إسلام ويب

إن المؤمن الدارس للسيرة النبوية يدرك من خلال حدثين مهمين وهما: غزوة بدر، وفتح مكة؛ يدرك فوائد جمة وعبر كثيرة تنير له طريقه إلى الله، وتبصره بحقائق فذة، لذا ينبغي للمؤمن أن يتدارس تلك السيرة العطرة، ويستخلص منها المعاني العظيمة، والدلالات السامية، ثم يجعل ذلك نبراساً يضيء له الدرب إلى الله تعالى.

وقعة بدر وفتح مكة وما فيهما من الفوائد والعبر

الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته.

اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله! فإن تقوى الله أعظم الوصايا وأجل العطايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

عباد الله! لقد اقترن شهر رمضان بحدثين كريمين مباركين وقعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما يوم بدر يوم الفرقان، ويوم فتح مكة يوم علو الشأن.

أيها المؤمنون! لقد تجلت في هاتين المعركتين أو في هذين الحدثين الجليلين معان عظيمة، ودلائل سامية، وعظات بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

عباد الله! لعل من أعظم ذلك وأجله يقين المؤمن بعد أن يتدارس السنة والسيرة العطرة والأيام النضرة، وهذين الحدثين على وجه الخصوص: أن يعلم أن الأمور إنما تدبر في الملكوت الأعلى، وأن الله جل وعلا وحده الفعال لما يريد، فلا يقع في الكون إلا ما أراده الله، خفي ذلك عن البعض أو ظهر، فذلك أمر الله جل وعلا وحده.

فقد ذكر الله جل وعلا مسيرة الركب، -أي: قافلة أبي سفيان - وذكر الرب تبارك وتعالى خروج خير الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر تبارك وتعالى خروج قريش تستنصر لقافلتها، كل ذلك وكل منهم كان يحسب أمراً ووقع آخر، قال الله جل وعلا: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].

وخرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر يطلب العير، وخرجت قريش تنتصر لقافلتها، ونجا أبو سفيان بالقافلة، لكن الله جل وعلا أخر وقدم في إخبار كل أحد بما وقع؛ حتى يلتقي الفريقان، ويلتحم الجيشان، ثم يكون يوم الفرقان كما أراد ربنا تبارك وتعالى؛ نصرة لنبيه، وإظهاراً لدينه، وإعلاء لشأن كلمة التوحيد التي بعث الله بها الرسل، وأنزل الله جل وعلا من أجلها الكتب.

إكرام الله لرسوله في هاتين الوقعتين

أيها المؤمنون! لقد تجلى في هذين الحدثين العظيمين إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالصبر مطية وأي مطية أعطاها الله جل وعلا أنبياءه ورسله، ولهذا قال الله مخاطباً خير خلقه، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].

ولما سجد نبيكم صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى عند الكعبة انتدبت قريش رجلاًمنها يضع على ظهره الشريف -وهو أكرم الخلق على الله- سلى الجزور، فمكث سلى الجزور على ظهره الشريف ما شاء الله له أن يمكث، وعبد الله بن مسعود مسلم حاضر لا يستطيع أن ينتصر لنبيه، فبعث رجل رسولاً إلى فاطمة ابنته، فجاءت فاطمة وحملت سلى الجزور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ائتمروا عليه وتهكموا به، فدعا عليهم وهو عند الله نبي وأي نبي، وكريم وأي كريم.

قال ابن مسعود وقد شهد الواقعة الأولى: فلقد رأيت من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في القليب -قليب بدر- فانظر أيها المؤمن ما هي إلا سنوات ثم انتقم رب الأرض والسماوات لخير من ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات.

وفي أيام البعثة الأولى هم صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة فمنعه عثمان بن أبي طلحة سادن الكعبة يومئذ من دخول البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان ! كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه بيد من أشاء، فقال عثمان : لقد ذلت قريش يومئذ وهانت)، ثم مضت السنون ومرت الأعوام والله جل وعلا يحفظ نبيه وينصره ويكلأه، حتى دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح عزيزاً وما كان ذليلاً قط، وكان منيعاً محفوظاً بحفظ الله جل وعلا له، فكبر في نواحيها، وصلى بالبيت ركعتين، ولما هم بالخروج أنزل الله جل وعلا عليه وهو عليه السلام عند عضدتي باب الكعبة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما خرج: (أين عثمان بن طلحة؟ قال: أنا هنا يا رسول الله! فأعطاه النبي مفتاح الكعبة كما أخبر به في الأول، وقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد صدق الله وهو أصدق القائلين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وصدق الله وهو أصدق القائلين: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].

أبعد هذا يتوكل على غير الله؟! أبعد هذا يلجأ إلى غير الله؟! أبعد هذا يؤمل أحد أن ينصره أحد غير الله؟! قال العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله، فكيف يوصلوا إلى الله بغير الله؟! اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته.

ما تجلى في هاتين الوقعتين من محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

عباد الله! لقد تجلى في هاتين المعركتين العظيمتين محبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا بأن الله واحد لا شريك له، وهو الذي بعثه، فأحبوا نبيهم ونصروه وعزروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أناجيلهم في صدورهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

في تلك الغزوة وفي غيرها في كل محفل وموطن أثبتوا محبتهم ونصرتهم لرسول الله، وقد تجلى ذلك فيهم أفراداً وجماعات، فعلى مستوى الجماعة هو ظاهر في كل غزوة وموطن وسرية، وعلى مستوى الأفراد في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم يقوّم صفوف الجيش قبل المعركة، فإذا بـسواد بن غزية رضي الله عنه وأرضاه بارز عن الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم بقدح كان معه في بطنه، وقال له: (استو يا سواد !) أي: ارجع إلى الصف، (قال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل والحق فأقدني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال له: استقد -أي: خذ حقك- فأقبل سواد على بطن رسول الله يعانقه ويقبله، فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟! قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: من قرب الموت ودنو الأجل، فهذه ساحة معارك- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك)، إنه أنموذج لتلك المحبة التي كانت في قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد تجلت في الأنصار على وجه الخصوص الذين قال الله جل وعلا عنهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

وكان الصديق رضي الله عنه إذا ذكر الأنصار ومواقفهم ومناقبهم يقول: لا أجد بيننا وبين هذا الحي من الأنصار إلا كما قال الأول:

أبوا أن يملوا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ

فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.

عباد الله! إن وعد الله حق لا محالة، وما الدنيا إلا زهرة حائلة ونعمة زائلة، وكانت قريش عندما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يحذرهم يوم المعاد، ويوم البعث والنشور وحشر العباد، وهم يهزءون به ويسخرون منه، قال له العاص بن وائل وقد حمل رفات عظم: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد موته؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم ويدخلك النار).

ثم كان ما كان من قتلى بدر، فوضعهم صلى الله عليه وسلم -أي: قتلى المشركين- في بئر مهجورة تعرف بالقليب، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناديهم: (يا أبا الحكم بن هشام يا شيبة بن ربيعة يا عتبة -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟! قال: يا عمر ! ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً).

فيتذكر المؤمن هذا الموقف في الدنيا، ويعلم أن هناك في الآخرة يوماً يقال له عياذاً بالله يوم اللعنة، يفصل فيه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ويفصل فيه بين أهل الجنة وأهل النار، ويفصل فيه ما بين من يعملون الصالحات ويعملون السيئات، قال الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].

اللهم اجعلنا ممن يحيى يرتقب وعدك الحق ...........

تجلي ما كان عليه النبي من رحمة وخلق حسن في هاتين المعركتين

وتجلى في هاتين المعركتين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من خلق جم وقلب رحيم، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، فلما فدت قريش أسراها بعثت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة كانت أمها خديجة قد أعطتها إياها يوم فرحها؛ لتفدي بها زوجها العاص بن الربيع ، فلما رأى صلى الله عليه وسلم القلادة تذكر خديجة ورق لابنته زينب ودمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.

ولما وقف في مكة بعد أن من الله عليه بالفتح الأعظم والمقام الأكرم قال: (يا معشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء).

أيها المؤمنون! عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدرته على من آذاه دليل على منزلته العظيمة التي تبوأها صلوات الله وسلامه عليه من الخلق الجم، والسلوك القيوم، ولا ريب أن الله جل وعلا قد تعاهده ورباه، قال عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).

جعل الله الكعبة مثابة للناس وأمناً

أيها المؤمنون! لقد جعل الله جل وعلا البيت الحرام قياماً للناس، وجعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمناً، فحقه أن يعظم ويبجل شرعاً، فيعظم مادياً بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويعظم معنوياً بأن يذكر الله جل وعلا عنده، وأن يطاف حوله، وقد دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وطهرها من الأصنام، وصلى في البيت ركعتين، وطاف حول البيت، وأمر بلالاً أن يرقى على سطح الكعبة وأن يؤذن، وبقيت الكعبة إلى اليوم وستبقى إلى أن يهدمها ذو السويقتين منارة سامية، وقمة شامخة

رمز الخلود وكعبة الإسلام كم في الورى لك من جلال سام

وجعل الله جل وعلا البيت الحرام لنا قبلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، فنوجه إليها موتانا، ونتوجه إليه في صلاتنا، ولا نريد البيت وحجارته، لكننا نمتثل لأمر الله جل وعلا وشرعته، ونحن على كل حال عبيد أذلاء للكبير المتعال.

جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ليلة القدر وفضائل الاعتكاف وآدابه

التماس ليلة القدر

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أيها المؤمنون! برحمة من الله وفضل تتبوءون في هذه الأيام العشر الوسطى من شهركم المبارك أتم الله علي وعليكم فيه النعمة، ونبيكم صلى الله عليه وسلم -وهو الأكمل هدياً- كان يجتهد في العشر الوسطى ما لا يجتهده في العشر الأول، واعتكف صلى الله عليه وسلم في أول أمره في العشر الوسطى يلتمس ليلة القدر، حتى كانت صبيحة يوم عشرين خرج صلى الله عليه وسلم في صبيحتها على الناس وقال: (من كان معتكفاً فليبق على اعتكافه، فإنني كنت ألتمسها في العشر الوسطى، ثم إنني أخبرت أنها في العشر الأواخر، فمن كان معتكفاً فليعتكف معي، وإنني أريت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي الحديث: فأمطرت السماء في تلك الليلة فوكف المسجد وكان سقفه من عريش، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد انصرف من صلاة الصبح وعلى وجهه أثر الماء والطين.

لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم

الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم

صلوات الله وسلامه عليه.

اختلاف العلماء في تعيين ليلة القدر

من هذا الحديث ذهب بعض العلماء إلى أن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين؛ لظاهر الحديث الصحيح الصريح هذا، وذهب بعضهم إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين لحديث آخر مشابه له، وذهب أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه وكان يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين، كما أخرجه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش .

وذهب بعض العلماء إلى أنها تتنقل؛ جمعاً بين الروايات، أي: أن ليلة القدر تكون في كل عام في ليلة غير التي سبقت، ولا يلزم أن تكون في سائر الليالي والأعوام في ليلة معينة، وهؤلاء القائلون بالتنقل ذهبوا إلى هذا جمعاً بين الروايات الصحيحة.

وأياً كان الأمر فإن ليلة القدر في رمضان قطعاً، ومن قام العشر الأواخر كلها إيماناً واحتساباً متأسياً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يوافقها، وقد كان إذا دخلت العشر أيقظ أهله وأحيا ليله، وشد المئزر، وهذه كناية عن السعي والجد في الطاعة والعبادة، إلا أنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها، وإنما يصلي بعض الليل، ويذكر بعضه، ويسبح في بعضه، ويقرأ القرآن في بعضه، فهذه العشر المباركات معين لا ينضب، قال الله جل وعلا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: أن العبادة فيها تزن وتساوي عند الله عبادة ألف شهر ليس فيهن ليلة القدر، ولا ريب أن المؤمن الحصيف العاقل المتبع لهدي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن له بحال أن يفرط في هذه الليالي المباركات.

الاعتكاف في رمضان

والاعتكاف أيها المؤمنون سنة من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن رام أن يعتكف العشر كلها فليدخل معتكفة صبيحة يوم عشرين، وإن دخل المعتكف قبل غروب يوم عشرين أدرك اعتكاف العشر كلها إن لم يخرج من اعتكافه إلا بعد ثبوت العيد إما برؤية الهلال، وإما بإتمام رمضان ثلاثين يوماً.

آداب الاعتكاف

ويحسن بالمعتكف أن يبقى في معتكفه في وقت العبادة من الذكر وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، وألا ينشغل بالخلائق عن الخالق، وأما وقت الصلاة فالأكمل في حقه أن يتقدم حتى يكون قريباً من إمامه.

والاعتكاف أيها المؤمنون إنما يراد به الانقطاع إلى رحمة رب العالمين جل جلاله، فيكون فيه ذكر الله وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، ولو نام شيئاً من نهاره حتى يستعين بذلك على العبادة بالليل كان أكمل وأعظم وأوفر؛ لأن ليلة القدر ليلاً لا نهاراً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5].

فاجتهدوا فيها بالدعاء والعبادة، وقد يوفق بعض الناس في أن يرى علامات على أنها ليلة القدر، لما روى الترمذي بسند صحيح من حديث عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال العلماء: فقولها رضي الله عنها وعن أبويها: (أرأيت إن علمت) دل على أنها قد تعلم، فقد يضع الله جل وعلا بعض العلم لبعض خلقه من علاماتها وأماراتها، لكن لا يلزم من كون الإنسان لم ير علامة عليها على أنه لم يقمها ولم يحيها، فليس هناك تلازم ما بين العبادة والقبول وبين وجود أمارة وعلامة على أنها ليلة القدر.

فاجتهدوا في الأوتار، واجتهدوا في الشفع من كل الليالي، واعلموا عباد الله! أننا جميعاً لنا ذنوب نحب من الله أن يغفرها، ولنا عيوب نحب من الله أن يسترها، ولنا آمال نحب من الله أن يحققها، ولنا ديون نحب من الله أن يقضيها، ولنا مخاوف نحب من الله أن يؤمننا منها، وكل ذلك لا يعطيه ولا يدفعه إلا الرب تبارك وتعالى، فعلقوا بالله أنفسكم، واحمدوا الله كثيراً، وابدءوا الدعاء بكثرة الثناء عليه؛ فإنه لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ثم صلوا بعد حمدكم لله والثناء عليه على نبيكم، ثم تقربوا إلى الله بصالح الدعاء ملحين موقنين بالإجابة؛ لعل الله أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار.

ألا وصلوا وسلموا على خير من قام ليلة القدر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وارحمنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين!

اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أرجعت موسى إلى أمه، ورددت يوسف إلى أبيه، وجمعت بيعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله أنت بيدك مقاليد كل شيء، أنت الله لا إله إلا أنت الحي حين لا حي، وجهك أكرم الوجوه، وعطيتك أحسن العطايا، واسمكم الأعظم أحسن الأسماء، أنت الله لا إله إلا أنت لا رب غيرك، ولا شريك معك، نسألك اللهم بمحامدك كلها يا ذا الجلال والإكرام! أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن تعتقنا من النار، وأن ترزقنا يا الله قيام ليلة القدر على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دنت بشائره 2 للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net