إسلام ويب

يدعي اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فرد الله عليهم بأن الأمر ليس كما تمنوا ولا كما يشتهون، بل من أحسن فله الحسنى، ومن أساء فله الخزي في الدنيا والآخرة. كما ذكر الله تعالى بني إسرائيل بما أمرهم من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يذكرونه ويعرفونه.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة... )

قال الله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80].

قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى إخباراً عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.

قال محمد بن إسحاق بن سيف : عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80].. إلى قوله: خَالِدُونَ [البقرة:81].

ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.

وقال العوفي : عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة .

وقال الضحاك : وقال ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم.

وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80].

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل.

وقال عكرمة : (خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله عز وجل: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] الآية).

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان: قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه ].

فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك.

وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أنهم قالوا: نمكث فيها يسيراً ثم تخلفونا، فهم ادعوا هذه الدعوى، وهذا من باب الأماني، والأماني التي ليس عليها دليل لا يعول عليها وهي باطلة، ولهذا أنكر الله عليهم ذلك، فقال: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80].

فاليهود الذين ماتوا على الكفر خالدون مخلدون فيها نسأل الله العافية، وكل من مات على الكفر فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبد الآباد، وأما دعوى اليهود أنهم يمكثون فيها يسيراً، أو مدة أربعين يوماً، أو مدة سبعة أيام، فكل هذا من الأماني الباطلة التي قال الله في نظيرها لما قالوا: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] فرد الله عليهم: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جاداً في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، ولن ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها لا تنفع الإنسان، وما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.

تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته...)

قال الله تعالى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81-82].

قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، أي: آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124].

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.

وقال الحسن أيضاً والسدي : السيئة الكبيرة من الكبائر. وقال ابن جريج عن مجاهد : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: بقلبه.

وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أحاط به شركه.

وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب.

وعن السدي وأبي رزين نحوه.

وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. والله أعلم ].

المراد بالسيئة في الآية: سيئة الشرك، وهي قوله تعالى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فمن أحاطت به خطيئته فلم يبق له حسنة التوحيد بسيئة الشرك، خلد في النار، وإلا فالسيئة التي دون الشرك تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:

حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها) ].

محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، وتكون في نفسه من الصغائر، فالصغائر تجتمع مع بعضها البعض حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أن قوماً كانوا في البرية وأرادوا أن يطبخوا طعاماً، وليس عندهم حطب، فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء من ذلك، فأججوا ناراً وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات فإنها تجتمع على الإنسان حتى تهلكه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82] أي: من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له ].

الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما يروى عن بعض السلف أن النار تفنى، فهذا محمول عند بعض أهل العلم على نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم إن الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت.

وليس بصحيح ما ينسب إلى شيخ الإسلام وابن القيم أن النار تفنى، وليس أيضاً بصريح، فـابن القيم في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر يخالفه، ويحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله...)

قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83].

قال المصنف رحمه الله: [ يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها؛ وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقال تبارك وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنهما: (قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك، ثم أدناك) ].

أي: بر أمك ثم أباك، وأباك: مفعول لفعل محذوف.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83].

قال الزمخشري : خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل: كان أصله: (ألا تعبدوا إلى الله) كما قرأها من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أُبي وابن مسعود أنهما قرآها: (لا تعبدوا إلا الله).

ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. قال: واختاره الكسائي والفراء ].

وهذا هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل وعلى هذه الأمة؛ وهو توحيد الله والإخلاص له وصرف الدين له، وهذا آكد الحقوق، فكل إنسان كتب عليه هذا العهد والميثاق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يبر والديه، وأن يحسن إلى اليتامى والمساكين، كما قال الله تعالى في آية الحقوق العشرة: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] فأعظمها وآكدها حق الله عز وجل، وقد أخذه الله على الثقلين الجن والإنس، وخلقهم لهذا الأمر العظيم، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

ثم يأتي بعد حق الله عز وجل حق الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، وحقهما آكد الحقوق بعد حق الله عز وجل، ثم الإحسان إلى الأقارب، ثم إلى الأيتام، ثم إلى المساكين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وَالْيَتَامَى [النساء:36] وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36] الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] الآية.

وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.

وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخزاز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق)، وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخزاز ، واسمه صالح بن رستم به ].

وفي لفظ: (ولو أن تلق أخاك بوجه طلق)، وفي لفظ: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فمنطلق أو طلق أو طليق بمعنى واحد، أي: منبسط، والمعنى: يلقى أخاه منبسط الوجه، فهذا من المعروف. وقد جاء في الأثر الآخر: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي الحديث الآخر: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] ].

فالصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، ففيها الإحسان إلى خلق الله، وهما واجبتان؛ لأن الله عينهما ونص عليهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36] فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة ].

فسيئة الكفر هي سيئة الشرك، فالمشرك هو الذي عبد مع الله غيره، والكافر هو الذي جحد توحيد الله وجحد حقه وعبد الشيطان، فالمشرك كافر والكافر مشرك، وإذا كان الشرك أكبر فإنه يخرج من الملة، وكذا النفاق الأكبر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:

قال حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة : أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى يقول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه ].

عبد الله بن يوسف التنيسي ينسب إلى بلدة التنيس بمصر.

أما الحديث السابق فإن صح عنه صلى الله عليه وسلم فهو محمول على أنه لم يبلغه النص في المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).

ورجاله ثقات، إلا حميد بن عقبة ، وأسد بن وداعة صحابي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام. والله أعلم ].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [80-83] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net