إسلام ويب

إن العتاة والمجرمين عادة ما يقابلون الرسل بالتكذيب والإعراض فيكونون سبباً لهلاك قراهم وأقوامهم الذين يضلونهم بغير علم، والله تعالى لا يهلك قرية حتى يقيم عليها الحجة، ثم يوم القيامة يجمع الأتباع والمتبوعين فيعذب الجميع.

تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها...)

قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

هنا النذير والتهديد والوعيد لكفار مكة.

يقول تعالى: يا كفار مكة وغيرها من الكفار السابقين واللاحقين! لا تطغوا ولا تتجبروا، فكم من قرية بطرت معيشتها فأهلكناها، وبطر المعيشة: كفر النعمة، والتعاظم بها والتكبر بما أنعم الله به على الإنسان.

والإنسان عندما يغنى ويكون صغير العقل ضعيف الدين يطغى بماله وبما رزقه الله وأنعم عليه، فكان من الواجب عليه أن يشكر الله على ذلك ويزداد شكراً وحمداً ونشراً للنعمه التي أنعمها الله عليه، فيعطي منها المستحقين من آل وفقراء ومحتاجين وسائلين، فالله وصف المؤمنين فقال عنهم: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] ، وقال أيضاً: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

أما الذين إذا أغناهم الله ورزقهم وأوسع الله عليهم يبطرون ويحصل لهم تيه بالمال وعلو وفساد في الأرض، وكبرياء وجبروت، تكون نهايتهم أن المال لم يكن إلا فتنة وابتلاء، فلم يشكروا الله عليه، فحري أن يسلبوه في الدنيا ويعاقبون على ذلك يوم القيامة، وقد قال ربنا جل جلاله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فمن يشكر النعمة تزدد عنده وتكثر لديه، ومن يجحدها ويكفر بها ولا يعط المستحقين منها ويمنع حقوق الله من زكاة ونفقات في ماله فقمن بأن يسلب النعمة وتزول وكأنها لم تكن، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.

فقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، أي: تعاظمت بها وتاهت وتجبرت ودخلها طغيان بمالها والنعم المحيطة بها، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].

فالإنسان يطغى إذا رأى نفسه قد استغنت، وذلك عندما يكون ضعيف العقل قليل الدين.

قال تعالى: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا [القصص:58]، ماذا صنع الله بها؟ أهلك أهلها فماتوا وانتهوا، قطعت سلالاتهم وخربت دورهم وسلبوا النعمة في الدنيا، فلا ذرية ولا أحد يأتي بعدهم يقول: كان أبي كذا رحمه الله، أما الصالح والمتصدق والمنفق مما أعطاه الله، يطلب من الفقراء والمساكين، وممن استفادوا بماله، أن يذكروه بخير وأن يترحموا عليه، ماداموا في الوجود ويتسلسل ذلك.

ومن بقاء وتمام النعمة والشكر عليها أن يرزقه الله أولاداً صالحين، وابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، منها: ولد صالح يدعو له، فيقول: كان أبي، وعلمني أبي، وأنفق علي أبي، فيترحم عليه بعد موته، ويكون ذلك من عمله وفي صحائفه.

ومن ذلك أيضاً: العلم ونشره لساناً وكتاباً، ونحن الآن نذكر الأئمة الأربعة والسلف الصالح وشيوخنا ونترحم عليهم وندعو لهم؛ لأنهم خلفوا العلم ونشروه وتركوه في الكتب والصحائف، فتعلمناه منهم أباً عن جد، وشيخاً عن شيخ، فترحمنا على السابقين، وذكرناهم بخير؛ وكان ذلك نتيجة إحسانهم، ونتيجة إيمانهم وعدم بطرهم، لا بعيش من حيث المال ولا بعيش من حيث العلم، فلم يبطروا لا بهذا ولا بهذا.

والمسكن: الدار، فمساكن جمع مسكن، فهذه المساكن الموجودة في جميع بقاع الأرض قد خربت وبادت، وقد كانت يوماً مساكن لملوك ومترفين ولنساء ولرجال ولشباب ولقوة ولمال ولرفاهية، أين هي؟ ذهبت في أمس الدابر وكأنها لم تكن، وصب الله عليهم العذاب، بالزلازل والصواعق الإغراق.

وتلك المساكن سُكنت قليلاً؛ لأنه قد يكون المسافر والرحالة إذا مر عليها يحتاج إلى ماء وراحة واستظلال بسقف أو حائط أو شجرة، فيجد هذه البيوت الخاوية فيدخلها ساعة أو ساعتين من اليوم، وإن أطال بات ليلة ثم ذهب، فكانت السكنة قليلة لعابري السبيل، ولمن لم يجعلوها سكناً ولم يتملكوها ولا حاجة لهم بها؛ لأنها مساكن من غضب الله عليهم وقضى عليهم وقطع دابرهم.

قال تعالى: وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58] أي: خربت ولم تسكن ولم تورث.

ومعنى كونها لم تورث: لم يخلفوا أولاداً، وإن خلفوهم هلكوا معهم؛ فانقطعت الذرية والسلالة، فلو أنهم خلّفوا أولاداً لورث تلك المساكن الأولاد وأولاد الأولاد والأسباط والأحفاد ولكن انقطع الكل وكأنهم لم يكونوا، إذ كانوا فبادوا وأصبحوا ورقاً معلقاً يقص عنهم القاص: كان وكان وليس أكثر من ذلك.

فهذه الآية نذير ووعيد من الله جل جلاله لهؤلاء الكفار ولأمثالهم من كفار كل عصر وجيل، وكفّار كل جنس إذا بطروا النعمة واتخذوا منها تيهاً وجبروتاً وطغياناً على الخلق، فيوشك أن يسلبهم الله تلك النعمة فيذهبوا وتذهب دورهم ومساكنهم وما كانوا يتمتعون فيه، ويرث ذلك الله وحده ولا يبقى لهم ولد ولا سبط ولا حفيد.

وهكذا حدث لهؤلاء الذين ماتوا على الكفر انتهوا وبادوا وزالت الأملاك وأُعطيها غيرهم، ومع الأيام لم يذكروا إلا باللعنة والخزي، وفي الفتوح الإسلامية كم من مدن بأكملها وقرىً بتمامها ذهبت وخربت وبادت؛ نتيجة الكفر والعصيان وحرب الله ورسوله والمسلمين.

تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً ...)

قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]

يقول الله كرماً منه وفضلاً وعدلاً: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص:59] وهذه كقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] .

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى [القصص:59] أي: أهلها وسكانها من الكفار؛ ما كان الله ليهلكهم وهم صالحون مؤمنون، حتى ولو كانوا ضالين كافرين لا يفعل ذلك ما لم يرسل في أمها -أي: في أم تلك القرى- رسولاً، فالله ذكر القرى وأمها، فأم القرى هي مكة المكرمة، فهي أم الدنيا منها كانت الدعوة للهداية، ومنها برز سيد الخلق، وفيها ترعرع ونشأ صلى الله عليه وسلم، وفيها دعا الناس للإيمان به وبرسالته، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] ولها أوجب على كل إنسان في الحياة أن يأتيها مرة في العمر حاجاً وطائفاً وساعياً وواقفاً في عرفات وبائتاً في منى ليلتين أو ثلاثة، ومن لم يفعل ذلك وقد قدر عليه وأُعطي الزاد والراحلة يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنه: (إن شاء مات يهودياً أو مات نصرانياً) ويكون قد ترك ركناً من الأركان الخمسة، ويُستحب إن استطاع أن يُعيد الحج مرة عند كل خمس سنوات، للحديث الوارد في مسند الإمام أحمد .

قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى [القصص:59] أي: لم يكن ربك يا محمد! ليهلك أهل القرى والمدن والناس، وتُذكر دائماً المدن؛ لأن شأن سكان المدن هم الأشراف والكبار، وهم الذين يعلمون البدو والأعراب، وهم الذين يستطيعون تلقي الوحي والرسالة ليعلّموها بدورهم من هو أصغر منهم عقلاً وأقل منهم علماً وفهماً، وخاصة أولئك البدو والأعراب.

أما لو نزل الإسلام بين البدو والأعراب لما فهموا ولما أدركوا، وقلما يحصّلون، فهم يحتاجون إلى التعليم من كبرائهم وكبراء بلدتهم وكبراء الدنيا من المؤمنين، وهكذا فعل الله، ومن هنا سُميت أم القرى، فهي أم المدن ومعناه: عاصمة الدنيا، ولا شك أنها عاصمة الدنيا، إذ لا يتم إيمان مؤمن ما لم يأت إليها طائفاً ساعياً واقفاً نائماً في منى، فإن كان قادراً فقد أخل بركن من الأركان وأنذره النبي عليه الصلاة والسلام إن ترك ذلك وهو قادر عليه بأنه: إن شاء مات يهودياً أو نصرانياً، أي: ليس بمسلم.

فقوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص:59] كقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ولذلك فإن العرب الذين لم يُرسل إليهم نبي لا يعذبون إلا من أدرك الرسالة المحمدية والدعوة النبوية، فأبى الإيمان وأبى إلا الجحود فهذا عصى عن علم وسابق تقدير؛ فهذا هو الذي يُعتبر كافراً ويُعذّب؛ لأن الله قد أرسل إليه؛ والعرب لم يُرسل إليهم أحد إلا نبينا عليه الصلاة والسلام والذين سبقوه بقرون وآلاف من السنين لم يُرسل إليهم ولم يبعث لهم ولم ينطق بلغتهم، فكان أنبياء بني إسرائيل لا يخاطبون بالإيمان إلا بني إسرائيل؛ وهكذا قل عن جميع الأمم والشعوب الذين أُرسلت إليهم رسل وأنبياء، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] .

قال تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص:59] أي: يبلّغهم كتابه وأحكامه وآياته ودلائله وبراهينه، والمعجزات التي تُصدِّق ذلك الداعي بأنه نبي من الله.

ثم قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] وقد أكّد الله هذا المعنى في الآية مرتين: ما كنا لنهلك أهل قرية لم يُرسل إليهم، فنحن نُرسل إليهم ومع ذلك لا نُهلكهم إلا إذا كانوا ظالمين أي: مشركين كافرين، ومن سوى ذلك لا يُهلك؛ لأنه لم يُرسل إليه.

ولذلك في سؤال القبر يأتي منكر ونكير ويُلقى الميت في قبره فيسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فإذا قال: لا أعلم يقال له: ألم يُرسل لك رسول؟ يقول: قد قالوا ذلك، إذاً: لم لا تؤمن به؟ فتكون حجة الله البالغة عليه، ويكون قد كفر عن علم وبلاغ فاستحق العذاب، فيُعذّب روحاً في قبره إلى أن يُعذّب بعد ذلك يوم القيامة جسداً وروحاً.

فقوله: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] أي: إلا وهم مشركون كافرون، والظلم إذا أُطلق لا يُطلق في القرآن إلا على الشرك.

تفسير قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ... )

قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ [القصص:60] .

يخاطب الله الكافرين والجاحدين والعصاة بقوله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ [القصص:60] أي: من مال ورفاهية وشباب وقوة، ليس كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وزينتها تتمتعون به متاعاً مؤقتاً، كأكلة أكلتها صباحاً فقذفتها مساء، كشباب كان بالأمس كذلك مضت عليه سنوات ثمَّ انتهى بالشيخوخة وانتهى سواد الشعر بالشيب، وانتهت الحياة بالموت، ولا يبقى إلا الله، فالدنيا دار زوال وفناء بما فيها وبما عليها.

قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ [القصص:60] أي: ما عند الله يوم القيامة من جنان خالدات وحور عين ورؤية لله جل وعزّ؛ فذلك أبقى وأدوم ولا يفنى.

فيقول الله: (أفلا تعقلون؟) أي: أليست هناك عقول؟ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] خير لأنه أدوم وأبقى وألذ، ولذائذه كما وصفها القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام: فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

يقول ابن عباس: كل ما ذُكر من سمة للحور العين والفواكه والأطعمة والطير واللحم ليس فيه من الدنيا إلا الأسماء، فما عند الله يوم القيامة هو فوق ما يظن الظّان ويخطر على باله، من متع دائمة ولذائذ باقية وسعادة لا تنتهي ليلاً ولا نهاراً، فهي الظل الممدود وهي الحياة الدائمة التي لا موت بعدها أبداً.

فقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [القصص:60] أي: أليس لكم عقول تفكرون بها؟

تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعداً حسنا فهو لاقيه ...)

قال تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61] .

استفهام إنكاري تقريعي أي: أيهما أحسن؟ هذا الذي وعدناه منا وعداً حسناً، وعدناه إن أنت آمنت وأسلمت وأصلحت فيوم القيامة لك من الخير والرضا والجنان والقصور والحور العين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أهذا خير أم ذاك الذي متّعنا متاع الحياة الدنيا وعاش في الدنيا ليأكل ويشرب كما يأكل ويشرب الحيوان؟ فشأن المؤمن والعاقل في الأرض أن يأكل ليعيش، والحيوان يعيش ليأكل؛ ولذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأن الكافر يأكل بسبعة أمعاء، إذ لا يكتفون بمرتين في اليوم أو ثلاث مرات، لكنهم يأكلون خمس مرات ولا تكاد تجدهم إلا يأكلون، وما دامت المعدة صالحة فهو يأكل، حتى إذا فسدت وخربت وما عادت تهضم إذ ذاك يأكل بالحمية والجوع، فإذا زاد على الأكل بما لم يسمح له به الطبيب أضر بنفسه وقد يتعرض للموت، وأخطر من الموت أن يعيش سنوات مريضاً مهملاً مشلولاً أو لا يكاد يتحرك، نسأل الله اللطف والسلامة.

قوله تعالى: فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61] أي: سيلقى ما وعدناه به، وسنفي له بالوعد ونحقق له المبتغى، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] فهو مستقبله ومحصّل له وسيكون له يوماً.

قال تعالى: كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [القصص:61] أي: هل هذا أحسن أو ذاك الذي متّعناه في الحياة الدنيا بطعام وشراب ثم انتهى طعامه وشرابه وانتهى هو أيضاً؟

ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61] فبعد هذه المتعة غير الدائمة وهذا الطعام الذي لا يفيد سيفنى ويموت، ويكون يوم القيامة من المحضرين للحساب والعقاب ولعذاب الله ودخول النيران؛ فهو يحضر ليُعذَّب وليُحاسب: لمَ لم تؤمن؟ لم أصررت على الشرك؟ ألم يرسل إليك رسل؟ ألم يقُل لك علماؤك؟ ألم تقرأ كتاب ربك؟ ألم ألم..، فيجد نفسه عاجزاً عن الجواب؛ لأنه قد رأى النبي أو سمع به وأبى إلا التكذيب والكفران، واغتر بجاهه وسلطانه وماله ومتع فرجه وبطنه وظهره، فما أوصله ذلك إلا للعنة والخراب ولعذاب الله يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)

قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62].

يؤتى بهم يوم القيامة ويناديهم الله، أو يكلّم الله من يناديهم من الملائكة، فيقال لهم: أين ما كنتم تزعمون وأنتم في دار الدنيا من شركاء لي؟ لماذا لم يدافعوا عنكم؟ ولماذا لم يحموكم؟ ولماذا لم يرزقوكم الجنة؟ ولماذا لم يزيلوكم من بين أيدينا؟ أي: يحاسبون حساباً عسيراً.

وتقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عُذِّب)فإذا حوسب المرء يوم القيامة يُحاسب عن النقير والقطمير، وعلى ما أكل وشرب ونطق، والله قد قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

فالكافر يُحاسب على الذرة من شره وبلائه وكفره، والمؤمن يغفر الله له الكثير، وذلك أنه إذا توضأ ذهبت ذنوبه مع الماء، وإذا مضت الجمعة إلى جمعة أخرى وجدد التوبة تاب الله عليه ما سبق منه في تلك الجمعة، فإن ارتكب ما عسى أن يرتكب ثم تاب إلى الله وأناب وأوفى الوعد مع ربه ولم يعد لتلك الذنوب غفر الله له.

أما الكافر مهما استغفر فلن يُغفر له؛ لأنه لا مغفرة لكافر، ولذلك فإن الذنوب تزداد والآثام تزداد فيُحاسب يوم القيامة على النقير والقطمير وعلى الذرة.

قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص:62] أي: يوم القيامة ينادى الله هؤلاء ويدعوهم ويحاسبهم، وتدعوهم الملائكة بأمر الله، وما أمر الله به فهو قوله وفعله جل جلاله.

قال تعالى: فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62].

أي: أين أولئك الشركاء؟ أين مناة؟ أين اللات؟ أين من كنتم تعبدونه من الجن والحشرات والبشر كـماركس ولينين ، وأمثال هؤلاء الأقذار الأوساخ المشركين، الذين يجب أن تُقدّس الأماكن المحترمة عن ذكرهم؟ ولكن الله ذكر الكثير من هذه الأسماء عظة وعبرة؛ لكي يتلافى الناس ذلك ويبتعدوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (قال الذين حق عليهم القول ...)

قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63].

أي: أولئك الذين كانوا يعبدون الشياطين والإنس وأئمة الضلالة وزعماء النار.

فقوله: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ [القصص:63] أي: وجب عليهم العذاب، فإذا بهم يتبرءون، فتسوقهم الملائكة مسحوبين على وجوههم إلى النار، فيقول هؤلاء: رَبَّنَا [القصص:63] أي: يا ربنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا [القصص:63] أي: أضللنا وأفسدنا، وأبعدناهم عن الأنبياء والإيمان بهم، فهؤلاء أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [القصص:63] فلن يستطيعوا الانتقام من الله، ولكنهم ينتقمون من أمثالهم، فكما ضلوا وغووا وأفسدوا وكفروا يقولون: لم نُعذب وحدنا؟ فينطلقون إلى البشر فيغوون ويضللون ويكفرون، وهكذا شأن أئمة الضلالة زعماء النار الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

يقولون: رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا [القصص:63] أي: هؤلاء الذين نحن أغويناهم وأضللناهم، لم أغويتموهم؟ قالوا: أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [القصص:63] لأنهم هم غووا وضلوا وكفروا وفسدوا وأرادوا أن ينتقموا من هؤلاء؛ لأنهم لن يستطيعوا أكثر من ذلك فأغووهم وأضلوهم وكفّروهم وأفسدوهم، قالوا: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ [القصص:63] أي: تبرءوا منهم كما قال ربنا في آية أخرى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166] فالذين اتُّبعوا هم أئمة الضلالة يتبرءون من الذين اتبعوهم، وهكذا قول الله أيضاً: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63].

أي: كانوا ضلالاً وكفّاراً يعبدون أهواءهم ويعبدون فروجهم وبطونهم وظهورهم، إنما نحن دفعناهم للفساد والضلال والكفر مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة القصص [58-63] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net