إسلام ويب

عاقب الله تعالى السامري الذي أضل بني إسرائيل، وقد أمره موسى باعتزال الناس، وهدده بالموعد الذي سيأتيه فيحاسبه على ما أجرم وافترى.

تفسير قوله تعالى: (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ...)

قال تعالى: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97].

أي: ابتعد واعتزل، وليبتعد الناس عنك وليعتزلوك. وقد استوحش وأصبح في الصحاري، وكأنه الحيوان الوحشي لا يألف ولا يؤلف، فإذا رأى إنساناً بعيداً صاح وفر.

قال له موسى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ [طه:97]:

أي: لك موعد من ربك في عقوبتك وفي عذابك يوم القيامة لن تخلفه، ولن يتخلف هذا الموعد عنك ولا عن كل مذنب يوم الحساب والعقاب والعرض على الله.

وهكذا أنذره موسى بعد أن عاقبه عقوبة الدنيا التي يملك، وترك عقوبة الله التي لا يملكها غيره، فله موعد من الله يوم القيامة لن يخلفه.

ثم قال له: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه:97]:

ثم انظر إلى هذا العجل الذي زعمته إلهاً ماذا سنصنع به؟ والذي صنع أنه حرقه وأذابه وعاد به إلى أصله، ثم برده إلى أن أصبح برادة كالنخالة، وجاء في يوم عاصف إلى شاطئ البحر فنفثه ونسفه إلى أن تشتت في الهواء.

الَّذِي ظَلْتَ [طه:97] أي: ظللت، حذفت إحدى اللامين للتخفيف، وهي من بلاغة القرآن الكريم، يقال: ظل فلان يومه يصنع، أي: اليوم كله، وكان ذلك عمله.

ومعنى ظَلْتَ عَلَيْهِ [طه:97]: دمت على عبادته وزعمت أنه إله، فانظر ماذا سنصنع به؟

ثم أقسم موسى: (لنحرقنه) واللام هنا لام موطئة للقسم، وأكدت بنون التوكيد الثقيلة.

وكان التحريق لهذا الذهب والمعدن بأن يذاب إلى أن يعود لأصله، ثم يبرد.

ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ [طه:97] النسف: الذر والتشتيت في الهواء، كمن يأتي إلى نخالة دقيق أو تراب فينفخه، فيبعثر ويذر على مختلف النواحي.

ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ [طه:97] واليم هو البحر.

تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو...)

قال تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98].

ثم عاد موسى داعياً إلى الله مؤكداً دعوته لعبادة الله الواحد، وأنه هو ومن سبقه من الأنبياء ومن يأتي بعده كعيسى ونبينا عليهم جميعاً الصلاة والسلام؛ كلهم ما جاءوا إلا للدعوة إلى الله الواحد، فلا صنم ولا شريك لا من حي ولا من ميت، لا من ملك ولا إنسي ولا من جني، لا من صامت ولا متحرك، فالله الواحد هو المعبود الحق والإله الحق في الأولين والآخرين.

قوله: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ [طه:98] إنما: أداة حصر، أي: الألوهية والعبودية محصورة في الله الذي لا إله غيره، فلا ثاني له ولا شريك له لا في ذات ولا صفة ولا فعال.

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]:

علماً: منصوبة على التمييز، أي: وسع علمه كل شيء، وأحاط بعلم كل شيء، فلا تخفى عليه خافية لا في الضمائر ولا في النفوس، ولا في البر ولا في البحر، ما من غائبة إلا يعلمها، ما من ورقة تلقى في ليل أو نهار أو شرق أو غرب إلا وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.

وبهذا تكون قصة موسى قد انتهت هنا في سورة طه، وقد كررت في القرآن في أكثر من مناسبة، وعند كل مناسبة يؤخذ منها معنى جديد، وقد تساءل الناس قبلنا: ما حكمة الإلحاح على قصة موسى وقصة النصارى بما صنعوا لعيسى. وما صنع معهم عيسى في القرآن؟

والأمر بين وواضح؛ فالأديان السابقة كلها انتهت بعد أن حرفت، ولم يبق آثار من وثنيات وعبوديات زائفة وباطلة تظهر في عبدة الفروج وعبدة القرود وعبدة البقر وعبدة الحيوانات، لكنهم لا يملكون كتاباً يقولون إنه من عند ربنا، انحرف أو لم ينحرف.

ولم يبق من ذلك إلا ديانة موسى وعيسى بعد أن حرفتا وبعد أن بدلتا، وبعد أن غيرتا، وبعد أن انتقلتا من عبادة الله الواحد إلى الوثنية وعبادة من دون الله، فالنصارى عبدوا ثلاثة: الله وعيسى ومريم.

واليهود عبدوا العجل مع الله، وعبدوا العزير مع الله، وزعموا أنهم جميعاً أبناء الله، فأعطوا لله صورة مخلوقة بشرية على حسب فساد عقولهم وفساد أديانهم، ولاقوا في حياتهم ولا يزالون يلاقون من عذاب الله ونكاله.

فالله جل جلاله قال ذلك في الكتاب المنزل على نبينا، والذي أمرنا وغيرنا من سكان الأرض منذ الدعوة المحمدية وإلى قيام الساعة أن نلتزم ما فيه، وأن نحلل حلاله، ونحرم حرامه.

فكان مما وعظنا به الله وأنذرنا، أن بشرنا وأنذرنا أنكم الآن على دين الحق، فإذا غيرتم أو بدلتم فمن بدل منكم عن علم كما بدل اليهود فستكون عقوبته في الدنيا عقوبة اليهود.

ومن بدل منكم عن جهل ولم يكلف نفسه علماً ولا تعلماً فسيعاقب عقوبة النصارى الذين ضلوا عن جهل.

وهكذا دواليك، ولكن مع هذا الوعظ الشديد والنذارة الشديدة والبشارة الدائمة ضل الكثيرون منا وجروا خلف اليهود، فاتبعوا ماركس ولينين وأمثالهما من اليهود، وإذا بالله الكريم يعاقبهم عقاب اليهود، بل ويسلط عليهم اليهود، وما تسليط اليهود علينا إلا لأننا خرجنا عن أمر الله وطاعته، وسعينا في أن نقتفي أثرهم، ونعبد العجل معهم، ونشرك شركهم، فكان ما ترون.

ولا أحد أصبر من الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سبحانه يرزقنا ويعطينا ومنا من يدعو مع الله إلهاً، ومنا من يظل ليله ونهاره على المعصية والكفر والشرك والردة، ولن يرفع الله عقوبته ولا عذابه ما لم نتب إليه ونعود إليه تائبين وله حامدين في أن يرفع عنا ما ابتلينا به.

وهكذا اليوم تجد الإنسان يزعم أنه متحضر، ومن تحضره في ما يزعمه ويعلنه أنه قَبِل الهوان والاستسلام، وقبل الكفران والبعد عن القرآن.

يقول موسى كما قال الله عنه: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] .

أعطى عباده عقولاً يعقلون بها أنفسهم عن الباطل والفحشاء والسوء، ولكنه علم من سيفعل ذلك منهم ومن سيخالف ذلك، وهو العالم بكل شيء قبل أن يكون وبعد أن يكون، ولو لم يكن لو كان كيف سيكون.

تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق...)

ثم قال تعالى ممتناً على رسوله ومعلناً لنا بأن ما يقصه الحق: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99].

أي: وكما قصصنا عليك قصة موسى وفرعون ولم تكن تعلمها قبل، وكانت مشوشة عند الناس مبدلة محرفة، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق.

وقد قص الله علينا قصص خلق آدم، ونوح مع قومه، وصالح مع قومه، وهود مع قومه، ولوط مع قومه، وإبراهيم مع قومه، وقصص جميع أنبياء بني إسرائيل، وهكذا دواليك.

وقص علينا قصص شعوب بائدة، وكان كل ما قصه لم يكن معلوماً عند العرب، فقد كانوا أمة أمية لا يحسبون ولا يكتبون، فمن أين جاءته هذه المعارف؟ أليست هذه معجزة المعجزات الخالدة إلى يوم القيامة؟

إنسان عاش بين قومه أربعين عاماً لا يعلم شيئاً، ففيه ذكاء ونبوغ، ولكنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ على شيخ، وإذا به بعد الأربعين سنة يصبح وقد فاجأ قومه وفاجأ الخلق كلهم مشارق ومغارب بهذه العلوم التي وسعت الأولين والآخرين، بقصص السابقين واللاحقين، بما كانوا عليه وبما يكونون، من أين جاءه كل ذلك؟

وأتى به بكلام معجز على فصاحة العرب وبلاغتهم وما أعطوا من تفنن في القول، وقد عجزوا عن أن يأتوا بآية من مثله، بسورة من مثله، ولا يزال العجز قائماً، والتعجيز قائماً، لا أمة في الماضي، ولا أمة في الحاضر ولا في الآتي، ولا إنسان مهما بلغ من الفصاحة والبلاغة، لن يستطيع الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، بل ولا بآية.

فإن حاول أتى بالغث، أتى بالسخيف من القول، أتى بما يتضاحك به وتضحك منه الثكلى، فالله جل جلاله يقول لنبيه ولنعلم نحن ذلك: لو لم يكن محمد نبياً حقاً صلى الله عليه وآله فمن أين أتته هذه العلوم وهذه المعارف؟ على من درسها وكيف درسها وهو لم يعش إلا في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب.

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه:99] أي: من أنباء القوم السابقين كما لو عشت معهم.

ومن هنا نعلم متأكدين قاطعين أن قصص القرآن هي قصص واقعية، هي قصص كانت ذات يوم لأشخاص وأعيان وأزمان وأجيال وأوقات، لا كما زعم من ارتد ممن يدعي العلم ويدعي المعرفة منذ مائة عام وهلك مع الهالكين.

قال عن قصص القرآن: هي أشياء متخيلة، ذكرت لضرب الأمثال وأخذ العبرة، ولم يكن لها في التاريخ والواقع وجود.

وضل هذا وأضل غيره، وجاء بعده من قال بذلك وكتب عنه أطروحات وكتباً، وهذا كله ضلال في ضلال، ردة في ردة، خروج عن كتاب الله وخروج عن أمر الله ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقصص كله حق.

ومن هنا عندما ابتدأ الناس البحث عن الآثار في الأرض، هذه الآثار قد لفت الله نظرنا إليها فأمرنا أن نضرب في الأرض ونرى الآثار، وقد وجدنا آثار كل من قص الله قصصهم من قوم فرعون، ومن قوم لوط، ومن قوم إبراهيم، ومن جميع أنبياء بني إسرائيل.

فكان ذلك مكذباً للواقع المحسوس الملموس باليد حتى للكافر، حتى لضائعي العقل، حتى للذي يعيش في الزيف والباطل.

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه:99] من أخبارهم.

وقوله تعالى: مِنْ [طه:99] من هنا للتبعيض، أي: يذكر لنا بعض ما سبق من قصص هؤلاء، هذا القرآن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن فيه خبر من قبلنا، وأن فيه خبر ما بعدنا، وأنه الحكم الفصل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، ورأينا ذلك رأي العين، بل ولا نزال نعيش في واقعه.

قال تعالى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] والذكر هنا القرآن، كما أن الذكر محمد عليه الصلاة والسلام، لأن لله عباداً إذا رؤوا ذكر الله، وكان في طليعة هؤلاء العباد نبينا صلى الله عليه وعلى آله، ما رئي إلا وذكر الله، وقيل ليس هذا بوجه كذاب، وقيل: هذا الناطق عن الله، وقيل: هذا المذكر لله وفي الله.

وكثيراً ما جاء أعراب سذج لا يكادون يميزون فرأوا إشراق النبوءة، ورأوا النور النبوي على جبينه فقالوا: والله ما هذا بوجه كذاب، فآمنوا به دون أن يسمعوا معجزة ولا برهاناً ولا دليلاً، كان ذلك بالحدس، كان ذلك باليقين أن مثل هذا لا يكذب.

ومن لا يكذب على البشر مدة أربعين عاماً وقد عاش بين قومه، عرفه الصغير والكبير، وهو ابن زعمائهم وابن قادتهم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً؟ حاشا الله ومعاذ الله.

وقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] أي: من عندنا، ومعناه: أن الكتاب كتاب الله، والذكر ذكر الله، وما محمد عليه الصلاة والسلام إلا مبلغ عن ربه، قد خلت من قبله الرسل فهو خاتم الرسل.

ومن أسماء القرآن: القرآن والفرقان والذكر، ما قرأه إنسان إلا وتفكر الحق وميز الباطل، وذكر ربه، وذكر بشراه، وذكر عقوبته فتذكر ورجع إلى الله، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة طه [97-99] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net