إسلام ويب

تشتمل سورة التوبة على جملة من الأحكام المتعلقة بعلاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب، ففيها إعلان البراءة من المشركين، وبيان الموقف الحربي من المشركين غير ذوي العهد، والأمر بإجارة المستجير ودعوته إلى الإسلام، وذلك أمر يتضمن التفريق بين جملة المشركين، والحرص على إيصال الهدى إلى من يطمح في إسلامه.

ذكر نسبة سورة التوبة وعدد آياتها وزمن نزولها

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا درس حول تأملات لنا في كتاب ربنا جل جلاله، وقد كنا قد انتهينا إلى سورة الأنفال، وسنشرع في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- في تأملات في سورة التوبة، سائلين الله جل وعلا التوفيق لما يحبه ويرضاه، والعون والسداد على التأمل فيه.

وإن المخاطب بمثل هذه التأملات هم طلبة العلم في المقام الأول، ولهذا يهمنا جداً أن نعرج على ما في الآيات من مسائل علمية يحسن تدوينها، والمقصود من هذه الدروس وأضرابها إنشاء جيل قرآني يتدبر القرآن، وهذه مساهمة -لا أكثر ولا أقل- في إحياء جيل ينشأ على تدبر القرآن؛ لأن الله جل وعلا نعى إلى أهل الإشراك غفلتهم عن القرآن بقوله: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

فنقول مستعينين بالله جل وعلا: سورة التوبة سورة مدنية، وعدد آياتها مائتان وتسع وعشرون آية، وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن، كما ثبت عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن سورة براءة آخر ما نزل.

وليس المقصود بأنها آخر ما نزل كآية، وإنما هي آخر ما نزل كسورة مجملة، وأما آخر آية نزلت ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: هي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] وهو الأظهر، ومنهم من قال: هي آية المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] وقيل غير ذلك، ولكن هذين هما المشهوران.

أهمية فهم التدرج في الأحكام والأمر بالتبليغ

وقبل أن نشرع في تفسير الست الآيات الأول منها نقدم إجمالاً عن هذه السورة، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، وأول ما أنزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فلم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه للناس، وكان يقرؤه في نفسه، ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم إعطاء الشيء دفعة واحدة، فمن رام شيئاً دفعة واحدة سيسقط عما قريب، ولكن الله جل وعلا له سنن لا تتبدل ولا تتغير، والله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، وهو القائل لعبده: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] فلا يعطى الإنسان العطايا مرة واحدة، وإنما يتدرج في ذلك، وعلى هذا بنيت الدنيا، وعلى هذا أجرى الله السنن في الكون.

فهذا النبي الكريم أنزلت عليه سورة العلق ولم يقل له ربه: ادع الناس، ولم يقل له: اتل القرآن على الناس، فلما نزل من ذلك الجبل خائفاً وجلاً، وضمته زوجته خديجة رضي الله عنها، وآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه سورة المدثر وأمره بأن ينذر عشيرته الأقربين الذين حوله، ولم يؤمر بأكثر من هذا، ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكة وحولها، كما قال الله: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام:92].

والقرآن يجب أن يفهم مقروناً بالسنة؛ لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءاً، ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته ليفهموا القرآن، ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنة، ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئاً، وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا الصحابة؛ لأنهم لم يفهموا مراد الله على ما أراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام:92] ولكن لا يقصد الله من هذا نهاية النذار، وإنما هي التهيئة التدريجية.

ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة، ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه، وعقد صلح الحديبية مع أهل مكة واطمأن أخذ صلى الله عليه وسلم في عالمية الدعوة، فراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وقوله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

وفي ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة.

بيان طبيعة المرحلة الزمنية التي نزلت فيها السورة

فهذه السورة من آخر ما نزل، حيث نزلت في العام التاسع من الهجرة في شهر رجب، وفي سنة تسع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك، وقد سميت هذه الغزوة في القرآن بغزوة العسرة، قال الله جل وعلا: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] وسماها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة غزوة تبوك، ولذلك لما تكلم الإمام البخاري رحمه الله عنها قال: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)؛ ليجمع بين تسمية السنة وتسمية القرآن.

ففي العام التاسع من الهجرة خرج صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك، وفي ذلك الوقت كان هناك شح في المال، وضمور في الثمار، وحر في المناخ، فأصاب الناس فتن، فانقلبوا فكانوا أقساماً في اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم المثبطون المحبطون، ومنهم الناصرون، ومنهم البكاءون، فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني وقت أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة واستنفر الناس لغزوة العسرة، وكشفت الكثير من الأسرار كما سيأتي.

ثم عاد صلى الله عليه وسلم من تبوك من تخوم البلقاء، وأذعن له الروم عامة، بمعنى أنه لم تحصل حرب، واطمأن صلى الله عليه وسلم بأن الروم لن تغزوه، فرجع من تبوك حين لم يجد قتالاً، ورجع إلى المدينة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع، ثم قال: إن العرب يحجون عراة، وأنا لا أريد أن أحج على هذا الحال، فأمر أبا بكر بأن يخرج في الناس أميراً على الحج؛ لأن مكة كانت قد فتحت في العام الثامن، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، ثم بعد ذلك أتبعه بـعلي بن أبي طالب ليظهر في الناس مقدمة سورة براءة، وهي الآيات الخمس الأول أو الست الأول من سورة براءة، وهي -وإن كانت في مقدمة السورة- من آخر ما نزل في نفس السورة؛ لأن السورة تكلمت عن المنافقين وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بين رجب إلى ذي الحجة، ثم نزلت مقدمة السورة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يجعلوها في المقدمة.

فالقرآن الذي نقرؤه اليوم ترتيبه ليس على ترتيب نزوله، وهذا من أهم ما يجب أن تعلمه، فالفاتحة -مثلاً- أول القرآن، ولكنها ليست أول سوره، فالآيات الخمس من سورة العلق هي أول ما نزل، فترتيب القرآن ليس ترتيباً بحسب النزول، وإنما لحكمة توقيفية أرادها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، فكان يملي على الكتبة ويقول: افعلوا كذا، واتركوا كذا، وضعوا الآية في مكان كذا، والسورة بعد كذا، فترتيب سور القرآن ترتيب توقيقي من النبي صلى الله عليه وسلم نفذه الصحابة.

والذي يعنينا أن هذا هو المناخ العام لفهم سورة التوبة.

الموضوعان الرئيسان لسورة براءة

فينجم عما سبق ذكره أن سورة التوبة ذكرت مواضيع عدة، ولكن يمكن أن يقال: إن هناك موضوعين رئيسين تضمنتهما سورة التوبة:

الموضوع الأول: علاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب.

الموضوع الثاني: كشف أسرار المنافقين، وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وفي جيش العسرة على وجه الخصوص.

فهذان هما الموضوعان الرئيسان اللذان تعرضت لهما سورة التوبة.

تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله...)

قال الله جل وعلا: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:1-6].

ذكر سبب ترك البسملة في أول براءة

إن أول ما يلفت النظر في هذه السورة أنها ليست مصدرة بالآية الشهيرة: (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)، ولذلك اختلف العلماء في علة عدم تصدير سورة براءة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) على أقوال عدة، وأشهر هذه الأقوال ثلاثة، وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى، ثم نرجح ما نراه راجحاً على عادتنا في التفسير.

فقد قيل: إن من أسباب عدم ذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنه جرت عادة العرب على أنه إذا كان بين قوم وقوم عهد، فأراد طرف أن ينقضه كتبوا إلى الطرف الآخر كتاباً غير مصدر بالبسملة، وهؤلاء يعنون بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم)، فهذا قول ذكره العلماء، وهو أضعف الأقوال.

القول الثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن عباس سأل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال له: (لم جعلتم سورة الأنفال -وهي من المثاني- قبل سورة التوبة -وهي من المئين- ولم تجعلوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية يقول: ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا، وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وإن سورة التوبة من آخر ما نزل، فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحدة أم لا، فاختلف الصحابة، فمنهم من قال: إنهما سورة واحدة، ومنهم من قال: إنهما سورتان، فلم يفصلوا بينهما، وجعلوا بينهما فرجة، حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان، ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال: إنهما سورة واحدة.

يعني أن الصحابة تراضوا على هذا القول، حيث جعلوا بينهما فرجة حتى يرضوا من قال: إنهما سورتان، ولم يكتبوا (باسم الله الرحمن الرحيم) حتى يرضوا من قال: إنهما سورة واحدة.

وهذا القول اختاره العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، وقال كعادته: قال مقيده عفا الله عنك الله عنه: وهو أظهر الأقوال عندي. أي: عند الشنقيطي رحمه الله.

وهذا بناء على صحة الحديث، والحديث رواه الحاكم كما قلت، وقال: صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه. أي: على شرطي البخاري ومسلم ، ولم يخرجاه في الصحيحين.

قلت: رواه أحمد في المسند، ورواه البيهقي في السنن، ولكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف، وأغرب منه قول العلامة أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند: إن الحديث موضوع لا أصل له. ولم أطلع إلى الآن على نص كلامه.

والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله؛ لأن الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لهم هل هما سورة أو سورتان، وهذا صعب أن يقال، فمتن الحديث يؤيد قول العلامة أحمد محمد شاكر : إن الحديث لا أصل له.

وممن رأى صحة الحديث من العلماء الترمذي ، فقد حسنه وأخذ به، والأثر مقدم على العقل ومقدم على الرأي عند كثيرين، فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله أن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

القول الثالث: مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعن سفيان بن عيينة المحدث المشهور، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف، و(بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمة، والأمان والرحمة لا يتفقان مع السيف، فسورة براءة نزلت بالسيف والبراءة من أهل الإشراك، وإثبات الحجة على المنافقين، وهذا لا يتفق مع قوله جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم).

هذا مجمل الأقوال الثلاثة التي ذكرها العلماء رحمهم الله في علة ترك تصدير سورة براءة بقول الرب جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم).

وبقية الأقوال يجب ألا ينظر فيها؛ لأنها بعيدة جداً -فيما نحسبه- عن الصواب، والله تعالى أعلم.

ذكر سبب تسميتها بالفاضحة

هذه السورة من أسمائها الفاضحة، وهذا مروي عن ابن عباس ؛ لأنها فضحت أحوال أهل النفاق، وكما رواه سعيد بن جبير .

وسعيد بن جبير تلميذ ابن عباس ، وهو أحد مشاهير التابعين، خرج على الخليفة عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث .

ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الحجاج سعيداً وما من أحد من أهل الأرض إلا وهو مفتقر إلى علم سعيد .

والذي يعنينا أن سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: هي الفاضحة، ما زال ينزل (ومنهم ومنهم ومنهم)، يعني: يذكر الله فيها المنافقين بصفاتهم، كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا [التوبة:58] إلخ الآيات، يقول: فما زال ينزل: (ومنهم ومنهم ومنهم) حتى خفنا ألا تدع أحداً منهم. فلذلك سميت بالفاضحة؛ لأنها فضحت أحوال أهل النفاق والعياذ بالله.

وقد أوصل الزمخشري رحمه الله عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر اسماً في كتابه الكشاف، والزمخشري عالم لغوي شهير، ولكن عقيدته هي عقيدة المعتزلة، فـجار الله الزمخشري -رحمه الله وعفا عنه- من مشاهير المعتزلة، ودافع عن مذهبهم دفاعاً صلباً، وإن كان من أفذاذ العلماء في اللغة، وقد مات وأفضى إلى ما قدم.

فالذي ذكره أربعة عشر اسماً للسورة، وكلها تدور في فلك واحد حول قول سعيد بن جبير : إنها الفاضحة.

بيان معنى البراءة والجهة الكفرية المقصودة بها

يقول تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1] هنا متبرئ ومتبرأ منه، فالمتبرئ هو الله ورسوله، والبراءة من الذين عاهدتم من المشركين، والبراءة: الانفكاك والتخلص من الشيء، ولا تكون البراءة من شيء إلا إذا كنت لا تريده بالكلية، وهي أعظم صفات الانفكاك من الأشياء، فلو تعاملت مع أحد وأخذت صك براءة فلا يستطيع خصمك أن يطالب بأي شيء؛ لانفكاك تماماً عنه.

و(براءة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين.

وكان الناس حول النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام: أهل حرب، وأهل ذمة، وأهل عهد، فأهل الحرب الذين يحاربونه وبينه وبينهم حروب، وأهل العهد هم في الأصل محاربون، ولكن يوجد بينه وبينهم عهد لمدة معينة، وأهل الذمة غير مسلمين يعيشون تحت حكم المسلمين، كاليهود الذين كانوا أفراداً في المدينة.

والخطاب هنا ليس موجهاً لأهل الحرب ولا لأهل الذمة، بل موجه لأهل العهد، حيث قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1].

بيان معنى قوله تعالى (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر...)

وهذه البراءة فيها: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2].

ومعنى الآية: أن من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فقد جعل الله لهم أربعة أشهر، وهذه الأربعة الأشهر هي الأشهر الحرم التي حرم الله فيها على المسلمين قتال أهل الإشراك. ثم قال تعالى: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ والخطاب للمشركين، أي: أقبلوا وأدبروا، واغدوا وروحوا، واذهبوا كيف شئتم، فلن ينالكم أذى من المسلمين، فهذا بأمر من الله، ولكن بعد الأربعة الأشهر ينتهي الأمان.

بيان معنى قوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله...)

ثم قال الله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة:2]، أي: وإن أذن الله قدراً وشرعاً أن تبقوا أربعة أشهر تسيحون في الأرض؛ فإن ذلك لا يعني أبداً خروجكم وانفكاككم عن سلطان الله؛ لأن هذا العطاء من الله.

ثم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2]، أي: الخزي للكافرين واقع لا محالة في الدنيا والآخرة، واقع في الدنيا بالحرب والقتل والأسر، وبما يقع لهم من التعذيب والنكال، ويقع في الآخرة بشيء واحد هو عذاب النار.

وقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] يجب أن تعلم أن المخاطب به المشركون، ولذلك لا يجوز نزع الآية من سياقها والاحتجاج بها، وقد قرأت مرة لأحدهم يكتب عن السياحة على أنه يجوز للمؤمن السياحة مطلقاً في أي ديار، فقال: فإن السياحة مباحة، قال الله جل وعلا: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2]. وهذا إخراج للنص عن سياقه ووضعه في موضع غير موضعه.

فقوله تعالى: (فسيحوا في الأرض) المخاطب به المشركون، والمقصود أن لكم أماناً من الله بأن تبقوا في الأرض أربعة أشهر أعطاكم الله إياها حتى يراجع المرء منكم حسابه، ويتدبر في أمره، فربما يفيء إلى أمر الله، وبعد ذلك ينتهي الأمان الذي أعطاهم الله جل وعلا.

تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم...)

ثم قال الله: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3].

الأذان في اللغة: هو الإعلام، وهذا الأذان تولاه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحج، فلما وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده علياً ، وقد حج أبو بكر بالناس على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً بمقدمة سورة براءة، فانطلق حتى لحق بـأبي بكر بذي الحليفة المسماة اليوم بأبيار علي، ولا علاقة لـعلي بها، وإنما جاءت التسمية متأخرة، أما على عهد الصحابة والتابعين فلم تكن تسمى بأبيار علي.

والذي يعنينا أنه وصل علي إلى أبي بكر ، فقال أبو بكر لـعلي -وهذا من أدب الصحابة-: أمير أم مأمور؟ فقال علي رضي الله عنه: بل مأمور. ولما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتبرأ من أهل الإشراك، وأن يبين حاله مع مشركي العرب، وأن الإسلام دين واضح لا خداع فيه ولا تمويه، لما أمر الله نبيه بأن يفعل ذلك كانت العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا يبلغها إلا الرجل بنفسه أو رجل من عصبته، ولا شك في أن علياً -من حيث القرابة والعصبة واللصوق بالنبي صلى الله عليه وسلم- أقرب من أبي بكر ، وإن كان أبو بكر أفضل من علي قطعاً، ولكن علياً ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر ، بل ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد؛ لأنه زوج ابنته، وتربى في حجره، وهو ابن عمه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: لم يجمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما جمع لـعلي .

وهو الذي تولى غسله عليه الصلاة والسلام، فالصحابة الذين كانوا من آل البيت لم يكونوا كذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، يعني: فـالعباس كان يسند يده لظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي كان يباشر الغسل هو علي رضي الله عنه، ولما نزلوا في قبره عليه الصلاة والسلام كان علي هو الذي باشر دفنه صلوات الله وسلامه عليه، فـعلي من حيث القرابة ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم -فيما نعلم- من كل رجل، وإن كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وله مزية، ولكن تأخر إسلام العباس جعل لـعلي تلك السابقة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم حال العرب الذين لهم أعراف وعادات يحكمها النظام القبلي القديم، فبعث علياً بفواتح سورة براءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فكان الأمير أبا بكر ، وكان تبليغ البراءة مسنداً إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

بيان المراد بيوم الحج الأكبر

يقول تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ [التوبة:3]، ولم يبين الله الأذان والإعلام وذكر الله الزمن تشويقاً فقال: يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]؛ واختلف العلماء رحمهم الله المقصود بيوم الحج الأكبر على أقوال، ولكن هذه الأقوال تنتهي إلى قولين، ومن قواعد العلم تضييق المسافات حتى تصل إلى قمة الهرم، فمن العلماء من قال: إنه يوم عرفة، وهو منقول عن كثير من الصحابة، والذي عليه أكثر العلماء وأهل التحقيق أنه يوم النحر، وسمي يوم الحج الأكبر لأنه لا تجتمع أعمال الحج في يوم كما تجتمع في يوم النحر، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم.

بيان أثر الإيمان وأثر الشرك في عقد الولاية

قال الله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3]، والغاية المجملة من الآية براءة الرب جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الإشراك، وهذا يدل على أنه ليس بين المؤمن والمشرك أي عقد من الولاية، وبين كل مؤمن ومؤمن عقد من الولاية بأصل الإيمان فمع اختلاف اللغات والجنسيات وتباعد الديار، وما أحدثه الاستعمار من فرقة يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، فأنت ومن في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب أخوان في الملة والدين، ولو أن أخاك لأمك وأبيك كان كافراً فليس بينك وبينه أي ولاية، فلا ترثه ولا يرثك، والله يقول عن إمام الحنفاء إبراهيم: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي: من حال أبيه أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، والمقصود من هذا أن الله جمع المؤمنين بتوحيده وخالف بينهم وبين أهل الإشراك لأنهم أشركوا، فقال الله: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].

ذكر ما بعث به رسول الله به علياً لينادي به في الناس

وهذه البراءة لم تكن وحدها الأمر الذي ذهب به علي ، وإنما أمر علي بأن ينادي في الناس بأربعة أمور. أولها: أن لا يطوف بالبيت عريان، حيث كانت قريش تسمي نفسها: الحمس، ويقولون لمن يقدم عليهم من خارج مكة: لا يجوز لك أن تطوف في ثياب، فإما أن تشتري ثوباً من قرشي، وإما أن تأخذ ثوباً من أحد من قريش، وإما أن تطوف عرياناً، فكان الناس بعضهم يطوف عراة على فقه قريش، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن ينادي بأن لا يطوف بالبيت عريان.

الثاني: أن لا يدخل مكة بعد هذا العام مشرك، وهذه قالها الله في كتابه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فلا يقرب المسجد الحرام مشرك.

الثالث: أن من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته.

الرابع: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ختم الله لنا ولكم بالإيمان، وأدخلنا الله وإياكم الجنة.

فهذه الأمور التي أذن بها علي رضي الله تعالى عنه في الحج كما في قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].

بيان عامل الواو النحوية وتوجيه المعنى عليها

وقوله تعالى: (وَرَسُولِهِ) الواو هنا تحتمل احتمالين: الاحتمال الأول: أن تكون عاطفة، والاحتمال الذي عليه القراءة اليوم أن تكون استئنافية.

فإن كانت عاطفة فلها من حيث التصور احتمالان.

الاحتمال الأول -والاعتقاد به كفر- أن يقرأها القارئ: (وأذان من الله ورسوله يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله)، فتعطف الرسول على المشركين، فيصبح معنى الآية في غير القرآن أن الله متبرئ من المشركين ومتبرئ من رسوله، وقد سمع أعرابي رجلاً يلحن ولا يعرف قواعد اللغة، وعنده أعرابي قليل الفقه، فقرأ الرجل العامي: (أن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه)، فقال الأعرابي: برئت من رسول الله، برئت ممن برئ الله منه.

وهذا الأمر كان أحد أسباب قيام علم النحو؛ فإن أبا الأسود الدؤلي يقولون عنه: إنه لما سمع هذا الأعرابي ذهب إلى علي رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال له: انح للناس نحواً. صنع علم النحو، وهذه لا يقولها مسلم إلا جهلاً، ولا يوجد مسلم يعتقدها أو يقولها.

الأمر الثاني: أن تكون (رسوله) معطوفة على لفظ الجلالة، فتقرأ بالنصب، فيصبح المعنى: أن الله ورسوله بريئان من المشركين. والمعنى هنا يستقيم.

الحالة الثالثة: أن تقول: (أن الله بريء من المشركين) وتقف، وتأتي بالواو استئنافية لكلام جديد، والمعنى: ورسوله كذلك بريء من المشركين. وهنا الواو تسمى واواً استئنافية، وحق الاسم هنا أن يرفع؛ لأن ما بعد الواو الاستنافية يعرب مبتدءاً.

قال تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة:3] والخطاب للمشركين، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3].

تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)

ثم قال الله جل وعلا: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

هذه الآية تسمى آية السيف، وقد عرفنا أن هناك سوراً من القرآن لها أسماء، ولكن ينبغي أن تعلم أن هناك آيات من القرآن لها أسماء، فأشهر آية في القرآن مسماة بآية الكرسي، وهي قول الله جل وعلا: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255].

ثم بعدها آية الدين، أو آية المداينة، وهي الآية الثانية والثمانون بعد المائتين من سورة البقرة، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، والآية الثالثة منها آية المباهلة في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].

الآية الرابعة منها هي آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، وسميت آية السيف لأن الله أمر فيها بالقتال، وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة لكل ما في القرآن من أمور الكف والإعراض، فالله تعالى يقول: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف:89]، ويقول: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا [النجم:29]، وأمر نبيه بالصبر، فقالوا: هذه الآية ناسخة لكل ذلك.

وقال بعضهم: إن آية سورة محمد: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] ناسخة لآية السيف، وقال آخرون: إن آية السيف ناسخة لآية سورة محمد، والحق أنه لا تنسخ إحداهما الأخرى، وإنما العمل بها جميعاً، وكل منهما توضع في موضعها الذي سيظهر من سياق الكلام.

قال الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5]، يعني: مرت وانتهت، والأشهر الحرم تحتمل معنيين: الأول: الأشهر الحرم التي في الذهن، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، فثلاثة سرد هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد، وهو رجب، وسميت بالأشهر الحرم لأن الله حرم فيها على المسلمين قتال المشركين، فمن هذا المعنى أخذت كلمة الحرم.

يقول تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، ومن هنا أخذ العلماء أن هذه الآية اسمها آية السيف.

بيان أنواع تخصيص العموم

وفي القرآن عام وخاص، وفي القرآن ناسخ ومنسوخ، وبينهما فرق دقيق، فانسخ لا يقع في الأخبار، والتخصيص يقع في الأخبار، والنسخ يقع في الشرائع، ولكن التخصيص لا يقع بين شريعة وأخرى، فهذا من حيث الإجمال.

وأما من حيث التفصيل فإن العام له ألفاظ، ومن أشهر ألفاظه أم الباب، وهي كلمة (كل)، وهي من أعظم ألفاظ العموم في القرآن، وهي أم الباب، ويتبعها أدوات الاستفهام، وأدوات الشرط؛ ويتبعها بعد ذلك الأسماء الموصولة، ثم المضاف إلى معرفة.

التخصيص المتصل

والعموم إذا خصص فإن مخصصه يقع متصلاً ويقع منفصلاً، ومثال المخصص المتصل قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ [القصص:88] فقوله تعالى: (كل شيء) من ألفاظ العموم، ولكن هذا العموم خصص بقول الله تبارك وتعالى: إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، فوجه الله -تعالى الله عما يقول الظالمون- ليس بهالك؛ لأن الآية خصصته من كلمة (كل)، فخرج منها بحرف الاستثناء، أي: استثني وجه الله تبارك وتعالى، فالاستثناء طريقة من طرائق التخصيص، فـ(كل) من ألفاظ العموم، وخُصِص وجه الله جل وعلا من هذا العموم.

فهذا التخصيص وقع كله في آية واحدة، ولذلك أسماه العلماء تخصيصاً متصلاً.

التخصيص المنفصل

والتخصيص الثاني تخصيص منفصل، وهو الذي بين أيدينا، حيث يقول الرب جل وعلا: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، فقوله تعالى: حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]يدل عمومه على أن المشرك يقتل في أي مكان؛ لأن ربنا يقول: (حيث وجتموهم)، ولكن هذا الكلام لا يصح على عمومه؛ لأن هذه الآية مخصص بآية أخرى تدل على أنه توجد أمكنة لا يجوز قتل المشرك فيها، وهي أمكنة الحرم المكي، فالله يقول: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، فيجمع بين الآيتين بأن يقال: إن آية التوبة عامة، وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة، فالمشرك يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمة ولا ميثاق، إلا في المسجد الحرام.

فلو جاء إنسان وقتل أحداً في المسجد الحرام وقال: إن الله يقول: (حيث وجتموهم) قلنا له: إن هذه الآية العامة خصصت بقول الرب جل وعلا: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، وهذا تخصيص مكان.

ثم إن الله تعالى يقول: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] والآية تعم كل مشرك، ولكن لا يجوز قتل كل مشرك، فالآية هنا مخصصة بالسنة، فلا يجوز قتل النساء، ولا يجوز قتل الرهبان، ولا يجوز قتل الأطفال، فقد دلت السنة بآثار عدة متعاضدة على أنه لا يجوز قتل النساء، ولا قتل الصبيان، ولا قتل الرهبان.

فالعموم الذي في قوله جل وعلا: (المشركين) خصصته السنة، وأخرجت السنة النساء، وأخرجت الأطفال، وأخرجت الرهبان، وأخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركة، أما إذا كان له دور -بحيث يدبر أو يفكر أو يخطط للمعركة- فإنه يجوز قتله ولو كان شيخاً فانياً، مثل دريد بن الصمة ، فـدريد بن الصمة كان شيخاً كبيراً فانياً، وكان ذا عقل وتدبير، وهو أحد فرسان العرب، أدرك يوم حنين وهو كبير، وكان العرب من هوازن قد قدموا رجلاً يقال له: عوف بن مالك ، وكان دريد أكثر خبرة منه، فأتي به إلى المعركة وهو أعمى، فكان يتحسس الأرض ويسأل: أين نحن؟ فيقولون: أنت في ديار كذا، فيقول: ليست ديار حرب، اخرجوا خذوا اتركوا، فخاف الزعيم من نفس القبيلة أن يأخذ دريد الأمر منه، فما أراد أن يكون لـدريد فيها نصيب، فأتى بالسيف وجعل نصله قائماً، وثنى بطنه على السيف وقال: إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي. يريد أن يخرج دريداً منها بالكلية.

فهوازن كانت متعاطفة معه، فقالوا له: أنت الزعيم، والذي تقوله هو الذي يمضي، فلن نأخذ برأي دريد ، فرفع نفسه عن السيف، ووقعت الهزيمة عليه، وكان رأي دريد أشد صواباً، ولكن لم تأخذ به العرب، وهو قائل المثل المشهور:

وهل أنا إلا من غزية إن غوتغويت وإن ترشد غزية أرشد

وقد قتل دريد بن الصمة المسلمون وهو شيخ كبير؛ لأنه كان يخطط، وله دور في المعركة، أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فإنه يترك.

يقول تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5] وهذا كله أمر بتضييق الخناق عليهم.

تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة...)

ثم قال الله جل وعلا: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5].

هذه الآية استدل بها بعض العلماء على أن تارك الصلاة كافر، وحجة من قال هذا قولهم: إن الله ذكر ثلاثة أسباب: ترك الشرك، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقالوا: إن تارك الزكاة خرج بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثم ينظر في سبيله إلى الجنة أو إلى النار)، ويبقى تارك الصلاة والمشرك على حالهما، وهذا رأي جيد، وإن كان هذا ليس محل تفصيله، لكن أنا أذكره لمناسبة الآية فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5].

تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره...)

ثم قال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].

بعد أن ذكر الله جل وعلا لنبيه كيفية التعامل مع أهل الإشراك قال له: إن أحد من المشركين طلب منك أن تجيره وأن يلجأ إليك، فاقبل تلك الإجارة، وذلك لسبب عظيم، وهو أن يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله وما في كلام الله من وعد ووعيد وثواب وعقاب، فربما كان ذلك سبباً في إسلامه، بدليل أن الله قال بعدها: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6].

والذي ينبغي أن تفهمه من الآية أن تفهم أن أهل الكفر -وإن كان الكفر ملة واحدة- تختلف أسباب كفرهم، فمنهم الكافر عناداً، ومنهم من هو كافر جهلاً، فلو قدر له أن يسمع كلام الله لكان ذلك سبباً في إيمانه، فالله يقول لنبيه: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وهذا دلالة على أن المؤمن واثق بالدين الذي يدعو إليه، فينبغي علينا أن نحرص على أن نسمع من كانت علته الجهل كلام الله، وهذا في بلادنا ما يسمى بتوعية الجاليات، وهو أمر محمود؛ لأن كثيراً من الناس ممن يأتون إلى هذه البلاد يأتون بغير قصد الإسلام، فإذا اختلطوا بالناس ورأوا الإسلام كان ذلك سبباً في إسلامهم، وقد يأتي إنسان يريد أن يكون لاعب كرة، فيختلط بالمسلمين هنا، ثم يرى عظمة الإسلام، فإذا تلي عليه القرآن صار ذلك سبباً في إسلامه.

وما يقال في الأفراد يقال في الأمم والدول، فليس السبب في كفر كل دول الكفر واحدً، وإنما تختلف دول الكفر في ذلك اختلافاً واضحاً، فمنها ما هو محارب للإسلام عقيدة، ومنها ما هو محارب للإسلام عملاً، ومنهم من يحارب الإسلام لمصلحة، ومنهم من لا مصلحة له في حرب الإسلام، فلا يحارب الإسلام، فيجب أن نتعامل مع أهل الكفر بحسب سبب كفرهم.

ومن ذلك أن وزيرة التربية والتعليم في الدنمارك أعلنت أنها قررت تطبيق تدريس القرآن الكريم في مراحل التعليم العام في الدنمارك، من دون أي ضغط دولي إسلامي، وهذا من أعظم الفتوح في عالم الإسلام اليوم، ولما جاءت المعارضة واحتجت عليها في بلادها لأنها قررت تدريس القرآن قالت: إن الكثير من الدنماركيين مسلمون. وكلمة كثير لا تعني الأكثر، ولا تعني الغلبة، بل يوجد مسلمون دنماركيون ولهم أصحاب من الدنماركيين من غير المسلمين، فنريد منهم أن يتعرفوا على الإسلام.

فهذا الفكر العلماني هنا خدم الإسلام بما يسمى سياسياً: تقاطع المصالح، ويجب على من يدعو إلى الله أن ينظر إلى حال أهل الكفر، فليس أهل الكفر -وإن كان الكفر ملة واحدة- في معاداة الإسلام على حال واحدة، بل يوجد بينهم أمور عظيمة من الخلافات، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه في دعوته إلى الله مستشهداً بالآية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6].

قال العلماء: ربما كان سبب كفره الجهل، فإذا رفع عنه الجهل دخل في دين الله تبارك وتعالى.

المقصود من هذا أن الإنسان يفرق بين من يدعوهم في تعامله مع الأفراد وتعامله مع الأمم، وتعامله مع الدول بنص القرآن.

دلالة الآية على إثبات صفة الكلام لله تعالى

والآية فيها دليل واضح على أن القرآن كلام الله، وفيها رد عقدي على المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق وغير منزل، والله جل وعلا قال: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فأضاف كلمة (كلام) إلى لفظ الجلالة، وهو ما يسمى بإضافة صفة إلى موصوف، فالله جل وعلا من صفاته تبارك وتعالى أنه يتكلم بما شاء متى ما شاء، وله جل وعلا الأمر كله، وهذا من أدلة أهل السنة، وأدلتهم كثيرة على أن القرآن منزل غير مخلوق.

وأما من حيث قواعد اللغة فإن (إن) شرطية، و(أحد) مبتدأ، وقوله: (فأجره) الفاء واقعة في جواب الشرط، وسبب وقوعها كذلك أن الجملة مبدوءة بفعل أمر



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تأملات قرآنية تأملات في سورة التوبة [1] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net