إسلام ويب

إن من أعظم السنن المؤكدة والتي كان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يحرص عليها: الاعتكاف، ويحرص المسلم فيه خصوصاً على عكوف القلب والجوارح على طاعة الله جل في علاه، وللاعتكاف أحكام وآداب ينبغي على كل من أراد فعل هذه السنة العظيمة أن يتعلمها ليعمل بها.

تعريف الاعتكاف وحكمه

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

الاعتكاف: هو اللبث والحبس والملازمة لبيت الله سبحانه وتعالى، يقول الإمام الشافعي الاعتكاف معناه: لزوم المرء شيئاً وحبس نفسه عليه براً كان أو إثماً.

فهذا معناه اللغوي، فالإنسان إذا حبس نفسه على عمل معين والتزمه فهذا اسمه اعتكاف، عكف على كذا، أي التزمه.

ومنه قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] أي: ملازمون لعبادتها، وحابسون أنفسكم عن غيرها.

قال تعالى: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [الأعراف:138] أي: ملازمون على عباده الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، إذا انعكف على الشيء، بمعنى: التزم الشيء وحبس نفسه عليه.

وسمي الاعتكاف اعتكافاً؛ لأنك تحبس نفسك في بيت الله عز وجل، وتلازم بيت الله سبحانه للعبادة في وقت معين من السنة، أو في وقت معين من شهر رمضان.

ويسمى الاعتكاف: اعتكافاً وجواراً، فيصح أن يقال: معتكف أو مجاور لبيت الله.

وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور في المسجد وأنا حائض فأرجله) أي: تغسل وتسرح شعره عليه الصلاة والسلام وهي حائض، وهذا فيه: بيان جواز أن تمس المرأة الحائض زوجها حتى وإن كان معتكفاً، فيجوز لها أن ترجل شعره، وقد كانت غرفة النبي صلى الله عليه وسلم بابها إلى مسجده صلى الله عليه وسلم، فكان يقف على باب غرفته صلى الله عليه وسلم ويدني رأسه فتغسل له رأسه، وترجل شعره صلوات الله وسلامه عليه.

ولعل في تسمية الاعتكاف مجاورة أنه: مجاورة لبيت الله سبحانه، وفيه معنى الجوار وهو الحماية، فأنت في بيت الله سبحانه وتعالى تنتظر فضل الله عليك سبحانه، وفي حمايته ملازم لبيته سبحانه وتعالى، فالذي يجاور يرجو من الله الحماية والرعاية والعناية والنصر والتأييد والفضل والكرم.

المعنى الشرعي للاعتكاف: هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص، بنية مخصوصة، واللبث: هو المكث في المسجد، من شخص مخصوص: وهو المسلم البالغ العاقل أو المميز، وإذا كانت مسلمة فتكون طاهرة من الحيض ومن النفاس.

فهو الإنسان الطاهر الذي يلازم المسجد، وأما الجنب فلا يجوز أن يمكث في المسجد، وعليه أن يغتسل ثم يأتي إلى بيت الله سبحانه.

والاعتكاف سنة، ولا يجب إلا بالنذر، فإذا نذر المسلم أن يعتكف وجب عليه، وأما إذا لم يوجد نذر فهو سنة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فالذي ينذر نذراً فيه طاعة لله فليفعل.

ويستحب الإكثار من الاعتكاف، وليس في رمضان فقط بل يستحب في أي وقت من السنة، ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان، فقد كان يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما يتيسر له، فكان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، والغرض من الاعتكاف الحرص على ألا تفوته ليلة القدر.

جاء في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية، والقضاعي في مسند الشهاب عن أبي عثمان قال: كتب سلمان إلى أبي الدرداء : يا أخي! عليك بالمسجد فالزمه فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسجد بيت كل تقي) أي: أن لزوم المسجد دليل على تقوى العبد، فالذي يلازم بيت الله سبحانه سواء في اعتكاف أو في غير اعتكاف، ويكثر من تواجده في بيت الله سبحانه، فيجلس ما بين الصلاة إلى الصلاة، ويحرص على حضور حلقات العلم، ويحضر مع الناس صلوات الجماعة والنافلة من تراويح ونحوها، فهذا من ضمن الأشياء التي يلتزم بها المسلم ليكون ملازماً لبيت الله.

تأكد سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

جاء في لفظ لحديث عائشة في البخاري قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)، فيجوز الاعتكاف للرجال وللنساء.

وقال في حديث عند أحمد : (التمسوها في العشر الأواخر) يعني: ليلة القدر.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام) أي: يراجع القرآن كله من ساعة ما بعث إلى موته، فكل سنة في رمضان يراجع القرآن، ولهذا قلنا: إنه يستحب أن يختم القرآن مرة في صلاة التراويح في رمضان، ويستحب للمسلم أن يختم القرآن أكثر من مرة في رمضان بحسب قدرته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كل ليلة فيعارضه القرآن، والعرض: هو قراءة التلميذ على الشيخ، فيقرأ التلميذ والشيخ يسمع، فيصحح للتلميذ، والعكس فالشيخ يقرأ ليصحح للتلميذ فكان جبريل يعارض مع النبي صلى الله عليه وسلم، في كل سنة في رمضان إلى آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه القرآن مرتين في العام الذي قبض فيه.

وقرأ جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كله على هذا الترتيب الحالي الذي بين أيدينا، فأتم الله عز وجل نوره، ولا يمنع ذلك أنه نزل بعد ذلك آيات كقوله تعالى:: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، فكان يقول له: ضعها في المكان الفلاني.

وفي العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يوماً، وكان كل سنة يعتكف عشرة أيام.

استحباب قضاء الاعتكاف لمن فاته

يستحب لمن فاته الاعتكاف أن يقضيه، فإذا فاته في رمضان يستحب أن يقضيه في شوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة رضي الله عنها فأذن لها)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنسائه أنه سيعتكف في الأيام الآتية من رمضان وهي العشر الأواخر، فاستأذنت عائشة رضي الله عنها أن تعتكف هي أيضاً فأذن لها، (وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبني لها من غير إذن) والبناء: هي خيمة ينصبها المعتكف ليختلي بنفسه. وكأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقن إلى الطاعة والخير، وإلى حب النبي صلى الله عليه وسلم والقرب من النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فكان إذا صلى بالناس صلاة ذهب إلى خيمته في المسجد، وكان يحجز له مكاناً ليصلي فيها في الليل صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي الليل كله، ثم يصلي بالناس الفجر، ثم ينصرف إلى مكانه، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم إلى خبائه وجد عدداً من الأخبيه، فسأل عن أصحابها فقالوا: هذا بناء عائشة ، وحفصة ، وزينب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آلبر أردن؟ ما أنا بمعتكف).

فلم يعتكف في هذا فرجع صلوات الله وسلامه عليه فأمر في بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، ثم اعتكف في العشر الأول من شوال، فعوض وقضى ذلك، وقد فعل ذلك لأنه خشي أن تتغير النية من اعتكاف زوجاته، وعلم بذلك أزواجه أمهات المؤمنين أن الأصل في الأمر العبادة.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبية كلها فقوضت ولم يعتكف في رمضان، وعوض ذلك في العشر الأول من شوال، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العيد ولم يصمه، وهذا فيه دلالة أن الاعتكاف في المسجد في غير رمضان لا يشترط فيه الصيام.

فإذا كان الإنسان مريضاً في رمضان وهو معتكف وأراد أن يكمل اعتكافه، وأفطر في رمضان بسبب مرضه وهو معتكف، فيجوز له أن يواصل الاعتكاف، فلا تعلق للاعتكاف بكونه صائماً أو مفطراً.

وقت الاعتكاف

ومن أراد تمام الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فعليه أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة أحدى وعشرين، ويبدأ الاعتكاف من أول العشر الآخرة، سواء كان رمضان تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، فهي تسمى العشر الأواخر.

ولو فرضنا أنه تيسر للمعتكف الدخول ليلة أحدى وعشرين فدخل ليلة اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين، فلا يلزمه شيء وليس عليه شيء؛ فالاعتكاف كله سنة.

والراجح من أقوال أهل العلم وهو قول الجمهور: أنه يجوز أن يعتكف الإنسان ساعة فإذا أتيت إلى المسجد بين الظهر والعصر بنية الاعتكاف فلك أجر الاعتكاف، وهذا الصحيح لعدم وجود الدليل على المنع، أو إبطال الاعتكاف في أقل من يوم أو ليلة.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصح ذلك، ودليلهم وإن كان ليس نصاً في المسألة وليس ظاهراً فيها، لكن لعل فيه إشارة إلى ذلك، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام وكان ذلك نذراً عليه، له: (أوفِ بنذرك)، فاعتكف ليلة وما جاء أقل من ذلك، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منع من اعتكف أقل من ذلك.

فالاعتكاف يرجع للمعنى اللغوي وهو: اللبث والمكث في المسجد، فمن مكث في المسجد ولو وقتاً يسيراً بنية الاعتكاف فله الاعتكاف.

وأما كمال الاعتكاف فهو أن تعتكف العشر الأواخر من رمضان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما يتيسر ذلك، وأما إذا لم يتيسر لك ذلك بسبب ظروف خارجة عن إرادتك، وكانت نيتك أن تعتكف، فلك أجر النية ولا شيء عليك.

وقد يكون بسبب أن المسجد لا يكفي الجميع إذا أراد عدد كبير من الناس الاعتكاف، فقد لا يسمح القائمون على المسجد لك بالاعتكاف؛ لأنهم لا يقدرون على خدمة عدد كبير من الناس مثلاً، فليس عليك شيء وأنت مأجور على نيتك.

وفي هذه الأيام تحصل ضجة كبيرة جداً من إخواننا بسبب رغبة الكثير منهم في الاعتكاف في المسجد، رغم أن المسجد لا يمكن أن يستوعب، أعدادهم كبيرة ويمكن لمن أراد الاعتكاف أن يعتكف اعتكافاً مشروطاً، فيشترط أن يكون الأكل والشرب والنوم في بيته، ويأتي بقية يومه ليقضيه في المسجد، فهذا جائز، ويجدد نية الاعتكاف كلما أراد العودة إلى المسجد.

ويقول العلماء: يخرج المعتكف من الاعتكاف بعد غروب الشمس ليلة العيد، وإن كان الكثير من العلماء يستحبون أن يبيت ليلة الفطر في المسجد، لكنه لو خرج ليلة العيد فلا شيء عليه.

شروط الاعتكاف

لكي يصح الاعتكاف لا بد أن يكون المعتكف مسلماً، فلا يصح أن يعتكف كافر. وأن يكون عاقلاً، وهذا شرط لوجود أي إنسان في المسجد أن يكون عاقلاً، فلا نأتي بالمجانين من الطرق يصلوا في المسجد، وكذلك السكارى والذين يتعاطون المخدرات، قال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، فالذي يأتي المسجد لا بد أن يكون عاقلاً يعي ما يقول وما يفعل، لكي يصلي صلاة صحيحة تقبل منه.

فلا يعقل أن آتي بإنسان ذاهب العقل بسكر أو جنون ثم أقول له ادخل المسجد لتصلي.

ومن شروط الاعتكاف النقاء من الحدث الأكبر سواء كان الجنابة أو الحيض أو النفاس، فلا يصح اعتكاف الحائض ولا النفساء ولا الجنب.

بعض أحكام الاعتكاف

يصح اعتكاف الصغير المميز والمرأة، فلو أن صبياً مميزاً أراد الاعتكاف جاز أن يعتكف وإن كانت بعض المساجد تمنع ذلك؛ بسبب الأعداد الكبيرة التي تريد الاعتكاف من الكبار، وخوفاً عليهم من الفتن في المساجد، فالذي يعتكف في المسجد ويبيت في المسجد هم الرجال الكبار.

ويحرم على المرأة المتزوجة الاعتكاف بغير إذن الزوج، فلو أن مسجداً فيه مكان للنساء يعتكفن فيه وأرادت امرأة أن تعتكف فمنعها زوجها، فلا يجوز لها أن تعتكف، فلا بد من إذن الزوج.

ولو أنها نذرت أن تعتكف فينظر هل هذا النذر كان بإذن الزوج أم بغير إذن الزوج؟ فإذا لم تكن استأذنت منه فله أن يمنعها؛ لأن حقه عليها أن تكون في البيت.

لكن إذا نذرت بإذن الزوج فيلزمه أن يسمح لها إذا كان اعتكافاً في وقت معين، أو مكان معين.

الاعتكاف يكون في المساجد قال تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، واللام في كلمة (المساجد) للجنس، أي: كل المساجد، أو للعهد، أي: المساجد المعهودة لصلاة الجماعة، أو مساجد الجمعة، فهي لمساجد التي تصح فيه صلاة الجماعة وليس مسجد البيت، فلو أن إنساناً عمل غرفة داخل بيته وقال: هذا هو المسجد الذي أصلي فيه، فيسمى مسجداً ولكن ليس هو الذي يصح فيه الاعتكاف، بل لا بد أن يكون المسجد المعروف أو المعهود شرعاً.

فالاعتكاف يكون في أي مسجد من المساجد طالما أنها تصلى فيه جماعة، فيصح الاعتكاف في كل مسجد جماعة، وهذا الصواب من أقوال أهل العلم، وإن ذهب البعض وهم ندرة قليلة جداً إلى أنه لا بد أن يكون الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط.

فهذا رأى بعض أهل العلم من الصحابة مثل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ولكن جماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم على خلاف ذلك.

فقد جاء عن حذيفة أنه أنكر على الناس في العراق أن يعتكفوا ما بين دار ابن مسعود وبين داره، فقال لـابن مسعود: ألا تعجب لأناس عاكفون ما بين دارك وبين كذا، وقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؟ فقال في رواية: لقد علمت، أو أنه قال: وعلمي ذلك، أو أنه رفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى، وكل هذا بنفس الإسناد، فكأن الراوي شكك في هذا.

وإذا جاء بعض أهل العلم وصحح هذه الرواية فلا يلزمنا التصحيح في ذلك؛ لأن القرآن يخبر وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

فالتخصيص يحتاج إلى دليل قوي، وليس دليلاً ظاهره الاحتمال، بل لا بد أن يكون دليلاً قوياً في ذلك، ولذلك لما قال حذيفة ذلك لـابن مسعود ، قال ابن مسعود يرد عليه: لعلهم أصابوا وأخطأت. يعني: لعلك أنت الذي نسيت أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة له فضيلة على بقية المساجد، وعلى فرض تصحيح الحديث، فيؤول الحديث على أنه يرجى فيها الفضل العظيم فتشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).

فإذا نظرنا إلى من قال ذلك سنجد حذيفة من الصحابة، فقد حكى أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة فقط: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وبيت المقدس.

وقال الزهري ، والحكم ، وحماد : إن الاعتكاف لا يصح إلا في الجامع، وكأنهم يفرقون بين المسجد الذي تصلي فيه الجمعة والذي لا تصلي فيه، فقالوا: لا يصح إلا في المسجد الذي يصلى فيه جمعة وجماعة.

وقال أبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور يصح في كل مسجد تصلى فيه الصلوات كلها، وهذا قول جمهور العلماء.

وقال عطاء : لا يصح إلا في مسجد مكة والمدينة فقط، المسجد الحرام ومسجد المدينة.

و سعيد بن المسيب يقول: لا يصح إلا في مسجد المدينة فقط، وستجد أقوالاً قالها الواحد أو الاثنان، وأما جماهير الأمة فقالوا: الآية تفيد أن الاعتكاف يصح في كل المساجد، ولا يوجد دليل على التخصيص، والدليل الذي توهمه بعض أهل العلم فليس نصاً في المسألة، بل إن الحديث جاء في روايتين مختلفتين، وقد أنكر عليه ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال العلماء وبفرض صحته فيكون معناه: لا اعتكاف أجمل ولا أكمل ولا أتم من أن يكون في المساجد الثلاثة، أما في غيرها من المساجد فالاعتكاف فيها جائز في أي مسجد من المساجد.

وأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، وبعده المسجد النبوي، وبعده بيت المقدس، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، ولذلك كان الاعتكاف فيه أفضل؛ لأن الاعتكاف تكثر فيه الصلاة، والصلاة في المسجد الحرام فضلها وأجرها كبير كما سبق، وأنت على صلاة ما دمت على وضوء ولو لم تصلِ.

والأفضل هو الاعتكاف في مسجد تصلى فيه الجمعة؛ لكي لا يضطر للخروج يوم الجمعة والصلاة في مسجد آخر، فالأفضل ألا يخرج من المعتكف، فيصلي في المسجد الذي تصلى فيه الجمعة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى).

وأما قوله: لا اعتكاف إلا مسجد جامع، فهذا ليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها في ذلك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - الاعتكاف وأحكامه [1] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net