إسلام ويب

لقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن مرد الأمور جميعها إليه، فكشف الضر، وإيصال الخير إلى العباد إنما هو بيده، كما أخبر تعالى بأنه علي على عباده ذاتاً ومكاناً وقهراً وغلبة، وأمر تعالى رسوله وأتباع رسوله شهادة أنه لا إله إلا هو، والبراءة من شرك المشركين، وبين تعالى عظيم الظلم، وهو افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته، وفاعل ذلك خاسر سالك غير سبيل الفلاح.

تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو...)

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس السابع حول سورة الأنعام، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16] وحررنا أن الفوز يكون بنيل الثواب والنجاة من العقاب.

ثم قال الله جل وعلا بعدها: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] .

والضر يلحق الإنسان من ثلاثة أوجه: ضر في النفس، وضر في البدن، وضر في الحال.

فالضر في النفس: كالجهل والحمق وما أشبه ذلك.

والضر في البدن: كنقص بعض الأعضاء أو مرضها.

والضر في الحال: كقلة الجاه والمال، فهذه الثلاثة يمكن أن يجمع بها أنواع الضر، وقد يكون هناك ضر لا تحويه هذه القاعدة.

فالله يقول لنبيه في أسلوب شرط: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] فالله جل وعلا هو الولي، فلما كان جل وعلا هو الولي لم ينبغ لأحد أن يلجأ في كشف ضره إلى غير الله؛ لأنه لا يكشف الضر إلا الله، قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ [الأنعام:17].

والنبي عليه الصلاة والسلام هو أعظم المصدقين بكلام ربه، فعندما تنزل عليه آية كهذه لن يخشى بعد ذلك ضر أحد من أهل الإشراك.

قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] .

ذكر مناسبة ختم الآية ببيان قدرة الله تعالى

قال العلماء في بيان مناسبة ختم الله الآية بقوله: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]: ذلك ليستقر في قلب المؤمن أن الله إذا أراد به خيراً وفضلا لا يقدر أحد على منعه منه، وقد قال تعالى في سورة يونس: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107] والمعنى واحد.

والمقصود من هذا كله أن سياق سورة الأنعام يتحدث عن القدرة الإلهية، ولذلك جاء التذييل فيها بذكر ما لله من صفات الجلال والجبروت والكمال، بخلاف غيرها من السور، فقال الله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] والمراد والمقصود الأعظم من الآية تربية النفوس على ألا تتعلق بأحد غير الله جل وعلا، وأن الإنسان يرفع إلى الله حاجته ويبث إلى الله شكواه، ويرفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه لا يقدر على نفعه ولا ضره إلا رب العزة جل جلاله، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس : (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) ثم قال له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده...)

ثم قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].

وبعض المفسرين يتجنب أن يقول: إن الفوقية مكانية، والحق الذي لا محيد عنه أن الآية يعنى بها تعظيم الله من وجوه ثلاثة، فالله جل وعلا علي في ذاته، علي في مكانه، علي في قهره لعباده؛ لأنه جل وعلا فوق عرشه مستو على عرشه بائن عن خلقه، والعرش فوق السموات، ولا مجال للتردد في نفي الفوقية المكانية عن الله جل وعلا.

وقد استدل على ذلك بعض علماء الإسلام إضافة إلى النصوص الظاهرة بما هو في الفطرة؛ فإن الإنسان بفطرته -كما حرره الهمداني رحمه الله تعالى في محاورته لـأبي المعالي الجويني - إذا أراد أن يبث شكواه إلى ربه يرفع بصره إلى السماء، وهذا أمر لا ينبغي أن يكثر النزاع فيه.

بيان معنى قوله تعالى (وهو الحكيم الخبير)

قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، فهو جل وعلا حكيم يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، خبير بأحوال عباده مطلع عليها، وهذان اسمان من أسماء الله الحسنى، والله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة...)

وقد مر معنا أن السورة واردة في إثبات التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنها تضمنت أسلوبين: التقرير، والتلقين، فهنا يقول تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19] فالله يأمر نبيه أن يسألهم، ثم قال: قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]، وقد علم الله أنهم سيقولون هذا، فالله جل وعلا أعظم الشهداء، وانظر إلى الانتقال والعرض في الحوار قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] فأنتم تكذبونني وتقولون: إن هذا القرآن أساطير الأولين ومختلق من عندك، وإنك لست برسول، وإن هناك آلهة مع الله، وأنا أقول إنني رسول، وإن الله أمرني بأن أبلغكم بهذا القرآن، وأمرني بأن أقول لكم: إنما الله إله واحد.

طرق شهادة الله تعالى لنبيه بالرسالة

وشهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول لها ثلاث طرائق:

الطريقة الأولى: الإخبار في كتابه الكريم بأن محمداً رسول الله، قال الله تعالى في سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] وقال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45] فهذا كلام الله جل وعلا شهد الله فيه لنبيه بأنه رسول، وقد مر معنا أن النص على أن محمداً رسول الله نزل بعد صلح الحديبية؛ فإن قريشاً لما صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة سهيل بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعلي : (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو) فقال سهيل معترضاً وكان يوم ذاك مشركا وأسلم بعد ذلك: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يمحوها فأبى علي أن يمحوها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك ستدعى لمثلها فتفعل).

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يخبره بموضعها، فالأمة كلها تتعلم منه عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم أين موضع كلمة (رسول الله)، فالأمية في حقه رفعه ومنقبة وفي حق غيره مذمة، وصدق القائل:

يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء

والقائل:

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

فمحاها صلى الله عليه وسلم وكتب اسمه واسم أبيه، وتمت بعد ذلك كتابة شرائط الصلح، وانتهى الصلح، وحل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وعاد قافلاً إلى المدينة، فأنزل الله عليه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، فإن لم يشهد الكفار فالله يقول: أنا أشهد، والله خير الشاهدين مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، فهذا إحدى الطرائق في شهادة الله لنبيه بالرسالة.

الطريقة الثانية: تأييده بالمعجزات الظاهرة، والله جل وعلا أجل وأعلم وأحكم من أن يأتي رجل يكذب على الله ويتقول على الله ويقول أنا رسول وهو ليس برسوله، ويقول أنا نبيه وهو ليس بنبيه، ويقول: هذا كلامه وهو ليس بكلامه، ويدعوهم إلى شيء فيقول: إن الله دعاهم إليه وهو غير صحيح، ثم بعد ذلك يؤيده الله بمعجزات ظاهرة وبراهين قاهرة، وينشأ نشأة حميدة، ويمن عليه بعطايا، فهذا محال يتنافى مع الحكمة، فتأييد الله له بالمعجزات الظاهرة والبراهين وإكرامه من دلائل أنه رسول الله، وهو الطريق الثاني في الشهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46].

الطريقة الثالثة: ما أخبر الله به في كتبه التي سبقت القرآن، وما جاء على ألسنة رسله الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الكتب، وبذلك تمت طرائق ثلاث في شهادة الله لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بأنه رسول من عند الله.

فلهذا قال صلى الله عليه وسلم كما قال الله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19]، فذكر القرآن على أنه أعظم معجزاته.

بيان معنى قوله تعالى (لأنذركم به ومن بلغ)

وهذه الأمة منذرة بالقرآن، حيث قال تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، ولهذا نقل عن بعض السلف أنه قال: كل من بلغه القرآن فكأنما لقي الرسول. ولا يقصد بذلك أنه أصبح صحابياً، ولكن يقصد أن الحجة أقيمت عليه، ولهذا قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: ومن لم يبلغه القرآن ولا دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولو كان من أهل زماننا، فحكمه حكم أهل الفترة؛ لأن الأمر مبني على قضية وصول البلاغ من عدمه، ونحن نعلم أنه في مجاهيل أفريقا وبعض الدول وأمريكا الجنوبية وغيرها قد يوجد أمم لم يصلهم شيء عن الإسلام، فيحكم عليهم بأنهم من أهل الفترة؛ لأن الله قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وهذه مسائل لا ينبغي أن يجادل فيها، ولكن يجب أن تكون على يقين بأن الله لن يظلم أحداً، وأن الله جل وعلا أرحم بخلقه منا، فكل العباد إلى ولا تجعل بمثل هذه المسائل مادة مجلسك تخوض فيها ليل نهار، فيقسو قلبك ويكثر بحثك عن مواضيع لا تقدم ولا تؤخر ولن يسألك الله طرفة عين عنها.

بيان ما شهد به رسول الله وأتباعه وما شهد به المشركون

نعود فنقول: قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ [الأنعام:19] أي: أيها القرشيون لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19] فهؤلاء المشركون يقولون إن مع الله آلهة، ومعلوم أن هذه الآلهة موجودة في الواقع، ولكنها باطلة، قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:23] .

قال الله جل وعلا: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19] فوصل الأمر الآن إلى فصل الخطاب بشهادة رسول الله بأن الله لا إله غيره، وشهادة هؤلاء المشركين أن مع الله آلهة، فأمر الله نبيه أن يقول: قل لا أشهد شهادتكم قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ [الأنعام:19] فشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا رب غيره ولا إله سواه، وفي نفس الوقت تبرأ من صنيعهم وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19] وهذا كله خطاب لي ولك ولو لم نخاطب به لفظاً، وهو أننا رأينا شهادة الله ورأينا شهادة أهل الإشراك، ورأينا ما ارتضاه الله لرسوله، فلم يبق لنا إلا أن نتبع رسولنا ونشهد بشهادة ربنا، فنقول: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، حتى تفقه كيف وصل الدين إليك، وما هو فصل الخطاب بينك وبين أهل الكفر، ولهذا كانت كلمة (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله.

ومن جميل المقدمات التي يقولها بعض المؤلفين أو بعض الخطباء: وأشهد أن لا إله إلا الله، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. حتى يعلم كل واحد عظيم هذه الكلمة عند رب العالمين جل جلاله.

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه...)

ثم قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:20] وهم اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20] التشبيه في قوله تعالى: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لبيان أن لديهم علماً جماً عن هذا المضمر، والخلاف عند العلماء كائن في عود الضمير، فقال بعضهم: هو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن اليهود والنصارى يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حق.

وقال بعضهم: إن الضمير عائد على القرآن، فهم يعرفون أن القرآن من عند الله، وقال فريق من العلماء: إنه عائد على الشهادة، أي: على التوحيد.

والآية تحتمل المعاني الثلاثة كلها، والترجيح هنا يصعب، ولكن ينبغي أن يعلم أن إثبات أي واحد منها إثبات إثبات للآخرين، فإذا قلنا: إنه عائد على الرسول فهو إثبات لكون الرسول من عند الله، وأنه جاء بالتوحيد، وإذا قلنا: إنه عائد على التوحيد فالتوحيد هو مفهوم أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإذا قلنا: إنه عائد على ربنا جل وعلا، فالله جل وعلا أخبر بأنه بعث رسوله بالتوحيد.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً...)

ثم قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

(من) هنا للاستفهام، أي: لا أحد أظلم، فهو استفهام إنكاري.

وقد جمع أهل الإشراك خصيصتين ملومتين:

الأولى: تكذيبهم للرسول.

والثانية: كذبهم على الله بزعمهم أن لله ولداً، وأن لله شريكاً، وأن الله جل وعلا ما أنزل القرآن، وما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.

فهذا كذب على الله، وفي نفس الوقت كذبوا من بعثه الله ليبلغ دينه عليه الصلاة والسلام، فقال الله:وَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:21] أي: لا أحد أشد ظلماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21] وهذا من أعظم الذنب، ولذا ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أمته إلى الصدق.

أهمية صدق الإنسان مع نفسه وغيره

وأعظم ما تنال به المراتب العالية: أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، فإذا وصل الإنسان إلى مرحلة استعجال الثمرة الدنيوية واضطر إلى أن يكذب على نفسه فعما قريب سيقع في وبال عمله، وسينقطع به السبب؛ لأنه سبب لا يمكن أن يوصل، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الكذب يهدي إلى الفجور، وأن الصدق يهدي إلى البر، فالصادقون مع أنفسهم -جعلني الله وإياكم منهم- خطاهم في الأرض ثابتة، وأثرهم في الناس واضح، ولا يلتفتون يمنة ولا يسرة.

لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة، فقال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: وإن زنى وإن سرق؟! قال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق، قال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق، فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر).

فـأبو ذر لصدقه وجلالة قدره ورفيع مكانته وثقته بنفسه يحدث بهذا الحديث، فكان إذا أتى إلى الثالثة قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ) رغم أن جملة (أنف أبي ذر ) زائدة في الخطاب ليس لها علاقة بالحكم الشرعي، فهو يقول: (وإن زنى وإن سرق رغم أبي ذر ) لأنه ينقلها بصدق، وينقل للناس شيئاً ينفعهم، وأكثر ما نعانيه اليوم أننا نفتقد الصدق مع أنفسنا، فإذا افتقد الإنسان الصدق مع نفسه ولا يمكن أن يبني أحداً أو يبني أمة أو أن يسهم إسهاماً حقيقياً، فإن أسهم فإن إسهامه سيكون إلى أمد قريب ثم يقع، وقد لا يصل إلى شيء مما يريد، ولو ظهر ذلك شكلياً لنفسه أو لغيره، وليعلم أن ما عند الله لا يوصل إليه إلا بما شرع الله.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله.

وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد الله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الأنعام [18-21] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net