إسلام ويب

في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الكثير والكثير من العبر التي ينتفع بها المسلم عموماً وطالب العلم خصوصاً، ومن ذلك: عدم التقليل من شأن أحد من الناس، والتواضع للمعلم، وخفض الجناح بين يديه، وإظهار التبجيل له في حضرته. وفي قصة الملك الصالح ذي القرنين دروس عظيمة، وفوائد جمة تدل على عقله الراجح، وحنكته السياسية، ومقدرته على الحكم، وعلى الرغم من ذلك فإنه في قمة التواضع لربه وخالقه جل وعلا.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة ... من أمري عسراً)

الحمد لله الذي خلق فيسر، وشرع فقدر، ووعد وبشر، وأوعد فأنذر.

والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بعثه ربه من أعز قبيل، بواضح الدليل وسواء السبيل، في أكرم جيل وأمثل رعيل، أثنى عليه وعلى أصحابه من قبل في التوراة والإنجيل، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذا لقاء متجدد حول تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهى بنا المطاف في اللقاء السابق إلى خبر موسى عليه الصلاة والسلام، مع العبد الصالح الخضر، والتقائهما عند مجمع البحرين، ومضى القول أن موسى عليه الصلاة والسلام مع فتاه نسيا حوتهما، وذلك سبباً في رجوعهما ليلتقيا بالعبد الصالح، ثم تبدأ تلك القصة التي أخبر الله عنها، وجاءت كذلك مفصلة في صريح السنة، في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره.

قال الله جل وعلا -وهي أول الآيات التي نشرع في التأمل فيها- قال الله تبارك وتعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71].

وقد اتفق موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر على أن ينطلقا سوياً، واشترط الخضر على موسى أن يلتزم الصمت، وأن لا يبدءه بسؤال حتى يخبره بما عنده، ووافق موسى عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط، وأخذ الخضر منه العهد والميثاق.

وسيأتي بعد ذلك بيان أن المؤمنين على شروطهم، وأن ذلك لا يغير من كون كل منهما على جادة الصواب وسواء السبيل.

قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71] ففهم أنهما ركبا في السفينة، وأظنه قد مر معنا أنهما وقفا على شاطئ البحر ينتظران مركباً، فمرت سفينة فعرفت الخضر، فأركبوهما من غير أجرة، إجلالاً وإكراماً للخضر، وهذا فيه دلالة على أن عباد الله الصالحين يسخر الله جل وعلا لهم من يحبهم، ويعطيهم ويمنحهم فضلاً من الله تبارك وتعالى عليهم.

قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، ركبا السفينة، وكان موسى فرحاً أن أولئك القوم المساكين أركبوهما من غير أجرة، ففجأة وإذا بالخضر يعمد إلى قدوم فيخرق السفينة، ثم يضع مكان ذلك الخرق قطعة من خشب تسده، فاشتاط موسى غضباً؛ لأنه شخص قيادي بفطرته، وتعود أن يسوس بني إسرائيل، ولم يتعود أن يكون تابعاً، وإنما تعود أن يكون متبوعاً، فقال منكراً على الخضر ناسياً الشرط الذي بينهما: قال: قَالَ أَخَرَقْتَهَا - أي السفينة- لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] واللام للتعليل؛ ولهذا جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً بالفتح؛ لأنه صحيح الآخر.

(لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقد جئت) أي: بفعلك هذا، والتاء للمخاطب تاء الفاعل للمخاطب، شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] أي: شيئاً مستعظماً لا يقبل.

ما زاد الخضر على أن ذكره بالشرط الذي بينهما، قال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، وهذا ليس فيه عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بالشرط، فتذكر موسى الشرط، فآوى إلى رشده، ولم يغب عنه الرشد يوماً عليه الصلاة والسلام، قال: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، أي: إنما وقعت مني هذه نسياناً، والله جل وعلا أعذر عباده بالنسيان، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، أي: لا حاجة لأن تزيد في اللوم، وتكلفني ما لا أطيق، لمجرد أنني نسيت، والإنسان ينبغي عليه أن يقبل عذر المعتذر إذا كان ذلك لأول وهلة.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً ... من لدني عذراً)

قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، أي: ما زالا سوياً، وليس هناك ذكر لـيوشع بن نون في الآيات كما سيأتي، والله أعلم هل كان يوشع معهم وهو الأظهر، أو لم يكن معهم وهو بعيد، لكن سواء كان معهم أو لم يكن معهم فإن يوشع بن نون فتى موسى غير مقصود بالحكاية كلها؛ لأن موسى هو المقصود بالأمر، وإنما يوشع كان تبعاً لموسى، يخدمه ويقوم بشئونه.

قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا [الكهف:74]، ولا يتصور أنهم لقوا الغلام في البحر، ولكن المقصود أنهم تجاوزوا البحر، ودخلوا مدينة على شاطئ البحر، وقد مر معنا كثير مثله، وسميناه إيجاز حذف، وقلنا: إن القرآن فيه مساواة وفيه إطناب وفيه إيجاز، وكل ما يقتضيه السياق جاء في القرآن على أحد هذه الأنماط الثلاثة: الإيجاز أو الإطناب أو المساواة.

قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ أي: قتل الخضر ذلك الغلام، فتعجب موسى، وهذه أكبر من أختها، أعظم من الأولى، قال: مستنكراً: أَقَتَلْتَ والهمزة للاستفهام، أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، لو قتلتها بنفس أخرى لكان القتل حق، لكنها نفس زكية قتلتها من غير جرم ولا ذنب يظهر لي.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، و(نكرا) أخت (إمرا) في استعظام الشيء، وفي القرآن -كما مر معنا- منكر ونكر، النكر: الشيء المستعظم على النفوس، الذي تتهول منه الأعين إذا رأته، وإن كان حقاً في ذاته.

أما المنكر فهو ضد المعروف، ولو أن النفس العاصية قبلته لكنه يبقى منكراً إذا كان على غير شريعة الله جل وعلا، فالمنكر: ما حرمه الله وذمه الله، ولو ألفته النفس.

والنكر: ما استعظمته النفس ولو كان حقاً في ذاته، وسيأتي هذا في بيان قصة ذي القرنين إن شاء الله تعالى.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75] زاد هاهنا قوله: (لك) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76] الفاء عند النحويين واقعة في جواب الشرط، والأصل في جواب الشرط أن يخلو من الفاء، لكن الفاء تقع لأسباب منها أن يكون الفعل مبدوءاً بالطلب، وقوله: (فلا) للنهي، والنهي نوع من الطلب.

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، وهذا شرط التزم به موسى لنفسه، ولا ندري هل موسى ضجر من القضية فأراد أن ينهي الأمر، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام أراد أن يلزم نفسه ألا يسأل الخضر أياً كان الأمر فقد كانت هذه آخر الحوادث التي مرت لموسى والخضر.

قال الله: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]، أي: لا عذر لي بعد ذلك إذا وصل الأمر إلى كونه ثابتاً.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية .... عليه صبرا)

قال الله: فَانطَلَقَا [الكهف:77] أي: واصلا سيرهما، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، المستطعم.

موسى والخضر، والهمزة والألف والسين والتاء هنا للطلب، والهمزة همزة وصل، اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77]، أي: طلبوا منهم طعاماً، وضيافة.

قال الله: فَأَبَوْا [الكهف:77] أي: أن الذي أبى وامتنع هم أهل قرية، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، وهذا فيه إشارة إلى أن يوشع غير موجود، وهذا يدل على طباع أهل تلك القرية، وقد فهم منها العلماء فائدة جليلة: أن عبرة الإنسان بمقامه عند ربه، فهم لا يمكن أن يتواطئوا كلهم ويعرفوا له قدراً، لكن العظيم لا يبالي بعدم معرفة الخلق له، والعبرة التي ينبغي أن تحرص عليها، والمسألة التي ينبغي أن تعض عليها النواجذ: أين مقامك عند ربك جل وعلا؟ أما الخلق فمنهم المنصف ومنهم المبالغ، ومنهم الحاقد ومنهم الجاهل وهم يختلفون في الإنسان، ولا يوجد أحد أجمع الناس عليه، فنبي الأمة ورأس الملة صلى الله عليه وسلم مات ومن أمة العرب من لا يرى النبي أهلاً للنبوة، لكن هذا لا يضيره، ولا يقدح في مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه.

قال بعض من ينظم الشعر:

فإن رددت فما في الرد منقصة قد رد موسى قبل والخضر

وإن كان السياق الذي جاء فيه النظم غير حميد، لكنني أنا أجتز منه ما هو مقبول، والمقصود أن الله قال: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، وكان هذا من المفترض أن يدفع الخضر في فهم موسى إلى أن يمتنع عن الإحسان إلى أولئك القوم الذين أبو أن يضيفوهما، لكن الخضر بادر على غير طلب منهم إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يكاد أن ينقض؛ لأنه ليس منقض، وليس مستوياً، لو كان مستوياً لما احتاج إلى أن يقومه الخضر ، ولو كان منقضاً تماماً لما قال الله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، قال الله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، أي: أقام الخضر ذلك الجدار، وجعله عائداً إلى أصله الأول في أنه متمكن لا يهدم، فاستشاط موسى غضباً وقال معاتباً الخضر: قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، أي كان ينبغي عليك أن تطلب منهم أجراً على صنيعك هذا، مقابلة بالمثل، ولحاجتنا إلى الطعام، وهنا أوقف الخضر المسألة وطبق الشرط الذي بينهما، وقلت في التمهيد: المسلمون على شروطهم، قال: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78]، فلهذا قال الله جل وعلا: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وقال في الطلاق في الرجعة: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وقال: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282].

فالوضوح في المعاملات أمر محمود، ولا يضير الإنسان أن يعطي ديناً أو أن يقترض، فيطلب منه من أقرضه ورقة أو سنداً أو ما أشبه ذلك مما به المواثيق، هذا مما شرعه الله جل وعلا لعباده، والدليل: هذا عبد صالح، ويعرف أن موسى كليم الله، ومع ذلك أجرى تنفيذ الشرط بينهما وقال: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ [الكهف:78]، والسين للمستقبل القريب وهو بحسب الأحوال، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، والزيادة في المبنى زيادة في المعنى؛ ولهذا قال الخضر: مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، ما زال الأمر في موسى ملتبساً لا يعرف موسى تأويلاً ولا مصوغاً لأعمال الخضر التي قام بها، فالأمر مازال مدلهماً في ذهنه فخاطبه الخضر بجنس ما هو فيه، قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78].

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون ...)

ثم شرع الخضر يبين لموسى عليه السلام هذه القضايا، ويحل العقد واحدة تلو الأخرى.

قال: أَمَّا السَّفِينَةُ [الكهف:79] أي: السفينة التي خرقتها، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] واللام للملك، فالذي يملكون هذه السفينة هم المساكين، والمسكين من عجز على أن يجد لنفسه دخلاً يوافق مصروفه من حيث الجملة، واختلف أيهما أشد فقراً الفقير أو المسكين، مع الاتفاق على أنهما من ذوي الحاجات، والأظهر والعلم عند الله أن الفقير أشد فقراً من المسكين، بدليل تقديم الله له في أصناف الزكاة الثمانية المستحقين لها، قال الله جل ذكره: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60].

والمقصود أن الخضر قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] أي يؤجرونها، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] بخرقها، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، (كل) من ألفاظ العموم، مرت معنا مراراً، وظاهر كلام الخضر عن الملك أن الملك يأخذ كل سفينة صالحة وعرفنا أنه لا يأخذ المعيبة، أنه لو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة وغير صالحة لما احتاج أن يخرقها.

وقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] نص في موضع الخلاف، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] أي: ظلماً وتجبراً، كلمة: ( وراء ) جاءت في القرآن على عدة معان، من أشهرها ثلاثة، وراء بمعنى أمام: زمانياً ومكانياً، أما بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17] يعني: هذا في مستقبل أيامه، فحياة البرزخ، والعذاب المتوعد به أهل النار، لم يأت بعد، وإنما هو أمام المتوعد به، هذا ظاهر.

وأما وراء بمعنى أمام مكانياً فدليلها الآية التي بين يديك، يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، ومعنى وراء أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأول معاني وراء في القرآن بمعنى: أمام، وتأتي بمعنى: خلف، وهو الأصل في استخدامها اللغوي، تأتي بمعنى خلف، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود:92]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود:92] نص في أنها تأتي بمعنى خلف.

بقيت أشهر معانيها والتي تأتي بمعنى غير أو بعد، قال الله تعالى في النساء: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، ثم ذكر المحصنات، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ [النساء:24] أي: ما بعد ذلك، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المؤمنون:5-7] أي: غير ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، وهذا يدل -كما قلنا- على بعض المعاني التي تأتي عليها كلمة وراء في القرآن.

فهذا السبب الأول، وأنت تلحظ أن الخضر عليه السلام أسند فعل العيب إلى نفسه فقال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79].

الآن قضية لماذا خرق السفينة حلت أمام موسى، والمسكين قلنا: أسند إليهم ملك السفينة وسماهم مساكين، فعلى هذا لو أن إنساناً -وهذا يأتيك في باب الفقه في الزكاة- مصروفه أكثر من دخله فإنه يعد مسكيناً، من كان مصروفه العادي من غير سرف ولا مخيلاء أكثر من دخله الثابت المتوقع شهرياً أو سنوياً يسمى مسكيناً.

هذا خبره مع السفينة.

تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه ... وأقرب رحماً)

قال: وَأَمَّا الْغُلامُ [الكهف:80] أي: شأن الغلام الذي أنكرت علي أن أقتله، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80]، والأبوان هنا: أبوه وأمه، وهذا على جريان كلام العرب في التغليب، ولغة القرآن: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27].

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، أي: أنه سبق في علم الله وقدره أن هذا الولد لو نشأ وعاش سيكون كافراً، ويخشى من طغيانه وكفره، مع تعلق والديه به أن يكون سبباً في كفر والديه، فلئن يفقد الولد في الصغر خير لهما من أن يبقى الولد ويحيا ويموتان على الكفر، فخيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الحزن والأسف عليها ولو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا، ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وتقول أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج من بيتها إلا ويرفع رأسه إلى السماء ويقول: (آمنت بالله، واعتصمت بالله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أن أظلم أو أن أظلم، أو أن أجهل أو أن يجهل علي)، والعبد الصالح هو من أوكل إلى الله جل وعلا أمره، واستعان بالله تبارك وتعالى، ورضي بقضاء الله وقدره، ولا يمسي إلا وهو راض كل الرضا عن ربه، بصرف النظر عما أتاه، أو عما لم يأته، فما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك.

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81] أي يعوضهما الله، ومعنى الآية إجمالاً: بمن هو أقرب زكاة ورحماً لهما، ولا يكون سبباً في كفرهما ولا في تجاوزهما للحدود، مع الرب تبارك وتعالى، هذه المسألة الثانية.

تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار ... تسطع عليه صبراً)

ثم قال له: وَأَمَّا الْجِدَارُ [الكهف:82]، وهي آخر القضايا، فالذي دفعني إلى إصلاحه وتقويمه رغم لؤم أهل القرية أنه كان لغلامين يتيمن في المدينة.

واليتيم في بني الإنسان من فقد أباه دون البلوغ، وفي الحيوان من فقد أمه دون أباه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وفي الطير من فقد أباه وأمه، ووجه الشاهد هنا: اليتيم المعروف.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ [الكهف:82] أي: تحت الجدار، كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82]، أي لليتيمين، ولو قدر وترك هذا الجدار على حاله فإنه ينقض ولو انقض لتسلط الأشرار على الكنز، وليس لليتيمين قدرة ولا شدة ولا بلغة في الدفاع عن نفسيهما؛ لأنهما ضعيفان.

قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82] فأراد ربك، فنسب الفضل إلى الله، وتأدب مع الله جل وعلا، ولم ينسبه إلى نفسه، وفي خبر السفينة نسب إرادة العيب إلى نفسه، قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وقد مر معنا في دروس متكررة أنه كذلك من أرفع المقامات حسن الأدب مع الله، وأعظم الأدب مع الله توحيده، سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، فمن وحد الله جل وعلا عرف طريق الأدب الحق مع الله تبارك وتعالى، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، أي اليتيمين، واليتيم يبتلى بأمرين:

بلوغ الأشد البدني يكون بالقدرة على النكاح، ويبلغ الأشد العقلي بأن يختبر، فإذا تصرف تصرفاً راشداً في ماله سلم له ماله، وإذا اجتمعت فيه قوتان: قوة البدن وقوة العقل، فقوة البدن عبر عنها بقوله: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، وقوة العقل عبر الله عنها بقوله: َإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].

فنقول: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82] أي: بعد أن يبلغا أشدهما، وقوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، وقد قيل: إن هذا الأب المقصود هو الجد السابع لليتيمين، وهذا غير بعيد لكن الأولى إمرار القرآن على ظاهره، فقوله جل وعلا: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، إنما ينصرف في لغة العرب أول ما ينصرف إلى الأب المباشر، ولا ينصرف إلى الجد، وإن كان يصح تسمية الجد أباً، لكنه ينصرف أول ما ينصرف إلى الأب.

وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى؛ ولهذا لن تودع أحداً شيئاً أعظم من أن تودعه عند الله، وأعظم ما تودعه الله جل وعلا دينك؛ ولهذا نقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبنا على دينك.

وانظر إلى الأدب في قوله: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] فأخرج نفسه، وكأنه يقول: أنا مجرد آلة تنفذ، حتى لا يفهم أن هناك شفقة غير منبعثة من شيء خارجي من الخضر نفسه، ولكنه أسند هذا الأمر وجعل غدوه ورواحه وصنيعه إنما هو رحمة من الله، جعله الله رحمة للخلق.

ثم زاد الأمر توكيد بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، و(ما) نافية، أي: ما فعلته بتصرف مني، وقد قلنا: إن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الخضر كان نبياً، وإن كان الناس أي العلماء اختلفوا فيه، هل هو نبي أو لا، وقلنا:

واختلفت في خضر أهل العقولقيل: نبي أو ولي أو رسول

لكن الذي يظهر عندي -والعلم عند الله- أن القول بنبوته يقطع الخلاف فيما حام حوله من كثير من التأويلات، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ [الكهف:82] أي: الذي صنعته ورأيته وشاهدته وبصرته لك وبينته إليك، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]، فخفف المسألة؛ لأنها قد حلت العقد، واحدة بعد الأخرى، وانتهى الأمر إلى أن قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

وهنا قلنا: نكرر أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، وأن الخطاب في الأول كان يناسب حال موسى ومقامه، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ [الكهف:78] ثم انتقل الأمر إلى أن قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين ... فأتبع سبباً)

قال الله جل وعلا بعدها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:83-85].

ذو القرنين أنموذج لملك صالح بلا خلاف، لكن هل هو نبي أو غير نبي؟ هذه مسألة خلافية، وقد جاء في الحديث: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته، فمن باب أولى أن يتوقف أتباعه من العلماء، صلوات الله وسلامه عليه.

(يسألونك) وردت في القرآن كثيراً، وقد ردت على ألسنة الكفار، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ [طه:105]، ووردت على ألسنة الكفار وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85]، ووردت هاهنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، والسائل: هم القرشيون بأمر من اليهود، ووردت: (يسألونك) من مجتمع المدينة الأول، الذي كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

لكن الفرق بين السؤالين، أن الأولى كانت أسئلة من كفار يريدون إثبات النبوة للمجادلة فيها، أما الأسئلة الثانية كانت أسئلة قوم مؤمنين يريدون أن يفقهوا الشريعة، وإن كانت هذه الأمة كما قال ابن عباس : أقل الأمم سؤالاً، وجملة ما في القرآن من أسئلة لا يكاد يتجاوز أربعة عشر سؤالاً.

قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، لم يذكر الله اسمهم ولا زمانهم ولا مكانهم؛ لأن المقصود من القرآن العظة والاعتبار، وليس التدوين التاريخي؛ والعظة والاعتبار تحصل من غير تدوين تاريخي، فينبغي ضبط هذه المسألة.

قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ [الكهف:83] أي: يا نبينا سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ [الكهف:83] أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم وتقام به الحجة عليكم، وإلا فما أصبح قرآناً، وإنما أصبح كتاباً تاريخياً، لكنه قرآن، وهذا فهم يجب أن تستحضره، أن تفرق ما بين من يقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن، ومن يفسر القرآن فيجعله تاريخاً، ويحق لك أن تقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن لكن لا تقول عليه: تفسير، لكن إذا فسرت القرآن لا تجعله تاريخاً، ولهذا صبغة كل فرد تظهر على تفسيره، فمن كان جيداً في الفقه إذا فسر القرآن أدخلك في أقوال الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة وغير المتبوعين كـإبراهيم النخعي والليث بن سعد والطبري وغيرهما، حتى تصبح وكأنك تقرأ في كتاب فقه، أو يأتيك إنسان ويقول: هذه مسألة فرضية، ولها أوجه عند النحويين فكأنك تقرأ في شرح ابن عقيل ولا تقرأ في تفسير.

أو يأتيك إنسان تاريخي فيأتيك بالأمم، دولة بني أمية ودولة بني العباس، والحرب التي حصلت بين آل البيت وخصومهم، وما إلى ذلك، كأنك تقرأ في أحداث تاريخية صدرها الناس، ولا تقرأ في كلام رب العالمين جل جلاله، لكن إذا أردت أن تفسر القرآن فنجعل همنا الأول ما فيه من عظة واعتبار تدلنا على الواحد القهار، وإذا أردت أن أعرف تلك المسائل فأستشهد بالقرآن، فلا ضير، لكن لا أسميه تفسيراً ولا تأويلاً.

نعود فنقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، جعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يتعذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، والتمكين بمعنى: الاستمرارية، والمعنى: أن ذا القرنين لم يكن يملك خوارق العادات، ولا يملك معجزات، فلو جادلت أحداً من الملوك بصنيع ذي القرنين وقال: هذا أعطاه الله معجزات، فقل: ليست معجزات، الله يقول: إِنَّا مَكَّنَّا [الكهف:84] تعني: الاستمرار، فبكونها تعني الاستمرار خرجت عن كونها من خوارق العادات، خرجت من كونها أمراً يفنى مباشرة، يعني: وهلة تظهر ثم تنتهي.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، أي: الأسباب التي يقوم بها حكمه على الوجه الأمثل.

قال الله: فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85]، أي: أخذ بتلك الأسباب، ولا يعقل، فإن السفينة لا تجري على اليبس، والذي يريد أن يبني مجداً يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله جل وعلا، فنحن لسنا أنبياء يوحى إلينا، ولكننا عندما نطلب علماً فإننا نبحث عنه في مواطنه، وفي مظانه، وفي الكتب، ونثني الركب، ونراجع المسائل، ونقوم الليل لكي نستذكره، وكلما وجدنا فرصة بحثنا عن مظان العلم، ولسنا أنبياء يوحى إلينا، مع سؤال الله جل وعلا العون والتوفيق والسداد، فنأخذ بالأسباب، وكذلك سائر الملوك يجب عليهم ذلك.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس ... من أمرنا يسرا)

ثم ذكر الله جل وعلا رحلات هذا الملك الصالح، فقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ [الكهف:86] أي: جهة الغرب.

قال الله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا [الكهف:86] أي: وجد الشمس، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ [الكهف:86]، فهم بعض الناس، وألفت في هذا كتب أن الشمس تغرب في عين حمئة، وهذا غير صحيح؛ لأن الله يقول: وَجَدَهَا [الكهف:86] بحسب نظر ذي القرنين ، ليس بحسب غروبها، والإنسان إذا كان في جدة مثلاً وينظر فيرى الشمس تغرب في البحر، وإذا كان في صحراء نجد فسيرى الشمس تغرب في الصحراء، وإذا كان في جبال تهامة والحجاز سيرى الشمس تغرب في الجبال، كلٌ بحسب الموطن الذي هو فيه، حتى إنك في عرفة تراها تغيب في السيارات، من كثرة مد السيارات تراها تغيب وراء السيارات؛ لأن هذا بحسب الرؤية، فهو وجدها تغرب في عين حمئة.

نقول: إن ذا القرنين وصل إلى مكان جهة الغرب فيه عين حمئة، وهذا منتهى ما وصل إليه ذو القرنين من جهة المغرب، ثم إن الشمس تغرب بعد ذلك.

وَوَجَدَ عِنْدَهَا [الكهف:86] أي: عند ذلك المكان، قَوْمًا قُلْنَا [الكهف:86]، وهذا ظاهر أنه بوحي، فإن قلنا إنه نبي فإن الوحي مباشرة، وإن قلنا: إنه ملك غير نبي فيكون معه نبي، ولا يستبعد أن يكون معه نبي، كما كان مع طالوت نبي، فعن طريق ذلك النبي أخبر ذو القرنين .

قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86]، وحتى تكون ملكاً لا بد أن يكون لك أثر، وإلا لما صار هذا ملكاً، والعظيم يترك أثراً، لا يمشي على الأمور بالهين، وهذه قد ربما تفهم على غير وجهها، لكن قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:86-88]، هذا منتهى العدل وفي نفس الوقت، إن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك، يبقى الملك، تبقى إدارتك، تبقى سياستك، يبقى نفوذك في الأمر إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك.

أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه؛ لهذا قال العبد الصالح: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ [الكهف:87-88]، وهذا يدل على أن الظلم الأول مقصود به الشرك، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88].

ومنها يستنبط أن الأصل في الجهاد ليس المقصود به استرقاق الناس، ولا توسيع الرقعة، ولا اتخاذ الأراضي، ولا زيادة السلطان، وهذا كله لم يصنعه ذو القرنين ، وإنما المقصود أن يدخل الناس في الدين، فإذا دخلوا في الدين تحققت الغاية من رفع السيف عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ثم اتبع سبباً ... بيننا وبينهم سداً)

قال الله جل وعلا: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا [الكهف:89-90] أي: الشمس، فانتقل من المغرب إلى المشرق، قال تعالى: تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:90]، أي: أنهم في فقر شديد، فهم يسكنون بيوتاً وكهوفاً وصخوراً، ولم يذكر الله جل وعلا شيئاً عن أمرهم هذا، قال: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91].

ثم قال: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89]، أي: أخذ بالأسباب ومضى.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، ولا ندري أي السدين، ويرجح أنها في أذربيجان جهة الاتحاد السوفيتي، ويقال: غير ذلك، وقلنا: أغفل الله مكانها، لكن السدين هنا هما الجبلان العظيمان.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، أي: ضعاف عقول، قَالُوا [الكهف:94] أي: هؤلاء يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ [الكهف:94]، ونصبت (ذا)؛ لأنها منادى مضاف، وهو من الأسماء الخمسة ينصب بالألف.

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الكهف:94]، والمشتكي هم هؤلاء القوم الذين نعتهم الله بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً، وأنهم قوم بدائيون، وأما يأجوج ومأجوج فقد اختلف الناس فيهم وقالوا كلاماً كثيراً، لكن أظهر الأقوال: أنهم قبيلتان من نسل يافث بن نوح على نوح السلام.

وبعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليهما في رحلة الإسراء والمعراج، حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا لا يبعد، لكنه لم يثبت.

قال الله جل وعلا على لسانهم: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا -عطية - عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94]؟ وهذا ملك سياسي دبلوماسي، فكان أولاً متصلاً بالله.

تفسير قوله تعالى: (قال ما مكني فيه ربي خير ... آتوني أفرغ عليه قطراً)

قال تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95]، فحمد الله على ما أعطاه، ورفض الخراج، وقد كنت أحسب قديماً في أول علم التفسير أنه رفض الخراج؛ لأنه لا يريد أن يأخذ مع استغنائه، لكن الذي بدا شيء آخر، وهو أنه رفض الخراج حتى يستفيد من قوتهم البدنية، والمعنى: أنه لو قبل أن يأخذ الخراج لأوكلوا إليه بناء السد، فكان ذلك أشبه بالعقد بينه وبينهم وهم ينتظرون صنيعه، لكنه علم أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، ومن كان قوياً في بدنه، وغير مكتمل في عقله، لا يحسن بك أن تعدم الفائدة منه، فاستخدمه فيما يتفق مع شخصيته، فقال لهم: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [الكهف:95] أي: بقوة أبدانكم، وما أعطاكم الله من قوة وجلد وحمل أعينوني بها، أما العقول فقد قال الله من قبل: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ [الكهف:95] أي: وبين يأجوج ومأجوج رَدْمًا [الكهف:95].

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96]، زبر الحديد يعني: قطع الحديد، والزبر في اللغة: الكتابة.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96]، الصدفين: الجبلين العظيمين، وهنا فائدة نعرج بها، يقول الناس إذا لقوا أحداً على غير ميعاد: قابلته صدفة، وهذا خطأ، وأنا لا أتكلم عن خطأ شرعي، وإنما خطأ لغوي فمعنى صدف الرجل عن أخيه: أعرض عنه، فالصحيح أن تقول: قابلته مصادفة، يعني: على غير اتفاق، ولا يصح أن تقول صدفة، فصدفة بمعنى: إعراض، تقول: قابلته مصادفة، لا تقل: قابلته صدفة.

قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96]، ذكر الله نفخ النار، وذكر أنهم أفرغوا عليه القطر، والقطر هو النحاس المذاب.

غاية الأمر أنه خطط ونفذ بمعونة أبدانهم، وكمال عقله، واتحاد جيشه على أنه بنى في تلك الفجوة التي ما بين الجبلين العظيمين التي كان من خلالها تأتي قبائل يأجوج ومأجوج سداً منيعاً، مكوناً من نحاس مذاب، ومن حديد ومن صخر.

تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي ...)

قال بعد ذلك: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98] أي لكم؛ لأن الله جل وعلا بهذا الردم حماكم من أذى يأجوج ومأجوج، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98] أي: عند قرب قيام الساعة، وتؤيده آية الأنبياء، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:97]، وقبلها قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96]، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، وهذا سيأتي في الدروس القادمة.

ويأجوج ومأجوج قلنا: إنهما قبيلتان من نسل يافث بن نوح ، قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه الإبهام والسبابة) صلوات الله وسلامه عليه، وهم أمة من الأمم، الله أعلم بعددهم، ليس لأحد بهم قدرة، وعند خروجهم يشرب أولهم بحيرة طبرية فلا يبقي لآخرهم شيئاً، فيأتي آخرهم فيقول: كان هنا ماء، يرمون النشاب إلى السماء، فيرد الله رأس الرمح أحمر، فيقول: بعضهم لبعض غلبنا أهل الأرض، وقهرنا أهل السماء، وهم فتنة من أعظم الفتن، ويفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور فيدعو عليهم، فيصيبهم النغف في رقابهم، يموتون موتة رجل واحد، ثم تأتي طيور تحملهم، ثم ينزل الله مطراً ليس لأهل زرع ولا ضرع، يغسل الله من نتنهم، ثم إن المؤمنين الذي ينزلون مع عيسى يشبون ويوقدون النار، من قسي يأجوج ومأجوج سنين طويلة، مما يدل على أنهم تركوا أسلحة كثيرة، وهذا يدل على كثرتهم.

هذا ما يمكن أن يقال عن يأجوج ومأجوج، ويمكن أن يقال عن هذه الآيات المباركات التي شرعنا فيها بيان قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر، ثم ذكرنا إجمالاً نبأ الملك الصالح ذي القرنين، وما مكن الله جل وعلا له في الأرض، وأن الأصل في جهاد المسلمين والغاية الكبرى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول هذه السورة الكريمة، بقي لنا إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، سنختم بقول الله تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]، وندخل على قول الله: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99]، ثم نذكر أهل الجنة ومآلها، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، ثم نذكر -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم الفرق ما بين كلام الله وكلام المخلوقين، ثم نذكر خاتمة الصورة، وأن الوحي أعظم خصائص الأنبياء التي أعطاهم الله جل وعلا إياها، إذ قال جل شأنه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، هذا كله موضوع الحلقة أو اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.

أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الكهف [71-98] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net