إسلام ويب

وصَف الصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام كأنك تراه، فذكروا صفة وجهه وعينيه ولونه ولحيته وجسمه وشعره، حتى ذكر صفة عرقه ومشيته وكلامه وغير ذلك من صفاته الخلقية، وكذلك ذكروا صفاته الخُلقية التي تدل على حسن أخلاقه وكريم طباعه. وقد أيد الله رسوله بكثير من المعجزات ودلائل النبوة التي تدل بما لا يدع مجالاً للشك على صدق نبوته.

سلاح النبي عليه الصلاة والسلام

الحمد لله الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، والصلاة والسلام على عبده ونبيه ومصطفاه.

أما بعد:

فهذا بعون الله تعالى خاتمة دروس التعليقات على متن الدرة المضيئة في السيرة النبوية للحافظ المقدسي رحمه الله تعالى.

وسنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في ختم الكتاب وإتمامه، وقد يقول قائل: كيف يُدرَّس في يوم واحد ما درِّس قرابته في أسبوع كامل؟ فحتى يزل اللبس نقول: إن المتبقي من الكتاب أكثره يتعلق بالعشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأما ما يتعلق بصفته صلى الله عليه وسلم فهذا سنقف عنده كثيراً، على أننا اليوم إن شاء الله سنغير في الطريقة، ونعتذر للأخ الذي يقرأ، فسأقرأ أنا حتى لا يذهب الوقت، سأقرأ بنفسي ثم نعلق تعليقات ذات فائدة، ونطالب بتدوينها.

فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى: وصلنا إلى ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم، قال المصنف رحمه الله: [ وكانت له ثلاثة رماح أصابها من سلاح بني قيقناع، وثلاثة قسي؛ قوس اسمها الروحاء، وقوس شوحط، وقوس وصفراء تدعى الصفراء، وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش فكره مكانه فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل، وكان سيفه ذو الفقار تنفله يوم بدر، وهو الذي رأى فيه رؤيا يوم أحد، وكان لـمنبه بن الحجاج السهي .

وأصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف قلعي، وسيف يدعى بتاراً، وسيف يدعى الحتف.

وكان عنده بعد ذلك المخذم ورسوب أصابها من الغلس، وهو صنم بطيء.

وقال أنس بن مالك : كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وقبيعته فضة، وما بين ذلك حلق فضة.

وأصاب من سلاح بني قينقاع درعين، درع يقال لها: السعدية، ودرع يقال لها: فضة.

وروي عن محمد بن سلمة قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية ].

النبي عليه الصلاة والسلام كان إمام المجاهدين, ولا يمكن أن يكون إمام المجاهدين حتى يكون لديه سلاح، وهذه الأسلحة التي ذكرت ونقلت عنه صلى الله عليه وسلم نقلت بأسانيد، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو دون ذلك، لكنها جملة قبلت عند العلماء وتناقلوها، هذا الفكرة الأولى في الموضوع.

وسيفه ذو الفقار كان لا يكاد يفارقه صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه كان يحمله كثيراً، ولذلك قال المصنف: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، أي: قبل معركة أحد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السيف ثلمة يعني: شبه كسرة. وسيف الإنسان هو الذي يدفع به عن نفسه، فأول بأنه قتل أحد عصبته، وكان ذلك مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه شهيداً.

وقد بقراً تنحر، وأول هذا بموت في أصحابه.

وقد كان له صلى الله عليه وسلم يقال له: مأثور ورثه عن أبيه، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث هذا عن أبيه عبد الله ، أي: أن مأثور في الأصل كان لـعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أهم الفوائد: أنه مر معنا ذكر السلاح، وذكر الدواب والإماء والموالي والعبيد، فأين ذهبت هذه الإماء والعبيد والسلاح والدواب التي ذكرناها جميعاً؟ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً، وأن درعه كانت مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، وأن جميع ما ذكر من العبيد والإماء والدواب والسلاح قد أنجز التصدق به صلى الله عليه وسلم قبل موته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).

صفاته الخَلقية عليه الصلاة والسلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في صفته صلى الله عليه وسلم.

روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً يقول:

أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينشد قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان حيث يقول:

لو كنت من شيء سوى بشر كنت المضيء ليلة البدر

ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كذلك غيره ].

ما ذكره المصنف هنا فيه نظر؛ لأن أبا بكر لا يعرف عنه الشعر، لكن المعنى صحيح، وقد لا يصح نسبة هذا إلى أبي بكر لكن المعنى صحيح.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربًا بحمرة) ].

الأبيض إما أن يكون أبيض أمهق فيكون بياضه غير ممدوح، ولكن بياضه صلى الله عليه وسلم كان كما قال علي : (مشرب بحمرة) أي: مخلوطاً بحمرة.

قال: (أدعج العينين) بمعنى: شديد سواد العينين. (سبط الشعر) أي: أن شعره ليس مسترسلاً، واليوم العامية يقولون: ناعم، أي: أن شعره صلى الله عليه وسلم ليس مسترسلاً تماماً ولا ملتوياً. (كث اللحية اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة) بالسين وليست بالشين، والمقصود الشعر الممتد من أعلى الصدر إلى أدنى السرة. (ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره) وهذا واضح. (شثن الكفين والقدمين) أي: غليظ أصابع الكفين وغليظ أصابع القدمين. (إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعاً) هذه واضحة، والصبب المكان العالي. (كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالفاجر ولا اللئيم) هذه واضحة جداً. (لم أر قبله ولا بعده مثله) القائل هو علي بن أبي طالب .

وفي لفظ لـعلي قال: (بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، وأجود الناس كفاً).

خاتم النبوة شعيرات كانت بين الكتفين من الخلف، وهي إلى جهة الشمال أقرب. وأجود الناس كفاً كناية عن الكرم. (وأوسع الناس صدراً) هذه ظاهرة، (وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة) عِشرة بالكسر وليس بالضم. (من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم).

وقال البراء بن عازب وهو صحابي معروف: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً) أي: لا بالطويل ولا بالقصير. (بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه).

مربوعاً أي: ما بين الطول والقصر.

(بعيد ما بين المنكبين) المقصود أن صدره وظهره ممتد. (له شعر يبلغ شحمة الأذن). (رأيته في حلة حمراء) الحلة: الثوب المكون من قطعتين الإزار والرداء. (لم أر شيئاً قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم) لم أداة جزم ونفي، وجاء بقط لأنه نفى شيئاً ماضياً، ولو أراد أن ينفي شيئاً في المستقبل يأتي بأبداً.

[ وقالت أم معبد الخزاعية في صفته صلى الله عليه وسلم ].

أم معبد رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، في طريقه من مكة إلى المدينة مر على أم معبد ، وأم معبد امرأة من خزاعة، كان لها خيمتان تكرم وتقرئ الأضياف، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ضيفاً عندها، وقصة شاتها معروفة.

جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد

و أم معبد كانت خزاعية فصيحة، فلما جاء زوجها سألها فأجابته بقولها: (رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة). الثجلة: الضخامة في البدن.

والصعلة: صغر الرأس. فهو عليه الصلاة والسلام ضخم إلى حد لا يعاب، ولم يكن صغير الرأس إلى حد يعاب. (قسيمًا، في عينيه دعج -أي: سواد- وفي أشفاره غطف -الأشفار: شعر الجفن-). (وفي صوته صحل) أي: في صوته بحة. (وفي عنقه سطع) أي: نور، يقصد أن عنقه منير. (وفي لحيته كثاثة) هذه واضحة أي: كثرة. (أزج أقرن) معنى أزج: أن خيط الجفن دقيق قليلاً، أما قولها: (أقرن) فهذا لا يقبل، فإما أن يكون خطأ منها، وإما أن يكون خطأً من الرواة الذين نقلوا؛ لأن معنى أقرن: أن يكون الحاجبان ملتصقين بعضهما ببعض، وهذا عيب مذموم عند العرب قديماً، ولا يعاب الرجل إذا وجد فيه هذا؛ لأن هذا خلق الله، لكن الله جل وعلا لا يجعل نبيه بهذا الأمر.

وقد ورد في وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه كان أزج في غير قرن، هذا محفوظ وما أدري إن كان المصنف ذكره أو لا. (إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء) هذه ظاهرة. (أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدرت، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصناً بين غصنين) تعني بالغصنين أبا بكر وعامر بن فهيرة . (وهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود) المحفود من يعظمه أصحابه من حوله، ويسارعون في طاعته.

ومحشود أي: يجتمع إليه الناس. (لا عابس ولا مفند) التفنيد: الصد الرد التهجين، ومعنى: (لا عابس ولا مفند) أي: جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره عليه الصلاة والسلام. أي: جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان ربعة من القوم) ربعة خبر كان منصوب. (كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم) الآدم: من يميل إلى السمرة، أي: أن بياضه صلى الله عليه وسلم كان مشرباً بحمرة، والأبيض الأمهق: الكريه البياض.

فائدة: مَن مِن الأنبياء كان يميل إلى السمرة؟

موسى، لذلك جعل الله من معجزاته أن يده تكن بيضاء من غير سوء. (وليس بجعد، ولا قطط، ولا سبط، رجل الشعر) أي: ليس مسترسلاً.

وقال هند بن أبي هالة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب) المشذب يعني: الطويل. (عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون) أي: بياضه معقول. (واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين) العرنين الذي ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه. (كث اللحية، أدعج العينين، سهل الخدين، ضليع الفم) أي: واسع الفم، وكان هذا عنواناً عند العرب على الفصاحة والبلاغة. (أشنب، مفلج الأسنان) أشنب يعني: جميل الفم، مفلج الأسنان أي: الثنايا كان بينهما فلجة، ولم تكن متلاصقة. (دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر) كل إنسان له بطن، لكن ليس كل إنسان يوصف بأن له كرشاً، فإذا برزت البطن تسمى كرشاً، أما إذ لم تبرز فهي بطن. (سواء البطن والصدر، مسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس) الكراديس: رءوس العظام، فعظم الركب مثلاً تسمى كراديس (أنور المتجرد). أي: المواطن التي لا شعر فيها من جسمه تظهر كأن لها نوراً. (موصول ما بين اللبة والسرة) هي الفتحة التي في أسفل الرقبة، أي: من لبته إلى سرته صلى الله عليه وسلم شعر يجري كالخط،

وباقي صدره ليس فيه شعر ولذلك قال: (عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك) مما سوى ذلك أي: من الشعر. (أشعر الذراعين والمنكبين) في الذراع والمنكب كان صلى الله عليه وسلم أشعر. (عريض الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين) مرت. (والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين) الأخمص من القدم في باطنها، وهو ما لا يصيب الأرض، هذا طبيعة الإنسان، لكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان غير أخمص أي: أن قدمه كانت سواء. (مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعاً، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية) ذريع المشية أي: أن مشيته متباعدة. (إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف) أي: النظر. (نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء) وهذا كناية عن التواضع. (جل نظره الملاحظة) ما يدقق. (يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام) صلوات الله وسلامه عليه.

صفات الخُلقية عليه الصلاة والسلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم).

وكان أسخى الناس، ما سئل شيئًا قط، فقال: لا.

وكان أحلم الناس ] إلا أن أوج سخائه كان يظهر في رمضان إذا لقيه جبريل.

[ وكان أحلم الناس، وكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم. وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، والقريب والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق واحد ].

وهذا أمر لا خلاف فيه، فالله جل وعلا زكى بصره وزكى قلبه وزكى لسانه وزكى خلقه، زكى الله لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، وزكى الله قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكى الله بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكى الله خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وهذه مجملة، وجاء تفصيلها في آيات أخر.

[ ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ولا يأكل على خوان ] الخوان المائدة التي يوضع عليها الطعام، ويعبر عنها أحياناً بالطاولة. قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط).

[ ولا يمتنع من مباح، إن وجد تمراً أكله، وإن وجد خبزاً أكله، وإن وجد شواءً أكله ].

وهذا يدل على عدم التكلف، فقد كان لا يرد موجوداً، ولا يطلب مفقوداً.

[ إن وجد خبز بر أو شعير أكله، وإن وجد لبن اكتفى به، أكل البطيخ بالرطب ] المقصود بالبطيخ هنا الخربز، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل البطيخ بالخربز، وقالت عائشة : أكل البطيخ الأصفر بالخربز، وجاءت رواية ثالثة: أكل الخربز بالرطب، وهذا حديث أنس : (أكل الخربز بالرطب)، لماذا جمع بين الخربز والرطب؟

لأن الرطب حار، والبطيخ بارد، وقال صلى الله عليه وسلم: (نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا).

[ (وكان يحب الحلواء والعسل)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء.

يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ].

هو وآل بيته لا يأكلون الصدقة، وكان إذا أخذ هدية يكافئ عليها، وأغلب أحواله أن يرد الهدية بأكثر منها.

[ يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية، ولا يتأنق في مأكل ولا ملبس، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد.

وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى، وكان أشد الناس تواضعًا، يجيب من دعاه من غني أو فقير أو دنيء أو شريف ] لا يفرق.

[ وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحتقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، وكان يركب الفرس والبعير والحمار والبغلة ] هذا كله دليل على عدم التكلف.

[ ويردف خلفه عبده أو غيره، لا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول (خلوا ظهري للملائكة)، ويلبس الصوف وينتعل المخصوف، وكان أحب اللباس إليه الحبرة ] الحبرة الثياب المعلمة ذات الخطوط وهي من برود اليمن فيها حمرة وبياض.

[ خاتمه فضة، فصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها.

وكان يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، أكثر الناس تبسمًا، وأحسنهم بشراً، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر، وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة، يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه.

يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويقبل معذرة المعتذر إليه.

له عبيد وإماء، لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، ولا يمضي له وقت في غير عمل لله أو فيما لابد له ولأهله منه، رعى الغنم، وقال: (ما من نبي إلا وقد رعاه). (وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلقه القرآن). يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.

وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط كانت أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف قط، ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟).

قد جمع الله له كمال الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحاري، آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمة إلى يوم الدين ].

هذا كله ظاهر.

معجزاته عليه الصلاة والسلام

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم.

فمن أعظم معجزاته وأوضح دلالاته القرآن العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سورة مثله، أو بسورة أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون والملحدون ].

القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو معجز في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله:

جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم

[ وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين؛ وهو المراد بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منه) وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال ].

هذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديداً، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.

[ وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حن الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّت، ثم سكن. ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة ].

هذه اختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين:

القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلاً من بين أصابعه، أي: خرج من بين أصابعه.

القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام، ولما وضع أصابعه تكاثر الماء، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لما وضع أصابعه في الماء تكاثر الماء لبركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبع حقيقي من أصابعه.

والقول الأول هو الأظهر، وعليه الأكثرون من العلماء، ولا مانع يمنعه.

[ وسبح الحصى في كفه، ثم وضعه في كف أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فسبح، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل.

وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث.

وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو بعده أربع سنين ].

الذي مات معه هو بشر بن البراء رضي الله عنه.

[ وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها، وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد فخدشه خدشاً يسيراً فمات.

وقال سعد بن معاذ لأخيه لـأبي بن خلف : سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، فقتل يوم بدر كافراً.

وأخبر يوم بدر بمصارع المشركين فقال: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فلم يعدو واحد منهم مصرعه الذي سماه.

وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.

وقال لـعثمان : إنه سيصيبه بلوى؛ فقتل عثمان .

وقال للحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين) فكان كذلك.

وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن. وبمثل ذلك في قتل كسرى .

وأخبر عن الشيماء بنت بقيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.

وقال لـثابت بن قيس بن شماس : (تعيش حميداً وتقتل شهيداً) فعاش حميداً، وقتل يوم اليمامة شهيدًا.

وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: (إنه من أهل النار) فصدق الله قوله بأنه نحر نفسه ].

الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: غيب يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله: قصة يوسف وإخوته، أصحاب الكهف، قوم نوح، قوم عاد، هذا كله إخبار عن غيب سبق.

الثاني: إخباره عن غيب وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، وإخباره بـالأسود العنسي ، ومقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي ، هذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.

الثالث: إخباره بغيب وقع بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، مثل

قوله: (إن ابني هذا سيد ...)، وإخباره سراقة بن مالك أنه يلبس سواري كسرى ، وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

[ ودعا لـعمر بن الخطاب فأصبح عمر فأسلم.

ودعا لـعلي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد فكان لا يجد حراً ولا برداً.

ودعا لـعبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فكان يُسمى الحبر والبحر لكثرة علمه.

ودعا لـأنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها.

وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام.

وشكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر، فدعا الله عز وجل وما في السماء قزعة فثار سحاب أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر فدعا الله عز وجل فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.

وأطعم أهل الخندق - وهم ألف - من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.

وأطعم أهل الخندق أيضاً من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة .

وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزودهم وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة.

وشهد الذئب بنبوته ].

شهادة الذئب بنبوته رواها الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[ ومر في سفره ببعير يستقي عليه فلما رآه جرجر ووضع جرانه فقال: (إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف) .

ودخل حائطًا فيه بعير ] الحائط أي: البستان.

[ فلما رآه حنه وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: (إنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤدبه) .

ودخل حائطًا آخر فيه فحلان من الإبل وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه فخطمه ودفعه إلى صاحبه، فلما رآه الآخر فعل مثل ذلك ].

هذه كلها أخبار تدل على ما سخره الله جل وعلا له صلوات الله وسلامه عليه.

[ وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ومضى ولم يروه.

وتبعه سراقة بن مالك بن جعشم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يدا فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له فدعا له فنجاه الله.

وله صلى الله عليه وسلم معجزات باهرة، ودلالات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، واختصرنا منها على هذا تحقيقاً ].

وفي ختام هذا اللقاء أشهد الله على حبكم، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، وسلامة الصدر لجميع المؤمنين، والسعي بالعمل بما نعلم عل الله جل وعلا أن يبلغنا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.

هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية [ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم والانتهاء من شرح المتن] للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net