إسلام ويب

سورة البقرة هي أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، فينبغي الحرص على قراءتها وتدبرها، وقد كان السلف يعظمون من يأخذ سورة البقرة ويعلم بما فيها من الأحكام، وقد بدأت هذه السورة بذكر صفات المتقين، ثم ذكرت صفات الكافرين، ثم ذكرت صفات المنافقين، وفيها ضرب الأمثال لبيان حال المنافقين.

سبب تسمية السورة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:

غالباً ما تسمى السورة باللفظ المفرد الذي ورد فيها ولم يتكرر في غيرها، فالبقرة لم يرد ذكرها إلا في سورة البقرة، والأعراف لم يرد ذكرها إلا في سورة الأعراف، والفيل لم يرد ذكره إلا في سورة الفيل، والعنكبوت لم يرد ذكرها إلا في سورة العنكبوت، وهكذا غالب سور القرآن هذا سبب تسميتها إلا بعضها خرج عن هذا مثل سورة هود ويوسف.

سورة البقرة أعظم سور القرآن بعد الفاتحة باتفاق العلماء، وقد ورد فيها أحاديث مشتهرة، والوقت لا يسمح بذكر الأحاديث والإطناب فيها؛ لأن هذا معلوم عند الناس، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران).

تفسير قوله تعالى: (الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه ...)

نشرع الآن مستعينين بالعلي الكبير في بيان تفسيرها:

قال ربنا وهو أصدق القائلين: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].

الأحرف المتقطعة مرت معنا من قبل، وحررنا القول فيها في دروس سابقة، في تفسير قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] .

قال الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] المقصود بالكتاب هنا: القرآن، أي: وهذا القرآن، وإنما جيء بلام البعد: (ذلك) للتفخيم والتعظيم.

(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) في الوقوف على ريب وما بعدها وجهان:

أن يقال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) ثم نقرأ: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ثم نقرأ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نصل ولا نقف، والوقف على: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) جائز لكن الأفضل عدم فعله؛ لأنه يحصر ما بعده، وتصبح: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) والأصل: أنه جميعه هدى للمتقين، فلو قلنا: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) قد يفهم منها أنه هدى في بعضه لا كله، لكن عندما نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) تصبح (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) شاملة للقرآن كله، وهذا أمر يجب تحريره.

والريب هو: الشك، وهذا خبر أريد به الإنشاء، والمعنى: ذلك الكتاب أيها المؤمنون هو هذا القرآن فلا ترتابوا فيه، فهو خبر أريد به الإنشاء الطلبي.

(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) من الناحية اللغوية النحوية: هدىً منونة بمعنى أنها منصرفة، وهدى إذا كانت مصدراً أريد بها البيان والإرشاد كما في هذه الآية فتنصرف تنون: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وأما إذا أطلقت علماً على أنثى وسميت بها امرأة فلا تنصرف للعلمية والتأنيث.

فلو أن لك أختاً اسمها هدى تقول: قابلت هدى.. رأيت هدى.. جاءت هدى، من غير تنوين، لكنها إذا استعلمت استعمال المصدر تنون، وهذا ينبغي التنبه له من الناحية النحوية.

أما المقصود منها في القرآن: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) فالمتقون: اسم فاعل من اتقى، وقد ذكرت فيها تعريفات عديدة مرت معنا، من أشهرها: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.

خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقى

لا تحقرن صغيرةإن الجبال من الحصى

القرآن هدىً وإرشاد وبيان، هذا أمر لا نزاع فيه؛ لأنه من عند الله، فمن أنزل القرآن هو الذي خلق العباد وهو أدرى بمصالحهم ومنافعهم جل جلاله.

حال المسلمين عندما أنزلت سورة البقرة

جاء القرآن ليبين من هم المتقون، وقبل أن أبين من هم المتقون، أقول مستصحباً السيرة: هذه السورة مدنية، النبي عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة، وكل من هاجر هاجر اختياراً ولم يهاجر اضطراراً، ومعنى: هاجر اختياراً يعني: رغبة في الدين، ولا يتصور مهاجر مكره على الدين.

استوطن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان فيها الأوس والخزرج العصبة الكبرى وثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، هذه القبائل أحلاف للأوس والخزرج الذين هم عرب.

والديانات التي كانت موجودة: الأوس والخزرج يعبدون الأصنام على ما جرت عليه عادة مشركي العرب آنذاك، وقبائل اليهود الثلاث على الملة اليهودية المحرفة، على سالف ما عليه أهل الكتاب من قبل، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان قبله من الصحابة قد وصلوا إليها وآمنوا ونشروا الإسلام، فآمن عدد غير قليل من الأوس والخزرج، وآخى النبي بينهم وأسماهم الأنصار، وإلى الآن لم يكن للنبي شوكة، ومتى يحصل الخوف؟ عندما يكون عند خصمك شوكة، فمن لم يؤمن من الأوس والخزرج لا حاجة أبداً لأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لا شيء يدعوه إلى هذا؛ لأنه لا يخاف أحداً، واستمر الحال على هذا الأمر حتى كانت وقعة بدر، فلما كانت وقعة بدر وانكسر سيف الشرك، وانتصر المسلمون؛ أضحى للمسلمين شوكة، وللنبي دولة وقوة بالمعنى الحق، وهذه الشوكة هي التي جعلت من كان يظهر الكفر يبطنه ويظهر الإيمان وهؤلاء هم المنافقون.

ومن قبل كانوا قسمين: ملة الشرك وملة اليهود، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أصبحوا ثلاثة أقسام: المسلمون واليهود والمشركون، ولما جاءت موقعة بدر هؤلاء قل المشركون؛ لأن أكثرهم دخل في الإسلام، لكن بعضاً منهم أصبح منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ما الذي دفعه إلى هذا؟ أنه أضحى للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه شوكة، هذا سبب ظهور النفاق؛ لأنه إذا كانت الأمور متساوية فلا داعي للنفاق، كل يظهر ما يشاء، لكن هذه الشوكة جعلت عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من أتباعه يفعلون هذا.

أنزل الله جل وعلا فواتح سورة البقرة وذكر فيها الطوائف الثلاث: ذكر فيها أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر في آيتين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، أما المنافقون فأطنب في ذكرهم؛ لأن حالهم كان ملتبساً على الناس، فحرر جل وعلا القول فيهم حتى يكشف عوارهم ويهتك أسرارهم ويبين حالهم، وهذا من أوائل ما أنزل في حقهم ثم تتابع الأمر وانتهى بهم المطاف في سورة التوبة، ومعرفة هذا الأمر مهم جداً.

تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ...)

نبدأ في ذكر المؤمنين، قال ربنا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] جعل أول أوصافهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] حصر بعض المفسرين الغيب بالجنة والنار وهذا خطأ بلا شك، الله جل وعلا أعظم الغيبيات، فإننا نؤمن بالله ولم نره، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يمن علينا برؤيته في الجنة.

فأعظم صفات المتقين: الإيمان بالله وبما أخبر الله عنه، فنحن نؤمن بالجنة والنار؛ لأن ربنا العزيز الغفار أخبر عنهما، فالإيمان بالغيب أعظم صفات المتقين.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاة) الصلاة المعروفة.

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهم بعض أهل العلم فحصرها في الزكاة، والآية أشمل من ذلك، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الزكاة، والصدقات، وما كلفوا به شرعاً من الإنفاق على من يعولون، كل هذا داخل في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، الزكاة -وهي فرض بشروطها- والصدقات، وهؤلاء المتقون مؤمنون بالغيب، ولا يمكن أن يتركوا الإنفاق العام (الصدقات)، كما يدخل فيها حقوق القرابة ممن يعولوهم كإنفاق الرجل على أولاده.. على زوجته.. على والديه إن كانا معسرين، وأمثال ذلك.

تفسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ...)

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] .

هل هذا ذكر لقوم آخرين أو وصف آخر لقوم أولين؟

إذا قلنا: وصف آخر يصبح هؤلاء المتقون: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).. (يُقِيمُونَ الصَّلاة).. (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).. (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ).. (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هذه صفات لموصوف واحد.

الحالة الثانية: وهو اختيار ابن جرير : أن يكون هؤلاء قوم آخرون، والمعنى عند من قال بهذا الرأي: إن المؤمنين قسمان: مؤمنو العرب وهم من ذكر في الأول، ومؤمنو أهل الكتاب وهم من ذكر في الثاني، ودل عليه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، وممكن أن يجاب عنه بأن المؤمنين الآن يؤمنون بما أنزل من قبل، لكن قصد أنهم آمنوا بما أنزل من قبل أن ينزل عليك الإيمان به، هذا تحرير المسألة.

فاختيار ابن جرير أنها ليست أوصاف لموصوف واحد، وإنما هم قومان، واستدل عقلياً منطقياً على صحة قوله فقال: ما بعدها يدل عليها، فقد ذكر الله بعدها أهل الكفر وقسمهم فريقين:

كافر أصلي ومنافق فقال: كما قسم الله أهل الكفر إلى قسمين: كافر أصلي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]، ومنافق: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] كذلك هنا قسم المؤمنين إلى قسمين: مؤمن من العرب، ومؤمن من أهل الكتاب من قبل.

والحق أن هذا الرأي له وجه كبير من الصحة، وهو قوي من جهة الاستدلال النقلي والعقلي، ولا تعارض معه مع الأول، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] وهو القرآن، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] أي: الكتب، ولو قلنا: إن المقصود به أهل الكتاب لا يعفينا هذا من أن نؤمن نحن بما أنزل من قبل، وهذه مسألة مهمة جداً، والله جل وعلا قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] فنحن نؤمن بالكتب كلها التي أنزلها الله ما سمى منها وما لم يسم، ونؤمن بالرسل كلهم ما أخبر الله عنهم ومن لم يخبر.

تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم ...)

قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:5] سواء الموصوفان أو الموصوف الواحد: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، وكيف لا يكونون مفلحين وهم على هدى من الله؟ وكيف لا يكونون على هدى من الله وقد آمنوا بما أنزل من كتاب؟ فهي أمور يستلزم بعضها بعضاً، وطرائق يسوق بعضها بعضاً إلى الخير.

إذاً: أعظم صفات المتقين مذكورة في الخمس الآيات الأول من سورة البقرة.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

قال ربنا جل شأنه وهو أصدق القائلين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7] .

المعنى ظاهر هنا لا يحتاج إلى مزيد بيان، وقد قلنا: تكلم عن المؤمنين، وهنا يتكلم عن الكفار.

ومعنى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا: أي: من كتب الله عليهم الكفر من قبل.

(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لماذا لا يؤمنون؟ لأن الله جل وعلا كتب عليهم الكفر من قبل، ومن كتب الله عليه الشقاوة أزلاً لا يمكن له أن يسعد.

ثم قال: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الختم: الكتم.. الغطاء.. الطبع.. كلها بمعنىً واحد، ويكون على القلب والسمع، أما الغطاء الذي على البصر فيسمى: غشاوة؛ ولهذا قال الله بعدها: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، وقد ذهب الزمخشري في كشافه، يعني: في تفسير الكشاف، وهو جار الله الزمخشري أحد أئمة المعتزلة، ذهب إلى أن نسبة الختم إلى الله هنا إنما هي لأغراض بلاغية؛ لأن عندهم أن هذا من فعل القبيح والله منزه عن القبيح، وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- يقولون: إن الله وحده هو خالق الخير وخالق الشر لكنه لا يأمر إلا بالخير، فحكم عقله مقابل النقل، ولوى النصوص مقابل ما استقر في عقله!

وهنا مكمن الخطأ من الناحية العلمية، أنه استقر في عقله شيء توصل إليه عقلاً ثم جعل هذا المستقر في الذهن حاكماً على النص، والصواب أن تستقر أولاً النصوص في الذهن، ثم هذه النصوص على هدى من الله تحكم سواها وليس العكس، وغاب عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب)، وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] إلى غير ذلك من الآيات البينة الظاهرة الواضحة في هذا الشأن التي لا يمكن ردها بحال.

ولأن أهل الكفر كفرهم واضح فقد ذكرهم الله جل وعلا في آيتين كما حررنا.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ...)

انتقل ربنا جل شأنه للحديث عن أهل النفاق فقال وهو أصدق القائلين: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10] .

(من) بيانية أو بعضية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بلسانه، والنفاق قسمان:

نفاق اعتقادي: ومن مات عليه فهو خالد في النار.

ونفاق عملي: وهو من أكبر الكبائر، مثل ما ذكر في حديث: (إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر) وهذه من أكبر الكبائر.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) وقلنا: هذا كله كان بعد بدر، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) معنى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا): أنهم يتصورون أن هذا النفاق الذي يظنون أنه راج على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعصمت به دماؤهم وتم لهم التناكح والتوارث أنه يوم القيامة يروج على الله، وهذا نبه الله جل وعلا عليه في آية أخرى، قال الله وعلا: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] يعني: يعتقدون أن هذه الأيمان التي أعطوكم إياها في الدنيا فنالوا بها العصمة في الدماء وصدقتموهم وأوكلتموهم إلى ظاهرهم أنهم سيعيدونها يوم القيامة، فيظنون في قرارة أنفسهم أنهم خدعوا أهل الأرض وسيخدعون ربهم يوم القيامة!

قال الله جل وعلا: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9] بصنيعهم هذا في اعتقادهم وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9] لأنه لن يتحقق شيء من مطلوبهم هذا أبداً وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] لماذا لا يشعرون؟ لأن الشعور يكون بالحواس، وهؤلاء حواسهم معطلة؛ لأن الله جل وعلا لم يجعلهم ينتفعوا لا بسمع، ولا ببصر، ولا بقلب؛ ولهذا قال الله عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7]، قال بعض أهل العلم: طرق العلم ثلاثة: القلب والسمع والبصر، فالقلب محل العلم، يستقر فيه العلم، والرؤية والسمع وسيلتان للحصول على العلم، فإذا كان القلب مختوماً عليه وكذلك السمع والبصر عليه غشاوة فلا سبيل إلى العلم والهدى أبداً؛ ولهذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء كذلك: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9-10].

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)

ثم قال جل شأنه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] كأنهم حصروا الإصلاح في أنفسهم في جوابهم، وهم أصلاً لا يصنعون إلا الفساد.

وهذا قد مر معنا من قبل ومن أعظم الأدلة: أنه لا عبرة بالقول إذا كان يخالف العمل، فقوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ليس بشفيع لهم؛ لأن أفعالهم تخالف ما زعموه، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فحكم الله عليهم بالفساد رغم دعواهم.

قال جل شأنه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] .

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)

قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] الناس هنا: عام أريد به الخاص، فكلمة الناس عامة لكن أريد بها الخاص يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] السفهاء: جمع سفيه، والسفه: سذاجة في الرأي وخفة في العقل.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هذا حكم الله وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] .

وهنا تتحرر المسألة: نحن أسميناهم منافقين، وقلنا: إنهم يظهرون خلاف الذي يعتقدون، فكيف يجاب عن قولهم صراحةً: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، فهم صرحوا هنا بالكفر، ورفضوا الإيمان، فكيف يسمون منافقين وقد صرحوا بالكفر، والمنافق لا يصرح بالكفر، فهم يقولون بنص القرآن: كيف نؤمن كما آمن هؤلاء السفهاء؟ وأنت تقول أيها المفسر: إن هؤلاء منافقون، فكيف تجيب عن هذا؟

الجواب عن هذا له عدة طرائق، ودائماً إذا أردت أن تقنع غيرك بشيء اخرج به عن زحمة ما أنت فيه، وأظهر له الصورة بجلاء بمكان آخر، قال ربنا عن أهل الطاعات: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:5-9]، هل وجدت مؤمناً يطعم سائلاً أو ينفق مالاً ويقول للناس: خذها إنما أطعمك لوجه الله، ما أريد منك جزاء ولا شكوراً؟! هل كان الصحابة يفعلون هذا؟ ما كانوا يفعلون هذا، إنما شيء أخفوه فأظهر الله سرائرهم وحالهم إكراماً لهم، والمنافقون لا يقولون هذا الكلام بألسنتهم، يقولونه في قلوبهم فأظهره الله ذلاً لهم، وهتكاً لأسرارهم، فالله عامل أهل القلوب الصالحة بأن أظهر ما انطوت عليه قلوبهم من صلاح، وعامل أهل القلوب المنافقة الفاسدة البغيضة بما انطوت عليه قلوبهم من بغض ونفاق وفساد، هذا الذي أدين الله به جواباً عن هذه المسألة، وقال البغوي في معالم التنزيل في تحرير هذه الإشكال: إنهم يقولون هذا مع بعضهم البعض، لكن ظاهر القرآن لا يدل عليه، وقال بعض العلماء: إنهم كانوا يقولونه للمؤمنين بطرائق ملتوية لا تثبت عليهم النفاق، والأول إن شاء الله أرجح.

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)

قال الله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] هذا القول ظاهره أنه بينهم وبين أصحابهم وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] مستهزئون بأهل الطاعات، قال الله يرد عليهم: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] أي: يخذلهم ويتركهم على حالهم دون نصير، وهذا قمة الاستهزاء بهم؛ لأنه يجعلهم يتمادون، ومعنى يَعْمَهُونَ [البقرة:15] أي: يترددون ويتمادون في طغيانهم ويمدهم في طغيانهم حتى ينتهي بهم الأمر، قال الله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:3] متى ينتهي بهم الأمر؟ ينتهي بهم الأمر في جسر جهنم عندما يتساقطون ويقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، حينئذ يكشف الأمر كله، ويرفع الحجاب حقيقةً، ويعلمون من كان مستهزئاً بالآخر.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ...)

قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] (اشتروا الضلالة) أي الكفر والنفاق والطغيان والتردد، (بِالْهُدَى) أي: بدين الله، فأي تجارة رابحة إن كان الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ...)

قال الله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ ... [البقرة:17-19].

هذا مثل مركب تحريره كما يلي: القرآن به حياة الأرواح والمطر به حياة الأجساد، والله يذكر هنا أن هؤلاء المنافقين حالهم كالتالي: ينزل القرآن من السماء فيحيي القلوب لأنه مثل المطر، ينتفع به المؤمنون في الدنيا والآخرة، أما هؤلاء المنافقين فينتفعون ببعضه ولا ينتفعون ببعضه، والمطر فيه برق, وفيه رعد، وفيه ظلمات. ورعد القرآن زواجره، وبرق القرآن نوره، والظلمات التي في المطر الحقيقي هي الشكوك التي تنتابهم من قراءة القرآن؛ لأنهم معرضون غير مؤمنين بالقرآن، فالشك الناجم عنهم مثاله في المطر مثال الظلمات، والزواجر التي في القرآن التي تخوفهم مثاله في المطر الرعد، أما النور الذي في المطر فبالنسبة لهم ما نالهم من عصمة الدماء، وأنهم يناكحون المسلمين، وأنهم يتوارثون معهم، فهذا انتفعوا به ما داموا قد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وإن كانوا كافرين، فقد كانت تجري عليهم أحكام أهل الإسلام، فهذا النور هو الذي انتفعوا به.

هذا معنى عام، وللعلماء في ذلك بيانات تفصيلية يطول الحديث فيها، ومنها: أن المنافق مثل شخص أوقد ناراً فكشفت ما حوله فرأى الحيات.. رأى العقارب.. رأى ما قرب منه ودنا .. وتبين له مكانه، فلما شعر بالاطمئنان ذهب ذلك النور، انطفأت تلك النار، وهؤلاء المنافقون انتفعوا بالإسلام ظاهرياً.. عرفوا من حولهم.. استطاعوا أن يعصموا دماءهم.. فإذا جاء يوم القيامة لم ينفعهم ذلك النور على الصراط، بل يسلب منهم، وهذا معنى قول الله جل وعلا: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، فجعل بعض العلماء هذه الآية على يوم القيامة.

وللعلماء أقوال مشابهة حول هذا، لكن الذي يعنينا جملة أن هذا مثال مركب ذكره الله جل وعلا في أحوال المنافقين.

وبعض العلماء يقول: إن قوله تعالى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] أنهم إذا انتفعوا من الدين بشيء يقولون: هذا الدين دين خير، وإذا أصابتهم بلايا قالوا: هذا الدين دين شؤم، فهذا معنى قوله: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) وهذا وإن حرره بعض الأكابر لكنه غير صحيح؛ لأن المنافقين أصلاً لم يكونوا على سنن واحد، والآية تتكلم على المنافقين المستوطنين في المدينة، تتكلم عن الأشداء منهم، ولا تتكلم عن الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة، فالمنافقون الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة تنطبق عليهم آية الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11]، فقد كانوا إذا دخلوا في هذا الدين يقولون عنه أحياناً: أنه شؤم، وأحياناً يقولون: إنه خير، والمنافقون المستوطنون في المدينة الذين كان لهم في الأصل غلبة، وكانت لهم علاقات قوية من رحم وصهر وتحالف مع أقوياء المؤمنين هم المقصودون هنا، وهم لم يكونوا يقولون أحياناً: دين شؤم، وأحياناً: دين خير؛ لأن قولهم: هذا دين خير، فيه بعض إيمان، فهذا ينطبق على منافقي الأعراب المذكورين في آية الحج، أما الآية التي بين أيدينا فتنطبق على المنافقين الأولين، وسورة البقرة من أوائل ما أنزل في المدينة قبل أن يدب النفاق في البوادي والأعراب الذين كانوا يحيطون بالمدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ...)

قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ذكر الله جل وعلا في هذه الآية المباركة دلائل على البعث والنشور، ذكر ثلاثة أدلة:

الدليل الأول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الله خلق الناس، ومن قدر على الخلق قادر على الإعادة، قال الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27] .

الدليل الثاني: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، وخلق السماء أكبر من خلق الأرض.

الدليل الثالث: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] هذا قياس! إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39] فهذه الثلاث جمعها الله في آيتين، وهي الأدلة الصريحة في القرآن المتفرقة بعد ذلك في إثبات مسألة البعث والنشور.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] فمن بدأ الخلق قادر على الإعادة، كما بدأنا أول خلق نعيده، ثم الإشارة إلى خلق السماء، ومن خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى، وإن كان الكل عند الله سواء، والأمر الثالث: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] القياس إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى [الروم:50] كما قال الله جل وعلا في أكثر من آية، هذا المعنى إجمال ثم نحرر المعنى عموماً.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا نداء عام، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] والعبودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

عبودية بالشرع: وهي الفرق بين الحر والعبد، وهذه لا علاقة لها بالآية هنا.

وعبودية تذلل وانقياد: وهذه يشترك فيها الخلائق كلهم برهم وفاجرهم، قال الله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].

وعبودية طاعة: وهي المقصودة هنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:21-22] والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أين مفعول تعلمون؟ محذوف لدلالة المعنى عليه، أي: وأنتم تعلمون أنه ليس له أنداد، وجعل العبد لله نداً هذا من أعظم الشرك، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أعظم الذنب: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك).

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ...)

ذكر الله جل وعلا آية التحدي المشهورة التي هي واحدة من خمس آيات تحدى الله جل وعلا بها كفار قريش والعرب عموماً: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] وهذه لا يقدر على قولها إلا الله، وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] .

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به، والصلاة والسلام على رسول الله، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [1] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net