إسلام ويب

يأجوج ومأجوج من أكثر أمم الأرض، وأعظمها فساداً، وخروجهم من علامات الساعة الكبرى، وحينئذٍ يلقى كل إنسان جزاءه عند الله.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ...)

قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:96-97].

يقول جل جلاله عن هؤلاء الكفار العصاة المجرمين الذين طالما أنذرهم الرسل فلم يزدادوا إلا عتواً وتمرداً وعصياناً وخلافاً: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96].

ومضى بالأمس الكلام على يأجوج ومأجوج، وأنهم بشر من نسل آدم من ولد يافث بن نوح ، وأنهم عراض الوجوه، غلاظها صغار الأعين، تزدريهم العين، لا يكادون يفقهون حديثاً، ديدنهم الفساد والتخريب، وسفك الدماء منذ زمن طويل، حبسهم ذو القرنين بسد جعله دونهم، ولا يزالون كذلك ولا يخرجون إلا عند قرب قيام الساعة، وهم كل يوم يحاولون أن يحفروا نقباً في هذا السد؛ لينتشروا ويخرجوا للفساد والتخريب.

وقد قيل: إنهم التتار، فلقد طالما خربوا وأهلكوا الحرث والنسل وسفكوا الدماء، ولكنهم ليسوا يأجوج ومأجوج، كما في كتاب الله الكريم، وكما أكدت ذلك السنة المطهرة أن يأجوج ومأجوج يكادون يتصلون بقيام الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام عندما ذكر علامات الساعة الكبرى: (إن يأجوج ومأجوج يخرجون بعد نزول عيسى من السماء، ولا يكون بعدهم إلا قيام الساعة)، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (قد يشتري الإنسان فلواً -ولد الحصان- ولكنه لا يكاد ينتفع به وتقوم الساعة).

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96]، أي: فتح السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج، وإذا بهم ينسلون من كل حدب، ومن كل تل ومرتفع من الأرض، والحدب: هو الارتفاع في الأرض، وهو التلال.

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، أي: يأتون مسرعين يجرون جري الذئاب الخفاف من الحيوانات.

تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق...)

قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء:97].

أي: الوعد بالقيامة وبالبعث، الوعد بالحياة بعد الموت، عندما يكون خروج يأجوج ومأجوج، واقتراب الساعة حتى كأنها الحامل المتم يقول أهلها: تكاد تصبحنا أو تمسينا، في هذه الساعة يرى الكافرون الظالمون أن ما كانوا يكفرون به وينكرونه قد أتى وأصبح وعداً حقاً، وقد كان قبل ذلك، ولكنهم لم يؤمنوا به كفراً وعناداً ومخالفة وعصياناً.

قوله: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا[الأنبياء:97].

وكأنها صورة تراها العين بالمشاهدة، عندما يقترب الوعد الحق ويقترب قيام الساعة، ويكون قبل ذلك بقليل قد فاض على الدنيا يأجوج ومأجوج، فخربوا وأهلكوا الحرث والنسل، إذا بالساعة يظهر قيامها، فينفخ إسرافيل في الصور وإذا بمن كان منكراً للبعث أبصارهم شاخصة، تفتح أعينهم وما كادوا يصرفونها ذهولاً وضياعاً وتيهاً، وإذا بهم ينادون ويجأرون: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا[الأنبياء:97].

هؤلاء يصيحون وينادون: يا ويلهم! يا خراب ديارهم! يا خسارتهم لدنياهم وأخراهم! ينادون: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا[الأنبياء:97] أي: عن هذا، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض.

ينادون صائحين ذاهلين وأبصارهم شاخصة شأن المغمى عليه، المأخوذ، التائه الضائع العقل المفاجأ بما لا يعجبه، وعيونه تكاد تخرج من مكانها شخوصاً لا مظهراً ولا رؤيا يقولون يا ويلنا وحذفت (يقولون) كما هي فصاحة القرآن وبلاغته أن يحذف ما يعلم من السياق كما يقول ابن مالك في ألفيته: وحذف ما يعلم جائز.

يقولون: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا[الأنبياء:97].

قد كانوا في دنياهم غافلين تائهين ضائعين، لا يكادون يفكرون في مثل هذه الساعة إلى أن فجأتهم بالبلاء والعذاب، وما كانوا قد طلبوا أن يؤمنوا به غيباً أصبح مشهوداً وحاضراً، ولا ينفع إيمان نفس لم تكن آمنت من قبل، فما كان إيماناً بالغيب يصبح شهوداً وحضوراً، وإذ ذاك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حتى ارتبطت بهذا وتعلقت به عندما يحدث خروج يأجوج ومأجوج من السد، وتقترب الساعة قرباً واقعياً بما يذهلون له، وبما يرون أن الأرض قد طويت طي السجل للكتب، وأصبحت السماء كالعهن المنفوش.

وهكذا وإذا بهم يصيحون: يا ويلهم! يا بلاءهم! يا خسارتهم! قد كانوا وهم أصحاء الأبدان حاضرو العقول في غفلة من هذا ولم يؤمنوا به، ولم يعترفوا به، وكذبوا أنبياءهم وكتاب ربهم، ثم أضربوا عن القول وقالوا: لم نكن غافلين بعد، بل كنا ظالمين، أي: ظالمين لأنفسهم بالكفر والعصيان، وهيهات أن ينفعهم عند هذا إيمان أو اعتراف أو توبة.

تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ...)

قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98].

وإذا بالله الكريم يتهددهم، بل ويعاقبهم فعلاً، وما كانوا قد أوعدوا به قد آن أوانه وحل زمانه.

حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أي: حطبها ووقودها.

قال تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقودها الكفرة .. وقودها العصاة .. وقودها المؤمن عندما يعصي فيؤدب زمناً ثم يكون مآله إلى الجنة، ووقودها الكافر المشرك، يبقى وقوداً لها أبد الآبدين، ولا خروج منها للكافر.

فيقول تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98].

أي: يا هؤلاء الكفرة! الذين أشركتم بالله غيره، وعبدتم أصناماً وجمادات، وعبدتم ما لا يضر نفسه ولا ينفعها، فأنتم وما تعبدون من هذه الأصنام الوقود والحطب لجهنم؛ كي تتقد وتستمر تحريقاً ولهباً.

أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] أي: داخلون مقيمون لابثون.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...)

سمع هذه الآية مشركو مكة فإذا بهم يقولون لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ويتولى كبر القول ابن الزبعري الشاعر، وكان لم يسلم بعد، ولكنه بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه قال: يا محمد تقول: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] كيف هذا واليهود يعبدون العزير، والنصارى يعبدون عيسى ومريم، وبنو مليح من العرب يعبدون الملائكة، هل سيدخل معنا إلى النار عيسى والعزير ومريم والملائكة؟

وإذا بالله الكريم يقول بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، فالله استثنى هؤلاء، و(إن) في الآية معناها (إلا) ولا ثاني لها في القرآن بهذا المعنى.

قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] إلا من سبقت لهم منا الحسنى أي: سبقت لهم منا العافية والهداية، وسبق لهم منا التوفيق، وفي طليعة هؤلاء نبي الله عيسى والعزير ومريم والملائكة.

والنبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية احتج باللغة التي يعرفها هؤلاء، فقال لهم: (وما تعبدون) (ما) لا تقع إلا على غير العاقل، فأنتم وما تعبدون من أصنام وأحجار وجمادات، ولا تشتمل العاقل.

وهنا استثني من يعبد من دون الله من الأنبياء وغيرهم كعزير وعيسى ومريم والملائكة، فهم لم يرتضوا ذلك ولم يقبلوه، وعندما علم بعضهم بداية ذلك تبرأ منه وأنكره، ونفر قومه وهددهم ووعدهم ممن فعلوا هذا.

ومن المعلوم في لغة العرب أن (ما) اسم موصول يطلق على غير العاقلين، و(من) على العاقلين، والآية هنا في الأصل لا تحتاج إلى استثناء، وإن كان الاستثناء يعتبر تأكيداً وتوثيقاً: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:98] والخطاب للمشركين: حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أي: وقود وحطب جهنم، أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، أي: داخلون.

تفسير قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها...)

قال تعالى: لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99].

يقول جل جلاله: لو كان هؤلاء المعبودون من دون الله من أصنام وأوثان وأحجار وجماد آلهة كما يزعم المشركون لما دخل عابدوها النار، ولأنقذوا عابديهم ودافعوا عنهم.

ولما كانوا أعجز من أن يدافعوا عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم كان ذلك من علامة أنها ليست بآلهة؛ لأن من يملك الدفاع عن نفسه يقاوم ولا يذل، فكيف به يذل ويذل غيره ويعجز أن ينجيه؟! وهكذا هذه الآلهة على أنها وعابديها في النار، فهم كذلك دخلوا في أنهم حصب جهنم كمن يعبد الجن .. ومن يعبد الفراعنة .. ومن يعبد حكامهم .. ومن يعبد زعماءهم.. ومن يعبد كبراءهم وما أكثرهم قبل وبعد! (إنكم وما) وهنا ينزلون منزلة الحيوان غير العاقل فيدخلون في (ما).

يقول ربنا: لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99].

أي: لو كان هؤلاء المعبودون من الأصنام والجن والبشر آلهة لما دخلوا هم وعابدوهم إلى النار، فهم فيها خالدون خلوداً أبدياً سرمدياً: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

تفسير قوله تعالى: (لهم فيها زفير وهم فيها خالدون)

قال تعالى يصف هؤلاء ساعة دخلوهم النار: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء:100].

الزفير: دخول النفس من الخارج، والشهيق: خروجه من الداخل، وهذا نتيجة الغم والعذاب، ونتيجة ما هم فيه فتجدهم في زفير وشهيق دائمين لا تكاد تقف أنفاسهم وقوف الهادئ المستقر.

لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ [الأنبياء:100]، أي: نفس قوي يهبط بهم ويصعد، خروجاً ودخولاً، زفيراً وشهيقاً.

وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء:100].

وهذا كناية عن شدة العذاب وعظم البلاء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: عندما يخرج المسلمون الموحدون الذين امتحنوا بدخول النار ولا يبقى في النار إلا كافر مخلد أبداً، يوضع هؤلاء المخلدون في توابيت فتغلق عليهم بحيث يظن كل معذب منهم أنه وحده الذي بقي في النار، فلا يسمع ما يقال، ولا يسمع ما يجأر به، ويصيح له، ويضرع له من معه، يصبحون صماً بكماً عمياً لا يرون إلا ما هم فيه من تابوت وقد أغلق، فلا يسمعون ولا يرون الخارج عنه، وهكذا عذاب هؤلاء المشركين الذين أبوا إلا الجحود والكفران والتمرد على أنبيائهم وعصيان ربهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...)

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101].

يقرن الله جل جلاله في كتابه بين العذاب والرحمة، بين النار والجنة، بين المغفرة والعذاب؛ لتبقى النفس البشرية ترجو رحمة الله إن هي تابت وأنابت، وتخاف عذابه إن هي تمردت وأبت وعصت.

ففي الآيات الماضية الوعيد والتهديد، وما يلاقيه المشركون من عذاب الله ولعنته، وهنا في الآية الآتية بشر الله المؤمنين الموحدين بنعيم مقيم ورحمة دائمة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101]، أي: سبق لهم من الله تعالى الرضا والرحمة والحسنى نتيجة إحسانهم: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].

المؤمنون الموحدون الذين سبق في علم الله في الأزل أنهم سيكونون مطيعين ومؤمنين، ومستجيبين لدعوات الرسل ولأمر الله ورسوله، هؤلاء يبعدون عن النار بعد السماء عن الأرض.

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:102].

أي: ولا حركتها، ولا لهبها، ولا قرقعة نارها، وهكذا الله جل جلاله يقرن رحمته بعذابه؛ ليرجو المؤمن ويخاف التائب، ويوعد ويهدد المذنب عله يئوب ويعود إلى التوبة، فيغفر الله له ويكرمه برحمته وجنانه.

تفسير قوله تعالى:(لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون)

قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:102].

أي: بعداء عنها، على كبر النار وشدة لهيبها، وقرقعة وقودها، ونداء المعذبين بويلهم وبعذابهم، وما يلاقون من شدة ومحنة وعذاب هم بعداء عنها.

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:102]، أي: صوتها، وحركتها، ولهبها، وقرقعة وقودها وهي تحترق.

وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:102].

وهم والحالة هذه فيما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين كما قال ربنا في آية أخرى، وفيها كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

قوله: خَالِدُونَ [الأنبياء:102]، أي: هم خالدون، ممتعون، مكرمون في كل ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم، ويريدونه ويحرصون عليه مما لا يكاد يخطر لهم بخيال ولا بال.

تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر...)

قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُن [الأنبياء:103].

وهم داخلون إلى الجنة من الأبواب تقف الملائكة يميناً وشمالاً شأن المضيف القائم على دار الضيافة في الدنيا، ولكن بما يتجاوز كل ذلك، ولا يخطر على بال، تتلقاهم وتستقبلهم الملائكة عن يمينهم وشمالهم، وأمامهم وخلفهم، ويطيعون كل واحد على قصوره وحوره العين، وعلى ما متع به وانفرد به: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103] وتقول لهم: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].

أي: تقول لهم: يا أيها المؤمنون! يا أيها الذين رضي عنهم ربهم! ورحمهم بفضله وكرمه! هذا اليوم الذي طالما مناكم به ربكم، ووعدكم به ربكم من نعيم مقيم دائم، ومن مياه متدفقة، ومن حور عين، ومن قصور وثمرات وفواكه، ومن ماء أبيض من الحليب، وأحلى من العسل.

هذا ما نطق به القرآن وكتبكم السماوية، وبشرتكم به أنبياؤكم ورسلكم عن الله تعالى، وها أنتم هؤلاء قد وجدتم ذلك حقاً في غزوة بدر، عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه نصراً معززاً، وأمر برمي جيف أعدائه في البئر، ووقف على جثث أولئك وجيفهم قائلاً: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44] فقد خاطب أرواحهم هل وجدوا ما توعدهم به على لسان رسوله.

ثم عاد فقال لهم: أما أنا فوجدت وعد ربي حقاً، والوعد الذي وجده النبي صلى الله عليه وسلم هو أن العاقبة للمتقين، وأن النصر في الأخير لرسل الله وأتباعهم، وقال له الأصحاب وهو يخاطب هؤلاء: ما تحدث من أقوام موتى لا يسمعون ولا يعقلون؟

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب)؛ لأن الذي فني منهم وذهب الجسد وفيه أداة السمع والكلام، وأداة ما يمكن أن يأخذوا ويعطوا.

أما الأرواح فتبقى وتعود للأجساد عندما يبعث الله تعالى الخلق والبشر يوم البعث للعرض عليه جل جلاله.

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب...)

قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

متى يكون هذا؟ متى يكون عذاب المشركين الكافرين؟ ومتى يكون تنعيم المؤمنين وإكرامهم بالجنان حيث تستقبلهم الملائكة فرحين بهم مرحبين بهم، قائلين لهم: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]؟

يكون هذا: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، أي: يوم القيامة، يوم فناء الدنيا بسمائها وأرضها، يوم لا يبقى إلا الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، يوم يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: أنا الملك! أنا ملك الملوك؛ جل جلاله وعلا مقامه.

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ [الأنبياء:104]، أي: تطوى السماء كما يطوى الكتاب والصحيفة والورق، وتذهب السماء وكأنها لم تكن، والورقة يقرؤها الإنسان وعندما ينتهي منها في العادة يطويها ويرميها في سلة المهملات.

كذلك السماء تطوى كطي السجل، والسجل: هو الورق، وأشبه ما يكون بغلاف الكتاب وجلده.

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104] وفي القراءات السبع: (للكتاب).

والسجل: ورق.

والكتاب هنا: المكتوب، أي: كما يطوى المكتوب ضمن هذا الورق، ومعناه أن السماء تنتهي وتصبح عهناً منفوشاً وكأنها لم تكن، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] أي: يفنى كل ما على الكون، وكل ما في الخليقة، ويبقى الله الدائم الحي لا ملك ولا جن ولا إنس يكون هذا يوم ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله، وقديماً منذ (1400) عام قال لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، عن إسرافيل أنه قال: كيف أضحك وقد انحنيت على الصور أنتظر أمراً من الله بالنفخ فيه؟!

وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين) فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من العلامات الصغرى ليوم القيامة، ونحن مقبلون على العلامات الكبرى، ولا يعلم الساعة بزمنها هل هي في نهار أو ليل إلا الله.

وعندما سأل جبريل نبينا عليهما السلام: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكن عاد فسأل: (ما أماراتها؟) فأخذ يجيب عن العلامة، ونحن في العلامات منذ ظهر في هذه البطاح المقدسة سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله: يَوْمَ نَطْوِي [الأنبياء:104] أي: أولئك خالدون في النار، وهؤلاء خالدون في الجنة، يكون أولئك معذبون وهؤلاء منعمون.

قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

ثم بعد الفناء والذهاب، وبعد الموت يعيد الله الخلق الذي بدأه أول مرة، هو كما ابتدأه قادر على أن يعيد خلقه، وهذا هي حجج العقول لمن له عقل، نحن نرى أجسامنا وأنفسنا، ونرى غيرنا في الوجود من الذي أوجدنا؟ من الذي خلقنا؟ من الذي أعطانا هذه الحواس؟

لقد خرجنا أطفالاً من بطون أمهاتنا ومن أصلاب آبائنا، ثم كبرنا.. ثم ذهبنا كما ذهب الآباء والأجداد، وبعد مائة سنة أين من كان يسكن مكة ويسكن جزيرة العرب؟ بل ويسكن الأرض؟ ذهبوا في أمس الدابر، وسنصبح يوماً حديثاً في أمس الدابر كما كان الأولون.

ويأتي بعدنا من يحتل أرضنا ويرث أملاكنا، ويفعل! ويفعل! وهكذا فكما أننا خلقنا من عدم لا شك أن لنا خالقاً موجداً، هو الله الخالق جل جلاله.

فكما ابتدأنا الله بلا مثال سابق ولم نكن موجودين هو قادر جل جلاله على أن يعيدنا، قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79] ذاك منطق العقول لمن لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

عندما يفعل ذلك بعد زمن الله أعلم به، ولكنه سيأتي لا محالة، فيعيد خلقنا كما كنا في دنيانا ونبعث كما متنا شيوخاً أو شباباً أو أطفالاً، نساءً أو رجالاً، أصحاء أو مرضى، ثم نعرض على الله حفاة عراة غرلاً، والسيدة عائشة رضوان الله عليها حين سمعت هذا من رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت: أيرى بعضنا بعضاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هيهات يا عائشة ! الناس ليس لهم هم في ذلك، كل في بلائه ومصيبته ويقول: نفسي! نفسي!)، قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، أي: كما بدأ الله أول الخلق آدم من تراب ثم حواء منه، ثم سلالته من نطفة من ماء مهين، سيعيد خلقنا، وقد وصف لنا ذلك عليه الصلاة والسلام، فذكر أن في منتهى فقرات الظهر حبة كقدر العدسة اسمها: عجب الذنب، ستبقى كالبذرة للإنسان، فعندما يأمر الله بالبعث والنشور تنزل أمطار، وإذا بهذه الحبة تنبت كما ينبت النبات، وإذا بنا قياماً ننظر ونحن معروضون على الله نذهب زحفاً إلى أرض المحشر، وإن أرض المحشر هي أرض الشام.

قوله: (وعداً علينا) أي: وعدنا ذلك وعداً، أو أوجبنا ذلك على أنفسنا، ولا يجب على الله شيء كما أوجبه على نفسه.

قوله: إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، أي: فاعلين لهذه الحياة بعد الموت؛ لعذاب المسيء ولرحمة المحسن، وعليه أرسلنا الرسل مبشرين مبشرين المؤمنين بالرحمة والجنة، ومنذرين العصاة بالغضب والنار.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنبياء [96-104] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net