إسلام ويب

لقد أمر الإسلام ولاة الأمور بالرفق بالناس، والسهر على مصالحهم، وقضاء حوائجهم، لأنهم قد تولوا أمور المسلمين، فهم رعاة ومسئولون عن رعيتهم يوم القيامة، وكل من يتولى أمراً يجب عليه أن يؤديه كما أمر الله عز وجل.

أمر ولاة الأمور بالرفق بالرعية وقضاء حوائجهم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم، والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم.

قال الله تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته) متفق عليه ].

يقول الإمام النووي رحمه الله: (باب أمر ولاة الأمور بالرفق) أي: من يتولى أمور المسلمين من حكام ونحوهم يؤمرون بالرفق بالرعية، وبالنصح والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، أي: أن ينهوا عن أن يشددوا على الناس، وعن أن يغشوا الناس ويهملوا مصالحهم، أي: ينهون عن أن يهملوا مصالح الناس، وأن يغفلوا عنهم وعن حوائجهم.

ذكر قول الله سبحانه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو! فهو بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ومع ذلك يأمره سبحانه حتى يقتدي به من يأتون من بعده، فهو يحكم المسلمين بشرع رب العالمين فيأمره سبحانه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

وخفض الجناح يعني: اللين والتواضع، وأن يكون فيك حنان على المؤمنين ومودة ورحمة بهم، تضمهم إليك كما يضم الطائر أفراخه إليه.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.

كذلك كل إنسان يتولى أمراً من أمور المؤمنين كأن يكون عليهم حاكماً أو عريفاً، أو يكون على بعضهم أميراً فعليه أن يرفق بهم، وأن يكون رحيماً بهم، وأن يعلمهم وينصحهم ولا يهمل مصالحهم.

قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

فالله يأمر عباده بالعدل بين أهليهم وبين أقاربهم وبين الناس، وما ولوا من ذلك شيئاً يأمرهم ربهم سبحانه وتعالى بالعدل، والعدل: أن تعطي كل إنسان حقه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.

والإحسان: أن تزيد رحمة وحناناً من عندك وأن تعطي من فضل ما عندك فتحسن إلى الناس، كما أن الله يأمر بإعطاء ذي القربى، والأقربون أولى بالمعروف، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وابدأ بمن يليك).

قال تعالى: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90] أي: الفحش في القول، والفحش في الفعل، فالله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه موعظة من الله سبحانه وتعالى، (يعظكم) أي: ينصحكم ربكم سبحانه، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] أي: لعلكم تتذكرون مواعظ الله سبحانه فتعملون بمقتضاها.

من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) يعني: كل مؤمن هو راع فيما ولاه الله عز وجل عليهم سواء كان رجلاً أو امرأة، فإذا كنت ترعى شيئاً فقد جعلك الله عز وجل قائماً عليه، فأنت مسئول عنه أمام الله سبحانه، ثم فصل بعدما عمم، فقوله: (كلكم) من صيغ العموم، ثم خصص ونص صلى الله عليه وسلم على بعض أفراد هذا العام، قال: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) الإمام هنا بمعنى: الحاكم، و(مسئول): بحيث يأتي يوم القيامة ويسأل: ما الذي فعلت مع الرعية؟ فبدأ بالقائد بالإمام.

مسئولية الراعي عن رعيته

قال: (والرجل راع في أهله) أي: أنت راع في أهل بيتك وسوف تسأل يوم القيامة عن أهل بيتك ما الذي صنعته معهم؟ هل عدلت فيهم؟ هل أعطيتهم حقوقهم؟ هل علمتهم دين رب العالمين؟ هل أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر؟ هل قمت فيهم بحقوق الله سبحانه وتعالى؟ هل صبرت عليهم وعلى أذاهم؟ هل وعظتهم؟ فالرجل راع في أهله أي: راع لأمر أهله كالراعي مع غنمه، كذلك هذا مع أهل بيته يراعيهم ويتألفهم وينصحهم ويخاف عليهم من النار، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فالله عز وجل يأمر كل إنسان مؤمن أن يراعي ذلك، وأن يقي نفسه ويقي أهله وولده ناراً وقودها الناس والحجارة.

فالإنسان في الدنيا إذا علم أن ابنه سيذهب لمكان ما ولن تحبس له حاجته وسيمر آمناً اطمأن لذلك، فإن خاف عليه أخذه في يده حتى لا يؤذى في هذا المكان، فكيف بنار جهنم؟

قال الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فتقي نفسك وتقي أهلك، وتقي ولدك، تقيهم نار جهنم يوم القيامة بالموعظة، وبالمراعاة لأحوالهم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته) فأنت مسئول عن أهل بيتك، ويوم القيامة سوف يسألك الله عز وجل ما الذي صنعت معهم، هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ هل وعظتهم؟ هل علمتهم؟ هل نصحتهم بدين رب العالمين سبحانه؟ هل أخذت بأيديهم إلى الخير؟ هل أخذت على أيديهم فمنعتهم من الشر؟ ما الذي صنعته؟ فأنت مسئول يوم القيامة، والسؤال طويل بعدد سنين عمرك، بعدد أيامك، وبعدد ساعاتك وثوانيك.

يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (والمرأة راعية في بيت زوجها) فليس الرجل وحده مسئولاً، بل المرأة في بيتها راعية ومسئولة عن رعيتها، ترعى أهل بيتها وتراعي أحوالهم، ومسئولة عن نفسها، هل حفظت نفسها؟ هل حصنت نفسها؟ هل منعت نفسها عن الخلق إلا عن زوجها؟ هل قامت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فهنا طاعة الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي زوجها هل حافظت على مال زوجها أم أنها ضيعت مال زوجها؟ تأتي بعض الأسئلة من بعض النساء أنها تأخذ المال من وراء الزوج فهل هو حلال أو حرام؟ إذا كان الزوج ينفق بالمعروف مما أعطاه الله عز وجل فلا يحل للمرأة أن تأخذ من وراء زوجها شيئاً إلا بعلمه، فهذا لا يجوز لها طالما أن الزوج يعطيها طعامها وشرابها، وكسوتها ونفقتها هي وأهل البيت، وعلى ذلك ليس من حقها أن تأخذ، والبعض يحتج بقصة امرأة أبي سفيان عندما جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأباح لها أن تأخذ من مال أبي سفيان ، وينسون أنها قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني)، فشكت له شح أبي سفيان وقالت: (إني آخذ من ماله بغير علمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) يعني: من طعام وشراب فقط، ليس من أجل أنها تدخر وتجمع وتنفق على الناس فليس لها ذلك.

فعلى ذلك المرأة راعية تصون مال الزوج، وتنصح الزوج بعدم الإسراف والتبذير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بحيث إنها تحافظ على بيتها، فالله سوف يسألها عن ذلك، عن القليل الذي أخذته، وعن الكثير الذي أنفقته، عما فعلت بهذا المال وعما فعلت مع أولادها، فلعلها أمام الزوج تظهر الرحمة والحنان بالأولاد، ومن ورائه على عكس ذلك، ولعلها أمامه تظهر التقوى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولعلها من ورائه تعينهم على المنكر، وتتساهل في أشياء تغضب الله عز وجل بها، فالمرأة راعية في بيتها لا بد أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي ولدها، وكم من امرأة تظهر التحشم أمام زوجها، فإذا خرج زوجها وقفت أمام النافذة تبدي شعرها وتبدي زينتها للأجانب، وهذا لا يحل لها، فالمرأة مسئولة يوم القيامة عما تصنع في بيت زوجها وعما تصنعه في مالها وفي نفسها، فهي مسئولة عن ذلك كله.

قال صلى الله عليه وسلم: (والخادم) أي: إنسان يأتي إليك لخدمتك، أو عبد كان عندهم في بيتهم يطعمونه ويسقونه ويملكونه، فالخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، والخادم سواء كان أجيراً خاصاً أو أجيراً مشتركاً مسئول عن مال سيده وراع في مال سيده، ويوم القيامة يسأله الله عن ذلك، فلا بد من النصح، وكم من إنسان يعمل عند إنسان ويجده مسرفاً في أشياء، مبذراً فيها أو مضيعاً، فيقول: أنا سآخذ أجرتي ولا شأن لي، فإنه مسئول يوم القيامة عن ذلك، سيسأله الله: لماذا لم تعظ؟ لماذا لم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ وإذا وجدت من يسرق فانهه عن المنكر الذي هو فيه، وأخبر صاحب المكان أن فلاناً يسرق، وإذا لم ينته عن هذا الشيء الذي هو فيه فأنت مسئول يوم القيامة عن المكان الذي توليته، سواء كان هذا العمل عملاً قليلاً أو كثيراً وقد بدأ عليه الصلاة والسلام من الإمام والحاكم وانتهى إلى الخادم إذا كان عبداً أو كان أجيراً، ثم عمم بعد ما نص وخصص فقال: (وكلكم راع ومسئول عن رعيته) أي: الجميع راعون؛ فهذا راع في مال فلان، وهذا راع في مال فلان، والكل مسئول يوم القيامة، فأعدوا للسؤال جواباً.

الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته

في الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) هذه مصيبة من المصائب! يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا كلنا عبيد لله سبحانه وتعالى.

فكل إنسان عبد لله سبحانه، سواء كان كبيراً أو صغيراً أو غنياً أو فقيراً، أو عالياً أو حقيراً، الكل عبيد لله سبحانه وتعالى، فكل إنسان يتذكر ذلك، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فكل يقوم بحق العبادة في المكان الذي هو فيه.

فيقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي: يعطيه رعية يرعاهم، ويقوم على أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والوعظ، ويتملك أمرهم، هذا الإنسان الذي كان راعياً قد يكون من أعلى الرعاة، أو يكون حاكماً، أو عريفاً على قوم، أو على مجموعة صغيرة، أو أميراً على اثنين أو على ثلاثة، هذا الإنسان الذي تولى هذه الأشياء إذا غش فيها يأتي يوم القيامة قد حرم الله عليه الجنة، فاحذر من الغش، وكن مع الناس ناصحاً دائماً، وإذا كان عملك لله سبحانه أدام الله عز وجل هذا العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)، فالإنسان الذي يريد أن يحبه الناس وهو متول أمرهم فلا يجامل في الخطأ، ولا يظلم إنساناً من أجل أن يرضي إنساناً آخر، فالله يسخط عليه، ولن يحبك الذين أنت تجاملهم، بل لأنك تظلم الغير، فلن يحبوك أبداً، لأنهم يعلمون في أنفسهم أنك ظالم.

فالإنسان الذي يأخذ المال الحرام لينفع إنساناً به لن يحبه هذا الإنسان، فالذي يدفع الرشوة من أجل وظيفة هو في الظاهر يقول لك: جزاك الله خيراً، وأما في الباطن فهو يشعر أنك أخذت ماله، ويعرف أنك لا تستحق هذا المال حتى وإن قال: لقد أبحت لك ذلك، ويوم القيامة سوف تسأل عن هذا الذي أخذته، فإذا استرعاك الله أناساً فلا تظلم أحداً، يقول صلى الله عليه وسلم: (يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته) يغش الناس ويستدرجهم حتى يأخذ أموالهم، ويغش الإنسان في هذا الذي يفعله، فيأكل حراماً ويدخل إلى بيته حراماً، ويظلم أناساً، وقس على ذلك أعمالاً يقوم بها أناس فيغشون الناس ليأخذوا أموالهم، فهؤلاء يحرم عليهم هذا العمل ويحرم عليهم الغش في الرعية.

قال: (إلا حرم الله عليه الجنة)، وقال في رواية: (فلم يحطها بنصحه) أي: ما أحاط الرعية بنصحه، ففي المكان الذي تعمل فيه لابد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قدر استطاعتك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا تخن أحداً ولا تغدر ولا تغش، ولا تقبل سحتاً أو رشوة، لا تمنع من الناس ما ينفعهم ولا تخدعهم.

ويقول في الرواية الأخرى: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، هذه دعوة مستجابة من النبي صلى الله عليه وسلم، دعوة للإنسان الذي يتولى أمور الناس سواء كان موظفاً صغيراً أو كبيراً أو حاكماً، هذا الإنسان إذا كان رفيقاً بالرعية يحوطهم بنصحه ويعاملهم معاملة الأب لأولاده، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به، يرفق به في الدنيا وفي قبره، ويوم القيامة؛ لأنه كان رفيقاً برعيته.

والعكس من ذلك: الإنسان الظلوم الغشوم الجائر الذي يظلم الناس ويقسو عليهم دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يرفق به ربه سبحانه وتعالى، وأن يشق عليه في الدنيا وفي الآخرة.

انظر: الإنسان الموظف إذا جاء إليه إنسان للمعاملة فيقول له الموظف: افعل كذا، واصنع كذا، واذهب إلى مكان كذا وأت بكذا، ونحن سوف نحقق لك ما تريده، ولا يحقق له ذلك إلا إذا أخذ عليه نقوداً، هذا الإنسان دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشق الله عليه، ولن يذهب بعيداً، فالمال الذي يأخذه سيتلفه الله عليه، وكم قد رأينا من أمثال هؤلاء من يجمع المال ثم يموت ويترك ماله للورثة فيدعون عليه ويلعنونه بعد موته؛ لأنه جمع هذا المال من حرام، ونذكر قصة الرجل الذي كان يعمل في شركة حكومية، فكان يجمع الرشوات حتى بلغت مائة ألف جنيه، وجعلها في البنك من أجل أن يستنفع بها، فمات ولم يصرف منها شيئاً، فجاء الورثة يسألون: هل يجوز أخذ هذا المال أم لا؟ فقد كان المال كله حراماً وهم يعرفون، ولم يسلموه للشركة، وأخذوا أموالاً محرمة، فهذا المسكين ظلم نفسه في الدنيا وفي الآخرة وجمع مالاً ولم يستنفع به، وتركه في البنك وجاء الورثة بعد كذا فأخذوه من أجل أن يدعوا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لذلك الإنسان المؤمن دائم التفكر في الغد هل سيكون في الدنيا أم سيكون في القبر، فعليك أن تعمل الخير حتى لا يضيق عليك قبرك، وحتى لا تندهش في قبرك وتتحير، ولا تقدر على الجواب، إياك والظلم فلا تظلم أحداً.

واجب الرعية تجاه الولاة الظلمة

جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، أي: تقوم بسياستهم وأمرهم، وهؤلاء القوم بنو إسرائيل كانوا أهل معصية وأهل نفور ولا يجتمعون أبداً على أحد إلا إذا كان هناك نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

فإذا كان النبي موجوداً يطيعونه فإذا ابتعد عنهم يعصونه، فإن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما كان معهم وأنجاهم الله من فرعون كانوا على الإسلام، ولما خرجوا من البحر ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] أي: نحن نريد أن نعبد إلهاً: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، فذهب موسى للقاء ربه سبحانه وصنع لهم السامري عجلاً فعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، فما احتاجوا إلى أن يكون الأنبياء موجودين معهم وفيهم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا نبي بعده فضلاً عن أن يكون هناك رسول بعده صلوات الله وسلامه عليه.

قال (وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون) أي: سيكون خليفة وراء خليفة وراء خليفة (قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم) يعني: الخلفاء والملوك إذا طلبوا حقوقهم أعطوهم حقوقهم، (واسألوا الله الذي لكم) كأنه إشارة إلى أنه سيكون فيهم الظلم، فلم يقل: قاتلوهم، بل قال: (ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: لا تقتلوهم ولا تقاتلوهم طالما أنهم يقيمون فيكم الصلاة، قال: (واسألوا الله الذي لكم) أن تؤدي الحق الذي عليك وتسأل الله الحق الذي لك، قال: (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) أي: اتركوهم لهم يوم عند الله عز وجل يجمعهم فيه ويسألهم عما استرعاهم عليه يوم القيامة.

الوعيد الشديد للولاة الظلمة

وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال له: أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم)، وعبيد الله بن زياد كان أميراً من الأمراء، وكأنهم عرفوا فيه ظلماً، فذهب إليه هذا الصحابي عائذ بن عمرو رضي الله عنه ينصحه ويعظه، فقال له: (أي بني) وهذا يعني أنه كان صغيراً في السن وهذا الصحابي كان كبيراً رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة) (الحطمة ) على وزن: فعلة، وهي صيغة مبالغة، مثل قولك: هذا صُرعة هذا ضُحكة، هذا حُطمة، هذا هُمزة، هذا لُمزة، كلها من هذا الباب، والمعنى: أنه مبالغ في هذا الذي يفعله.

فالحطمة: هو الإنسان الذي يحطم ما تحته، كالراعي يرعى غنماً أو إبلاً ومعه عصا يضرب بها أغنامه أو إبله وينفرها ويقسو عليها، فهذا شر الرعاء، وكذلك الراعي الحاكم الذي يكون على الناس ويتولى أمرهم فتراه عنيفاً عليهم ويفرقهم من حوله، فقال: (إن شر الرعاء الحطمة) فقام ينصح هذا الأمير ويقول: (فإياك أن تكون منهم) أي: احذر أن تكون من هؤلاء الذين يفرقون الناس ولا يجمعونهم.

وفي الحديث عند أبي داود عن أبي مريم الأزدي أنه قال لـمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)، فجعل معاوية رضي الله عنه رجلاً على حوائج الناس، الحديث رواه أبو داود والترمذي بإسناد فيه ضعف، ولكن له شاهد كما في التحقيق، وفيه أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فلابد أن يكون غير محتجب عنهم، طالما هو مسئول فلابد أن يكون أمام الناس حتى يجدوه ولا يحتجب عنهم، فإذا احتجب جعل من يسمع منهم ويبلغه هذا الشيء، فكأن معاوية رضي الله عنه احتجب في قصره فجاءه أبو مريم الأزدي يخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، والوالي سواء كان حاكماً كبيراً أو صغيراً هو مسئول أمام الله عز وجل، وقد لا يكون مسئولاً عن بلد من البلدان، بل يحكم الناس كلهم، فولاه الله أمورهم، فإذا احتجبوا عن الناس بحيث لا أحد يعرف أن يصل إليهم أبداً، وهم مسئولون عن مصالح الناس، قال: (فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم) أي: احتجب فلم يعط أحداً، ولم يقض لأحد حاجته، فهذا يحتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة.

يأتي الإنسان عارياً ليس معه مال، وليس معه ثياب مثل المحتاج، فإذا بالله يمنعه ولا يجيبه ولا يرد عليه، والمعنى: أنه يصير إلى النار والعياذ بالله.

فاتعظ معاوية بذلك فجعل رجلاً على حوائج الناس، أي: جعل من يقوم بحوائج الناس، يصل إليهم ويصلون إليه ويبلغ معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ففيه أن الإنسان المسلم إذا كان في مكان وتولى أمور رعية سواء كانوا قليلين أو كثيرين فلابد أن يرأف بهم ويرحمهم، ويعظهم، وينصحهم ويحوطهم بشفقته، وينظر في حوائجهم، فالله عز وجل يكون في عونه طالما أنه في عون إخوانه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net