إسلام ويب

أكثر الله في سورة البقرة من ذكر بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعم ربهم عليهم، وتذكيرهم بما أخذ عليهم من عهود ومواثيق، وإخبار المسلمين بأحوال بني إسرائيل وأخبارهم، تحذيراً للمسلمين من أن يتشبهوا بهم، وقطعاً لطمع المسلمين في إيمانهم.

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ...)

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه، وأسأله جل وعلا المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيتجدد في هذا اللقاء التعليق والتأويل لسورة البقرة فسطاط القرآن، وقد ذكرنا: أن هذه السورة المباركة سورة شملت الكثير من الأحكام والمعارف، وشتى ما يمكن أن يتعلق بحياة المسلمين في مجتمعهم المدني؛ ذلك أنها من أوائل السور التي أنزلت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب الأنصار يوم حنين أمر منادياً أن ينادي: يا أهل سورة البقرة؛ لأن الأنصار أهل المدينة الأولين كانوا لا يفخرون بشيء بعد إيمانهم أكثر من فخرهم بنزول هذه السورة بين ظهرانيهم في مدينتهم؛ فنسبت إليهم.

وانتهينا في اللقاءات الماضية إلى قوله جل وعلا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وفتح باب التوبة من أعظم الدلائل وأجل القرائن على إرادة الله بعباده الرحمة؛ لأن الله لو لم يرد بعباده الرحمة لأقفل عليهم باب التوبة، لكن وقعت المعصية من آدم عندما استزله الشيطان فكان سماع آدم للشيطان وخضوعه لقوله في جزئية الأكل من الشجرة سبباً في خروجه منها، لكن الرحمن الرحيم تداركه برحمته، قال الله جل وعلا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:37]، وفي هذا إشعار أن الله أراد أن يرحم هذا العبد الصالح، وقد ذكر الله جل وعلا في سورة طه أنه اجتباه وهداه وغفر له؛ ولذلك لا يقال في حق آدم: عاص على إطلاق، وإنما إذا أريد أن يتحدث أحد عن آدم عليه السلام يتحدث عنه باللفظ والمقدار الذي ذكره القرآن، الأدب معه من جهتين:

من جهة أنه أب لنا، فقد نسبنا الله إليه: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26] .

والأعظم من ذلك أنه نبي، بل ونبي مكلم كما صح عن ذلك الخبر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.

والله هنا لم يذكر ما هي الكلمات لكن العلماء قالوا: إن الكلمات هن اللواتي ذكرهن الله جل وعلا في سورة الأعراف: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23] وقول الله جل وعلا هنا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:37] ليس فيه ذكر لحواء، لكن هي مندرجة معه، قال أهل العلم ونعم ما قالوا: إن المرأة مستورة لا تذكر إلا لحاجة، وهنا لم يذكر الله جل وعلا توبة حواء؛ لأنها تبع لآدم كما ذكره الله وحده في المعصية، فقال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] ولم يذكر معصية حواء، وإن كانت القرائن تدل على أن آدم إنما أكل من الشجرة بمشورة من حواء، لكن المقصود أن المرأة حرمة مستورة كما قال القرطبي رحمه الله، فعلى هذا لم يذكرها الله لكن كون عدم ذكرها لفظاً لا يعني أبداً أن الله لم يقبل منها شيء، وهذا ما يدل عليه آية الأعراف: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً ..)

قال الله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] أول ما يشكل على طالب العلم هنا عندما يريد أن يتأمل هذه الآية هو أن الهبوط تكرر مرتين: تكرر قبل قليل: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36]، وتكرر بعد آية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] أي: أن آية: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ جاءت فاصلاً بين ذكر الهبوط الأول والهبوط الثاني، وقد اختلف العلماء: هل الهبوط الأول هو عين الهبوط الثاني، وإنما اللفظ تكرر، أو أن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني؟

من العلماء من يقول: إن الهبوط الأول هو هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، ثم جاءت آية: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ثم جاء قول الله جل وعلا: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] فقالوا: هذا الهبوط غير الهبوط الأول، فهو هبوط من السماء الدنيا إلى الأرض.

لكنني أقول: إن هذا بعيد؛ لأن اللفظ جاء على هيئة جمع (اهْبِطُوا) أمر واحد، والأمر الثاني: ذكرت الأرض في الأول ولم تذكر في الثاني، ولو ذكرت في الثاني لكان هذا مسوغاً لقولهم، لكن القول الأول بعيد؛ لأن الأرض ذكرت في الهبوط الأول ولم تذكر في الهبوط الثاني، فحسن حمل الثاني على الأول، وصعب حمل الأول على الثاني.

فنقول: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن المسألة بيان لفظي وبلاغي، والمعنى: لما ذكر الله الهبوط فصل عن ذكر ما حصل لآدم بعد ذلك وكلف الله جل وعلا به نبيه بذكر التوبة على آدم؛ فلما ذكر ربنا التوبة على آدم عاد وكرر الهبوط حتى يبدأ السياق من جديد، ويؤخذ بخطام اللفظ بعد أن ترك، قال الله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] فهنا لم يذكر العداوة وذكرها في الأول اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36].

وقد قلت فيما سلف: إننا نذكر أحياناً شيئاً من متين العلم يتعلق به جنة ونار، ويتعلق به حكم شرعي، ونذكر أحياناً نتفاً من مليح القول يغلب على الظن أنها مقبولة لكن لا يبنى عليها أمر عملي، لكنها تفتق الذهن وتوسع المدارك وتجعل مجالات المعرفة واسعة بين يديك، فتقيس أنت بعد ذلك الأشباه والنظائر، وسيتكرر هذا كثيراً.

معنى قوله تعالى: (اهبطوا)

ظاهر الأمر بالهبوط أنه تم لأربعة:

لآدم، وحواء، وإبليس، والحية، أما آدم وحواء وإبليس فلا أظن أحداً ينازع فيها، لكن القضية قضية الحية لا بد من قرائن تدل على هذا، والمشهور عند أهل العلم أن إبليس دخل الجنة عندما أراد أن يوسوس لآدم عن طريق الحية، هذا أمر.

الأمر الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الحيات: (ما سالمناهن منذ أن حاربناهن) كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في منىً في غار، والقرآن منه مدني ومنه مكي، ومنه ليلي ومنه نهاري، ومنه سمائي ومنه أرضي، ومنه ما نزل في الكهوف، والمعنى باعتبار النزول، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في غار ومعه أصحابه يتلو عليهم: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] لتوها نزلت، يقول ابن مسعود : (نأخذها رطبة من فيه عليه الصلاة والسلام، فإذا بحية فقال صلى الله عليه وسلم: اقتلوها! قال: فابتدرناها لنقتلها فآوت -يعني: رجعت إلى جحرها- فقال عليه الصلاة والسلام: سلمت من شركم وسلمتم من شرها) شركم يعني: القتل، وشرها: أذاها، فهذه القرائن تدل على أن الحيات عدو، فتؤكد أن الحية هي رابع من نزل من السماء مع آدم وحواء وإبليس.

يتعلق بالحديث هذا نقطة مهمة جداً وهي أن الورع شيء قلبي وليس شيئاً مصطنعاً يصنع ليراه الناس، وإنما الورع ينبثق من ذات الإنسان، فإذا جاء عند المرء ما يغلب على الظن أنه ليس بورع تركه، ولو ظن الناس أن في تركه ترك للورع، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يتلو القرآن وحوله أصحابه فتخرج حية فيقطع الوحي ويقول: (اقتلوها)، والصحابة يتركون النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويذهبون إلى حية ليقتلوها.

لو حدث هذا في زماننا لشنع الناس على فاعليه؛ لأن المدارك تختلف، شتان بين من همه رضوان الناس وكيف يصل إليهم، وبين من همه الحقائق كيف تطبق على الوقائع! يختلف الصنفان اختلافاً جذرياً، العدو عدو لا يمكن أن يتغير ولو لان مرة أو اتفقت مصالحك مع مصالحه مرة، فهو عدو لا يؤمن ولا يوجد عاقل له مسكة من عقل يأمن عدوه قط، فإذا أمن عدوه فقد أسلم نفسه لعدوه يسوقه كيف يشاء، قيل لـمعاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما بلغ من عقلك؟ قال: لم أأمن أحداً قط.

والناس درجات، فإذا كان هذا مع الخلان والأصحاب والخلطاء والقرباء فكيف بالأعداء؟ وإذا كان إبليس قد أقسم لأبوينا أن ينفعهما فأهلكهما بالذنوب فكيف وقد أقسم لله أن يهلكنا؟! ماذا سيفعل بنا؟ فأعظم الأعداء إبليس، قال الله عنه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] على هذا سواءً في عداوتنا مع إبليس فراراً منه وطلباً للآخرة أو مع غيره ممن حولنا فالعدو عدو، والإنسان العاقل يكون واضحاً في تعامله، ثمة أمور يمكن إرجاؤها، وثمة أمور لا تقبل الإرجاء ولا التأخير أبداً كقتل الحية هاهنا.

معنى قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم )

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] الإنسان أعظم ما يعتريه أن يخاف مما هو قادم عليه، أو أن يحزن من شيء قد فات، هذا أعظم ما يعتري العبد، فلما كان كل بلاء ينطوي تحت هذين أمن الله جل وعلا أهل طاعته منه فتكرر في القرآن كثيراً: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ولكن الناس كلما بعد فقههم عن ألفاظ القرآن ومعانيه جعلوها ألفاظاً دارجة على ألسنتهم، فيكثر على ألسنة العامة أنهم يذكرون سياقاً من القول ثم يقولون: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ويرونها كلمة هينة يتمون بها كلامهم لبعد الناس عن المعنى الحقيقي لمراد الله جل وعلا.

والإنسان إذا أتاه الموت يخشى مما بعده: يخشى من القبر.. يخشى من الصراط.. لا يدري أين مآله، ويحزن على ما كان لديه من قرابة وأهل ومنصب وجاه ومال وأولاد وضعفاء وزوجة وغير ذلك، فتأمنه الملائكة مما هو قادم، وتطمئنه ألا يحزن على ما قد فات، ومن وفق لهذين فقد سلم، وهو السلام الذي أراده الله بقوله في حق الحبيبين النبيين يحيى وعيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33].

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار)

قال جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39] قال: (هم فيها خالدون) قدم الجار والمجرور على الخلود فأفاد الحصر أي: أنهم خالدون فيها أبداً، وفي أول الآية قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، لماذا قال الله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟ معلوم أن الكفار مكذبون بالآيات لكن الله قالها حتى لا ينصرف الكفر الأول إلى كفر النعمة، لو قال: والذين كفروا بآياتنا قد ينصرف إلى كفر النعمة، وكفر النعمة لا يوجب الخلود في النار على إطلاقه، لكن هنا قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فقول الله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) دلالة على أنه يقصد الكفار الحقيقيين، وقد دل على أنه يقصد الكفار المنكرين ليوم البعث واليوم الآخر طريقان:

الطريق الأول: قوله بعدها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).

الطريق الثاني: الحصر في قوله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: النار.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ..)

الآيات السالفة كانت عن أحوال أهل الكفر وتقريعهم وبيان الحق لهم، ثم انصرفت السورة إلى ذكر اليهود، وناداهم ربهم جل وعلا بقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، واليهود كانوا يسكنون المدينة، وكانوا في الأصل على ملة موسى ثم إنهم بدلوا كما هو معلوم، وكان في هؤلاء اليهود حملة كتاب يقرئون كتابهم، مطلعون على أسراره، والقرآن جاء معجزاً بلفظه للعرب، وجاء معجزاً بعلمه لأهل الكتاب، وتحرير ذلك وبيانه على الوجه التالي:

العرب كانوا أمة بليغة فلما نزل عليهم القرآن على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أذهلهم ذلك الرقي في البيان، وهم أهل صنعته ولم يقدروا على أن يحاكوه، فلهذا قالوا عنه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24] .

أما اليهود العبرانيون فلم ينزل القرآن بلغتهم، بل نزل بلغة العرب، لكنهم كانوا أهل علم فكشف الله بالقرآن جماً من العلم الذي كان مكنوناً في صدور علمائهم، فكان الإعجاز بالنسبة للقرآن إليهم أن ما لم يطلعوا عليه أتباعهم أطلع الله هذه الأمة عليه، وأخرج الله جل وعلا ما هو مكنون في صدور أولئك العلماء للناس، فكما كان القرآن معجزاً بلفظه للعرب كان معجزاً بعلمه لأهل الكتاب.

وبعض هذه الأخبار التي ذكرها الله عن بني إسرائيل لا يعرفها إلا قلة من أهل الكتاب، بل إن منها ما لا يعرفه أهل الكتاب أصلاً، وهذا كله يدل على أن هذا النبي هو النبي الموعود الذي بشر الله جل وعلا به، وبشر به الأنبياء من قبل.

قال الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40] مقصود من القرآن كسب الناس ووعظهم، فلاطفهم ربهم حتى تقوم عليهم الحجة وتتضح المحجة، فناداهم الله جل وعلا نداءً كريماً: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومن ذريته نشأ بنو إسرائيل، فناداهم الله تعالى باسم عبد صالح هو إسرائيل، وبعض العلماء كـالجوهري في الصحاح يقول: إن الأنبياء الذين لهم اسمان مثل إسرائيل ويعقوب، ومحمد وأحمد جاءت في القرآن، وذكر أن ذا الكفل وإلياس شخص واحد، لكن الجوهري رحمة الله تعالى عليه صاحب الصحاح وإن كان إماماً في اللغة لكنه ليس معدوداً في علماء التاريخ؛ فقوله هذا لا يقبل، أما يعقوب وإسرائيل فنعم، وأما محمد وأحمد فنعم، أما إن إلياس هو نفسه ذو الكفل فلا، فقد فرق القرآن بينهما، ثم ذكر المسيح، والمسيح اختلف هل هو اسم أو لقب؟ والمقصود أن إطلاقه هذا في كتابه غير ظاهر الدلالة.

نعود إلى الآية، قلنا: إن الله نادى هؤلاء اليهود نداء كرامة فنسبهم إلى عبد صالح استعطافاً لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] ولله جل وعلا على كل خلقه نعم، لكن على بني إسرائيل نعم مخصوصة، وهنا ذكرها الله مجملة، وسيأتي التفصيل بعد ذلك، لكن من أعظم النعم نجاتهم من فرعون، والمن والسلوى في الصحراء، وكلها ستأتي تباعاً.

وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) اختلف العلماء في المقصود بالعهد، وضربوا فيه مضارب شتى، وأجمعها عندي أن يقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي: بامتثال أوامري، وهذه عبارة البغوي رحمه الله في تفسيره.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي: بالقبول والثواب، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) .

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)

قال الله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]. (آمِنُوا) أمر، (بما أنزلت) هو القرآن، (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) التوراة.

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) من المعلوم أن القرآن أول ما نزل نزل بمكة، فأول من كفر بالقرآن مشركو قريش، فلا يقولن قائل: إن في القرآن تعارض، وفهم السياق يساعد إلى الوصول إلى الحقائق، الحقيقة تقول: إن هذه الآيات المخاطب بها في المقام الأول: علماء اليهود وأحبارهم مثل كعب بن الأشرف وأمثاله، وهؤلاء كانوا يسوسون الناس، وفي كل ملة الناس تبع لعلمائهم ولهذا قيل:

معشر القراء يا ملح البلدمن يصلح الناس إذا الملح فسد

بالملح نصلح ما نخشى تغيرهفكيف بالملح إن حلت به الغير

فـكعب الأشرف وأمثاله من أحبار يهود آنذاك كانوا رءوساً، ولم يكن هناك يهود في مكة، فلما أنزل الله القرآن على نبيه في المدينة كما أنزله عليه في مكة خاطبهم الله جل وعلا؛ لأن أصل الصدارة لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، فيخاطب الله العلماء من أهل الكتاب: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: فيتبعكم الناس على ذلك الكفر.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) بعض المذاهب المعاصرة تقوم على أن يدفع الأتباع للرؤساء فيجد الرؤساء المتصدرون الآخذون بزمام العلم كسباً من سفلة الناس وعامتهم ودهمائهم، فإذا بينوا للناس الحقائق التي أنزلها الله -لا الحقائق التي أضاعوا الناس بها- يحصل من هذا أن العامة يتركونهم، فإذا تركوهم خسروا ذلك المتاع الذي يجنونه من ورائهم، فالله جل وعلا يقول: لا يمنعنكم -أيها الأحبار- ذلك الكسب الدنيوي الذي تحصلون عليه من الأتباع أن تتقوا الله جل وعلا في هذا النبي فتخبروا أتباعكم بأن هذا النبي حق من عند الله.

وقول الله جل وعلا: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) فكل ثمن مقابل القرآن فهو قليل، ولو أن أحداً أعطي الدنيا على أن يتكسب بالقرآن لأجل مسألة دنيوية محضة فهي تعد قليلاً، بل لا يوجد قياس أبداً بين أي كسب دنيوي بالقرآن وبين القرآن، لكن هذا لا يعني عدم أخذ الأجرة على تعلم القرآن، فهذه مسألة أخرى اختلف العلماء فيها، وأكثر العلماء اليوم على الجواز محتجين بحديث: (إن أعظم ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) .

قال الله جلا وعلا: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] هنا مسألة نحوية تتكرر أحياناً (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) كافر: مجرورة لأنها صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، وإنما أجبرنا على هذا التقدير أن العرب في اسم التفضيل لا بد أن يوافق ما بعده ما قبله.

(وَلا تَكُونُوا) قبل اسم التفضيل الأول واو جماعة فلا بد أن يكون ما بعدها مجموع، وكلمة كافر مفرد فلا تناسب واو الجماعة في: (وَلا تَكُونُوا) فيصبح التقدير: ولا تكونوا أول فريق.. أول قوم (كَافِرٍ بِهِ).

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق...)

قال الله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] الحق الذي كتمه أحبار اليهود هو التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم دعاهم الله جل وعلا للإيمان والدخول في سلك الرحمن، قال جل وعلا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ...)

قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] يقال في تحقيق هذه الآية والعلم عند الله: إن بعض علماء يهود كان إذا جاءهم عامة اليهود وأخذوا عليهم عهوداً ومواثيق أن يبينوا لهم الحق بينوه لكنهم أي: الأحبار لا يتبعونه فعاتبهم الله جل وعلا بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال العلماء كـابن سعدي وغيره: هذه الآيات وإن جاءت في سياق اليهود وذكر ما يوعظون به ويزجرون إلا أن هذه الأمة مخاطبة بها، فالمؤمن الحق الذي يريد أن يكون رأساً في الدين يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويلتزم جماعة المسلمين، وإذا أمر بشيء بدأ به بنفسه، قال بعضهم:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك وانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

والأبيات تنسب لـأبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى، واسمه: ظالم بن عمرو ، وله من اسمه نصيب، فإنه دخل المدينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلها كان الصحابة لتوهم قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام، فلم ير أبو الأسود رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يعد صحابياً بل يعد تابعياً؛ لأنه رأى الصحابة، وكان إماماً في النحو.. إماماً في القراءة.. إماماً في العلم.. إماماً في الأخبار في شتى شئون الحياة، لكنه كان مبتلى بالبخل، ويقولون: إنه شذ عن القاعدة، فالعرب تقول: لا يسود بخيل، وإنما ساد من البخلاء اثنان: عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى فقد عنه كان فيه نوع من الشح، وظالم بن عمرو الذي هو أبو الأسود الدؤلي ، فهذان سادا رغم شحهما وبخلهما، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال للأنصار: (من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه قال: وأي داء أدوأ من البخل؟! ليس بسيدكم) لأن طالب المال لا يمكن أن يسود، قال بعضهم:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال

وقال المتنبي :

الجود يفقر والإقدام قتال.

فالذي منع الناس من الوصول إلى معالي الأمور: الشح إما بالمال أو بالنفس، وطلاب المجد لا يشحون بأنفسهم ولا بأموالهم.

ذكرنا بيت أبي الأسود الدؤلي : لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله، وتأتي منصوبة لا تنطقها وتأتي؛ لأن الواو هذه جاءت بعد نهي فتضمر بعدها أن وجوباًً، ويصبح الفعل منصوباً بأن وجوباً دل عليه أن الفعل مسبوق بطلب وهو هنا النهي.

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة ...)

قال الله جل وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] .

الصبر في اللغة: الحبس؛ ولذلك يذكر في كتب التاريخ: قتل فلان صبراً، يعني: قتل وهو ينظر إلى الموت، وليس في ساحة المعركة، وإنما حبس حتى ينتظر الموت، هذا معنى قتل فلان صبراً.

بعض العلماء يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): الصبر المقصود به هنا: الصوم، ويستدلون على ذلك بدليلين: أحدهما من الأثر والآخر من النظر، أما دليلهم من الأثر فيقولون: إن رمضان يسمى شهر الصبر، وأما من النظر فإنهم يقولون: إن الصلاة ترغب في الآخرة، والصوم يزهد في الدنيا، وهذان من أعظم أسباب النجاة، لكن الحق الذي ندين الله به: أن الصبر هنا بمعناه العام، ويبعد تخصيصه بالصوم.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الله جل وعلا أمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة، لكن على أي شيء نستعين بهما؟ نستعين بهما على أن نذكر الآخرة وندفع بلاء الدنيا، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

ثم قال ربنا: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] أكثر أهل العلم يرى أن الإفراد هنا ليس مقصوداً، فقوله: (لَكَبِيرَةٌ) عائد على الصبر وعلى الصلاة، ويحتجون بأنه جرت سنن العرب في كلامها أنهم يطلقون المفرد ويريدون به المثنى، أو يثنون ويريدون به المفرد، وقولهم هذا حق، لكني أقول: إن قول الله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) المقصود الصلاة فقط.

تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ...)

قال الله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46] مر معنا: أن الإنسان كلما تيقن أنه سيلقى الله كان أعظم باعث في نفسه على الطاعة، وإنما تأتي المعاصي، والإسراف في الذنوب، واقتحام الكبائر والسفر إليها، وعدم المبالاة فيها؛ من قلب رجل ليس متيقناً بملاقاة الله، هؤلاء الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً، أو يأكلون الميراث ويمنعون أصحاب الحقوق؛ غالب الظن أن اليقين في قلوبهم بملاقاة الله بعيد؛ لذلك يتجرءون على المعاصي تجرؤاً غير محمود، لكن الله جل وعلا قال:

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46]، والسياق القرآني دائماً يتكلم عن هذه القضية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] .. يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] .. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] .. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى:18] هذا أسلوب القرآن في تغيير قلوب العباد.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً..)

قال الله جل وعلا: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] من أعظم أخطاء أصحاب الملل أنهم يظنون أن المقاييس الأخروية كالمقاييس الدنيوية، فإن الإنسان قد يقع منه الخطأ والتثريب في أمر الدنيا لكنه قد ينجو بعوامل أخرى تساعده كالشفاعة، أو كالفدية، أو كالنصرة، لكن هذه الثلاث كلهن ممنوعات في الآخرة غير موجودة، قال الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) هو اليوم الآخر، (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) لا يستطيع أحد أن يتحمل وزر الآخر، (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) المقصود الشفاعة المنفية؛ لأن المعتزلة ينفون الشفاعات على إطلاقها، وأهل السنة يبينون أن منها ما هو منفي، ومنها ما هو مثبت وقد حررنا ذلك في موضعه.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) هناك عدل بالفتح، وعدل بالكسر: إذا كان الفداء من جنس المفدي فهو عِدل بالكسر، وإذ كان من غير جنسه فهو عَدل، وقد ذكر الله كفارة الصيد حال الإحرام فقال جل وعلا: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فجاء بها بالفتح؛ لأن الصيام غير الصيد، لكن إذا كان الفداء من الجنس يسمى: عِدلاً كما جاءت في ألفاظ مهلهل ربيعة وهي طويلة: ليس عِدلاً، وهو يتكلم على أنه قتل من بني بكر كثيراً، وقال: مهما قتلت منكم لا يكون مكافئاً ولا فداءً لـكليب أخي؛ لأن مهلهلاً قاتل أبناء عمومته من أجل قتل أخيه كليب ، وكليب قتله جساس ، فأسرف مهلهل في القتل، وأئمة اللغة والمفسرون يستشهدون بهذه الأبيات كثيراً؛ لأنها فصيحة عربية، ويزعمون أن مهلهلاً هذا أول من قال الشعر، ومنها قوله:

لكن ليس عِدلاً من كليب إذا خاف المخوف من الثغورِ

والمقصود منها أنني لو قتلت منكم من قتلت فلا يكون كفؤاً لـكليب أخي، والشاهد: كسر العين؛ لأنهم كلهم من جنس واحد بشر، لكن لما ذكر الله الصيام وهو من غير الصيد قال جل وعلا: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95].

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم ...)

قال الله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49].

هذه الآيات مر معنا نظائر كثيرة منها في سورة طه، لكن أحب أن أبين أن الله جل وعلا مليك مقتدر، وما كتبه الله جل وعلا في اللوح سيكون، ففرعون رأى في المنام أن ناراً خرجت فأحرقت أهل مصر كلهم ولم تصب بني إسرائيل بشيء، وكان بنو إسرائيل يوم ذاك مستضعفون في أرض مصر بعد أن دخلها يعقوب أيام ولاية ابنه يوسف.

فقرر فرعون أن يقتل كل مولود منهم، وأراد فرعون بذلك أن يمنع وجود موسى، فمن أجل أن يمنع فرعون وجود موسى قتل اثني عشر ألف صبي وكان موسى في قصره يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، قال بعض أهل العلم: فشمر فرعون عن ساق الاجتهاد، وحسر عن ذراع العناد، يريد أن يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فلا يمكن أن يغلب أحد مراد الله، الله يقول: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21] وإنما هي سنون تطوى، وأيام تنقضي، ثم ينجلي مراد الله.

فبنو إسرائيل الله جل وعلا يمن عليهم بهذا الأمر: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] ما هو سوء العذاب؟ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] يعني: يبقونهن أحياء للخدمة ولأشياء أخر لا تذكر.

وَفِي ذَلِكُمْ [البقرة:49] هذه إشارة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] عجيب من المفسرين أن يجنحوا إلى أن البلاء هنا بمعنى النعمة، ويقولون: إن المقصود النجاة، فقد امتن الله بها على بني إسرائيل، والحق أنه يجب صرف البلاء هنا على النقمة.

والمقصود: أن الله جل وعلا يبين لبني إسرائيل ما كانوا فيه من بلاء عظيم، والمنة عليكم جاءت بأنكم كنتم في بلاء عظيم فأنجاكم الله منه، كقول الله جل وعلا في حق الخليل إبراهيم: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]، فجعل الله جل وعلا ما ابتلي به إبراهيم بلاءً عظيماً حتى يكون الفداء لإسماعيل بالكبش له نوع من القبول والموافقة والسياق والاتزان مع عظيم البلاء، فهذه عندي مثلها، ولا حاجة لأن يقال: إن البلاء يأتي في اللغة بمعنى النعمة، ويستشهدون بقول الله جل وعلا: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] هذا صحيح لكنه ينبغي أن يعرف القرآن من سياقه الذي أنزل فيه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ...)

قال الله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50] مر هذا معنا مفصلاً في سورة طه، فهنا يمتن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من إنجائه إياهم وهلاك عدوهم، ولا ريب أن السلامة من العدو والنجاة منه من أعظم المنن التي امتن الله بها على بعض خلقه لكن الله قال: (وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) فهذه نعمة مشهودة للآباء وليست للأبناء، والمخاطب في الآية الأبناء بدليل قول الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، والقرآن لا يخاطب أقواماً قد ماتوا لا تقوم عليهم حجة، والأصل أن الإنسان تبع لمن قبله إن لم يعلن تبرأه منه.

فهؤلاء بنو إسرائيل أمة واحدة في تسلسل النسب، والله جل وعلا هنا يخاطب الأبناء ممتناً عليهم بنعمه على الآباء حتى يقيم الحجة عليهم، ويبين لهم أن الرب الذي امتن على آبائكم يطالبكم أن تتبعوا هذا النبي الأمي الذي ظهر بين أظهركم، وقد مر معنا أن حسان لما قال مفتخراً بمن ولد لامتُهُ العرب وقالت له: افتخر بمن ولدك، هو قال رضي الله عنه:

ولدنا بني العنقاء وابني محرقفأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما

فقال له النابغة الذيباني :

يا ابن أخي افتخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك

والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ومالك لأبيك)، فنسبها إلى الأعلى، ولم يقل للأب: أنت ومالك لابنك هذا محال! فالمقصود: أن الله جل وعلا يمتن على الأبناء بما أنعم به على الآباء حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة على أولئك الأبناء.

ومن أعظم ما من الله به على بني إسرائيل في الزمن السابق والدهر الفائت أنه منّ عليهم بالنجاة من كيد فرعون، وقد كان فرعون يسومهم سوء العذاب، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، فأغرقه الله جل وعلا وهم ينظرون إليه، ولم يعمل بنو إسرائيل لهذا ولا رمحاً واحداً، وإنما أغرقه الله جل وعلا بقدرته، وأنجاهم بفضله ورحمته حتى تقوم الحجة عليهم وقد أقيمت.

وبعض هذا العلم كما سيأتي لم يكن يعرفه حتى الأحبار فذكره الله جل وعلا على لسان الرسول المختار حتى تقوم الحجة، والقرآن حجة علمية على بني إسرائيل كما هو حجة لفظية على العرب، فهو حجة في كل شيء على كل أحد.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [3] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net