إسلام ويب

لقد من الله تعالى على عبده ورسوله موسى عليه السلام بمنن كثيرة وعطايا جسيمة، وما ذاك إلا دلالة على المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ومن ذلك استجابة لله تعالى لدعائه، وإعطائه ما أراد، وقبل ذلك ما من الله تعالى به عليه حينما كان صبياً في حجر أمه، من إلقائه في اليم، وأخذ فرعون له وعدم مسه بسوء، ثم رجوعه إلى أمه، وبعد أن صار شاباً ووقع ما وقع من الله عليه بأن جعله يفر إلى مدين ويجد فيها الأمن والاطمئنان.. وبعد رجوعه منها أرسله الله تعالى إلى فرعون هو وأخاه هارون كي يدعوا فرعون إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

دعاء موسى لربه بشرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة لسانه

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو أراد أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد توقفنا في الدرس السابق عند قول الله جل وعلا في ذكر ما طلبه موسى عليه الصلاة والسلام من ربه بعد أن كلمه الله جل وعلا وأوحى إليه، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32].

هذه السؤالات التي سألها موسى عليه الصلاة والسلام ربه، إنما سأله إياها حتى تعينه على الدعوة إلى الله جل وعلا، فبدأ بقوله: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]؛ لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشد عوناً له في قضاء تلك الحاجة التي يرومها.

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:26]، ذلك أن الأمر في الأصل أنه حزن صعب إلا أن ييسره الله، ولذلك جاء في الحديث: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)، قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]، جاء الفعل (يفقهوا) مجزوماً بحذف النون؛ لأنه واقع في جواب الأمر، فحذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة، والناس في قول الله جل وعلا: (عقدة من لساني) على قولين: والقول الأول: أخذوا بالأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لما قدم له جمراً وتمراً فأخذ التمر، فقالوا: إن جبريل جاء ونقل يد موسى من التمر إلى الجمر، فحمل موسى الجمر فأثرت في يده كما سيأتي، وأثرت في لسانه، فنجم عن ذلك حبسة جعلت موسى غير فصيح في كلامه؛ ولهذا قال فرعون يسخر من موسى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، وموسى قد اعترف بهذا بين يدي ربه بأنه أقل فصاحة من أخيه هارون، قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي [القصص:34].

القول الثاني: قالوا: إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة -وهذا قول أكثر المتأخرين- والشخص إذا انفعل وأصبح حاداً تحدث عنده حبسة ويكون كلامه سريعاً غير واضح وغير ظاهر يتفق مع شخصيته، ونقلوا أن الإمام المفسر كان فيه هذا الأمر، وهذا ملحوظ أحياناً عند بعض الناس أنه إذا انفعل يصبح الكلام عنده سريعاً متتابعاً، لا يكاد يفهم، هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة.

وقد حملها: بعضهم على الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبعض العلماء قال برفعه، لكنه بعيد،

ورجح ابن كثير رحمه الله تعالى وقفه على ابن عباس ، والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه من مسلمة أهل الكتاب، وعندما نقول: من مسلمة أهل الكتاب، نقصد أولئك الذين آمنوا بالإسلام، آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء، ومن أشهر هؤلاء وفي مقدمتهم كعب الأحبار ، كما مر معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة.

سؤال موسى عليه السلام لربه أن يجعل هارون وزيراً له

ثم قال عليه السلام لربه يناجيه ويرجوه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30]، كلمة (من أهلي) عامة، ثم خصص وعين فقال: هَارُونَ أَخِي [طه:30]، وقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا [طه:29] كلمة (وزر) في اللغة مادتها الأصلية تعني الثقل، يقول الله جل وعلا: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، والمعنى: لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولا ثقلها، فالذنوب وزر؛ لأنها أعظم ما يحمل على الظهر، وفي القديم لم يكن هناك وزراء كثيرون، وإنما الوزير واحد، كما كان هامان وزيراً لفرعون، فكان الوزير في النظام القديم السياسي للدول واحداً للأمير أو للملك أو للسلطان، بحسب مسماه، وهذا الوزير هو الذي يحمل ثقل الإمارة عن الأمير، فلذلك سمي وزيراً، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة (وزر) وبين قول نبي الله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31]، يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يشد به الأزر، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء.

قال: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:32]، الهاء في (أشركه) عائدة على هارون، وقوله: (فِي أَمْرِي)، أي: أمر النبوة والرسالة، فقال العلي الكبير لعبده موسى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، فأضحى هارون عليه السلام نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى؛ ولهذا قالوا: إنه لا يعلم أن أخاً أمن على أخيه من منة موسى على هارون، ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، أي: له قربى وزلفى وجاه عند الله، ولهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيناً ورسولاً، وقد مرت عائشة رضي الله عنها وأرضاها على رجلين في الحج يسأل أحدهما الآخر، قال له: هل تعلم أي أخ أعظم منة على أخيه؟ فقال الآخر لا أدري، فقال الذي سأل: أنا أعلم، إنه موسى بمنته على هارون، فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبينا رسولاً، فقالت عائشة رضي الله عنها معلقة: صدق والله: أي: صدق والله فيما قال: والأخوة منها أخوة الإيمان، ومنها أخوة النسب، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الذكرى، وأعظمها إذا اجتمعت: أخوة إيمان، وأخوة نسب، وأخوة علاقة أو صداقة أو رفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك، أو زمالة، والعرب تقول:

إن أخاك الحق من كان معكومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك

والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه، لكن العرب تقول: إن ذلك الأخ -ويعبرون عنه بالخل الوفي- هو ثالث المستحيلات.

والمستحيلات عند العرب ثلاثة: اثنان منها يتعلق بالدواء، فيقولون: الغول يخوفون به، ولا حقيقة له، والعنقاء طائر يخوفون به، ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له، ولكنهم يجمعون إلى ذلك الخل الوفي، فيقولون: إن ثالث المستحيلات الخل الوفي.

وقد يكونون أصابوا في الأولى، لكنهم أخطئوا في الثانية، فكم من خل وفي موجود، وهذا لا يحتاج إلى شواهد، وأعظمها أخوة الصديق لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

ثم ذكر موسى عليه السلام القضية الأساسية من هذا كله، قال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:33-35]، فذكر الله من أعظم العبادات وأجل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

وبعد أن سأل موسى ذلك قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه منة من الله على موسى، لكنها ليست بأول منة.

منن الله تعالى على موسى منذ صغره حتى صار شاباً

ثم عدد الله جل وعلا أفضاله ومننه وعطاياه على هذا النبي الكريم، فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: بإجابتنا لدعائك مرة أخرى.

وقوله جل وعلا: (مرة أخرى) يدل على أمرين: أولاً: يدل على أن هناك أموراً سابقة، وثانياً: يدل على أن هناك أموراً لاحقة؛ لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني: (ولقد مننا عليك مرة) أخيرة؛ لأن الأخير يعني: الخاتم، لكن الآخر قد يكون بعده آخر غيره، ولكنه خلاف الأول، أما الأخير فهو خاتمة لما سبق.

فقول ربنا جل وعلا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ [طه:37] المخاطب هو موسى مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: سبقت منتنا عليك، وستأتي منن أخرى عليك أيها الكليم، ثم عدد الله ما سبق، وأشار إلى ما سيأتي، فقال جل ذكره: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:37-38]، (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، كما أن إذا بالألف وظرف لما يستقبل من الزمان، قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:38]، ولم يذكر الله جل وعلا في آية ما الذي أوحاه إلى أم موسى، فأبهمه حتى يفصله بعد قليل، وتصبح الأنفس مشتاقة لسماعه، ومن أساليب القرآن: التفصيل بعد الإجمال.

قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه:38-39]، لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكون في النساء، وما كانت نبياً قط أنثى.

فقوله: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ، أي: ألهمها الله أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ، الذي سيقذف هو موسى (في التابوت) أي: في الصندوق، فلم يقل الله لها: أخفيه هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجنده، وإنما قال الله لها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليم لم تمر عليه إلا أيام معدودات مظنة هلاكه، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله.

وإذا العناية لاحظتك عيونهانم فالمخاوف كلهن أمان

فالإنسان يصبح في قمة الأمان إذا كان محاطاً برعاية الله، والصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر أنزل الله عليهم النعاس، والنعاس مظنة نصر لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.

فالمقصود: أنه كل من خاف من أحد فر منه، إلا من خاف من الله لجأ إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وقد قذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع، وإلا ففي العقل أنه لا تقوى امرأة على هذا الصنيع؛ لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تلقيه في البحر.

فقذفته في البحر بأمر من الله، وأمر الله البحر كما يدل عليه ظاهر القرآن: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ [طه:39]، أي: البحر، وهو النيل بالاتفاق، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ [طه:39] جواب للأمر، فجرى ذلك التابوت بقدر الله، حتى أضحى قريباً من بيت فرعون، أو من قصره، حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون، قال الله: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ [طه:39]، ما زال الخطاب لموسى، مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، وحتى يحيا موسى أجرى الله السبب، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهن: خديجة ومريم وفاطمة وآسية ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نطلق كلمة (سائر) بمعنى كل، وسائر ليست بمعنى كل، إنما المعنى: بقية، فأنت تقول: نجح فلان وفلان وفلان وأخفق سائر الطلاب، أي: باقي الطلاب، وليست بمعنى كل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عدد أولاً أربعاً، ثم قال: (وفضل عائشة على سائر النساء) أي: البقية من غير الأربع (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في سائر الطعام.

المقصود: أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى، فهرولت إلى فرعون تقول له: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]، قيل -والعلم عند الله- أن فرعون قال لها: أما لك فنعم، وأما أنا فليس لي به حاجة، والبلاء موكل بالمنطق، فوقع الذي أراده فرعون، وهذا بيناه في مواطن كثيرة، لكن نقف على آيات السورة.

قال الله جل وعلا: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي: تنشأ وتهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزة والجلال؛ لأن الله ادخرك لأمر عظيم.

إعادة الله تعالى لموسى إلى أمه

ثم كرر جل وعلا ظرفاً آخر هو إعادته إلى أمه، قال تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه:40]، وهذا وقع بعد تحريم المنع، وقد قلنا: إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو تحريم منع وليس تحريم شرع، قال الله: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12].

واستنبط العلماء رحمهم الله من هذه القضية: أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب، ووجه هذا الاستنباط: أن الله جل وعلا وعد أم موسى أنه سيرد موسى إليها، فقال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، ومع هذا الوعد الإلهي الرباني إلا أن أم موسى قالت لأخته -أي: أخت موسى-: قصيه، أي: تحسسي خبره، فأخذت بالسبب، فتحسست الخبر، قال الله جل وعلا: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ [طه:40] تخاطب آل فرعون، (على من يكفله)، وكانوا قد بلغت بهم المشقة مبلغاً من الذي يكفله، وقد امتنع عن النساء، قال الله: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40]، وأي حزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليم بين يديها ترضعه وتأخذ على رضاعته أجراً؟ لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليماً مصطفى ونبياً رسولاً، قال الله جل وعلا يذكر أنه من على هذا الكليم الصالح: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، وهذا الوعد هو الذي قاله الله في سورة القصص: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].

ثم قال: وَقَتَلْتَ نَفْسًا [طه:40]، وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر، وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ [طه:40] أي: الغم الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس، وله صورتان:

غم: عند شعورك بالذنب، فقد قال الله عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16].

وغم: عندما أخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، والأظهر عندي في قول الله: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: وابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء.

رجوع موسى من مدين بعد فراره إليها

وقال تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].

قوله: فَلَبِثْتَ سِنِينَ ، هذا إبهام لعدد السنين، فلم يحدد الله تعالى عدد السنين، لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمان أو عشر، وقد عرفنا أن هذا الإبهام لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكا الله في سورة القصص عنه أنه قال: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27].

فهنا فسرنا القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانين في المائة، وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر، ثم جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: ما الأجل الذي قضاه موسى؟ فقال: أتم أوفى الأجلين)، فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين، عندما اتخذنا طريقاً علمياً بحتاً متدرجاً كما هو ظاهر.

وكلمة (سنين) تسمى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء، وقد يرد سؤال: لماذا لا يقال لها مباشرة جمع مذكر سالم، مع أنها ترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء؟

والجواب: أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جمع، فتقول: مدرس مدرسون، مهندس مهندسون، إنما يزاد واو ونون في حالة الرفع، أو يزاد ياء ونون في حالة النصب، لكن كلمة (سنة) إذا جمعت على (سنين) لم يسلم مفردها، بل يتغير؛ ولهذا قال النحويون: إن هذه الكلمة ومثيلاتها تسمى: ملحقات بجمع المذكر السالم.

ومما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم كلمة (بنون) قال الله جل وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].

وكلمة (أهلون) قال الله جل وعلا: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11]، (أهلون): فاعل مرفوع؛ لأنه معطوف على فاعل، وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

أما في السنة فوردت كلمة أرضين، قال عليه الصلاة والسلام: (طوق من سبع أرضين) فأرضون ملحقة بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن، وإنما وردت في السنة.

قال الله: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ، هذه السنين كنت فيها معززاً مكرماً، محفوظاً آمناً من بطش فرعون، ثم قال الله له: ثُمَّ جِئْتَ إلى أي مكان؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه، الذي تخاطب فيه ربك، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور، إلى الوادي المقدس عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر، لكن القدر هنا قدر خاص، والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى، أي: جئت لأمر أعددناه، لم تتأخر عنه ولم تتقدم، ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليماً مصطفى على أهل زمانك، ولذلك قال الله له: يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144].

وهذا المعنى قد فهمه الشاعر جرير حين قال يمدح عمر بن عبد العزيز :

نال الخلافة أو كانت له قدراًكما أتى ربه موسى على قدر

فهذا المعنى قد فقهه جرير ، وهو أن هناك معنى خاصاً للقدر وليس هو القدر العام، وإن كان يقيناً يندرج هذا في القدر العام بلا مراء.

وجرير -وهذا من باب الاستطراد النافع- هو أحد الشعراء الأمويين الذين يستشهد بشعرهم، فكون طالب العلم يلجأ إلى شعر جرير فيقرؤه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه، هذا مما يعينه على فهم كلام الله، وجرير أعطي قدرة على السحر بالمبنى، لا السحر بالمعنى، فليس في شعره كبير معان، لكن لديه قدرة في السبك بين الأبيات، أو بتعبير أصح: السبك بين الألفاظ، وهذه روح الشعر وحقيقتها، ولا تأتي إلا من الدربة؛ ولهذا يقل هذا الإتقان في شعر العلماء؛ لأن الإتقان والدربة عندهم قليلة، فلو أتيت برجل حافظ للقرآن، متقن للخطابة، فيعني ذلك لزاماً أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم، وهذا بالضرورة يعني عدم قراءته للشعر كثيراً، فلا يكون هناك سبك جيد وقد يكون أقرب إلى النظم.

لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر فستكون عنده معرفة بروح الشعر، ولذلك كل من اشتهر بالشعر، وأصبح إماماً فيه لا يكون إماماً في شيء آخر، من أصبح إماماً في الشعر محال أن يكون إماماً في غيره؛ لأن هذه منزلة يطلب منها التجرد عما غيرها، بخلاف غيره، لكن قد يكون الإنسان ملماً بكل ذلك، كالإمام الشافعي مثلاً، فقد كان إماماً في اللغة، إماماً في القراءات، إماماً في النحو، فجمع فنوناً هو فيهن رئيس وسيد، لكنه لم يكن إماماً في الشعر كـجرير ، والمتنبي ، وأبي تمام ، والبارودي ، وشوقي وغيرهم؛ فهؤلاء لم يفعلوا في الشعر إلا لأنهم قلما يجيدون شيئاً آخر من الناحية الفكرية.

نعود فنقول: إن الرجل سحر الناس بمبانيه ولم يسحرهم بمعانية، ومن ذلك قوله:

أتنسى إذ تودعنا سليمىبفرع بشامة سقي البشام

فما وجد كوجدك يوم قلناعلى ربع بناظرة السلام

تمرون الديار ولم تعوجواكلامكمو علي إذاً حرام

وهذه من حيث المعنى ليس فيها كبير معنى، فإنه يتكلم عن المعشوقة وهو خارج من الديار، فقد أعطته عود البشام، ثم خرج يمر على ديار اسمها ناظرة، أي: مكان اسمه ناظرة؛ ولذلك لم يجر بالكسرة في الأبيات، فيسلم على أهله ويمر، ويعاتب قوماً لم يمروا عليه ويزوروه، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس، لكن الله أعطاه سبكاً لفظياً، جعل لشعره صيرورة بين الناس، ومن ذلك قوله:

بان الخليط ولو طوعت ما بان وقطعوا من حبال الوصل أقرانا

حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا

يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي كالذي كانا

لو تعلمين الذي نلقى أويت لنا أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا

إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا

يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا

وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا

فليس في الأبيات كلها كبير معنى، لكنها تجري على اللسان وإذا بدأت بها تعجز أن تقف قبل أن تكملها؛ ولهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقرى والمدن كسيران النار في الهشيم؛ لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول، وهذا مهم جداً في فهم لغة القرآن؛ لأن أكثر من يخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم ألفاظ القرآن، وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تنظر في قواميس اللغة، هذا استطراد في معنى قول الله جل وعلا: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].

أمر الله تعالى لموسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله

ثم أتم الله عليه النعمة، فقال عن هذا الكليم: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وفي الآية السابقة قال: وََلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، لكن لأي شيء؟ ثم قال: (واصطنعتك لنفسي)، وهذا من أعظم الثناء في القرآن، ومن أعظم الثناء في القرآن ما مر معنا من قول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، وقول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، فهذه ثلاثة مواطن ظاهر فيها الثناء على هؤلاء الأنبياء الكرام، وأعظمها قول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، وهذا عظيم جداً.

قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، ثم انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه، فقال له: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42]، وقرنهما بالأمر الأول: وَلا تَنِيَا أي: لا تضعفا، من الفعل: ناء، بمعنى: ضعف وعجز ولان، وهذا دليل على أن أعظم ما يعين على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علام الغيوب، اللهج بذكر الله يعين على تحقيق كل مرغوب، ويدفع به كل أمر مرهوب؛ ولهذا قال الله قبل أن يبعثهما وقبل أن يسمي لهما إلى من يذهبان: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:42-43]، ولا ريب أن فرعون طغى طغياناً عظيماً، قال تعالى عنه: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وكل ذنب يندرج بعد ذلك في هذا الأمر، وهذا إجمال من الله في قوله: إِنَّهُ طَغَى .

قال الله: فَقُولا لَهُ -أي: لفرعون- قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، اللين يكون في الأسلوب لا في المضمون، فإياك أن تفهم أن اللين يكون في مضمون الكلام، إنما اللين يكون في الأسلوب الذي تعرض به خطابك، وهذا يجب أن يدقق فيه الإنسان وهو يقرأ القرآن، فمثلاً: تطبيقه على خبر موسى، الله تعالى أمر موسى وهارون أن يدعوا فرعون إلى التوحيد، وإلى عبادة الله، فلا يعقل أن موسى وهارون فهما من اللين أن يغيرا الدعوة، بأن يشرك مع الله واحد منهما أو هما معاً، أو أنه لا يدعي أنه إله لكن لا يعبد الله.. هذا غير وارد، لكن اللين في قضية كيف تطرح التوحيد.. كيف تقول لفرعون: آمن بالله، كيف تخاطبه، هذا هو اللين في الأسلوب، أما المضمون فيبقى هو المضمون.. ترى رجلاً لا يصلي فتذهب إليه وتنكر عليه إنكاراً عظيماً كونه لا يصلي، لكن كيف تنكر؟ هذا هو اللين الذي أمر الله به، أما المضمون فيبقى كما هو مبجلاً عظيماً نحافظ عليه، كما أن الأسلوب إذا بقي العاصي على ما هو عليه يتغير، والدليل: أن موسى وهارون قطعاً عبدان طائعان لله، والله قال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ، ومع ذلك قال الله جل وعلا عن موسى أنه قال لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، وكلمة (يا فرعون مثبوراً) ليس في هذا الأسلوب لين، لكن موسى لجأ إليه بعد أن استنفد مسألة اللين، فلما ثبت فرعون على كفره وإلحاحه وعناده غير موسى أسلوبه عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ، وقد سبق في علم الله أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى، لكن الله أراد أن يعلم من يدعو إليه كيف يدعو ويتدرج في خطابه.

خوف موسى وهارون من طغيان فرعون وعدم استجابته وتثبيت الله لهما

قال الله جل وعلا في الخبر نفسه: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] (قالا) أي: موسى وهارون، وهذا الأمر بعد التكليف، (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) والمقصود من الأمرين ألا يقبل منا لا حقاً ولا باطلاً، قال الله جل وعلا لهما: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، والله مع كل أحد يسمع ويرى، لكن هذه معية خاصة لكليم الله وأخيه، وهذا أعظم ما وقر به الاطمئنان في قلب رسول الرحمن موسى عليه الصلاة والسلام، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ولو اخترت لك من ألفاظ اللغة ما اخترت فلن يمكن أن أؤدي اللفظ الذي جاء به القرآن، كما يقر بذلك كل من يقرأ القرآن ويفهم لغة العرب، فأي اطمئنان وصل إلى قلب موسى، وربه يقول له: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى؟!

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (فإن فرعون لن يبطش ولن ينطق ولن يتقدم ولن يتأخر إلا بإذنه القدري جل وعلا، وأنا معكما بنصري وتأييدي أسمع وأرى).

قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47] (فأتياه) أي: فرعون، (بآية من ربك) أي: جنس الآيات، وإلا فإن الآيات تسع كما سيأتي تفصيلها، (قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)، هذا نوع اطمئنان وأسلوب في الكلام، لكن هل هو تحية؟ قال به بعض العلماء استناداً على ما ورد في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خطابه إلى هرقل وغيره كتب: (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: سلام على من اتبع الهدى).

وقال آخرون: إنه ليس تحية، بدليل أنه لم يأت في أول الكلام، ولكل وجه، فقد يكون ختم به موسى أمره، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون تحية لغيره.

قال تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، وهذه قد مرت معنا من قبل، وقلنا: إن الله حصر الخلود في النار على من اتصف بصفتين: التكذيب والإعراض، وكل كافر تجتمع فيه هاتان الخصلتان، وفي هذه الآية وما قبلها ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز، والمعنى: أن موسى وهارون قبلا الدعوة، وتوجها إلى فرعون، وسواء طالت مدة وقوفهما بالباب أو لم تطل، فكم مكثا يستلطفان فرعون في الدخول عليه، هذا علمه عند الله، حتى قال بعض الناس: إنه مكث أربعين عاماً، وهذا بعيد، وقال بعض الناس: أربعين يوماً، وهذا لا يبعد، والمقصود أنهما دخلا عليه.

محاجة موسى وفرعون

فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟ فأجاب الكليم: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله، لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفاً من انفراط قومه عنه، فأجاب الكريم إيجاباً مختصراً: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فالخلق مقدم على الهداية، والنعمة نعمتان: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، فمن حيث الترتيب الزمني: فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد، ومن حيث كونها نعمة وفضلاً ومنة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد، والله جل وعلا هنا لما كان يتكلم موسى عليه السلام ويبين فضل الله، كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني، ولما تكلم جل وعلا عن ترتيبها في الفضل قال: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:1-3]، فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن، أما هنا فقدم الخلق لأن موسى يتكلم مع كافر، فيريد أن يبين له الأمر.

قال تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فخلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه، وخلق النبات والجماد، وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله جل وعلا إليه، وهذا أمر محسوس، والكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن، هذا كله في الكلام عن الرسالة، وفرعون كان ذكياً، فأراد أن يخرج موسى من جو الرسالة، أراد أن يخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، فقال له: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]؟ والقرون الأولى لا تعد، ولا أخذ موسى عليه السلام يعدد من هم قوم نوح ومن هم قوم ثمود، ومن هم قوم عاد، وذلك حتى يأتي الغلط على لسانه؛ لأن هؤلاء لا يحصون، والكلام فيهم لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ، فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، أي: أنا رسول، وهذا غيب، ولا اطلاع للرسول على الغيب إلى بمقدار ما علمه الله، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، وهذه قد مرت معنا، أننا نقول: إن الله جل وعلا بكل شيء عليم، وأن علمه جل وعلا يوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، ودليله هذه الآية: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، (لا يضل) أي: لا يجهل، (ولا ينسى) النسيان المعروف، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه، فيأتيه في أنه يعلم ثم ينسى، ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم، ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يحيط علماً بما علم أو بما يعلم، فتفوته أشياء، وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب تبارك وتعالى.

ثم أخذ موسى يعدد التعريف بربه، قيل: إن هذا من كلام موسى، وقيل: إنه من كلام الله، والعلم عند الله، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، ثم ذكر الخلق: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:53-54]، هنا أراد موسى عليه السلام -إذا قلنا: إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون- أن يعرف بربه، وعندما تضرب أمثالاً أو تعرف بأحد فاذكر أقرب ما يكون إليه، وألصق ما يكون بحياته؛ لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها؛ ولهذا قال الله لمشركي العرب: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]؛ لأنهم يغدون ويروحون معها، فقالها قبل السماء وقبل الأرض، رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة باهرة، وهذا لا تعارض فيه، لكنه قدم ما هو الألصق حتى يكون أقرب إليهم، فالمقصود من المثل تقريب الأمر وليس إبعاده، فإذا كان المثل إذا ضرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق؛ ولهذا لما أراد موسى أن يعرف بربه قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وهو الغيث والمطر، فَأَخْرَجْنَا بِهِ أي: بهذا المطر، أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ، شتى في كل شيء، منه ما تأكله الدواب، ومنه ما يأكله بنو آدم، ومنه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما هو للزينة، ومنه الحامض، ومنه الحلو، ومنه غير ذلك، أنواع شتى خلقها الله جل وعلا ثم قال جل وعلا: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ، أي: شيء لكم وشيء لدوابكم، إِنَّ فِي ذَلِكَ ، أي: في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى، أي: ذوي العقول، ولم ترد كلمة (النهى) في القرآن العظيم إلا في موضعين كليهما في سورة طه، قال الله جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى، وقال جل وعلا في خاتمة السورة، بعد أن ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والميزان والأجل المسمى، ثم قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

والمقصود: أن أهل العقول هم أقدر الناس وأولى الناس وأشد الناس تهيئة لأن يعتبروا بما يرونه أمامهم.

ثم ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، والكلام كله عن الأرض، وقد مر معنا أن خلق أبينا آدم مر بمراحل:

أولهن: المرحلة الترابية من قبضة قبضت من الأرض، وهذا معنى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ، أي: باعتبار خلق أبيكم، وإلا فإن الناس خلقوا من نطفة، (وَفِيهَا) أي في الأرض (نُعِيدُكُمْ)، والمقصود: أن الإنسان مرده إلى القبر، وحتى لو قلنا: أن إنساناً التقمه حوت، أو افترسه سبع؛ فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت، ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض، فسواء دفن الشخص بطريق مباشر أو لم يدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون تراباً، يقول أبو العلا المعري في أبياته الفلسفية الشهيرة:

خفف الوطء ما أظن اديم الأرض إلا من هذه الأجساد

غير مجد في ملتي واعتقادينوح باك ولا ترنم شادي

رب قبر صار قبراً مراراًضاحك من تزاحم الأضداد

سر إن استطعت في الهوى رويداًلا اختيالاً على رفات العباد

إلى آخر ما قال في قصيدة معروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها موتى قبروا فيها، والله يقول: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال: (وَمِنْهَا) أي: من الأرض، نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فيجد أخاه الذي نتحدث عنه الآن آخذاً بقوائم العرش،

قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسي- أم جوزي بصعقة الطور)، وقوله: (أم جوزي بصعقة الطور) أي: أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى عليه الصلاة والسلام.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة؛ لأن ما جهله النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعلمه أحد غيره، اللهم إن لم يكن بحثاً غير مجزوم فيه من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء.

نخلص من هذا كله: أن الله جل وعلا اصطفى هذا الكليم، وقربه أدناه، وكان في أول أمره همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، ثم لما من الله عليه بالرسالة أحب أن يشرك الله جل وعلا أخاه في الرسالة، فقبل الله جل وعلا له هذا السؤل، وذكره بالمنن الماضية، وكيف نشأ محفوظاً برعاية الله جل وعلا حتى جاء على قدر بين يدي الله، يكلمه ربه ويعطيه مقام التكليم.

ثم بعثه الله جل وعلا إلى فرعون، وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر؛ بل قد دل القرآن على أن هناك رسلاً قبله، ومنهم يوسف عليه السلام، قال الله جل وعلا على لسان مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34] أي: من قبل موسى، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]، وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أنه لم يبعث رسولاً بعد يوسف إلى أهل مصر.

ولما وقف موسى بين يدي فرعون خاطبه فرعون بقوله: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟ فعرفه موسى عليه الصلاة والسلام بربه، فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب، ويشغل موسى بقضايا الحكايات، فرده موسى إلى أمور الرسالات: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، وهذه تعلم المرء كيف يجادل الآخرين، وأنه أحياناً من يجادلك يحاول أن يخرجك من الشيء الذي تجيده إلى الشيء الذي لست متمكناً فيه، فلا تمكنه من مراده، وإنما عد به إلى الجادة التي تحسنها؛ لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه قد تنكشف سوءته، وتظهر عورته، وخير له ألا يقتحم حججاً لم يؤصل عليها ولم يعرفها، ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة، ولذلك قال موسى: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، ثم توالت آيات تبين ما من الله جل وعلا به على الخلق تظهر ربوبيته، وهذه الأمور لا يستطيع فرعون ولا غيره أن ينكرها، وهي أن الله خلق الأرض وجعلها سبلاً، وأنزل من السماء ماء، وأنبت الأرض، ويسر للأنعام وبني الإنسان في المقام الأول أن يأكلوا منها، هذا كله إخبار من الله جل وعلا لا يستطيع أحد أن يرده لا فرعون ولا غيره، حجج باهرة، وآيات ظاهرة، وقدرة تعجز من يراها..

تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصاتعلى ورق هو الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهداتبأن الله ليس له شريك

هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة طه [3] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net