إسلام ويب

تميزت سورة الكهف في خاتمتها ببيان عاقبة المؤمنين المتقين بعد ذكر مآل الكافرين، حيث أعد الله لعباده الصالحين الجنة وجعلها داراً لهم لا يسأمون من المكث فيها، ولا يبغون الحول عنها، وقد بين الله تعالى أن من كان يرجو مثل هذا اللقاء فليلزم العمل الصالح والإخلاص لله تعالى في العبادة؛ إذ هو وحده المستحق لها دون سواه، فهو الملك العظيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، ومن عظمته نفاد البحر لو كان مداداً لكلمات الله.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً ...)

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:107-110].

معنى الفردوس

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن عباده السعداء -وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به- أن لهم جنات الفردوس.

قال مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب. وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنة. وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ].

الربوة، المكان المرتفع، وسرة الجنة: وسطها.

وقد جاء في الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)؛ فهو الوسط وهو الأعلى، ولا يكون الوسط هو الأعلى إلا إذا كان الفردوس مستديراً كالقبة، وهذا يدل على أن الجنة مستديرة الشكل وليست مربعة ولا مسدسة، إذ لو كانت مربعة أو مسدسة لما كان الوسط هو الأعلى، فالذي وسطه أعلاه هو الشيء المستدير، والفردوس فوقه عرش الرحمن، وهو مستدير، بل إن الأفلاك كلها مستديرة، السماوات والأرضون والجنة، فكلها مستديرة الشكل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها) ].

هذا الحديث فيه ضعف بهذا السند، لكنه ثابت صحيح بغير هذا السند، وهذا السند فيه عنعنة قتادة ، والحسن في روايته عن سمرة كلام، فقد قال بعضهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.

واستدارة الفردوس لا تنافي أن تكون السماوات والأرض مستديرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، وروي عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه، روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله.

وفي الصحيحين: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) ].

الإقامة الدائمة في الجنة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: نُزُلًا أي: ضيافة؛ فإن النزل: الضيافة، وقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أي: مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا أي: لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر:

فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً سواها ولا عن حبها أتحول ].

يعني: تمكنت محبتها مني حتى وصلت إلى سويداء القلب، ووصلت إلى شغافه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي قوله: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها ].

ورد في الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ينادي مناد فيقول: يا أهل الجنة! إن لكن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا). ففي الجنة يكون المؤمن في شباب دائم وصحة دائمة وخلود دائم، فليس فيها مرض، ولا هموم، ولا موت، ولا شيخوخة، ولا أحزان، ولا أكدار، ولا بول، ولا غائط، ولا مخاط، ولا نوم، ولا حيض، ولا نفاس بالنسبة للنساء، بل هناك نعيم دائم، وسرور دائم، وتنزع من قلوب المؤمنين الأغلال والأحقاد؛ لأن الله يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض، وذلك أنهم إذا تجاوزوا الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، ونرد المظالم التي كانت بينهم في الدنيا ثم تنزع السخائم من نفوسهم، فيدخلون الجنة على غاية من الصفاء وسلامة الصدر، إخواناً على سرر متقابلين، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً ].

وذلك لما هم فيه من السرور، بخلاف منازل الدنيا، فإن الإنسان يسأم منها ويملها، وهذا أمر مشاهد، فإذا أقام الإنسان مدة طويلة في المكان سأمه، فيحب أن يغير المكان، وترى اليوم الناس إذا جاءت الإجازة الصيفية فإن أغلبهم يتحركون للرحلات، وإن كان فيها تعب؛ لأنهم سئموا الإقامة في ذلك المكان، أما أهل الجنة فيمكثون فيها المقام السرمدي الأبدي، ولكنهم يحبون البقاء فيها لما هم فيه من النعيم الدائم، والصحة الدائمة، والسلامة الدائمة، والحبور الدائم، نسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم.

تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ...)

قال الله تعالى: [ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: قل -يا محمد-: لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ أي: بمثل البحر آخر ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ].

والمعنى أن الله تعالى لا نفاد لكلماته، وأنه لو جعل البحر المتلاطم الأمواج ومده من بعده بسبعة أبحر فجعلت هذه المياه مداد حبر يكتب به، وجعلت أشجار الأرض أقلاماً يكتب بها لتكسرت الأقلام، ولنفدت مياه البحر ولن تنفد كلمات الله، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

وسبق في قصة الخضر أنه جاء عصفور فنقر في البحر نقرتين، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر، قال الشيخ الإمام محمد رحمه الله: وهذا أكثر ما بلغنا في علم الله عز وجل.

فهذه البحور المتلاطمة هي أربعة أخماس الأرض، ويأخذ العصفور منها نقرة أو نقرتين، فما أخذه هو نسبة علم الخلائق إلى علم الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول: لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون الذي هو يثني على نفسه ].

قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، وقد جاء في الحديث: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها ].

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ...)

قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال: هذه آخر آية أنزلت، يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به؛ فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) الذي أدعوكم إلى عبادته (إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا شريك له، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ أي: ثوابه وجزاءه الصالح. وهو ما كان موافقاً لشرع الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

هذان ركنا العمل، فالعمل لا يصح إلا بهذين الركنين، وأي عمل وأي عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل فلا بد من أن يتوافر فيها هذان الركنان:

الركن الأول: أن يكون العمل خالصاً لله مراداً به وجهه، فإن قصد به الدنيا أو حطامها أو مراءاة الناس، أو غير ذلك من المقاصد فهو باطل، فلا بد من أن يقصد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يقصد به رياءً ولا سمعة، ولا أي غرض من الأغراض.

وفي الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

والركن الثاني: أن يكون العمل موافقاً صواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان مخالفاً فهو بدعة ترد على صاحبها، فإذا تخلف الركن الأول صار العمل شركاً؛ لأنه أريد به غير الله، وإذا تخلف الركن الثاني صار العمل مبتدعاً مخالفاً للشرع.

وهذان الركنان دلت عليهما نصوص كثيرة، والركن الأول هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والركن الثاني هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله.

ودل على هذين الركنين نصوص أخرى، منها قول الله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112] فقوله: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي: أخلص العمل لله. وَهُوَ مُحْسِنٌ إحسان العمل: أن يكون موافقاً للشرع.

وقال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].

ودل على الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) .

ودل على الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رواه مسلم .

وللشيخين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

خطر الرياء والتحذير منه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل: (يا رسول الله! إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ). وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد.

وقال الأعمش : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة : ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه) ].

وهذا مثل الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم ، وفيه يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال: (كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده تكون له الحاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا، فكثر المحتسبون وأهل النوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه النجوى؟! ألم أنهكم عن النجوى؟! قال: فقلنا: تبنا إلى الله أي نبي الله، إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه. فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ قال: قلنا: بلى. قال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل) ].

وهذا العمل يسمى شركاً خفياً لأنه يقوم بالقلوب، فهو في القلوب خفي ليس ظاهراً، وهو الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، وقد يكون شركاً أكبر إذا صدر من المنافقين الذين أسلموا لأجل الدنيا، كـعبد الله بن أبي وغيره، فهؤلاء يصلون رياءً، ورياؤهم رياء أكبر مخرج من الملة؛ لأنهم أسلموا رياء وليس لوجه لله، أما رياء المؤمن فهو الذي يصدر منه في صلاته وفي صدقته، فهذا شرك أصغر لا يخرج من الملة.

حديث عظيم في التحذير من الشرك الخفي

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - قال: قال شهر بن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني: من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فأعاده وأبداه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله، لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت ].

شهر بن حوشب هو الأشعري الشامي ، قال عنه عثمان بن يزيد بن الحكم : صدوق كثير الإرسال والأوهام على الصحيح.

أما ابن غنم فقد قال في الخلاصة: عبد الرحمن بن غنم الأشعري زعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس : قدم في السفينة، وذكره العجلي من كبار التابعين، عن عمر وعثمان ، وعنه شهر بن حوشب ومكحول وعمير بن هانئ ، وقال ابن عبد البر : كان أفقه أهل الشام، مات سنة ثمان وسبعين.

وأما الحافظ في الإصابة فقد رجح أنه من الصحابة.

وفي الخلاصة: والأقرب أنه من الصحابة.

وقوله: [ لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت ]. وفي نسخة: لا يجوز منكم إلا كما يجوز، ولكن الأقرب (لا يحور) يعني: لا يرجع، ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:14] يعني: ألا يرجع، والحور هو الرجوع، أي: لا يرجع فيكم بخير، ولا ينتفع بما حفظ من القرآن، كما لا ينتفع بالحمار الميت صاحبه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا، فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم -أيها الناس- لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء : اللهم غفراً، أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟! وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟! فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟! قالوا: نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له أو تصدق له لقد أشرك. فقال شداد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟! فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني) ].

هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو يدل على أن الرياء يكون في الأعمال، وفيه أنه يُخاف على الصالحين أكثر من غيرهم، وهذا الحديث هو من الأحاديث التي استدل بها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه) فقد سمَّت الأحاديث الرياء شركاً، وسمته الشهوة الخفية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ طريق أخرى لبعضه:

قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فذكرته فأبكاني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية؟ قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟! قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه).

ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به، وعبادة فيه ضعف، وفي سماعه من شداد نظر ].

والشاهد هنا أن فيه دليلاً على أن الرياء يُخاف منه على الصالحين أكثر مما يُخاف على العصاة وأشد، كما في الحديث: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟! يقوم الرجل فيصلي فيزين الصلاة لما يرى من نظر الرجل إليه).

وقد جاء في الحديث أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفارة -أي: كفارة خطرات الرياء- فقال: (كفارة ذلك أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم).

فلا بد من جهاد النفس، وعلى الإنسان أن يجاهدها إذا طرأ عليه مثل هذا، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره، بل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن إذا طرأ واسترسل مع الإنسان فهل يبطل العمل أو لا يبطل العمل؟

قيل: يجازى بنيته الأولى، وقيل: يبطل العمل إذا استرسل، أما إذا كان خاطراً ودفعه فلا يضره، والواجب على المسلم أن يدافع هذه الخواطر السيئة التي ترد عليه، بأن يعلم أن الناس لن ينفعوه ولن يضروه، وأنه يجب على الإنسان أن يخلص عمله لله.

وقد جاء في الحديث: (الرياء أخطر من دبيب النمل)؛ لأنه يكون في القلوب، وهناك أشياء كثيرة مثل الرياء، كالحلف بغير الله، وكقوله: ما شاء الله وشئت، فكل هذا من الشرك الخفي.

وليس معنى هذا ترك العمل إذا طرأ الرياء، فإن من ترك لأجل الناس فقد وقع في الرياء أيضاً، كما أن العمل لأجل الناس رياء.

والرياء من الشرك الأصغر، وهو أكبر من الكبائر، وقد يقال له: الشرك الخفي، وسمي خفياً لأنه يقوم بالقلوب ولخفائه أيضاً.

والشرك نوعان:

أصغر وأكبر، فالخفي هو الشرك الأصغر، فيستعاذ منه، كما في الحديث: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم)، وهذه الاستعاذة تعين على دفعه، لكن تكون الاستعاذة مع مدافعته لما يرد عليه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حديث آخر:

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحداً فهو له كله).

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، تفرد به من هذا الوجه.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء).

حديث آخر:

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - قال: أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك).

وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن بكر - وهو البرساني - به ].

قال في التقريب: محمد بن بكر بن عثمان البرساني -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- أبو عثمان البصري ، صدوق قد يخطئ.

التحذير من المراءاة والتسميع

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حديث آخر:

قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدثنا بكار قال: حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به)].

والتسميع يكون في الأقوال، والمراءاة تكون في الأعمال، فـ(سمع) يعني: في القراءة، أو في الذكر، أو في التسبيح، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في الدعوة إلى الله، وأما معنى: (ومن راءى) أي: في العمل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية قال: حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به) ].

لفظة الجلالة إذا كان ما قبلها مكسوراً فإنها ترقق وإن كانت قبلها ضمة أو فتحة فإنها تفخم.

وهذا الحديث فيه الوعيد الشديد لصاحب الرياء والسمعة، وأن ذلك من الشرك الأصغر، وهذه النصوص يشد بعضها بعضاً، ويكفي في ذلك هذه الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ، والحديث الصحيح كذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حديث آخر:

قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت رجلاً في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره) فذرفت عينا عبد الله ].

يعني: لا يستره عن خلقه، وفي نسخة: (مسامع خلقه) مكان (سامع خلقه)، والأقرب (سامع خلقه)، وهذا من باب المجازاة، فمن يسمع يسمع الله به، ولهذا قال: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون ...)، وفي رواية أخرى: (فضحه الله على رءوس الخلائق).

خطورة الرياء وعواقبه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي حدثنا الحارث بن غسان حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة، فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: يا رب! والله ما رأينا منه إلا خيراً! فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي)، ثم قال: الحارث بن غسان روى عنه جماعة، وهو ثقة بصري ليس به بأس.

وقال وهب : حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس).

وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل).

وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تلا هذه الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذا أثر مشكل؛ فإن هذه الآية آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن شقيق حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ في ليلة: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور من الملائكة) غريب جداً، آخر تفسير سورة الكهف ].

قوله: (عدن أبين) وصف للبلدة؛ لأنه توجد منطقتان عدن وأبين، فقال: عدن أبين، وهي موضع باليمن نسب إلى أبين رجل من حمير؛ لأنه عدن به، أي: أقام, وهي عدن المعروفة الآن.

وتوجد بلدة أخرى اسمها عدن في غير اليمن، فيقال: عدن أبين تمييزاً لها عن غيرها.

والحديث سنده -كما قال قال الحافظ أبو بكر البزار - غريب.

وهو أيضاً منقطع، فـسعيد بن المسيب لم يسمع من عمر ، وسعيد هو ابن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن مخزوم المخزومي أبو محمد المدني الأعور ، رأس علماء التابعين وفردهم وخاطبهم وخطيبهم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر ، وأبي وأبي ذر وأبي بكرة عند ابن ماجه ، وعلي وعثمان وسعد في البخاري ، ومسلم ، وطائفة، وعنه الزهري وعمرو بن دينار وقتادة وبكير بن الأشج ويحيى بن سعيد الأنصاري وخلق.

قال ابن حجر : فهو -والله- أحد المقتدين به. قال قتادة : ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه. وقال أحمد : مرسلات سعيد صحاح، سمع من عمر . وقال مالك : لم يسمع منه، ولكنه أكد على المساءلة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه. وقال أبو حاتم : هو أثبت التابعين في أبي هريرة . قال أبو نعيم : مات سنة ثلاث وتسعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [107-110] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net