسان والدواب والملائكة والجنة والنبات روح، نرى الأرض إذا جاء الشتاء يبس ورقها وأصبحت الأرض بلقعاً، فإذا جاء الغيث ونزل المطر وأحيا الله ما يريد ترى الأرض اهتزت وربت وإذا بها تنبت من كل نوع من الفواكه أشكالاً، ومن الخضار أشكالاً، ومن الثمار أشكالاً، ومما تأكله الناس والأنعام أشكالاً، فمن الذي خلق فيها هذه الحياة؟ وما الحياة؟ هذا ما عجز عنه البشر وسيبقون عاجزين؛ لأن هذا من علم الله الذي انفرد به، وقد قال عليه الصلاة والسلام في دعواته: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فقد استأثر الله بأسماء له وعلوم عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] فلو أن سبعة أبحر ملأها حبراً ومداداً وجاء لشجر الأرض فذرأه أقلاماً تكتب وتستمد المداد من هذه الأبحر فتفنى الأبحر وتنتهي الأشجار وعلم الله لا ينتهي.

يروى أن موسى سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أحد، فأدّبه الله تعالى وربّاه وقال: بلى عبدنا الخضر ، فسأل الاجتماع به فكان من قصته ما قصه الله علينا في سورة الكهف، ومغزى القصة ما قاله الخضر لموسى وهو يحاوره، إذ جاء طائر صغير وأخذ قطرة من البحر فقال: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر، فأين أدعياء العلم والمعرفة؟ هيهات هيهات فكلنا ذوو أرواح إلا أن يشاء الله غير ذلك، ومع ذلك لا نعلم نحن ولا غيرنا ولا كل حي في الوجود عن هذه الروح التي ينطق بها وينظر بها ويسمع بها ويحس بها ويعقل بها ما هي؟ هذا ما انفرد الله به، ويكفي هذه المعجزة الإلهية على أن نعلم أن الله هو القادر وهو الواحد، وأن الله استأثر الروح في علمه وقدرته دون جميع خلقه.

وزعموا اليوم أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه ولم يصنعوا شيئاً، فقد صنعوا طائرة من خشب والخشب خلق الله، والماء خلق الله، والمسامير من الحديد خلق الله، والعقول التي صنعت ذلك خلق الله، ولو ذهب الله بعقولهم وبما خلقه لما استطاعوا صنع شيء، ولو ذهب الله بتلك الأشجار والأخشاب وذلك الحديد وتلك المياه التي يقال عنها البترول -وستذهب إنما هي مؤقتة- فستقف الطائرات والدبابات والمصانع، وقد قال أحد العارفين: إذا أراد أن يظهر فضله عليه خلق ونسب إليه، ومن فعل ما يقربه إلى الله كان فضلاً من الله، ومن فعل ما يبعده عن الله كان ابتلاء من الله، قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .

أما النبي وحزبه فهم على هدى، وقد بيّنوا ذلك بالأدلة العقلية القاطعة، وأما الشيطان وحزبه فهم في ضلال مبين واضح ظاهر لا دليل لهم عليه البتة، وهذا يشبه قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].

فقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: نحن الذين على الهدى بالأدلة العقلية القاطعة، وأنتم الذين على ضلال بالأدلة القاطعة، فاقبلوا أو لا تقبلوا، قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54]، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272].

فليست الهداية وظيفة الأنبياء وإنما وظيفة الأنبياء -ومن باب أولى ورثتهم من العلماء- البلاغ، وأما الهداية فكما قال الله لنبيه سيد الخلق: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] فهؤلاء أقارب أحباب كانوا للنبي عليه الصلاة والسلام وطمع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مؤمنين فما كانوا؛ لأن الله لم يرد لهم الهداية، فالله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] أي: لعلك مهلك نفسك على أنهم لم يؤمنوا ولكن الإيمان والهداية بيد الله، والعلم وحده لا يكفي، فإبليس كان أعلم العلماء في عصره فلم يفده علمه، فالتوفيق والهداية من الله؛ ولذلك فإن الأنبياء أنفسهم يعبدون ربهم ويحرصون على العبادة الليل والنهار، ومع ذلك يدعون ربهم ويلجئون إليه، هؤلاء وهم معصومون، فكيف بغير المعصوم! يفعل ما يفعل وهو لا يدري عن الخاتمة فالعبرة بالخاتمة، نسأل الله حسن الختام لنا ولكم جميعاً.

تفسير قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا ...)

قال تعالى: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25] أي: قل لهم يا محمد! لا تسألونا عما أجرمنا، فهم يزعمون أن من خرج عن دينهم فقد خان دين الوثنية وخان دين قومه وخرج عنه! فهم بذلك يعتبرونهم مجرمين، فقال الله: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا أي: إن كنا مجرمين في نظركم لستم مسئولين عنا ولستم مطالبين بإجرامنا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ كذلك نحن دعوناكم إلى الله وبلّغناكم كتاب الله وحرصنا على ذلك ليل نهار في الحضر والسفر وفي المنشط والمكره وفي كل وقت وحال ولا نستطيع أكثر من ذلك، أما أن نشق البطون والعقول وندخل الهداية والإيمان فليس هذا في إمكاننا ولا قدرتنا، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

تفسير قوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق ...)

قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26].

فهم لا يميزون هداية من ضلالة، ولا إيماناً من كفر، فقد ملئوا عقولهم بالخرافات والخزعبلات والأباطيل، فقل لهم: يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا أي: سيأتي يوم يجمع الله بيننا وبينكم وبين كل الأمم منذ آدم وإلى آخر مخلوق وإنسان في الأرض مؤمناً كان أو كافراً.

قال تعالى: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ أي: يقضي جل جلاله بيننا ويرتفع الأمر له، وتنتهي رسالات الرسل ونبوات الأنبياء وتنتهي العبادة بموت الإنسان، وسيكون اليوم الآخر يوم الحكم والحساب، ويوم الوقوف بين يدي الله والعرض عليه، ويكون المآل إما إلى جنة وإما إلى نار.

قوله: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ أي: ثم يحكم ويقضي بالحق، وسيعرفنا من المهتدي منا ومن الضال، ومن المؤمن ومن الكافر، وهل المفلح من عبد الأوثان وعاش في حياته مفسداً مرتكباً لأنواع الكبائر، من سفك الدم الحرام، وأكل المال الحرام، وهتك العرض الحرام، أم نحن الذين ملأنا قلوبنا وعقولنا بالله الواحد الرازق المحيي المميت، وقد طهّر الله أيدينا من سفك الدماء إلا بحق، وطهّرنا من الذنوب والمعاصي والكبائر، وطهّرنا من نشر الظلم والفساد، وأكل الأموال بالباطل، وانتهاك الحرمات بالباطل، ونشر الفساد في الأرض هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [هود:24] هيهات هيهات، فلا تستوي الظلمة مع النور، ولا الجهل مع العلم.

فقوله: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ أي: يحكم ويقضي بالحق، والله هو الحق وسيقضي بالحق ويحكم به، قال تعالى: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ، فهو القاضي الحاكم المطلق العليم بما ينفع عباده، والعليم بجرائم المجرمين، والعليم بإحسان المحسنين، فيحكم على المجرم بما يليق به، ويحكم على المحسن بما يليق به، فهذا إلى النار وهذا إلى الجنة، ولا يظن إنسان في الأرض أنه سيفلت من يد الله العادلة وقضائه العادل، فيسفك الدماء ويقول: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر كما يقول أكثر سكان الأرض ممن أضلهم الله على علم، فما نشروا إلا الفساد والكفران، وما نشروا إلا قطيعة الأرحام وسفك الدماء وهم يسعون في ذلك ليلاً ونهاراً.

وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي: هو الحاكم العادل جل جلاله العليم بعباده، فمن أحسن فله الإحسان، ومن أساء فعليه الإساءة، ومن يعمل مثقال ذرة من خير كان له الخير، ومن عمل شراً كان له الشر، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة سبأ [22-27] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net