إسلام ويب

في هذه الآيات يذكر سبحانه حشره للعباد والمعبودين من دونه يوم القيامة، فيسأل المعبودين هل هم الذي أمروا هؤلاء العبّاد بعبادتهم، فيتبرأ الملائكة من ذلك، ويتبرأ عيسى وأمه من ذلك، وهنا يندم أولئك المبطلون. وذكر أيضاً حال المشركين في أسئلتهم الاستكبارية والتعجيزية، فقد طلبوا من الرسول حتى يصدقوا رسالته أن يأتي معه بالملائكة، وأن يأتي بالله تعالى، وكل ذلك لا ليؤمنوا، ولكن ذلك على سبيل التعجيز والاستكبار.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله...)

قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان:17].

يوم يحشرهم الله يوم القيامة ويحييهم بعد الموت ويجمعهم إليه للحساب والعقاب، يجمع العابد والمعبود ولا يخفون عليه جل جلاله.

يوم يحشر العابدين والمعبودين من هؤلاء المشركين، فيقول الله للمعبودين: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ [الفرقان:17] أي: هل أنتم قلتم لعبادي هؤلاء: اعبدونا واجعلونا شركاء مع الله أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان:17] أم ضلوا من أنفسهم؟ ويقال هذا للملائكة الذين عبدهم بعض الناس وقالوا عنهم: بنات الله، ويقال هذا لعيسى الذي عبده النصارى، ويقال هذا لعزير الذي عبده اليهود.

وهكذا يجمع الله هؤلاء ويقول لعيسى وللملائكة ولعزيز ولكل من عبد من دون الله من الجمادات والأصنام والتماثيل، إذ يحشرها الله معهم، ويرزقها النطق واللسان للكلام: أَأَنْتُمْ [الفرقان:17] استفهام تقريعي توبيخي للعبدة للمشركين.

أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ [الفرقان:17] يعني: هل أنتم الذين أزغتموهم عن الطريق السوي، وأبعدتموهم عن التوحيد والإيمان؟

قال تعالى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان:17] أي: من قبل أنفسهم، إذ إن عقولهم لم توصلهم للخير، فلم يقبلوا دعوة العلماء ورثة الأنبياء، ومن قبلهم لم يقبلوا دعوة الرسل والأنبياء والأصحاب الكرام والأتباع التابعين لهم بإحسان.

فأول ما يبتدئون به الجواب: سبحانك، فينزهون الله عن أن يكون له شريك، أو أن يكونوا هم شركاء، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وليس بيدهم شيء.

قال تعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [الفرقان:18] أي: لا ينبغي لنا ولا يليق، فنحن خلق من خلقك وعبيد من عبيدك، فكيف العبد يعبد؟ وكيف المخلوق يعبد؟ وكيف المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يكون إلهاً معك؟ ننزهك عن هذا ونعظم شأنك ونقدسك، فلا يليق هذا ولا ينبغي لنا وليس من حقنا، فأنت يا رب أعظم من ذلك كله.

فقوله: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [الفرقان:18].

أي: لا يليق بنا وليس من حقنا ولا هو من شأننا أن نتخذ من دونك من أولياء، أنت ولينا ومولانا وخالقنا، وأنت المتفرد بالألوهية والربوبية والخلق والرزق، والمنفرد بالإماتة والإحياء، فكيف ونحن أعجز من أن ننفع أنفسنا أو نضرها فضلاً عن أن نكون آلهة معك كيف نقبل ذلك؟ كيف يعجبنا؟ كيف نوافق عليه؟

قال تعالى: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان:18] أي: ولكن الذي حدث يا ربنا! أنك متعتهم بالحياة والرزق والصحة، ومتعتهم بالملك والسلطان، وبطول الأعمار، وهكذا نسوا الذكر، ونسوك ونسوا توحيدك، ونسوا نبيك وكتابك، ونسوا دينك، فضلوا وأضلوا.

قوله: وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان:18] أي: كانوا هلكى، تقول: بارت السلعة إذا فسدت ولم تجد مشترياً، وتقول: بارت الأرملة ولم تتزوج إذا لم تصلح للزواج، أو لم يطلبها أحد.

وتقول عن من لم يتزوج من الرجال والنساء: قد بار وهلك في نفسه فلم يتزوج، أي: هلك وكان بائراً.

فهؤلاء كانوا قوماً هلكى، وكانوا قوماً فاسدين لا يصلحون، ولا يميزون بين الحق والباطل، أما أن نقول لهم نحن ذلك فمعاذ الله وحاشى الله.

والله سيقول لعيسى يوم القيامة: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]، فيقول: قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116] أي: أنزهك يا رب! عن ذلك وأعظمك أن أقول ذلك، قال: قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116] أي: لا يليق بي ولا يحق لي.

ثم عاد فقال: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [المائدة:117] أي: أنا لم أدعهم إلا لعبادتك وتوحيدك وطاعتك، فهم من أنفسهم كذبوا وافتروا، وزعم اليهود أنهم قتلوني وصلبوني، وزعم هؤلاء الأفاكون أني إله ورب، وليس شيء من ذلك واقعاً، فأنا عبد من عبيدك وخلق من خلقك، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً.

ولكن هؤلاء طالت بهم الأعمار حتى نسوك ونسوا النبوات السابقة، ونسوا أن الله واحد، وأنه نزل الكتاب على أنبيائهم ليعملوا به، وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان:18] أي: كانوا هلكى فاسدين لا يصلحون لنور ولا لحق ولا لدين، ونحن ما قلنا ذلك وما كان لنا أن نقوله.

قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا [الفرقان:19] يقول الله أو ملائكته لهؤلاء المشركين: قلتم: إن عزيزاً دعاكم لعبادته وللشرك بالله، وقلتم: إن عيسى دعاكم، وإن الملائكة دعتكم، فأين ما كنتم تزعمون؟ وأين ما كنتم تقولون؟ وإذا بهم يبلسون ويخسئون وييأسون من الرحمة، ولات حين مناص.

وفي تلك الساعة بعد أن كذبهم من كانوا يشركون بهم مع الله، قال الله عنهم: لا يملكون لأنفسهم صرفاً ولا نصراً، أي: لا يستطيعون أن يصرفوا العذاب، ولا يستطيعون ما هو أقل من ذلك وأحقر.

قوله: وَلا نَصْرًا [الفرقان:19] أي: لا ينصرون أنفسهم ولا يعينونها بشيء وقد تخلى عنهم من كانوا يعبدونهم من دون الله، ومن كانوا يشركونهم مع الله، فصاروا حيارى ضائعين هلكى تائهين لا يملكون صرف العذاب عنهم، ولا يملكون نصر أنفسهم، وهكذا دارت الدائرة عليهم، ولقوا جزاء الشرك والكفر.

تفسير قوله تعالى: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً)

قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19].

هذا خطاب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن عرض عليهم ما فعله بالأمم قبلنا، فعوقب من عوقب وأحسن إلى من أحسن، فقد لقي الكافر جزاءه من النار والسعير، ولقي المؤمن الرحمة والرضا والجنات الدائمة.

فقال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19] أي: ومن يظلم منكم يا أمة محمد بأن يشرك بالله، ويظلم نفسه، ويبتعد عن النور والهداية والإيمان بربه، ويبتعد عن الإيمان برسوله وبكتاب ربه، نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19] أي: نعذبه حتى يذوق ويتمتع ويهلك، والذواق هنا معكوس من نوع السخرية، كمن يذوق طعاماً لذيذاً وحلواً، كما قال تعالى لفرعون: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] .

فالذواق: العذاب والشدة والمحنة والسعير.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ...)

قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20].

هذا جواب قولهم الأول: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، فقال الله لنبيه وأسمع أولئك: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20] .

يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: لم تكن بدعاً من الرسل، ولم ترسل بشيء لم يرسل به الأولون، فمن سبقك من الأنبياء كانوا جميعاً بشراً.

فالأنبياء كانوا يأكلون الطعام، وكانوا يتناكحون ويتزاوجون، وكانوا يمرضون ويصحون، وكانوا يحاربون يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانوا يتكسبون في الشوارع يبيعون ويشترون، وكانوا يقومون بالمهن وبالصنائع، فكان منهم الحداد، ومنهم الزراع، ومنهم النجار، ومنهم البحار، فكانوا يتكسبون في الأسواق عارضين سلعة وشارين سلعة ومع ذلك يدعون إلى الله.

وفي هذه الآية مشروعية العمل، وأنه لا يليق بالإنسان أن يعيش عالة على الناس، وأن العمل ليس عاراً، والتكسب ليس منقصة.

وكان عمر رضي الله عنه يقول: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألته ما تعمل ووجدته لا يعمل سقط من عيني.

وهكذا الإنسان إذا لم يكن له عمل يعيش به من حرفة أو تجارة أو زراعة أو قلم أو فكر أو أي شيء يستغني به عما في أيدي الناس فإنه يكون ناقص الهمة ضعيف النفس، ويكون غيره الذي ينفق عليه ويتصدق عليه ويعطيه أشرف منه وأكرم وأنبل، إلا إذا كان عاجزاً، فإذ ذاك جعل الله رزقه وجعل حياته في بيت المال بعد أن يكون أولياؤه لا يملكون النفقة عليه ولا يملكون رزقه.

فالأسرة متضامنة، والغرم إذا التزم به إنسان لزم بقية الأقارب إعانته، فالإسلام هو الذي أتى بهذا كاملاً غير منقوص: زكاة وصدقة ونفقة، بحيث لو كانت الزكوات والنفقات تؤدى كما أمر الله ورسوله لما وجد فقير بين المسلمين قط.

ولكن انتشر الظلم، وأكل أموال الناس، فالزكاة في مالك ليست لك، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] واللام هنا هي للتمليك، أي: ملك لهم، وللفقراء إذا منعوا حقوقهم وزكاتهم أن يقاتلوا عليها بحد السلاح، فمن مات من الممتنعين فإلى سقر ودمه هدر، وإذا قيل أحد الطالبين للحق فيقتل قاتله.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً [الفرقان:20] فتن الله الفقير بالغني والغني بالفقير، فالفقير يقول: ما بال هذا أنا أذكى منه وأعلم منه وهو أغنى مني؟ ويقول الغني: ما بال الفقير يحسدني وأنا عملت أكثر؟

وتجد الرعية تفتن بملوكها وحكامها لمكانتهم، فيفتن هؤلاء بهؤلاء، ويفتن الصحيح بالمريض، فيقول المريض: لم هذا صحيح وأنا مريض؟ ويقول الصحيح: لم المريض يحسدني؟ أنا أعالج نفسي، أنا أبذل لها، وأنا لا أستهتر بصحتي، وهكذا دواليك في كل شيء.

وهكذا فتن الله الناس بعضهم ببعض وابتلاهم في الدنيا؛ اختباراً وامتحاناً ليرى هل سيصبرون ويعتقدون أن كل ذلك من الله أو لا، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] أي: أن الله هو الذي قسم المعيشة بين الناس، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله قسم بينكم عقولكم كما قسم بينكم أرزاقكم).

ومع ذلك يعمل إنسان من الصباح إلى المساء ولا يكاد يحصل شيئاً، ويعمل إنسان آخر ساعة أو ساعتين فيحصل الكثير والكثير، ولذلك ليس للإنسان أن يحسد أو يغار، وليس للإنسان أن يطالب بزوال ما عند غيره، بل عليك أن تعمل واحمد الله على ما رزقك.

فإن لم تكن لك قدرة على العمل أو لم تجد عملاً، فحياتك ورزقك من بيت مال المسلمين وفي أموال الأغنياء، فإن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عزوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يعذبهم على ذلك ويحاسبهم عليه.

إن انتشار الشيوعية والاشتراكية في الأرض عقوبة سماوية من الله؛ لمنع الأغنياء حقوق الفقراء، فاستبدوا بها وتركوهم جياعاً وعرايا ومرضى، وتركوهم جهلة، وإذا بالله الكريم يسلط عليهم من يأخذ أموالهم ويذلهم ويحتقرهم وينقصهم، ويقول عنهم: لصوص، وإقطاعيون وغير ذلك.

ولو كان المسلمون يؤدون زكاة المال وما أوجب الله في ذلك لوجدت الفقير يحرص على الغني، ويدعو له بالخير والسعة وطول العمر؛ لأنه يعيش من ذلك.

وهكذا دائماً فإن العقوبة من جنس العمل، فالله رزقه إذ خرج للدنيا ولا يملك شيئاً، وما هذا المال إلا مال الله، فقد قال تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] .

فعندما لم يعطوا مال الله للمستحقين من عباد الله سلط الله عليهم من يذلهم ويهينهم، ويزيل عنهم أملاكهم، ولعذاب الله أنكى وأشد إن ماتوا على ذلك.

قال تعالى: أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20] أي: هل يصبر الفقير على فقره، والغني على إعطاء الزكاة والنفقة وإعطاء السائل ما سأل؟ فقد جعل الله من صفات المؤمنين وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) .

فقوله: أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20] أي: أيصبر هؤلاء ويضرعون ويشكرون؟ أيصبر أولئك على شكر نعم الله ويؤدون من مالهم ما فرض الله؟

وكما قال القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم عندما عرضت عليه مكة وجبالها وبطحاؤها ذهباً وفضة: (بل أجوع يوماً فأصبر وأضرع، وأشبع يوماً فأحمد الله وأشكره)، وهكذا المؤمن فلا غنى يدوم ولا فقر يدوم، فهو مال الله يجعله الله دولة بين أيدي عباده، والغنى ابتلاء والفقر ابتلاء.

قال تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20] أي: بصيراً بالصابر من الشاكر، بصيراً بالمؤمن من الكافر، بصيراً بالصالح من الطالح، يعلم كل شيء، وقد أمر بما أمر به، وابتلى بما ابتلى به، فمن أطاع وامتثل فله الجنة والرحمة والرضا والحياة الطيبة في الدنيا، وله في الآخرة الرضا والرحمة والخلود في الجنان.

ومن كفر ولم يشكر ولم يصبر فله العذاب في الدنيا وأنواع البلاء، ولعذاب الله يوم القيامة أشد، والله بصير بكل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا...)

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21].

لقد تمادى هؤلاء المجانين في كفرهم، فقد طلبوا نزول الملائكة مع النبي ليؤيدوه، فهذه المرة طلبوا الملائكة أن تأتيهم، وطلبوا الرب نفسه أن ينزل إليهم ويقول لهم: صدق عبدي محمد، وتقول الملائكة: صدق محمد فقد أرسله الله.

فعندما تنزل الملائكة وتقول: نعم، صدق محمد، كيف سيعلمون أنهم ملائكة؟ وكيف سيصدقونهم؟ وإن كذبوهم فستنزل عليهم عقوبة الأرض والسماء، وقد قال الله لنبيه: إن شاء فعل ذلك، ولكن إن فعله ولم يؤمنوا فإنه سيعاقبهم بما عاقب به الأمم السابقة عندما طلبوا مثل ذلك وأعطاهم الله إياه.

فدمر قوم نوح بالغرق، ودمر ثمود وعاداً وقوم لوط وقوم فرعون بالغرق والسحق والرجم من السماء والعواصف وبكل أنواع البلاء في الدنيا قبل الآخرة.

فقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [الفرقان:21] أي: لا يخافون لقاءنا ولا يؤمنون به، أي: لقاء الله يوم القيامة، فهؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون باليوم الآخر لا يؤمنون بالله، قالوا: يا محمد! إن شئت أن نؤمن بك فلتنزل معك الملائكة علينا.

فقوله: لَوْلا [الفرقان:21] أي: هلا.

لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21] أي: هلا نزل ربنا فقال لنا: هذا عبدي فصدقوه وأنا أرسلته نبياً.

ولو خاطبهم الله بذلك لأصبحوا رسلاً أيضاً، ولو خاطبهم الملائكة لأصبحوا رسلاً أيضاً، فالله تعالى لا يكلم أحداً من خلقه إلا من وراء حجاب.

وعندما طلب موسى ما يشبه هذاقَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] قال له الله: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، وموسى من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك لما اندك الجبل وحدث له صوت كالرعد إذا بموسى يغمى عليه.

وطلب إبراهيم أبو الأنبياء من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال تعالى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فهذا لم يطلب الرؤية، وإنما طلب أن يرى كيف يعيش الإنسان بعد الموت، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة:260] وقد فعل، إذ جاء بأربعة من الطيور في قرية برزة من أرض الشام في الغوطة، فقطعها وخلطها عظاماً وريشاً ولحماً، وجعل في رأس هذا الجبل شيئاً وفي هذا شيئاً، ثم دعاها كما أمره الله، فأخذ الريش والأعضاء تطير حتى صار كل عضو في مكانه، وهكذا رأى ما أراد به الاطمئنان واليقين، أما أن يرى ربه فلم يطلب ذلك.

قال تعالى عن هؤلاء: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ [الفرقان:21] أي: تعالوا وتعاظموا وظنوا أنفسهم شيئاً، وهم على كفرهم وشركهم أرادوا أن يؤكد الله أن هذا نبيه ولم يكتفوا بالمعجزات، ولم يكتفوا بالسيرة النبوية في حد ذاتها، ولم يكتفوا بنزول القرآن، فقال الله عنهم: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ [الفرقان:21] أي: تعاظموا حتى ذهبت عقولهم، فاستعملوا الكبرياء والعظمة التي لا تليق إلا به جل جلاله.

قال تعالى: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21] العتو: هو شدة الطغيان والكفر، والإغراق في الكفر والإصرار عليه، فهؤلاء الكافرون لم يكتفوا بالكفر والشرك، بل زادوا فعتوا وطغوا وتجبروا واستكبروا استكباراً، وقوله: (عتواً) مفعول مطلق، أي: ازدادوا في الطغيان والجحود والكفران حتى تجاوزوا الحد في ذلك.

فهؤلاء المشركون أنكروا الساعة وكفروا بالله، فهم ليسوا سائلين حقاً ولا مستدلين بمعجزة، ولكنه التعنت والجحود والكفران، فلا يكاد النبي يظهر لهم معجزة أو آيةً أو عملاً إلا تركوا ذلك وطلبوا غيرها.

وهكذا إلى أن وصلوا ليطلبوا الملائكة تنزل عليهم، والرب نفسه ينزل عليهم -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- ليقول لهم: صدق عبدي، ولم يكتفوا بأن يقول: صدق عبدي بما أنزل عليه من وحي وكتب وعلم وأدب وسيرة انفرد بها دون الخلق، وكانت هي المثال الأعلى.

قال تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان:22] أي: اليوم الذي سيرون فيه الملائكة لن يبشروا فيه بخير، فإنهم لن يروا الملائكة إلا في حالتين: عند الاحتضار، أو يوم القيامة.

فمن احتضر وهو مشرك كافر تأتيه الملائكة وتنتزع روحه وتضربه من أمامه ومن خلفه؛ لينتزعوا الروح، وإذ ذاك لا يبشرون ولا سبيل إلى البشرى، بل يبشرون بالغضب واللعنة، وإذا أتاهم منكر ونكير وسألوهم: من ربك؟ من نبيك؟

فإنهم لا يحسنون جواباً؛ لأنهم كانوا مشركين في الدنيا، فينزلون عليهم بالمقارع وبالمرازب، إلى أن ينزل الإنسان إلى الأرض السابعة، ثم يصعد، وهكذا العذاب إلى يوم البعث والنشور، وبعد ذلك نار الله المتسعرة ونقمته الدائمة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الفرقان [17-22] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net