إسلام ويب

إن قراءة القرآن في شهر رمضان من أفضل الأعمال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يدراسه جبريل بالقرآن.

وكذلك كان السلف الصالح يخصصون هذا الشهر لقراءة القرآن وينشغلون به عما عداه، ومن الأعمال الصالحة التي تتأكد في شهر رمضان قيام الليل الذي هو دأب الصالحين وشرف المؤمنين.

رمضان والقرآن

الحمد لله صاحب الإحسان، الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ.

والصلاة والسلام على النعمة المهداة، والرحمة المسداة، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، صاحب المناقب والمكارم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

عباد الله! فهذا شهر القرآن، الكتاب العظيم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] يوم أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، أنزل في رمضان، يوم أنزل القرآن على الأمة الجاهلة الأمية ليقول لها الله انفضي عنك غبار التخلف والتبعية، يوم يقول لها الله انبعثي للدنيا، وفجري الكون بشعاع من التوحيد، واسجدي لله رب العالمين. الأمة التي نامت ألف سنة، فما عرفت (لا إله إلا الله) أنزل الله عليها القرآن لتستيقظ من جديد، ولتنبعث رسالة خالدة للمعمورة. الأمة التي كانت تخاف من سوط كسرى وقيصر، فأصبح كسرى وقيصر يخافون من خيالها، الأمة الرائدة القائدة، التي كان يقف خليفتها وعليه الثوب الممزق وهو يأكل كسر الخبز من الشعير في أدم الزيت، وينام في الكوخ، ويهتز منه كسرى وقيصر.

يا مَن يرى عمراً تكسوه بُردَتُـهُ>>>>>والزيتُ أُدْمٌ لـهُ والكوخُ مأواهُ

يَهْتَزُّ كسرى على كرسِيِّه فَرَقاً>>>>>مِن خوفِهِ وملوكُ الرومِ تَخشاهُ

الأمة التي يقول ملكها -وهو يشرف على قصره- للسحابة: أمطري حيثُ شئتِ، فإن خراجك سوف يأتيني.

كانت قبل القرآن جاهلة التعاليم، عقيمة المبادئ، ميتة العزيمة، فأخرجها الله للناس، وقال لها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فخرجت للناس فملأت الدنيا علماً وفهماً وفقهاً، وأسمعت بالعلم القبلتين والحرمين، والأزهر، والزيتونة، وقرطاجه والزهراء، وجلَّط، ودار السلام وقرطبة.

والصحاري حالماتٌ كلها>>>>>تَتَلَقَّاكِ بتصفيقٍ مثيرْ

في خطاها ألفُ عامٍ باسمٍ>>>>>عجباً من قلبك الفذ الكبير

قراءة القرآن في شهر رمضان

هذه الأمة ناداها الله أن تقرأ القرآن في شهر رمضان، وأجزل الله لها المثوبة يوم تتدبر القرآن في شهر رمضان، يقول جلَّ ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29] وناداهم - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - بتدبر القرآن في رمضان وفي غير رمضان، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] وقال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].

فيا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! يا من جاعت بطونهم في مرضاة الله، يا من ظمئت أكبادهم لِذَات الله، يا من حرموا أنفسهم الطعام والشراب والمتعة واللذائذ، هنيئاً لكم، وزيدوا على ذلك بتدبر القرآن، فهذا شهر القرآن.

كان عليه الصلاة والسلام يوم يدخل عليه الشهر يجلس مع جبريل متعلماً ومتربياً من أول إهلال الشهر إلى آخره، فيقرأ معه القرآن آية آية، وكلمة كلمة، وجملة جملة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يمضي ساعاته كلها مع القرآن، ويحب أن يسمعه من غيره، وأن يتلذذ بسماعه من سواه.

ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ عليَّ القرآن. قلت: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فابتدأت سورة النساء، فلما بلغت قوله تبارك وتعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] قال: حسبُكَ الآن. قال: فنظرت، فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام}

أحاديث في فضل قراءة القرآن

والنبي صلى الله عليه وسلم ينادي كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن يجعل هذا القرآن والصيام شفيعين له عند الله، فعند أحمد في المسند والحاكم في المستدرك؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يأتي القرآن والصيام يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، أما الصيام، فيقول: يا ربِّ، منعتُه طعامه، وشرابه، وشهوته فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: يا ربِّ، منعته نومه بالليل فشفعني فيه} ويقول عليه الصلاة والسلام -وهو ينادي من يريد الله والدار الآخرة- فيما صحَّ عنه في مسلم، من حديث أبي أمامة: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} فلا يرد القيامة وارد إلا والقرآن إما أمامه يقوده إلى الجنة، وإما وراءه يدفعه إلى النار.

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث النواس بن سمعان، عند مسلم: {اقرءوا القرآن...} وفي لفظ: {يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقْدُمُه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما يوم القيامة} ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري ومسلم: {تأتي سورة البقرة وسورة آل عمران -الزهراوان- كغَمامَتَين، أو غَيابَتَين، أو غَيايَتَين، أو كفَرَقان من طيرٍ صواف، تظلان صاحبهما يوم القيامة} وقال وهو يتحدث صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} فخير الأمة من عاش مع القرآن، وتعلم القرآن، وتدبر آيات القرآن.

وفي حديث عائشة المتفق عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: {الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة..} والماهر: المنطلق اللسان، والمجوِّد، الذي يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، يجعله الله مع الملائكة في عليين {والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاقٌّ له أجران} وفي لفظ مسلم: {يتتعتع فيه} أي: يكسر في بعض سكناته، أو ممدوده، لا حركاته {له أجران أجر التلاوة وأجر المشقة}.

سمعتُك يا قرآنُ والليلُ ساجدٌ>>>>>سريتَ تهزُّ الكونَ سبحان مَن أسرى

فَتَحْنا بكَ الدنيا فأشرقَ نورُها>>>>>فصارتْ بعيدِ النصر في حُلة حمرا

مضاعفة أجر قارئ القرآن

ويقف عليه الصلاة والسلام ليعلن للأمة قضية لا تغيب عن الأذهان، وهي قضية مضاعفة الأجور عند الله، فعند الترمذي بسند صحيح، عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرفٌ، ولام حرفٌ، وميم حرفٌ} وهو علامة مضاعفة الأجور عند الله.

حقيقة من ليس في قلبه شيء من القرآن

بل جعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم القلبَ الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن قلباً خرباً خاوياً على عروشه، قلباً ما عرف الله.

ففي الترمذي وأبي داود بسندين حسنين، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الذي ليس في صدره شيء من القرآن كالبيت الخَرِب}.

لا حسد إلا في اثنتين

لا حسد في الدنيا، ولا في مناصب الدنيا، ولا في إمرتها، ولا في ذهب الدنيا، ولا في فضتها.

خذوا كلَّ دنياكمُ واتركوا لي>>>>>فؤاديَ حُراً طليقاً غريبا

فإني أعظمكم ثروة >>>>>وإن خلتموني وحيداً سليبا

لا حسد إلا في تدبر القرآن، وفي تلاوة القرآن، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار}.

وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم منازل الناس في الجنة على تلاوتهم للقرآن، فعند أبي داود والترمذي بسندين صحيحين، عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل، فإن منـزلتك عند آخر آية تقرؤها}. فيأتي قارئ القرآن في الدنيا، فإن كان تالياً من حفظه تلا من حفظه، وإن كان من مصحفه تلا من مصحفه، فيرفعه الله بكل آية درجة، حتى يصل إلى أعلى عليين، أو إلى درجة تلاوته في الدنيا، والمؤمن هو من يعيش مع القرآن، ويتلذذ بسماعه.

تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الليل

جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسند جيد، أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة من الليالي، بعد أن أظلم الليل، فمرَّ ببيوت الأنصار يستمع كيف يقرءون القرآن، يوم كانت بيوتهم حية بكتاب الله، حين لم تكن تعج بالأغاني المائعات الماجنات، وبالمغنين والمغنيات، يوم كان ليلهم تعبداً، ونهارهم سجداً، يوم كانوا عباداً لله في الليل والنهار، خرج عليه الصلاة والسلام يتفقد أصحابه، وينظر ماذا يفعلون في الليل الدامس، فسمع عجوزاً تقرأ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فوقف صلى الله عليه وسلم يستمع إليها وهي لا تدري، تبكي وتردد: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فأخذ يبكي معها ويقول: {نعم أتاني، نعم أتاني} وهو المخاطب بحديث الغاشية، وهو المنـزل عليه حديث الغاشية.

وعند البخاري: {أنه صلى الله عليه وسلم سمع أبا موسى الأشعري يقرأ ذات ليلة من الليالي -وصوته حسن يخلب العقول، ويسري في الأرواح، ويجذب الأنفس إلى الله الحي القيوم- فوقف صلى الله عليه وسلم يستمع لتلاوته وأبو موسى لا يشعر، ولما أصبح الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: لو رأيتَني البارحة وأنا أستمع إلى تلاوتك، لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود، فيقول أبو موسى: أئنك كنتَ تستمع لي يا رسول الله؟ قال: إي والله. قال: والذي نفسي بيده لو أعلم أنك كنت تستمع لي لحبَّرتُه لك تحبيراً}. أي: جوَّدتُه، وحسَّنتُه، وجعلتُه مثيراً.

حال النبي صلى الله عليه وسلم والسلف في شهر رمضان

كان عليه الصلاة والسلام يوم يدخل شهر رمضان ينقطع عن العالم الخارجي، إلا عن الله وعن كتاب الله، فكان يجلس مع جبريل، فيتلو معه كتاب الله حتى ينسلخ الشهر، عرف ذلك السلف الصالح، فخصصوا رمضان لتلاوة القرآن، يقول الإمام مالك -وقد أتاه طلبته وتلاميذه يقرءون عليه الدروس والعلم- قال: هذا شهر القرآن، لا دروس ولا فتيا فيه. وعلق كتبه، وأخذ المصحف.

وكان سعيد بن المسيب يختم القرآن في كل ليلة مرة، صح ذلك عنه.

وليس المقصود من إيراد هذه القصص أن نقتدي بهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ألا يُختم القرآن في أقل من ثلاث، ولا ينقص من ذلك، لكن المقصود، أن نرى مقامنا من مقاماتهم، وحالنا من حالاتهم، ولذلك ثبت عن مسروق أنه لما دخل عليه شهر رمضان حمل سريره بيديه، وأدخله في مسجد الكوفة، وقال: [[لا أخرج سريري حتى ينتهي الشهر]] فكان ساجداً راكعاً متعبداً حتى بشره الناس بالعيد.

وكان الأسود بن يزيد إذا دخل الشهر، أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم يبكي حتى السحر، فتقول له زوجته: ما لك؟ والله لو قتلت نفساً لكان أخف من هذا العذاب عليكَ، فقال: [[أنا الذي قتل نفسي بالمعاصي]]. وأورد ابن حجر في ترجمة البخاري في فتح الباري، في المقدمة: أنه قرأ يقرأ القرآن في رمضان ستين مرة، مرة في النهار ومرة في الليل. وهذا حق يقين لا مرية فيه، ولكن لا يقتدى بهم، إلا فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

وذكر المروزي في قيام الليل بسند صحيح [[أن عثمان رضي الله عنه قام عند المقام في البيت العتيق من بعد صلاة العشاء، فتلثَّم، وبدأ من أول القرآن يقرأ ويبكي حتى انتهى من آخره مع طلوع الفجر]].

عثمان الذي كان ينشر المصحف من بعد الفجر إلى صلاة الظهر، يقرأ ودموعه تنهل على كتاب الله، فيقول له الناس: لو خففت على نفسك، فيقول: [[لو طَهُرَت قلوبُنا لما شبِعنا من القرآن]]

الحث على تلاوة القرآن

فيا أيتها الأمة! يا من أحياها الله بالقرآن! يا من رفع الله رءوسها بالقرآن! هذا شهر القرآن والتلاوة، هذا شهر مضاعفة الأجور، اقرءوه فإن الله يأجركم بالتدبر وبالتلاوة، وبالنظر في المصحف، وبمعايشة القرآن في بيوتكم، يملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، ويملأ صدوركم إيماناً، ويقيناً، وخيراً وبراً، ويملأ مسيرتكم إشراقاً وفلاحاً ونجاحاً.

عاشروا القرآن، جالسوا القرآن، علموه أبناءكم وبناتكم، حفظوه نساءكم ومن تعولون، أحيوه في حياتكم، فإن تلاوته على قسمين:

تلاوة حكمية: وهي أن تؤمن بمن أنزله، وتؤمن بما فيه، بمحكمه ومتشابهه، بوعده ووعيده، بترغيبه وترهيبه، بأمره ونهيه.

وتلاوة لفظية: وهي أن تقرأه بتحزينٍ وخشوع، عله أن يكون معك يوم تفد إلى القبر، ويوم تمشي على الصراط، ويوم تقف في تلك العرصات.

أسأل الله لي ولكم هدايةً ونوراً ورشداً وفلاحاً.

اللهم أعنا على تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار، واجعلنا مِمَّن يقرءونه فيقودهم إلى الجنة، لا مِمَّن يتركونه فيقذفهم على وجوههم إلى النار.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

قيام الليل

الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً.

بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

أمَّا بَعْد:

فضل قيام الليل

قلتُ لليل هل بجوفكَ سرٌ>>>>>عامرٌ بالحديث والأسرار

قال لم ألقَ في حياتي حديثاً>>>>>كحديثِ الأحباب في الأسحارِ

قيام الليل: من أفضل الأعمال التي يلقى بها العبد ربه تبارك وتعالى، وصلاة التراويح قيام ليل، وهي إيمان وإعلان بالإيمان، وهي تغلب على النفاق، وهي إعلان على انتصار الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء، وهي كذلك إعلان للتضامن مع المسلمين، ويوم تقومُ في التراويحِ مع الإمام يكتب الله لك قيام ليلة كاملة، وقد تكون مسيئاً، ومن يدري؟ قد تكون أسأت كل الإساءة، فلما صليتَ التراويحَ ارتَفَعَتْ دعوةٌ صادقة ممن بجانبك أو عن يمينك أو عن يسارك؛ فقبلها الله عزَّ وجلَّ وأسعدك بسبب سعادة ذاك. فإنهم إذا اجتمعوا في المساجد باهى الله بهم ملائكته فوق سبع سماوات؛ فتقول الملائكة: {يا رب فيهم فلان، عبد خطاء ليس منهم، إنما دخل المسجد لحاجة، قال: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.

ومن يدري؟ قد تكون شقياً في علم الله عزَّ وجلَّ، أو قد تكون مذنباً آثماً فاجراً، فتدخل مع المسلمين، وتضع رأسك مع رءوسهم سجداً لله خاشعين، فيدخلك الله في إحسانهم، (وهَبِ المسيئين مِنَّا للمحسنين).

ومن يدري؟ قد كانت مرت بك صحف سوداء، لطختها بالذنوب، فمرت عليك ليلة من السعادة، فأسعدك الله سعادة لا تشقى بعدها أبداً، كلما سجدت لله سجدة رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، كما صحَّ في حديث ثوبان عند مسلم، { عليك بكثرة السجود لله فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة}.

فهنيئاً لك وأنت تُتعِب قدميك وساقيك وأنت تسمع كلام الله يتلوه الإمام، وهنيئاً لك يوم تكون ساجداً، وراكعاً، أتظن أن الله لا يدري بك؟! أتظن أن سجداتك تذهب سدى؟! أتظن أن ركعاتك تذهب هباء منثوراً؟! لا والله، لا يقع رأسك على الأرض إلا ويرفعك الله درجة عنده.

الثلث الأخير من الليل

وفي آخر الليل -وما أدراك ما آخر الليل، حين يبقى الثلث الأخير من الليل- ينـزل الله إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله، فيقول: {هل من سائل فأعطيه؟! هل من داعٍ فأستجيب له؟! هل من مستغفر فأغفر له؟!} أفلا تريد أن تكون ممن مرغوا وجوههم سجداً لله ولو بركعتين، ولو بسجدتين اثنتين، ولو بتسبيحات قليلة، يحفظها الله تبارك وتعالى عنده.

فيا أيها المسلمون! عليكم بقيام رمضان، وصلاة التراويح مع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه}.

فكأني بك وقد كتبك الله في السعداء، في صحيفة من نور، وكأني بك وقد استوجَبْتَ دخول النار، فأعتقك الله مع من أعتق في ليلة من ليالي رمضان.

فالله الله في صلاة التراويح! أعلنوا قوة الإسلام بصلاة التراويح، ومراسيم الدين الخالد بصلاة التراويح مع المسلمين، وأعلنوا التكافل والتضامن في دخولكم صفوفاً وراء صفوف لتقولوا للشيوعية: ها نحن المسلمين انبعثنا للإسلام من جديد، وتقولوا للصهيونية العالمية: ها نحن أجيال محمد جئنا للدنيا من جديد، فيرحمكم الله في من رحم، ويتغمدكم في من تغمد، ويرفعكم عنده درجات.

هنيئاً لكم الصيام والقيام، كتب الله صيامكم في صيام الصائمين، وقيامكم في قيام القائمين، وأعتق الله رقابنا ورقابكم من النار، وجنَّبنا العار والدمار والشنار، إنه على ذلك قدير.

عباد الله! صلوا على المعلم الأول، رسول الهدى، وباني مجد الإسلام، فإن الله أمركم بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.

اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.

اللهم ارضَ عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم وفق ولاة المسلمين لما تحبه، وترضاه، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم وفق كل مسئول لكل خير، وخذ بيده إلى الصواب والرشد، وجنبه مزالق الفتنة والشر يا رب العالمين.

اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ونصرة رايتك، وتأييد سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي كل صِقْع من بلادك، يا رب العالمين.

اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم تب على شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، وأصلح بالهم، وتقبل منهم أعمالهم، يا رب العالمين.

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شعاعٌ في الأفق للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net