إسلام ويب

التيمم في الحضر لذكر الله دون الصلاة جائز كما دل عليه حديث أبي الجهيم، ومن لم يستطع استعمال الماء فقد أنزله النبي صلى الله عليه وسلم في منزلة من فقد الماء كما في حديث عمرو بن العاص.

التيمم في الحضر

شرح حديث: (أقبل رسول الله من نحو بئر جمل، فلقيه رجل...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: التيمم في الحضر.

حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه فقال أبو جهيم : (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام) ].

وهذا الحديث أخرجه البخاري والنسائي ، وأخرجه مسلم منقطعاً، وحديث أبي جهيم هذا وحديث عمار هما أصح ما ورد في التيمم.

قوله: (بئر جمل) موضعها، موضع الدخول بالمدينة.

قال أبو جهيم : (أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام)؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو ذكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره أن يذكر الله إلا على طهر؛ ولما كان الماء بعيداً عنه تيمم؛ لأجل أن يذكر الله، وإلا فإنه يجوز أن يرد السلام وليس على وضوء ولا حرج؛ لحديث عائشة في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه)، لكن هذا التطهر هو من باب الاستحبابـ والتيمم على الجدار جائز إذا كان فيه غبار.

قال النووي رحمه الله: إن حديث أبي جهيم هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عادماً للماء حال التيمم، أي: ليس عنده ماء؛ فلهذا تيمم على الجدار، ووافقه الحافظ ابن حجر قال: إن هذا مقتضى صنيع البخاري .

و النووي استدل بهذا على جواز التيمم في الحضر إذا كان عادماً للماء، لكن الحافظ ابن حجر تعقبه وقال: إنه ورد على سبب، وهو إرادة ذكر الله، ولم يجزه استباحة الصلاة، ما أراد استباحة الصلاة وإنما أراد به ذكر الله حتى يكون على طهر، وهذا من باب الاستحباب.

لكن بعضهم أجابوا وأخذوا من هذا أنه لما كان التيمم في الحضر لرد السلام مع جوازه، فإن من خشي فوات الصلاة في الحضر جاز له التيمم من طريق أولى، لكن هذا ليس بشيء، وفيه نظر، والذي يظهر أنه لابد من الوضوء في الحضر للصلاة، فإذا كان واجداً للماء فلابد أن يتوضأ، ولابد أن يأتي بشرط الطهارة، ولو خشي فوات الوقت ما دام الماء موجود؛ لقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، هذا هو الصواب، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تيمم لا ليصلي وإنما ليذكر الله، فلا يقاس عليه التيمم للصلاة؛ لأن التيمم للأمر المستحب أقل من التيمم للأمر الواجب، فلا يقاس عليه التيمم لأجل الصلاة، لكن إذا قيل: إن الماء بعيد، وإنه عادماً للماء في هذه الحالة فلا إشكال، فلو كان يريد الصلاة لتأخر حتى يصل إلى الماء ويتوضأ، لكنه عليه الصلاة والسلام تيمم لأجل رد السلام؛ لأن هذا يفوت، والتيمم في الحضر لو فقد الماء لا مانع منه؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43].

والمؤلف رحمه الله استدل بهذه القصة على التيمم في الحضر، والتيمم في الحضر لا بأس به للصلاة، إذا عدم الماء، قال عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فيتيمم ولو في الحضر، لكن الغالب أن فقد الماء يكون في غير الحضر.

أما الاستدلال بهذا الحديث على أنه يتيمم الإنسان لخوف فوات الفريضة، أو لخوف صلاة الجماعة، أو لخوف فوات الجمعة، كما استدل به بعضهم فليس بجيد، والصواب: أنه لا يتيمم في الحضر، إذا خشي فوات صلاة الجمعة أو الجماعة أو الجنازة أو خوف فوات الوقت ما دام الماء موجوداً، لكن لو فقد الماء بالمرة وليس في المكان ماء فيتيمم؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43].

شرح حديث: (مر رجل على رسول الله في سكة من السكك....)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي أبو علي أخبرنا محمد بن ثابت العبدي أخبرنا نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذٍ أن قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة فضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر) ].

السكة هي: الشارع الصغير، ويسمى زقاقاً.

وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سكة من السكك، وقد خرج لقضاء الحاجة في البلد في شارع من الشوارع، فسلم عليه هذا الرجل فلم يرد عليه، فلما كاد أن يتوارى تيمم النبي صلى الله عليه وسلم وضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى ومسح ذراعيه ورد عليه السلام.

وفيه أنه ضرب ضربتان في هذا وأنه في البلد.

لكن هذا الحديث ضعيف جداً لا يحتج به؛ فيه محمد بن ثابت العبدي ضعيف.

فلا يحتج بهذا الحديث على التيمم في الحضر مع وجود الماء، ولا يصح رفع الضربتين، بل الثقات الحفاظ رووه من فعل ابن عمر .

قال الذهبي : ينكر عليه حديث ابن عمر في التيمم لا غير؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تيمم لرد السلام، والصواب: أنه موقوف على ابن عمر .

وكذلك قوله: (ضرب ضربتين) فالتيمم في الحضر مع وجود الماء لا يجوز.

أما الحديث السابق فإنه عادم للماء؛ لأنه أقبل من نحو بئر جمل، وبئر جمل مكان ليس بقرب المدينة، بل خارج المدينة، إذاً: ليس عنده ماء، فتيمم لرد السلام، أما هذا فكان في وسط البلد في سكة من سكك المدينة، فلا يصح هذا الحديث، ولا يصح لفظ (الضربتين).

[ قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمم ].

أبو داود يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمم، وهو هذا الحديث والنكارة فيه من جهتين: من جهة تيممه مع وجود الماء، ومن جهة كون التيمم ضربتين. وإنما هذا من فعل ابن عمر .

[ قال ابن داسة : قال أبو داود : لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورووه فعل ابن عمر ].

أبو داود يقول: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين، بل تفرد بذكر الضربتين مع كونه ضعيفاً لا يحتج بحديثه، ورووه -يعني: الثقات- من فعل ابن عمر لا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب أنه موقوف على ابن عمر . ويكون هذا اجتهاد منه رضي الله عنه.

شرح حديث: (أقبل رسول الله من الغائط فلقيه رجل عند بئر جمل...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا جعفر بن مسافر أخبرنا عبد الله بن يحيى البرلسي أخبرنا حيوة بن شريح عن ابن الهادي أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجل السلام) ].

وهذا الحديث حسن لا بأس بسنده، ومعناه معنى الحديث السابق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه رجل عند بئر جمل، وهو مكان قرب المدينة ما عنده ماء، فسلم عليه الرجل فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، عليه السلام حتى تيمم على الجدار ثم رد عليه السلام.

وفي لفظ قال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهر)، فهنا تيمم لرد السلام وليس عنده ماء، وليس فيه أنه تيمم للصلاة. فلا بأس بالتيمم في الحضر إذا فقد الماء. نعم.

الجنب يتيمم

شرح حديث (الصعيد الطيب وضوء المسلم...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الجنب يتيمم.

حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد ح وحدثنا مسدد أخبرنا خالد -يعني: ابن عبد الله الواسطي - عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر ! ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو ذر ؟ فسكت، فقال: ثكلتك أمك أبا ذر ! لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال: الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير) وقال: مسدد : (غنيمة من الصدقة).

قال أبو داود : حديث عمرو أتم ].

وهذا الحديث لا بأس بسنده، أخرجه النسائي والترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: صححه الدارقطني ، وقال ابن القطان : في الباب أحاديث أسانيدها صحاح.

وقول أبي ذر : (اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر ! ابد فيها -يعني: اخرج إلى البادية- فبدوت إلى الربذة) يعني: خرجت إلى الربذة، وهو حوالي ثلاثة أميال من المدينة قرية.

قال أبو ذر : (فكانت تصيبني الجنابة، فأمسكت الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو ذر ؟ فسكت، فقال: ثكلتك أمك يا أبا ذر ! لأمك الويل)، هذه الكلمات تجري على اللسان عند العرب، ولا يقصد بها حقيقتها، وقوله: (ثكلتك أمك) يعني: فقدتك أمك، وقوله: (لأمك الويل) يعني: لفقدك، والمراد بها هنا: الحث والعناية بطلب الماء.

قال: (فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بعس -القدح- فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير)، قال مسدد : (وغنيمة من الصدقة) أي: زاد (من الصدقة) وحديث عمرو أتم، يعني: أتم من حديث مسدد .

والصعيد اختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة، وقد ذكر الشارح أقوال متعددة، منها:

الصعيد: المرتفع من الأرض.

وقيل: الأرض المرتفع.

وقيل: الأرض المنخفضة.

وقيل: ما لم يخالطه رمل ولا سبخة.

وقيل: وجه الأرض.

وقيل: الصعيد الأرض.

وقيل: الأرض الطيبة.

وقيل: هي كل تراب طيب.

وقيل: الأرض المستوية.

وقال الشافعي : الصعيد لا يقع إلا على التراب له غبار.

الأشياء التي يتيمم بها المتيمم

اختلف العلماء بسبب اختلافهم في معنى الصعيد، ما الذي يتيمم عليه؟

فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يتمم إلا على التراب الذي له غبار.

وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجزئ التيمم إذا تيمم بما صعد على وجه الأرض.

والصواب: أنه يتيمم بالتراب، فإذا وجد التراب الذي له غبار فإنه يجب عليه أن يتيمم به؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، كلمة: (منه) يتيمم بالتراب الذي له غبار، مثل تراب الحرث والزرع، فإن لم يجد تيمم على ما تصعد على وجه الأرض، فإذا كانت الأرض ما فيها إلا رمل يتيمم على الرمل، أولم يجد إلا على أرض صخرية تيمم عليها؛ لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، لكن إذا وجد تراباً له غبار فإنه يتيمم على التراب الذي له غبار، فإن لم يجد تيمم على ما صعد على وجه الأرض.

قال الشارح: قلت: التحقيق في هذه المسألة: أن التراب هو المتعين لمن وجد التراب ولا يجوز بغيره؛ لأن الصعيد هو التراب فقط عند بعض أئمة اللغة، فالتيمم عليه جائزاً اتفاقاً، فكيف يترك المتيقن بالمحتمل؟ ومن لم يجد التراب فيتيمم على الرمال والأحجار ويصلي؛ لأنه مدلول الصعيد لغة عند بعض أئمة اللغة، ومن لم يجد الرمال والأحجار فيتيمم على كل ما ذكر آنفاً في تفسير الصعيد، ولا يصلي بغير التيمم، ومن لم يجد هذه كلها فيصلي بغير طهارة، والله أعلم.

وهذا كلام جيد، وهو أنه يتيمم على التراب الذي له غبار إذا وجده، فإن لم يجد إلا أرضاً رملية تيمم، فإذا وجد الأرض صخرية تيمم عليها؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فإن لم يجد تراباً ولا ماءً صلى على حسب حاله كما حصل من الصحابة الذين صلوا بغير ماء ولا تراب قبل أن يشرع التيمم، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ولو إلى عشر سنين)، المراد: التكثير لا التحديد، والمعنى: أنه يتيمم حتى يجد الماء، وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين، وليس معنى ذلك: أن التيمم يكفي لعشر سنين، بل المراد أنه يتيمم ويستمر حتى يجد الماء.

أثر خروج الوقت على التيمم

هل خروج الوقت يبطل به التيمم أو لا يبطل؟

الجمهور من الفقهاء على أنه يبطل، وأنه لا يصلي بالتيمم إلا فرضاً واحداً، فيصلي بالتيمم ما شاء من فروض ونوافل، فإذا خرج الوقت بطل التيمم.

وقال آخرون من أهل العلم: التيمم بالتراب قائم مقام الماء، واستدلوا بقوله في هذا الحديث: (الصعيد الطيب وضوء المسلم) فسماه وضوءاً.

وذهب المحققون من أهل العلم: إلى أن الإنسان له أن يصلي بالتيمم فرضين أو ثلاثة أو أربعة ما لم يحدث أو يجد الماء، فإذا وجد الماء بطل التيمم ولو في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه وضوءاً، فقال: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين)، فقالوا: لا يبطل التيمم إلا إذا أحدث أو وجد الماء.

والحائط إذا كان له غبار لا بأس بالتيمم به، وسبق أن الحائط إذا كان من الطين فله غبار.

وإذا وجد بعض الماء ولا يكفي يتيمم؛ فإذا كان الماء قليلاً لا يكفي فغسل وجهه وكفيه ويديه وانتهى الماء ولم يبق شيء لرجليه فإنه يتيمم، وكذلك إذا كان عليه جنابة ووجد ماءً قليلاً لا يكفي، فيستنجي ويتوضأ وضوءه للصلاة وإن بقي شيء غسل رأسه، وإن بقي شيء غسل شقه الأيمن، وإن لم يبق شيء تيمم للباقي.

[ حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر قال: (دخلت في الإسلام فأهمني ديني، فأتيت أبا ذر رضي الله عنه، فقال أبو ذر : إني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وبغنم، فقال لي: اشرب من ألبانها -قال: حماد : وأشك في (أبوالها)- فقال أبو ذر رضي الله عنه: فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار، وهو في رهط من أصحابه وهو في ظل المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: أبو ذر ؟ فقلت: نعم، هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قلت: إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فجاءت به جارية سوداء بعس يتخضخض؛ ما هو بملآن، فتسترت إلى بعيري فاغتسلت، ثم جئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر ! إن الصعيد الطيب طهور وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك).

قال أبو داود : رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر: (أبوالها).

قال أبو داود : هذا ليس بصحيح، وليس في (أبوالها) إلا حديث أنس تفرد به أهل البصرة ].

وهذا هو الصواب، بأن ذكر الأبوال لم يثبت، وإنما قال: (اشرب من ألبانها)؛ ولهذا قال: وأشك في (أبوالها)، قال أبو داود : رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر: (أبوالها)، أي: أنه ليس في الحديث ذكر (أبوالها) ولم تذكر إلا في حديث أنس ، تفرد به أهل البصرة في قصة العرنيين، وفيه أنهم لما جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها.

أما حديث أبي ذر فلا يثبت فيه أنه أمره بالشرب من أبوالها، وإنما قال: (اشرب من ألبانها).

وفيه دليل على أن أبا ذر كان يصلي بغير طهور، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، فدل على أن صلاته صحيحة وأنه معذور؛ لأنه لم يبلغه الحكم، فلما أبلغه الحكم وجب عليه أن يتيمم، فدل على أن الإنسان إذا لم يعلم وكان جاهلاً فهو معذور.

وفي ذلك قصة الأعرابي الذي جاء وصلى عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتم الركوع ولا السجود، وفيها أنه قال: (والذي بعثك بالحق! لا أحسن غير هذا فعلمني)، فعلمه وأمره أن يعيد الصلاة الحاضرة، ولم يأمره بإعادة الصلوات الماضية؛ لجهله.

والحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم، فقال له: (يا أبا ذر ! إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك)، وسماه طهوراً؛ فدل على أنه قائم مقام الماء، وقد احتج به المحققون على أنه لا يبطل التيمم بخروج الوقت؛ لأنه سماه طهوراً، وفي اللفظ الآخر سماه وضوءاً.

إذا خاف الجنب البرد يتيمم

شرح حديث عمرو بن العاص: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟

حدثنا ابن المثنى أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً).

قال أبو داود : عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة وليس هو ابن جبير بن نفير ].

وحديث عمرو بن العاص هذا لا بأس بسنده.

وفيه دليل على أن الجنب يتيمم ويصلي إذا خاف من البرد وخاف الهلاك أو خاف المرض؛ لأنه معذور في هذه الحالة، فإذا لم يكن عنده شيء يسخن به الماء ويتقي به البرد وخاف خروج الوقت فإنه يتيمم ويصلي وصلاته صحيحة. وهذا هو الذي ذهب إليه أكثر الصحابة.

وخالف في ذلك عمر رضي الله عنه وابن مسعود وقال: يبقى الجنب حتى يجد الماء ولا يتيمم.

فهنا إذا وجد الماء لكنه لا يستطيع استعماله من شدة البرد، فيكون حكمه حكم فاقد الماء في هذه الحالة، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على جواز التيمم من جهتين:

من جهة التبسم والضحك.

والثاني: عدم الإنكار، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل؛ ولهذا قال الخطابي رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه: أنه صلى الله عليه وسلم جعل عدم إمكان استعمال الماء كعدم عين الماء، يعني: جعل كونه لا يستطيع استعمال الماء لشدة البرد؛ لأنه يخشى الموت أو يخشى المرض، كأنه فاقد للماء، وجعله في منزلة من يخاف العطش ومعه الماء، فأبقاه ليشربه ويتيمم.

لكن كما قال بعضهم: من أمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجهه أو على درجة يأمن منها الضرر، كأن يغسل عضواً ويستره، وكلما غسل عضواً ستره ودفاه، فإنه في هذه الحالة عليه أن يستعمل الماء، كما قال بعض الشراح: إنه إذا أمكن أن يستعمل الماء كأن يغسل عضواً ثم يدفئه ثم يغسل عضواً ثم يدفئه، أو يجد ما يسخنه به ويتقي، فهذا يجب عليه الغسل، أما إذا ضاقت به الحيل ولم يجد شيئاً وخاف خروج الوقت فإنه يصلي وصلاته صحيحة، وهذا هو الذي عليه الجمهور، وخالف في هذا بعض العلماء وقالوا: إنه لا يتيمم في هذه الحالة، روي عن الحسن وعطاء قالا: يغتسل وإن مات، ولم يجعلوا له عذراً، وهذا قول لا وجه له؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، ولهذا استدل بهذه الآية عمرو بن العاص فقال: ذكرت قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].

قال أبو داود : عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة ، وليس هو ابن جبير بن نفير .

أسانيد أخرى لحديث احتلام عمرو بن العاص

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سلمة أخبرنا ابن وهب عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص : (أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان على سرية -وذكر الحديث نحوه- قال: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم) فذكر نحوه ولم يذكر التيمم.

قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: (فتيمم) ].

وهذا الحديث كما قال المنذري : حسن.

وفيه: أن الجنب إذا خاف من البرد ولم يجد ما يسخن به الماء فإنه يستنجي ويغسل مغابنه وما استطاع من جسده، ويتوضأ تخفيفاً للجنابة، ثم يتيمم، كما في هذه القصة: أنه غسل مغابنة وتوضأ وضوءه للصلاة.

وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: (فتيمم) من حفظ حجة على من لم يحفظ، فبعض الرواة ما حفظ شيئاً، وبعضهم حفظ.

المجروح يتيمم

شرح حديث قصة صاحب الشجة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: المجروح يتيمم.

حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال؟ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب -شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) ].

وهذا الحديث ضعيف في سنده الزبير بن خريق ضعيف، قال في التقريب: لين الحديث.

وهذا الحديث مشهور عند الفقهاء ولكنه ضعيف.

وفيه: (أن هذا الرجل أصابته شجة ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة، فاغتسل فمات، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال؟ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب -شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).

وهذه اللفظة: (إنما كان يكفيه أن يتيمم) لم يثبتها الحفاظ؛ لأن هذا الحديث فيه: أنه يجمع بين التيمم وبين المسح، فلم يثبتها الحفاظ، فعلى هذا لا يجمع بين التيمم والمسح، بل يمسح على العصابة إن كانت بقدر الجرح وما يحتاج إليها في الشد، ولا يتيمم، فإن لم يقدر على وضع عصابة أو جبيرة فإنه يتيمم.

أما هذا الحديث لأنه يجمع بين التيمم وبين المسح فهو ضعيف؛ ولهذا كلمة: (إنما يكفيه أن يتيمم) لم يثبتها الحفاظ، بل إذا كان يستطيع المسح فيكفي، لكن تكون العصابة بقدر الجرح وما يحتاج إليه، أما ما زاد فيزيله، والمسح على الجبيرة سيأتي، والجبيرة يمسح عليها للضرورة، وهي أولى من الخف، فإذا كان الخف يمسح عليه للترفه فالجبيرة أولى بالمسح؛ لأنها ضرورة.

ففي هذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- المسح على الجبيرة، لكن الجبيرة يمسح عليها للضرورة؛ لأنها أولى من الخف، والمسح على الخفين ثابت متواتر، فإذا كان الخف يمسح عليه للترفه فالجبيرة أولى؛ لأنها ضرورة.

والجبيرة تخالف الخف:

فالخف: وقت له للمقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، والجبيرة: غير مؤقتة، فيمسح عليها حتى يبرأ الجرح.

والخف: يشترط أن يمسح على طهارة، والجبيرة: لا يشترط؛ لأن الإنسان قد يصيبه جرح أو كسر وهو على غير طهارة، فالإنسان جرحه ليس باختياره، فلا تشترط لها الطهارة.

وقوله: (إنما شفاء العي السؤال) المعنى: أن الجهل داء، والسؤال هو العلم.

واستنبط الخطابي من هذا الحديث: أن الذي أعابهم، الفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد، لكن إنما هذا على فرض صحته، ولكن المعنى صحيح، فالفتوى بغير علم منهي عنها.

أما الأمر بالجمع بين التيمم والمسح فكما سبق لا يثبت، لكن فيه أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر جسده بالماء، فيغسل سائر جسده ويتيمم ويمسح على الجرح، فإن لم يستطع تيمم.

وأحاديث المسح على الجبائر كلها أحاديث ضعيفة، كما قال ابن القيم رحمه الله، وفيه حديث علي أنه: (انكسرت إحدى زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر) لكن الحديث في سنده عمرو بن خالد وهو متروك، وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين رمياه بالكذب.

وذكر ابن عدي عن وكيع قال: كان عمرو بن خالد في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط ، وقد سرقه عمر بن موسى ، فرواه عن زينب بنت علي مثله. وعمرو هذا متروك منسوب إلى الوضع.

والمقصود: أن أحاديث الجبائر كلها ضعيفة، وهذا الحديث وحديث علي كلها ضعيفة، لكن يجوز المسح على الجبيرة للضرورة، وهو أولى من المسح على الخف، فإذا جاز المسح على الخف وهو للترفه فالمسح على الجبيرة من باب أولى.

شرح حديث: (أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا محمد بن شعيب أخبرني الأوزاعي أنه بلغه عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم احتلم، فأمر بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه! قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟) ].

وهذا ضعيف؛ لأنه رواه الأوزاعي بلاغاً، قال الأوزاعي : (أنه بلغه عن عطاء ) فهذا الذي رواه عنه الأوزاعي مجهول، فيكون الحديث ضعيفاً.

وإذا أمكن المسح لا يتيمم إلا إذا كان يضره المسح، فإذا كان لا يستطيع المسح ينتقل إلى التيمم، أما الجمع بين التيمم والمسح فالحديث ضعيف.

إذا كان الجرح في الظهر ويمر عليه الماء يكفي، فإن لم يمر عليه الماء مسح، وإن كان لا يشق نزع الجبيرة ينزعها إذا أصابته الجنابة ثم يغتسل ثم يعيدها، وإذا مر عليه الماء كفى؛ لأن مرور الماء أبلغ من المسح، فإن لم يمر عليها مسح عليها، فإن شق عليه المسح يتيمم.

إذا مر الماء على الجرح يكفي فلا مسح ولا تيمم، وهذا إذا لم يضره الماء، فإن كان يضره الغسل بالماء مسح، فإن كان المسح على الجرح يضر فإنه يتيمم عن هذا الموضع الذي لم يصله الماء، ويغسل سائر جسده.

المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت

شرح حديث: (خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت.

حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي أخبرنا عبد الله بن نافع عن الليث بن سعد عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين).

قال أبو داود : وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية

عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو داود : ذكر أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ؛ هو مرسل ].

يعني: أن الحديث مرسل عن عطاء بن يسار ، وهذا الحديث أخرجه النسائي مسنداً ومرسلاً عن عميرة .

والحديث فيه دليل على أنه من صلى في الوقت بعد أن بحث عن الماء ولم يجد الماء فإن صلاته صحيحة، فإذا بحث عن الماء ولم يجد الماء ثم تيمم ووجد الماء في الوقت والوقت باقٍ فصلاته صحيحة.

وفي هذا الحديث أن هذين الرجلين أحدهما لم يعد الصلاة لما وجد الماء، والآخر أعاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)، وقال للذي أعاد وتوضأ: (لك الأجر مرتين)؛ لأنه اجتهد فله الأجر مرتان باجتهاده، لكن الذي أصاب السنة أفضل.

ففيه دليل على أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فلا يعيد، أما إذا وجد الماء وهو يصلي فإنه يعيد.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:

فذهب بعض العلماء كـأبي حنيفة وروي عن الإمام أحمد : أنه إن كان في موضع لا يرجى فيه وجود الماء في أول وقت الصلاة فإنه يتيمم ويصلي ولو في أول وقت الصلاة.

وقال آخرون: يتيمم ويصلي، وينبغي له أن يؤخر التيمم إلى آخر الوقت؛ ولهذا قال الحنابلة: والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى.

وبعض العلماء قال: يصلي في أول الوقت، وقال بعضهم: يصلي آخر الوقت، إذا كان يرجو الماء، فإذا كان يرجو الماء يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، وإذا كان لا يرجو فإنه يصلي ولو في أول الوقت.

وهل يعيد إذا وجد الماء في الوقت؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه يعيد.

وقال آخرون: لا يعيد.

والصواب: أنه لا يعيد كما دل عليه الحديث.

والحديث روي مسنداً ومرسلاً، وقد يقال: إن المرسل لا يعارض المسند، لكن أبا داود رحمه الله قال: إن ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وعلى هذا يكون الحديث مرسلاً، والمرسل ضعيف إلا إذا وجد له مرسل آخر يشده، ويحتاج إلى مراجعة كلام الحفاظ في هذا؛ فينظر هل الذين أرسلوه هم الحفاظ وهم الأكثر، أو على قاعدة المتأخرين كالحافظ ابن حجر والعراقي الخطيب البغدادي وغيرهم: أنه إذا كان الذي وصله ثقة فإنه يقبل قوله ويقدم؛ لأن معه زيادة علم، والنسائي وجماعة يقدمون قول الأحفظ أو الأكثر.

إذا كان الإنسان يرجو حصول الماء فإنه يتأخر إلى آخر الوقت، كما قال الحنابلة وغيرهم؛ قالوا: التيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى، أما إذا كان لا يرجو فله أن يصلي في أول الوقت.

وقوله: (حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد عن عطاء بن يسار : (أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه

هذا ضعيف من جهتين:

من جهة: أنه مرسل.

ومن جهة: أن في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.

والحديث مداره على عطاء بن يسار عن أبي سعيد .

وفي هذا أن بكر بن سوادة رواه عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد عن عطاء بن يسار ، وفي الأول عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار ، من غير واسطة.

فيحتاج إلى تأمل ومراجعة؛ لأن الحديث الأول قال فيه أبو داود : المحفوظ أنه مرسل، وليس فيه ذكر أبي سعيد ، يعني: ليس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والسند الثاني مداره على بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار أيضاً.

فيحتاج إلى تأمل ومراجعة في سنده وكلام العلماء عليه؛ لأن الحكم هذا مهم، وهو وجود الماء بعدما يصلي في الوقت بالتيمم، وهذا ينبني على صحة الحديث، فإذا صح الحديث فإن المتيمم إذا وجد الماء في الوقت فلا يعيد.

والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إذا تيمم ووجد الماء في الوقت يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد، وهذا مبني على صحة الحديث وعدم صحته، فلو صح الحديث فإنه لا يعيد، ويؤيد هذا أيضاً قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولأن هذا هو الواجب على الإنسان، لأن الله تعالى لم يوجب الصلاة مرتين، وهذا هو الذي يستطيعه، فإنه بحث عن الماء ولم يجده، فكيف يقال له: أعد الصلاة؟!

أما إذا وجد الماء وهو في الصلاة فهذا تبطل صلاته على الصحيح، فإذا جاء الماء وهو في أثناء الصلاة فالصواب أنها تبطل الصلاة في هذه الحالة، فيقطع الصلاة ثم يتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد.

وهكذا إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً وليس عنده ماء يغسله فإنه يصلي فيه، إلا إذا كان يرجو وجود ثوب آخر.

ولهذا يلغز بعض العلماء فيقولون: نهق حمار فبطل صلاة المصلي، كيف ذلك؟ الجواب: حمار ذهب للإتيان بالماء، فجاء الحمار وعلى ظهره قرب للماء، فنهق، فعلم المصلي أنه وجد الماء، فبطلت صلاته؛ لوجود الماء.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [22] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net