إسلام ويب

لقد قضى سيدنا موسى عليه السلام في ديار مدين عشر سنين، وعند عودته إلى وطنه أخذ أهله معه، وحدث له ما حدث من الاصطفاء والتكليم قبل أن يصل إلى دياره.

تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً ...)

قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص:29] .

هذه المرحلة الثالثة من مراحل موسى عليه السلام في قصته المفصلة في هذه السورة من كتاب الله، ففي المرحلة الأولى فسّرنا الآيات الواردة في ولادة موسى ورضاعه وعودته لأمه بعد أن كاد يُذبح أو يغرق في النيل، ثم نشأته في بيت فرعون إلى أن أصبح شاباً يافعاً لا يُعرف إلا بموسى بن فرعون، إلى أن صار يخرج للأسواق، فقتل قبطياً انتصاراً وإغاثة لإسرائيلي من عشيرته وأتباعه وأنصاره، كان بعد ذلك أن خرج من مصر خائفاً يترقب، فيذهب إلى مدين على بعد ثلاثة أيام من مصر، إلى بلد آبائه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومدين هو ابن إبراهيم.

ذهب موسى تائهاً لا يعرف طريقاً فطلب من ربه أن يهديه سواء السبيل، فهدي إلى مدين، وبعد أن خدم من سمي شعيباً وسمي بغير ذلك من الأسماء، فزوجه إحدى ابنتيه وأقام عنده عشر سنين كاملات، ثم بعد تمام هذه السنين أراد أن يخرج من عنده مستقلاً بنفسه مخرجاً لأهله معه وقد أصبح أباً، فهو خارج لا يدري أين يذهب؟ أيعود إلى مصر وقد خرج منها خائفاً من فرعون وملئه أن يقتلوه بالقبطي أو يذهب إلى جهة أخرى؟ وما هي؟

وبينما هو خارج في ليلة شديدة البرد خرج وهو لا يعرف طريقاً ولا يهتدي لمسلك من المسالك؛ وهذه ابتداء المرحلة الرابعة.

قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَل) لقد شارط موسى شعيباً أن يبقى عنده ثمان سنين أو عشر سنين، وبقاء السنتين تكملة العشر فضل من عنده، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (ما الأجل الذي قضى موسى؟ فقال: قضى أوفاهما وأكرمهما) أي: أتم عشراً، قضى موسى عشر سنوات من رعيه لغنم صاحب مدين، ومن القيام بحاجته رعياً وزراعة وما يحتاج إليه.

وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِه) أي: أن موسى ترك ختنه وصهره وصحب زوجته وأهله، والأهل كلمة أول ما تُطلق على الزوجة وتشمل مع الزوجة الأولاد والخدم والحشم، ومن تجمعه دارك من أقارب.

وقوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) أي: أبصر نوراً من بعيد، ولا شك أن الوقت كان ليلاً، وإلا قلما تُرى النار من بعيد في النهار المنير المشرق، فموسى لما رأى النار ومعه أهله وهم على غاية ما يكونون من البرد والزمهرير، (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي: أقيموا وانتظروني، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أي: لقد رأيت ناراً من بعيد.

(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: انتظروني وارتقبوا عودتي، سأذهب إلى هذه النار لعلي أجد عليها قوماً أو أي إنسان يرشدني إلى الطريق، وإلا جئتكم من هذه النار بجذوة وبقطعة وبجمرة، وفي اللغة: جَذوة وجُذوة وجِذوة مثلثة الجيم، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: لعلكم تستدفئون بها فيزول عنكم الزمهرير وشدة البرد، فذهب موسى وإذا به وجد شجرة تشتعل على شدة اخضرارها والنار لا لهب لها ولا دخان ولا خشب ولا شجر يحترق، ولكنه النور.

عندما طلب موسى رؤية ربه ماذا قال له ربه؟ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] فلم يستقر الجبل وتجلى ربه له فجعله قاعاً صفصفاً ولم يبق هناك جبل لم تبق إلا أرض لا أمت فيها ولا عوجاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143].

فموسى عليه السلام وجد النور بدل النار.

تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن ..)

قال الله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] لما وصل موسى إلى الشجرة إذا به يُنادى من جانب الطور الأيمن ومن شاطئ الوادي، والوادي هو الطريق بين جبلين.

وقوله: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَة) أي: البقعة المقدسة التي تجلى الله فيها لموسى، والتي أشرقت أنواره سبحانه فيها، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] فموسى عندما وصل هناك يفاجأ بما سيكون به قرير العين وبما ترتفع رتبته من مجرد إنسان عادي إلى نبي ورسول كريم، وإلى رسول من أولي العزم الخمسة من الرسل، وإلى أن خُص بكلام الله، فأصبح يلقب بكليم الله، أي: الذي شرّفه الله بكلامه، فناداه من عند الشجرة من الشاطئ الأيمن من الوادي في البقعة المباركة المقدسة من الطور: (أَنْ يَا مُوسَى) ناداه باسمه جل جلاله.

ثم قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: أنا ربك ورب فرعون وملئه ورب بني إسرائيل، ورب العوالم كلها علويها وسفليها بجميع أنواعها ملائكة وإنساً وجناً، وكل ما وجد على الكون فالله ربه وخالقه ومولاه والقائم به جل جلاله.

وقوله: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) وكانت في يد موسى عصا، وفي آية أخرى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18] أراد الله أن يسليه ويقوي قلبه ويبين له أن هذه العصا ليست كبقية العصي وإنما هي معجزة وستكون آيته الكبرى إلى فرعون وملئه، فقال الله له: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31] فامتثل وفعل وقذفها، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31] أي: لما ألقى العصا انقلبت حية تسعى، فلما رأى موسى هذه العصا تهتز وتلتوي التواء الأفعى، إذا به يفر ويهرب منها خائفاً، (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ) أي: تضطرب.

(كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا) أي: أدبر على عقبه وذهب فاراً خوفاً من هذه الأفعى.

(وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي: ولم يلتفت خلفه ليرى ماذا هناك، هو يظن أن هذه الأفعى تتبعه تريد افتراسه وتريد إيذاءه.

فقال تعالى له: يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31] ناداه الله مرة أخرى وكلمه وقال: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ) أي: عد إلي وتعال إلي (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) لن تؤذى، وأنت آمن على نفسك وعلى حياتك وعلى مستقبلك، فلم الخوف والهرب والله هو الذي يكلمك؟!

تفسير قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء...)

قال الله تعالى له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص:32].

أراه الله وأطلعه على الآية الأولى لتكون علامة صدقه ومعجزة نبوته ورسالته إلى فرعون الكاذب المتأله، وإلى قومه بني إسرائيل المستعبدين في مصر كذلك، فأراه الآية الأولى والمعجزة الأولى وهي العصا، ثم أراه المعجزة الثانية وقال له تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي: أدخل يدك في شق قميصك، قالوا: الشق يكون عند الصدر، وقالوا: الشق يكون في اليمين أو اليسار وليس هذا مهماً المهم أن الله تعالى قال له: أدخل يدك في جيبك (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) فأدخل يده في جيبه وفي شق قميصه ثم أخرجها كما أمره ربه، وإذا يده كأنها الكوكب الدري، كأنها اللمبة الكهربائية ذات الإضاءة والإنارة القوية.

وقوله: (مِنْ غَيْرِ سُوء) أي: من غير مرض ولا برص، تخرج بيضاء لا بياض مرض ولا بياض برص، ولكن بياض معجزة وإنارة، ويكون ذلك متى تريده ويزول متى تريد، فلما أدخل موسى يده في جيبه رأى يده تشتعل كما رأى الشجرة من بعيد وقد حسبها ناراً، ولكنه مع ذلك لم يفزع، فقد استأنس من المرة الأولى عندما قال له ربه: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31] فأمن على نفسه وزال قلقه واضطراب بشريته، ووقف لأمر ربه ليتلقى الآيات والمعجزات التي سيذهب بها إلى فرعون وملئه.

ثم قال الله له: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قرئ: (الرّهْب) و(الرهَب)، أي: الرُعب، وجناح الإنسان يداه.

فقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْب) أي: إذا أنت رُعبت وخفت عند استقبالك فرعون فضم يدك إلى صدرك، فيزول عنك هذا الرُعب.

وقد قال مفسّرو الآية الكريمة كذلك: من ارتُعب من شيء يراه أو شيء يسمعه أو خواطر سوء تخطر بباله فليضم يده إلى صدره وليتل وليذكر فيزيل الله بإذنه رُعبه وخوفه وهلعه، كما أزال خوف موسى ورعبه وقلقه.

وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) أي: إلقاء العصا وصيرورتها حية، وإدخال يدك في جيبك تخرج بيضاء كأنها الكوكب الدري، تانك علامتان ودليلان وبرهانان ومعجزتان سترسل بهما إلى فرعون وملئه، وهما آيتان دالتان على صدقك، ومعجزتان من جملة معجزات الأنبياء.

وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه) أي: إلى وزرائه وجماعته وكبراء قومه وأشرافهم، والملأ كبراء القوم وأشرافهم وزعماؤهم.

وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) أي: كان قوم فرعون جماعة فاسقين، فسقوا عن أمر ربهم، وخرجوا عن التوحيد، وكفروا بالله وأشركوا به، فألهوا فرعون وزعموه إلهاً ورباً من دون الله، فاذهب إلى هؤلاء الفاسقين وادعهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإن هم كذّبوك فأظهر هاتين العلامتين وهذين البرهانين الدالين على تصديقك، وإذا بموسى عليه السلام بعد أن وعى الرسالة وحفظ المهمة وعرف ما أُريد به يذهب متجهاً إلى فرعون وقومه.

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني قتلت منهم نفساً ...)

قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص:33].

أي: يا رب هؤلاء الذين ترسلني إليهم من فرعون وملئه لهم عندي جريرة فإني قتلت منهم فرعونياً، فأخاف إن هم رأوني أن يقتلوني مقابل قتلي لذلك الفرعوني.

ثم طلب من ربه أن يعينه بأخيه فقال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:34] أُمر ببلاغ رسالة وبأدائها! ولكنه اعتل بعلتين:

العلة الأولى: أن هؤلاء الذين سيُرسل لهم قد قتل منهم نفساً فيخاف أن يقتلوه، ثم بعد ذلك هو عيي اللسان ليس فصيحاً في القول، فكان في لسانه لثغة فيخاف إن ذهب إليهم ألا يستطيع البلاغ ولا أداء الرسالة ولا أن يُفهمهم، ولربما لم يدعوه لإتمام القول فتكون القاضية عليه، فطلب ورجا ربه أن يرسل معه أخاه هارون، فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) .

لقد سبق أن ذكرنا هارون وقلنا: إنه أسن من موسى بعام، وهو لا يزال حياً في مصر مع أمه، وأخوه موسى هنا في أرض مدين، فموسى عليه السلام طلب من ربه لأخيه ما لم يطلبه بشر منذ عصر آدم إلى عصر نبينا عليه الصلاة والسلام، طلب لأخيه النبوة والرسالة، ولم يحدث أن كان هذا قط في القرون الماضية ولا التالية إلى ختم نبوة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

فقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) أي: معيناً ومساعداً ووزيراً ومؤازراً.

وقال في سورة أخرى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:25-27] يدعو موسى ربه عندما أرسله أن يحلل العقدة التي في لسانه، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:27-32].

وطلب موسى من ربه أن يشرك أخاه هارون معه في أمر الرسالة والنبوة، وأن يزيل العقدة أو يخفف لكنته وعيّه، فاستجاب الله جل جلاله له، قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح لـعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

فنبينا صلى الله عليه وسلم جعل علياً منه بمنزلة هارون من موسى؛ أخوة وتقديراً وإشادة ورفعة، ولكنه استثنى من هذه الأخوة أن يكون علي نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هارون نبياً في حياة موسى وبعد موسى؛ إذ لا نبي بعد محمد فهو خاتم الأنبياء وخاتم الرسل الكرام صلى الله عليه وعلى آله.

وقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) أي: هارون هو أفصح من موسى؛ لأن موسى أخذه فرعون في السنتين الأوليين وأجلسه على فخذه، وأخذ يداعبه، وإذا بموسى يمسكه من لحيته وينتف منها شعرتين أو ثلاثاً، وإذا بـفرعون ينزعج ويقول: هذا لا شك أنه عبراني إسرائيلي، أين الذبّاحون؟ يريد قتله، وإذا بمربيته وحاضنته زوجة فرعون آسية بنت مزاحم تقول له: يا فرعون ! هو طفل رضيع لا يفهم ولا يعي، ائته بجمرة وائته معها بدرة، وانظر ماذا سيختار؟ ففعل فرعون وأتاه بدرة تتلألأ وأتى معها بجمرة تشتعل، ولكي ينقذه الله من الذبح جعله يأخذ الجمرة ويضعها في لسانه، فتحرق لسانه فتصبح فيها عقدة، عند ذاك تركه فرعون ؛ وكان هذا الذي حصل له من العقدة في اللسان فدى لحياته، وهكذا بقيت هذه العقدة معه إلى أن مات، ولذلك عندما جاء إلى فرعون قال لقومه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] (مهين) أي: لم يلبس ألبسة الملوك من حرير وديباج وأساور ذهب على الأيدي والأعناق والتيجان على الرءوس، (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) للثغة التي في لسانه، يقول الكلمة وينعقد لسانه، فهو يحتاج إلى زمن حتى تخرج الكلمة، ولذلك أول ما كلّفه الله بالرسالة فكّر في شيئين:

الأول: أنه قتل نفساً من آل فرعون وقومه فهل سيتركونه.

الثاني: أن في لسانه عقدة ولكنة فكيف سيبيّن ويؤدي الرسالة إلى فرعون ، فطلب من ربه أن يجعل معه أخاه هارون رسولاً؛ لأنه كان فصيحاً بليغاً ولم تكن فيه هذه العلة في لسانه.

قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) أي: اجعله معي رسولاً وردءاً ووزيراً معيناً ومساعداً مؤازراً ومؤيداً.

(يُصَدِّقُنِي) لم يصدّقه فرعون ولا الملأ، فهو لم يقل: يصدّقونني، وإنما قال: (يصدقني) أي: يصدّقه هارون فيما يقوله ويكرره هارون مصدقاً لكلام موسى، وأن موسى نبي الله المبلّغ عن الله حقاً، وهذا معنى المؤازرة والتأييد، ثم قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا) وقرئ: (رِدَاً) على عادة قراءة نافع في زوال الهمز.

وقوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) أي: يصدّقني هارون أمام فرعون ، وقد يمكن وهو ليس بالسياق: ليصدّقني فرعون ، إذ سيسمع الرسالة وبيانها بالأدلة والبراهين، وموسى لم تكن معجزته فصاحته وبلاغته، ولكن معجزته كانت شيئاً يُرى بالعين ويُسمع بالأذن، فهو سيرى الحية وتلاعبها وقد تحولت من عصا، وسيرى اليد وقد انقلبت من يد إلى كوكب دري يكاد يأخذ بالأبصار.

وقوله: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُون) أي: بسبب العجز عن البلاغة والفصاحة مع اللكنة والعقدة التي في لساني، فأخاف أن يكذّبني فرعون وملؤه وقومه، فأنا أطلب أن تُرسل معي هارون لأبين ولأُبلّغ، فهو أفصح مني وأبلغ في أداء الرسالة.

تفسير قوله تعالى: (قال سنشد عضدك بأخيك ...)

وإذا بالله الكريم يستجيب دعاءه وطلبه فيقول جل جلاله: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35].

فوعده الله وقال له: سنشد عضدك ونؤيدك ونقويك ونساندك، والعضد هو كناية عن المعاونة والمؤازرة والوزارة والتأييد والتصديق.

فقوله: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) أي: سنقويك ونجعل أمرك شديداً بإسعافك في إرسال هارون رسولاً معك وشريكاً ووزيراً.

وقوله: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) أي: هيبة وجاهاً ومقاماً وعزة ورفعة، فسيراكما فرعون وتنقلب الآية، فعوضاً من أن تخاف يا موسى منه فهو الذي سيخاف منك، وهو الذي سترتعد فرائصه منك.

وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يُنصر بالرُعب مسيرة شهر من الجهات الست شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ومن الأطراف، فقد كان إذا سمع به الأعداء من فارس والروم والأحباش وغيرهم ترتعد فرائصهم منه ويخافونه، وكان إذا رئي صلى الله عليه وسلم ترتعد فرائص من يراه ممن لم يكن مؤمناً به؛ ولذلك جاءه رجل وطلب منه شيئاً وأخذ يرتعد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) يعني: لم تنزعج؟

هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام تسلية له، وإزالة لخوفه واضطرابه، وهو في هذا عليه الصلاة والسلام لم يصنع شيئاً مما يجعله الملوك من جيوش وحُراس من الأمام والخلف، ومن أسلحة تحرسه عن اليمين والشمال، ومن مظاهر الملك والسلطان، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام نبياً عبداً، وإن كان قائد جيش ولكن ذلك كان أصغر ألقابه وأصغر أوصافه، والوصف الذي يوصف به هو رسول الله ونبي الله؛ وإن كان قد قاد الجيوش وأسس الدولة وأقام النظام، وولى وعزل من المدنيين والعسكريين، وجند الجيوش وخرجت تكتسح العالم، ابتدأها فأتم ذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

وقوله: (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) أي: لن يستطيعوا الوصول إليكما ولن يستطيعوا أن يؤذوكما في شيء.

وقوله: (بِآيَاتِنَا) أي: بمعجزاتنا وبعلاماتنا وبراهيننا، بل هم الذين سيرعبون منكم ويخافون.

وقوله: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) أي: أنت يا موسى وأخوك هارون ومن اتبعكما من المؤمنين، سواء من قوم فرعون ولم يكن ذلك إلا قلة لا تكاد تُذكر ولا تعد على الأصابع، ومن اتبعك من عشائرك من بني إسرائيل، أنتم الذين ستكونون الغالبين القاهرين وهم الأذلاء المغلوبون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة القصص [29-35] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net