إسلام ويب

يستنكر الله سبحانه على من يعصيه ويكفر به ويدعوه إلى النظر في خلق نفسه كيف أن الله أماته ثم يحييه ثم يميته ثم يحييه، ثم يدعوه إلى التفكر في قدرة الله سبحانه في خلق السماوات والأرض، فإذا نظر الإنسان في الآيات الدالة على قدرة الله في الآفاق والأنفس دعاه ذلك إلى أن يخاف من ربه ولا يعصيه ويعبده ولا يشرك به.

تفسير قول الله تعالى: (كيف تكفرون بالله وقد كنتم أمواتاً فأحياكم... )

قال الله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].

قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] أي: كيف تجحدون وجوده، أو تعبدون معه غيره، وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]أي: وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:36]وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، والآيات في هذا كثيرة.

وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11] قال: هي التي في البقرة: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28]، وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله تعالى: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11] قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ].

وقوله: (مَيتة) بفتح الميم، أما مِيتة بالكسر فتكون للهيئة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه مَيتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] ].

قوله: هذه حياة الأحسن فيها: هذه إحياءة، والمعنى متقارب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك.

وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم. وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11]، وهذا غريب والذي قبله ].

القول بأنه أماتهم في القبر ثم أحياهم، أو أنه أماتهم بعد أن أخرجهم من ظهر آدم، ثم أحياهم: هذان القولان غريبان، والصواب القول الأول، وهو أن المراد: كانوا عدماً حينما كانوا تراباً، وذلك أنهم كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله بأن نفخ فيهم الروح في بطون أمهاتهم، ثم يميتهم الميتة التي كتبها الله على كل إنسان بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ثم يحييهم يوم القيامة فهذه ميتتان وحياتان:

الميتة الأولى: حينما كان الناس عدماً، أي: كانوا تراباً، ويدخل في هذا كونهم أمواتاً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، هذه الميتة الأولى، ثم أحياهم حينما أرسل الله الملك إلى كل جنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح وهذه الحياة الأولى، وتستمر إلى وفاته، وهذه هي الموتة التي كتب الله عليه وهي الموتة الثانية، ثم يحيون يوم القيامة، فهذه ميتتان وحياتان، وهذا القول هو الصواب، وهو المراد من قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11].

أما القول بأن الله أحياهم في عالم الزرع، ثم أماتهم ثم أحياهم في أرحام أمهاتهم، أو القول بأنه أحياهم في القبر فهذا قول ضعيف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا غريب والذي قبله، والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية:26] الآية، كما قال تعالى في الأصنام: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21] الآية.

أي: أن الأرض كانت ميتة ثم أحياها الله، فالأرض ميتة والأصنام كذلك أموات.

اختلاف أهل العلم في قول الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..)

هذه الآية فيها قولان مشهوران، أطال فيها الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقلهما شارح الطحاوية:

القول الأول: أن الله أخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، وأنطقهم فشهدوا ثم أعادهم، ولكن كل إنسان لا يذكر ذلك إلا إذا جاءت الرسل وذكرته بذلك، والحجة إنما تقوم عليهم بالرسل، وهذا يدل عليه أحاديث كثيرة بعضها فيه ضعف، وقد سردها شارح الطحاوية، وفيها: أن الله استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأنطقهم وأشهدهم فشهدوا ثم أعادهم، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: لو كان لك مثل الأرض أكنت مفتدياً؟ قال: نعم. فيقول: قد أخذت عليك في ظهر آدم أدنى من ذلك: ألا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك به شيئاً) وهذا من أقوى الأدلة، ومنها حديث رواه الإمام أحمد في مسنده: (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم، وقال: هذه ذريتك، فرأى فيهم رجلاً له نور، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك يقال: إنه داود، فقال: يا رب كم عمره؟ قال: ستون، قال: يا رب أعطه من عمري أربعين، فأعطاه أربعين، فلما تمت المدة جاء ملك الموت إلى آدم فقال: أما بقي من عمري أربعين، قال: إنك أعطيتها ابنك داود، فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته).

وهناك أدلة كثيرة في هذا.

والقول الثاني: أن الإخراج معنوي، وأن المراد ما ركزه الله في عقول بني آدم من معرفتهم لربهم، وأن كل من بلغ ورأى هذه المخلوقات العظيمة وهذه الآيات استدل بها على قدرة الله ووحدانيته، وقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] قال: المراد: من.. كل واحد عندما يخرج من بطن أمه ويبلغ. ورجح بعض أهل العلم هذا القول، وقالوا: إن الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172] قال فيها: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره (وأشهدهم).

وعلى كل حال فالأحاديث في ذلك كثيرة، ويمكن الجمع بين ذلك بأن الله تعالى استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأن الله أيضاً ركز في عقول كل بني آدم معرفته والإقرار به سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صريحة في هذا.

فالقول الثاني: قالوا: إنه أرجح، ولكن أصحاب القول الأول هابوا مخالفة الأحاديث لكثرتها.

وظاهر الأدلة: أن الاستخراج حسي، ولا يمنع هذا من أن كل من بلغ عرف ربه، وكل من ميز وجعل الله فيه فهماً وعقلاً فأنه يستدل بالآيات والمخلوقات العظيمة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

تفسير قول الله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً...)

قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]

قال المصنف رحمه الله: [ لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض ].

مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الآية الأولى ذكر الله فيها دليلاً من أنفسهم، يقول تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28] فكل واحد يرى هذا من نفسه، بعد ذلك ذكر سبحانه دليلاً آخراً مما يشاهدونه في الآثار وفي السموات والأرض فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ [البقرة:29] وهذا فيه دليل على قوة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، فأنت تشاهد نفسك الآن فقد كنت ميتاً فأحياك الله ثم يميتك ثم يحييك يوم القيامة.

إذاً: فالدليل الثاني على وحدانية الله هو الآية الأفقية: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29].

بيان معنى الاستواء في الآية وكيفية خلق السماوات والأرض

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ(إلى) فَسَوَّاهُنَّ [البقرة:29] أي: فخلق السماء سبعاً، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] ].

أي: لا منافاة فالاستواء معناه: العلو والارتفاع وهو مضمن معنى القصد، والمعنى: أنه سبحانه علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض، بخلاف الاستواء الذي عدي بـ(على) فإن معناه: العلو والارتفاع والاعتدال، كقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:13] ومعنى استوى على العرش: أي: علا وارتفع وصعد واستقر، والاستواء يليق بجلاله عز وجل وجل وعظمته، ومعناه: العلو والارتفاع، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29] عديت بـ(إلى) فصارت مضمنة معنى القصد، فيكون معنى استوى: علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14] وتفصيل هذه الآية في سورة (حم) السجدة، وهو قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:9-12] ].

وهذه السورة لها اسمان: تسمى: السجدة، وتسمى: فصلت.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً، ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء: أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ].

فالله سبحانه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله.

فأما قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33] فقد قيل: إن (ثم) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

إن الدحي كان بعد خلق الأرض، قال تعالى: أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:27-30] أي: بعد خلق الأرض، فخلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فالدحي كان بعد خلق السموات والأرض. وقول ابن كثير : إن (ثم) هاهنا إنما هي للعطف، المقصود بها: (ثم) التي في سورة البقرة في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، أما الآية التي في سورة النازعات فليس فيها (ثم)، وكذلك آية فصلت فهي واضحة صريحة في أن خلق الأرض كان أولاً: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت:9-11]، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] و(ثم): للترتيب والتراخي، وليس في هذه الآية إشكال.

هذا الاستواء كان بعد خلق الأرض، والأشكال الوارد هنا: هو أن خلق الأرض كان أولاً، ثم بعد ذلك خلق السماء، ولكن آية النازعات ظاهرها أن السماء خلقت أولاً، ثم خلقت الأرض فلهذا أجاب ابن كثير رحمه الله عن هذا الإشكال، أما الآية التي في سورة البقرة فلا يوجد فيها إشكال، بل الإشكال في آية النازعات،وقوله تعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30] أي: بعد خلق السماء.

إذاً: فمفهوم الآية: أن الأرض خلقت أولاً، ثم خلقت السماء، ثم دحا الله الأرض، فالدحي هو الذي تأخر، وقد تقدم خلق الأرض قبل خلق السماء، ولذلك قال: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30]، والدحي فسره بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:31-32] فالدحي: إخراج الماء والنبات.

وقوله تعالى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10]، بينته آية النازعات.

والمقصود بقوله: عطف الخبر على الخبر أي: ليس المراد به الترتيب، وهذا ليس له محمل إلا أن يقال: إما إنه وهم من الحافظ رحمه الله، أو يقال: إنه أراد آية فصلت وأن مراده عطف الخبر على الخبر في قوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا [فصلت:9] ثم قال: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا [فصلت:10] وقوله: (وجعل) الواو فيها للعطف، إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت:11] أي: أن (ثم) للعطف، حيث عطف خلق السماء على قوله: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10]؛ لأنه ذكر خلق الأرض، ثم ذكر الدحي بالواو، ثم ذكر خلق السماء بـ(ثم)، والترتيب هو:أنه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم الدحي، والجواب عن هذه الآيات التي في سورة فصلت: هو قوله: إن (ثم) للعطف، من عطف الخبر على الخبر ليس من عطف الفعل على الفعل، وليس المراد منها ترتيب الأفعال، أي: أنه أخبر أولاً عن خلق الأرض، ثم أخبر ثانياً عن دحي الأرض، ثم أخبر ثالثاً عن خلق السماء، فهو مجرد عطف خبر على خبر وليس فعل على فعل، بدليل آية النازعات فإن فيها الترتيب، وهو أن الدحي كان بعد خلق السماء، ولهذا قال: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30]، فيمكن أن يحمل على هذا، وإن كان الظاهر أن مراده آيات النازعات، ولكن ليس فيها ثم، والواو في: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30] ليست بمعنى ثم، بل هي بعدية وصريحة في أنها بمعنى (بعد)، (والأرض بعد ذلك) يعني: بعد خلق السماء، فالإشارة إلى خلق السماء.

أما قول الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوهثم قد ساد قبل ذلك جده.

ففيه بيان أن سيادة الأب والجد قبل الابن، ومع ذلك عطف سيادة الأب على سيادة الابن، وعطف سيادة الجد على سيادة الأب، فالسابق هو الجد، ثم يليه الأب، ثم يليه الابن، لكن الشاعر أتى بسيادة الابن، ثم سيادة الأب، ثم سيادة الجد، وأتى بـ(ثم) التي تدل على الترتيب والتراخي، ولكن لا يمكن أن تكون سيادة الأب بعد الابن، فدل على أن المراد بـ(ثم) مجرد عطف الخبر على الخبر وليس عطف الفعل على الفعل.

فكذلك هاهنا في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت:11] ليس المراد بها الترتيب، وإنما المراد بها مجرد عطف خبر على خبر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقيل: إن الدحي كان قبل خلق السموات والأرض، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ [القلم:1] ].

أي: أن الحوت اسمه النون المذكور في قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ].

أي: في قوله: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]؛ وهذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض، وهذا كله من أخبار بني إسرائيل ولا يعول عليه، والنون: ليس المراد به الحوت هنا في قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] بل هو من الحروف المقطعة، وكذلك الصخرة التي ذكرها الله عن لقمان ، وكون الأرض على حوت، وكون الحوت كذا، وكونه على صخرة، فكل هذا من أخبار من بني إسرائيل ولا يعول عليها، ولا يثبت هذا إلا بدليل عن المعصوم عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فتحرك الحوت فاضطرب وتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء:31]، وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا [فصلت:9-10] يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10] لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10] يقول: من سأل فهكذا الأمر. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض. وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12]قال: خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ].

وقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2] ظاهره بعمد ترونها، وهذا من قدرة الله، ولا شك أن الله تعالى حكيم عليم، وهو قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، فمن حكمته أنه بدأ بالأرض؛ لأن البناء إنما يبدأ به في الأرض، ولهذا استفاد بنو آدم من هذا، فأنت حينما تبني البيت تبدأ من القواعد ثم بعد ذلك السقف، فلا يمكن أن يكون السقف بدون قواعد، بل لا بد أن يبنى الأسفل ثم الأعلى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد ومما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظاً تحفظ من الشياطين.

فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ].

عبد الله بن السلام ، صحابي جليل رضي الله عنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

وقال مجاهد في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29].

قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني بعضهن تحت بعض.

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9] ].

هذا تأكيد لما سبق من أن الأرض خلقت أولاً كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29].

وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ [فصلت:11].

تقدم خلق الأرض على خلق السماء

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:9-12].

فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ].

وهذا إجماع من أهل العلم على أن الله تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، وأما ما روي عن قتادة بشأن أن السماء خلقت أولاً فلا يعول عليه، وهذا كالإجماع من أهل العلم، وهو صريح الآية، حيث إن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ذلك.

دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:27-32].

قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض.

وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ].

ما سرده القرطبي له وجه؛ لأنه أشكل عليه أن الله تعالى ذكر خلق السماء في آية النازعات قبل الأرض.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد حررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:30-32]، ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل) ].

فعلى هذا تكون الأيام السبعة كلها في خلق الأرض، وهذا حديث باطل، وإن رواه الإمام مسلم فهو من وهم الرواة، وهو أيضاً من كلام كعب الأحبار ، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ وهم أيوب بن خالد فرفعه، وأما أبو هريرة فرواه عن كعب ، وكعب يأخذ عن بني إسرائيل، وهذا مناقض للآيات، فيوم السبت ليس فيه خلق، وإنما خلقت المخلوقات يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، بنص القرآن كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق:38]، أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم قال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، وقال في سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة:4]، فالخلق في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، والله قادر على خلقها في الأحد، فهو حكيم سبحانه وتعالى، والمراد بالأيام في الآية: الأيام هذه على الصحيح، خلافاً لقول بعض أهل العلم أنها الأيام التي عند الله، كألف سنة مما تعدون؛ لأن الله خاطبنا بما نعلم.

سبق أن الحافظ رحمه الله ذكر في أول التفسير أن أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بإبطاله فهو باطل ومنه هذا. والثاني: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا ثابت، والثالث: ما سكت عنه شرعنا، وهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب.

والمقصود أن هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم ، فهو وهم من أيوب بن خالد ، إذ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله، كما ذكر ذلك المحققون والأئمة كـالبخاري وعلي بن المديني والحافظ ابن كثير وغيرهم من المحققين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي ].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [28-29] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net