إسلام ويب

في سورة الأنعام يقرر الله تعالى حقائق التوحيد بذكر قصة إمام الموحدين سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد ذكر تعالى عنه محاجته قومه في إثبات ضلال عبادتهم للأصنام والكواكب وخشيتهم منها، وإعلانه توجهه إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض، الأمر الذي أسبغ عليه فيه الله، فجعل النبوة في ذريته، وأفضل عليه بصلاحهم وصلاح آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة...)

ذكر مكانة إبراهيم عليه السلام

الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الآيات التي سنقف عندها هي قول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:47-75]، إلى ما بعدها من آيات، ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93].

فنقول مستعينين بالله عز وجل:

إنه لما كانت سورة الأنعام تتكلم عن عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء، نسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه فقال الله جل وعلا: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وهذا النبي الكريم يذكر كثيراً الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح، فهو أرفع الأنبياء قدراً بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدراً؛ مع ذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر بأن يخرج ما في الكعبة من صور، فكان مما أخرج صورة فيها إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله -يقصد كفار قريش- قاتلهم الله، والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط).

وموضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم، وهذه المسألة يجب أن تحفظ وتحرر، فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا النبي الصالح شيخه، مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم.

وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين، فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا: (السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح)؛ لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء: ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء إلا وذلك النبي من ذرية إبراهيم، وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى.

والمقصود أن هذا هو جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام.

دعوة إبراهيم لأبيه آزر

يخبر الله جل وعلا هنا أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعاً مِن أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه، وهو هنا يدعو أباه، قال الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، وأهل التاريخ يقولون: إن اسم أبي إبراهيم (تارح ) وليس (آزر )، وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه: (تارح ) وعلى أن هذا المذكور في التوراة.

ولكن هناك مثل يقول: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وقد قلنا: إن الإنسان عليه أن يستمسك بأصل، فإذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل فإنه يبقي على الأصل ويترك العوارض، فلو أجمع أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم: (تارح ) فإجماعهم مردود؛ لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح، فالله يقول: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] فالله أسماه (آزر ) فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به.

فقالوا: هذا عمه، وقالوا: هذا لقب لأبيه، وقالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود.

يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، (اتخذ): فعل يتعدى إلى مفعولين: فمفعوله الأول هنا: (أصناماً)، ومفعوله الثاني: (آلهة).

ويمكن أن تقول: معنى الآية: تتخذ آلهة أصناماً. وكلا المعنيين صحيح، لكن القرآن نزل بقوله تعالى: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74].

فإبراهيم يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار.

وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبيناً في سور عدة، ففي آيات أخر بين الله جل وعلا الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، حيث يقول: سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم:47] كما جاء في سورة مريم، وهو دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم أننا -نحن المسلمين- ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام، فلا يختلف ما ندعو إليه، ولكن الذي يختلف هو طرائق الدعوة.

فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه فشيء ثابت لا يتغير، ونحن ندعو إلى الله وإلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي دعوة الأنبياء، ونحن متبعون.

وقد تنوعت طرائق دعوة الأنبياء، فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض...)

ثم قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].

إن فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى، ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض.

(ملكوت) التاء فيها زائدة للمبالغة، والمعنى: أن هناك مُلكاً وهناك ملكوتاً، فالملك: ما تشاهده بعينك، والملكوت: ما وراء ما تشاهده بعينك.

فالله جل وعلا من على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض، وقد يكون ذلك برؤية بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم.

والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله، والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين: قوم ينظرون نظر إبصار، وقوم ينظرون نظر اعتبار، ونظر الاعتبار خير من نظر الإبصار؛ لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر، ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، وليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود، فالذين ينظرون نظر اعتبار منهم مهتدون ومنهم غير مهتدين، فيوجد من النصارى من يتأملون في السماوات، ويتأملون في الأرض، ويتأملون في الناس ويكتبون ويدونون، فهم ينظرون نظر اعتبار، ولكنهم لم يحصلوا على المقصود.

فهؤلاء -وإن نظروا نظر اعتبار- لم يحصلوا على المقصود، والهداية من الله.

ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، وإلا فالهداية من الله، فمن رام شيئاً فإنه يطلبه من ربه الله جل وعلا.

والله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، وهنا يقول الله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].

واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك في أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين، فقوله تعالى: (وليكون من الموقنين) أصل؛ لأن الله قاله نصاً.

تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه ا لليل رأى كوكباً...)

ثم قال الله جل وعلا بعدها: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:76-78].

وقبل أن نشرع في التفسير نقول: لا يمكن أبداً أن يصدق قول من قال من المفسرين: إن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، وإنه قاله في طفولته، فهذا أمر لا يمكن أن يعقل؛ لأن الله وصف إبراهيم في كتابه بأنه إمام للحنفاء، وقال عنه: إنه من الموقنين، وقد دل القرآن وتواترت السنة على أن هذا العبد الصالح من أعظم من تيقن بالله، فكيف ينسب إليه الشرك في مرحلة من مراحل عمره؟!

والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه.

قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، كان كوكب الزهرة، ولم يقصد أن يقول: إنه ربه يقيناً، فيستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم، وقد قلنا: إن من القواعد أن تأخذ الأصل، وما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل، فالتفنيد يكون بأن نقول: إن إبراهيم قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه.

وقد قلنا: إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس، فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام، بل يعبدون الكواكب، فيعبدون المشتري، والشمس، والقمر، وفريق منهم يعبدون الأصنام، فتعامل مع كل فريق بطريقة معينة، وأهل الأصنام ذهب إلى أصنامهم وهدمها، وأما الكواكب فليس له عليها حتى يهدمها، فتعامل معهم بالعقل.

قال الله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]، قوله: (جن عليه) بمعنى: غشيه، ولذلك سميت الجنة جنة، وسمي الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت الجن جناً؛ لأنها لا ترى بالأعين، فكل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة (جنة).

فالله يقول: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا [الأنعام:76]، والكواكب لا ترى في النهار، فلما رأى كوكباً قال لمن حوله بأسلوب يبين لهم به أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76].

وإبراهيم قد رأى الكواكب قبل هذا اليوم، ففي كل يوم يرى الكواكب تأفل، ويرى القمر يأفل، ويرى الشمس تأفل، ولكنه الآن يتعامل مع أناس كانوا على تلك العقول.

يقول تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76] يقال: إنه الزهرة. والذي يعنينا أنه كوكب.

قال تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، يقول لهم: لا يصلح أن يكون رباً وهو يُسَيَّر ويُؤمر ويُحرك من مكان إلى مكان.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا...)

قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77] في اليوم التالي، فهو يريد أن يشعرهم بأنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم، قال تعالى: قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، فما قال: لا أحب الآفلين. لأن هذا جواب قد سبق، فقال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] حتى يبين لهم أنه في أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة...)

ثم جاء اليوم الثالث، ومع الصبح ظهرت الشمس، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78] حتى يهيئهم للجواب فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، ولم يقل: ابرءوا مما تشركون. بل قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، أن الإنسان لا يقبل الناس منه الشيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه.

فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم، وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، ولكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه، كما قال العبد الصالح شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88].

تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض...)

فلما برئ مما يشرك به قومه أصبح الناس ينتظرون منه ما سيعبده، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].

ولم يقل عليه السلام: وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاجج بها، وإنما أدرج في ذلك كل المخلوقات؛ لأن الله رب المخلوقات جميعاً، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]، فهو عليه السلام -إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وإليه تنسب الملة، وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:

أولها: أنه جعل ماله للضيفان.

والثاني: أنه جعل بدنه للنيران.

والثالث: أنه جعل ولده للقربان.

والرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.

تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه...)

ومع ذلك كله لم يقتنع قومه، قال الله جل وعلا: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، أخذوا يحاجونه فيما يقول، فرد عليهم: قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]، أي: كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية؟!

والعاقل لا يترك الحق من أجل الباطل، ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد، فهذا لا يفعله صغار العقلاء، فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟!

قال الله: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80].

توحيد الله فطرة في النفوس

وقوله: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80] يدل على بلاغة القرآن، فحين تقول لإنسان: تذكر، فمعنى ذلك أن الشيء المطلوب كان يعرفه، وأما الأمر بتعلم شيء فمعناه معرفة شيء لم يكن يعرفه.

فتوحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، يعني: لو رجعتم إلى أنفسكم قليلاً لتذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم، ولعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه.

فهذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية.

تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم...)

ثم قال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:81-82].

ومجمل الآية أن إبراهيم يقول: اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع، وأنتم تعبدون من ليس بيده ضر ولا نفع، فمن الذي يخاف؟! وذلك أنهم لما عبد الله قالوا: نخاف عليك من آلهتنا ومن أصنامنا، ونخاف عليك من الشمس، ونخاف عليك من القمر، ونخشى عليك من النجوم.

فالله يعلمه أن يقول لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81]، يعني: كيف أخاف من الذين أشركتم بهم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله؟! مع أن الأصل أن الذي يخشى منه هو الله؛ لأن بيده الضر والنفع، أما أصنامكم هذه فلا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر، وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، فهذه الأمور كلها بيد الله.

قال تعالى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:81]، وهذا استفهام استنكاري إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81].

المراد بالظلم في قوله تعالى (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)

ثم جاء الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا: يا نبي الله! وأينا لم يظلم نفسه قط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس بالأمر الذي تعنون، إنما هوكما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظي)، فيصبح معنى قول الله جل وعلا: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

تلازم الأمان والخوف

قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

وقد جرت سنة الله في خلقه بأن من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبداً أمنين، وإنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله، ولا يعني ذلك عدم الخوف من الله، فالله جل وعلا لما ذكر الساعة ذكر عن المؤمنين أنهم: مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى:18] أي: خائفون من الساعة، فالخوف لا بد منه في الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتينا إبراهيم...)

ثم قال جل ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

أي: هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح، ولذا قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83]، فلما كانت من الله كانت فضلاً منه.

ثم قال الله: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83]، وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب...)

وبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية فقال الله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84] ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:85-86].

إن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبياً، فهذه الآية في الأنعام ذكر الله فيها ثمانية عشر نبياً، وبقي منهم سبعة لم يذكروا في سورة الأنعام.

وهؤلاء السبعة هم شعيب، وإدريس، وصالح، وهود، ومحمد صلى الله عليه وسلم وآدم، ويونس، وقد نظم الجميع في بيت شعر، فقيل:

في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

وهؤلاء الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، فذكر الله ذا الكفل، وذكر آدم، وذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، وذكر شعيباً، وهوداً، وإدريس، وصالحاً

إكرام الله تعالى لإبراهيم بيعقوب نافلة

يقول تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ [الأنعام:84] أي: لإبراهيم إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام:84]، وقد ذكر تعالى أنه وهب له يعقوب نافلة في آية أخرى، والنافلة: هي الزيادة على الأصل، وهي تختلف، فكل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة، فقيام الليل يسمى نافلة لأنه زيادة على الصلوات المكتوبة، ولذا قال الله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79].

والناس عندما يغزون يريدون النصر، عندما يحصل النصر وتحصل غنائم يكون الزائد هو الغنائم، فلذلك قال الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1].

ففي يعقوب قال الله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه إسماعيل، ثم رزقه بعد إسماعيل إسحاق، ثم زيادة على الأبناء رزقه أبناء الأبناء، فسمى يعقوب نافلة؛ لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.

بيان معنى قوله تعالى (ونوحاً هدينا من قبل)

يقول تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84]، أي: من قبل إبراهيم، وهذا يسمى إضافة منقطعة، و(قبل) و(بعد) إذا أضيفتا تجران، وإذا لم تضافا تبنيان على الضم، كما قال تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58] فلما أضيفت إلى صلاة كسرت، وقال: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4]، فحذف المضاف إليه فضمتا.

وهنا يقول الله: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84] أي: من قبل هداية إبراهيم زمنياً، وإن كان إبراهيم أفضل من نوح.

ونوح يسمى شيخ الأنبياء؛ لأنه أطولهم عمراً، وإبراهيم يسمى أبا الأنبياء؛ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته.

بيان مرجع الضمير في قوله تعالى (ومن ذريته)

قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، وهذا موضع إشكال؛ لأنه لا يدرى أيعود الضمير على نوح أو على إبراهيم.

فإذا قلنا: إنه يعود على نوح فذلك يؤيده أمران:

الأول: أن قواعد اللغة تقول: إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو نوح.

والأمر الثاني: أن الله قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:84-85]، في الآية الثالثة هي وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]، ولوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، بل ابن أخيه، فلوط هو ابن هاران ، وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح ليس لوط ابناً لإبراهيم، وإنما هو ابن أخيه.

فقالوا: هذان دليلان على أن المقصود نوح.

والذين قالوا: إن الضمير في قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، وعائد على إبراهيم قالوا: إن الآيات في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح، فالله تكلم عن إبراهيم، وقوله: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84] جملة اعتراضية.

الأمر الثاني: قالوا: إن الله سمى في القرآن العم أبا، وذلك في سورة البقرة حيث قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، فأبناء يعقوب يقولون لأبيهم: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، فإبراهيم أبو يعقوب لأنه جده، وإسحاق أبو يعقوب مباشرة، ولكن إسماعيل ليس أباً ليعقوب، وإنما هو عم له، فقالوا: هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أباً ولا يوجد راجح؛ لأنه لا يوجد مرجح، فلا يكون القول راجحاً حتى يكون هناك مرجح، ولا يوجد مرجح، فهذان قولان متكافئان، فنقول: تحتمل الآية الأمرين، والله أعلم بمراده منها، تأدباً مع كتاب الله.

ذكر سبب تقديم داود عليه السلام في الذرية

قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وهَارُون [الأنعام:84]، وكلهم سبق ذكرهم، وقدم الله داود وسليمان؛ لأن الله أعطاهم الملك والنبوة.

ذكر خبر يحيى عليه السلام

ثم قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى [الأنعام:85]، ويحيى ابن لزكريا، وقد مات يحيى عليه السلام في حياة أبيه مقتولاً، وقد سمى الله تعالى ابن زكريا يحيى، ولم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم، كما قال الله: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7].

فأسماه يحيى لأنه مات شهيداً، فناسب الاسم المسمى، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى [الأنعام:85]، وما القرابة بين عيسى ويحيى هي أنهما ابنا خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين، ليس يحيى بن زكريا)، فلم يعصي الله هذا الرجل طرفة عين، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيراً عليه السلام.

ذكر مبعث إلياس عليه السلام

قال تعالى: وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:85] وإلياس ذكره لله ست مرات في القرآن، وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حالياً، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ [الصافات:123-125].

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً...)

ثم قال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86].

وقد قلنا: إن لوطاً بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم، ولكنه ابن لـهاران وهاران أخ لإبراهيم، فإبراهيم عم له، والله قد سمى العم أباً في كتابه، والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج.

ويفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والصلاح، قال الله تبارك وتعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

ذكر نعمه على إبراهيم بالتفضل والصلاح في ذريته وآبائهم وأبنائهم وإخوانهم

قال جل وعلا: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]، أي: فضلناهم بالنبوة وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]، قوله تعالى: آبَائِهِمْ [الأنعام:87] يعني الأصول، ثم قال: وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الأنعام:87]، ولم يقدم ذكر الإخوة، بل قدم الأبناء لأنهم فروع، فما دام أنه ذكر الأصول فسيذكر الفروع، ثم قال: وَإِخْوَانِهِمْ [الأنعام:87]، والإخوان ليسوا أصولاً وليسوا فروعاً، وإنما حواش، فترتيب القرآن ترتيب منطقي، حيث ذكر الله أولاً الأصول، ثم ذكر الفروع، ثم ذكر الحواشي.

فالله يريد أن يقول: إن نعمة الله على إبراهيم ليست محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم، وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.

الهداية بيد الله

قال تعالى: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]، والذي اجتباهم هو الله، وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]، ولأجل ذلك قال بعدها: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].

فكل من يلتمس شيئاً لن يلتمس شيئاً أعظم من الهداية، والهداية إنما تطلب من الله، وسيأتي بيان هذا بعد قليل، فلا شيء يطلب في الدنيا أعظم من الهداية، والهداية إنما تطلب من الله.

ولذلك قال الله: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ [الأنعام:88] فنسبه وأضافه إلى نفسه، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأنعام:88].

حبوط الأعمال بالشرك

ثم قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا [الأنعام:88] على الفرض، وإلا فلا يعقل أنهم سيشركون لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، ونستفيد منها إجمالاً: أن الشرك يحبط كل عمل.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً...)

قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].

لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب، ولذا قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:93]، أي: لا أحد أعظم جرماً ممن يفتري الكذب على الله، وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، فحاشاكم من ذلك بإذن الله.

والمقصود ترك الجرأة والقول على الله بلا علم، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116]، فهذا الذي يعنينا، ولكن الآية المخاطب بها في الأصل كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب، وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد.

فأخبرهم الرب جل وعلا بأن هذا ظلم شنيع، وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93]، ويدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيه الأسود العنسي .

ذكر خبر عبد الله بن أبي السرح

وهنا تذكر قصة، وهي قصة رجل من الذين أسلموا قديماً اسمه: عبد الله بن سعد بن أبي السرح .

وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه، فهو أخ عثمان من الرضاعة، ولما أسلم كان يحسن الكتابة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي.

فلما أنزل الله سورة المؤمنون وفيها: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:12-13]، كان الرسول يتلوها وهذا الرجل يكتب، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، قال قبل أن يملي عليه الرسول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت علي).

فاغتر بنفسه، فترك كتابة الوحي وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان محمد كاذباً فيما يقول فأنا أقول كما يقول. وترك الإسلام والتحق بكفار قريش، ولذلك قال الله: وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93]، ولكن كان الله يعلم أزلاً أنه سيتوب، فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن، فلما ذهب إلى مكة وحصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل فتعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له: ابن يسار قتل في السوق.

وأما عكرمة وعبد الله بن سعد ففرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل معه ليؤمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته؛ لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لـعبد الله ، فسكت صلى الله عليه وسلم طويلاً قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد، ولم يفطن الصحابة لهذا؛ ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فأعطى عثمان الأمان.

فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام: (لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله)، فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟! فقال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)، صلوات الله وسلامه عليه.

فالله تعالى يقول: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الأنعام:88]، حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، فهذا الذي ارتد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فلما كانت خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه فأصبح أميراً للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد والياً على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري، وهي أول معركة حربية في الإسلام، وتم كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع حصلت الفتنة بين علي ومعاوية ، فاعتزلها ولم يبايع لـعلي ولا لـمعاوية ، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي ، ثم إنه ذات يوم قال: اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح. فصلى بالناس صلاة الصبح فقرأ في الأولى الفاتحة والعاديات، وقرأ في الثانية، ثم سلم التسليمة الأولى، ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية.

فهذا كله يدل على أن القلوب بيد الله، وقد يكون الإنسان متلبساً بالمعصية، وهو يحب أن يهتدي، وأنا أرى اليوم شباباً مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل.

ولو استطعت أن تدخل إلى قصر أمير لاستحيا الأمير أن يردك بدون شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين؟! ففي صلاتك هنا وفي دعائك وفي استغفارك ليكن قلبك متعلقاً بالله، فتطلب من الله الهداية، وتطلب من الله غنى النفس، وتطلب من الله الرحمة، وتطلب من الله التوفيق، وتطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة، وتطلب من الله أن يقيك عذاب القبر، وأن يقيك عذاب النار، وتطلب من الله دخول الجنة.

والمقصود أنه كلما آمن الإنسان بأن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها، ولكن لا تستعجل، وكن صادقاً مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت...)

ثم قال الله جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، هذا تصوير لكيفية نزع أرواح أهل الإشراك، وقبض الأرواح موكل به ملائكة، والنفس إما أن تكون مؤمنة وإما أن تكون كافرة، ولأن الكفر والإيمان لا يستويان كان من البداهة ألا يستوي قبض روح المؤمن وقبض روح الكافر، والله يصور هنا قبض أرواح الكفار.

والغمرة في اللغة: لجج الماء التي تغطي صاحبها، فالإنسان حين يضربه الموج تنقله وغمرات الماء من مكان إلى مكان يصيبه الخوف الشديد والرعب، فالله جل وعلا يقول: إن هؤلاء الكفار تتخبط روحهم في أجسادهم قبل أن تخرج، والملائكة تضربهم وتقول لهم أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام:93] أي: أوجدوا لأنفسكم خلاصاً ومنجى ومخرجاً إن استطعتم.

قال تعالى: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، وليس المقصود أنه ليس بعده عذاب، ولكن هذا أول مراحل العذاب.

وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، أي: عذاب الذلة، وعذاب الصغار.

ثم ذكر السبب فقال تعالى: عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].

والاستكبار عن آيات الله أعظم الطرائق الموصلة إلى الضلالة، كما أن انقياد القلب للرب تبارك وتعالى واللين فيه أعظم ما يجعله سبباً في أن ينال الإنسان به رحمة الله تبارك وتعالى.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تهدينا أجمعين سواء السبيل، وأن تختم لنا بخير، وأن تجعل الجنة دارنا وقرارنا؛ إنك سميع مجيب.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة تأملات قرآنية [10] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net