إسلام ويب

جعل الله لكل عبد منزلة ينزل فيها ولابد، فرفع أهل العلم والفضل والسن، ثم جعل بعدهم من يليهم، فلا يليق بصغير القوم أن يتقدم وفيهم من هو أفضل منه وأكبر، كذلك إمامة الصلاة لا يقدم لها إلا أعلم أهل المسجد وأحفظهم، ثم يليه في الصفوف من يليه في الحفظ والفهم.

وجوب معرفة الفضل لأهل العلم وكبار السن

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.

قال الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم .

وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم) رواه مسلم .

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق) رواه مسلم ].

باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، ويذكر تقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.

دين الإسلام دين عظيم يعلم المسلم أن يعرف حق الله سبحانه فيوحده، ويعبده ولا يشرك به شيئاً، وأن يعرف حق رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم الذين بلغوا رسالات الله سبحانه، وأدوا أمانة الله سبحانه، فوجب على المسلم أن يعرف فضلهم، ويحترمهم، ويصلي على أولياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويوقرهم، ويعرف قدرهم، ويذكر فضلهم بما ذكر الله وبما ذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

ثم نبينا صلوات الله وسلامه عليه هو خاتمهم، وخيرهم، وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي جاء بهذه الشريعة العظيمة ليعرف قدره، ويتبعه، ويعزره، ويوقره، ويحترم كلامه، ويؤثره على نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أنه أولى به من نفسه، فيعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف قدر أهل العلم الذين بلغوا رسالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغوا شرعه وما أمر أن يبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وهم ورثة الأنبياء، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

يعرف الإنسان المسلم فضل كبار السن، وأنهم سبقوه بالإسلام، وبالصلاة لله وعبادته، وإن كان قد يفضل عليهم بأشياء أخر، ولكن لهم فضل التقدم في أعمارهم، وفضل كثرة عبادة الله سبحانه، فجاء القرآن والسنة بتقديم من يستحق التقديم، فذكر لنا سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، هنا استفهام إنكاري لتقرير الحكم، أي: لا يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، إنما يتذكر بالقرآن وبالموعظة أصحاب القلوب الصحيحة المستقيمة، ويعرض عن التذكرة أصحاب القلوب المريضة السقيمة، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يذكر أن الذي يستفيد وينتفع بهذا العلم هم أصحاب البصائر والألباب.

مراتب إمامة المصلين

من الأحاديث حديث أبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

وغالباً ما تأتي كلمة القراءة في السنة بمعنى الحفظ، إلا أن تأتي في موضع يفهم منه القراءة بمعنى القراءة، ولكن دائماً إذا أطلقت كان معناها الحفظ، فقدم هنا الأقرأ وهو الأعلم بكتاب الله عز وجل، وإذا كان القوم يحفظون كتاب الله عز وجل فالأقرأ هو الأكثر حفظاً، والأجود قراءة فيتقدم على غيره.

إذاً: أقرؤهم لكتاب الله، وهو الذي يحفظ القرآن كله، مقدم بالشرع على من يحفظ ثلاثة أرباعه، أو نصفه وهكذا؛ إذ الإمامة ليست مجالاً للتنافس بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين من يحفظ ومن لا يحفظ، وبين من صوته حسن وصوته رديء، ولكن الله عز وجل قد علمنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من الذي يقدم، فهذا الذي يقدم كأنه وافد القوم على ربه سبحانه وتعالى. ولذلك إذا أحسن فله ولمن خلفه، إذا أساء فعليه وليس على من خلفه.

وهم يقدمونه بين أيديهم لربهم سبحانه وتعالى، لذلك لا يقدمون من يختارونه بل الذي يختاره ربهم سبحانه والذي يقدمه النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي أي مكان يقدم للإمامة أقرأ القوم، فإذا كان الناس يريدون اختيار إمام لهم فعليهم بأقرئهم وأحفظهم لكتاب الله فهو مقدم على غيره.

فإذا تقدم وصار إماماً راتباً، ثم جاء من هو أحفظ منه فالحق للإمام الراتب، وهذا مكانه وسلطانه ولا يؤخر لغيره إلا أن يختار هو أن يقدم غيره على نفسه.

أما أن يكون الإنسان إماماً في مكان ثم يذهب إلى مكان آخر وينحي الإمام ويتقدم عليه، فلا يجوز له ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).

قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). أي: أما إذا استووا وكان الكل حفاظاً لكتاب الله فيقدم الأعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويفقهها، فعلم القرآن سوف يجعله يجيد القراءة، وعلم السنة سيعرف منه فقه هذه القراءة وفقه هذه الصلاة، فلو أحدث في الصلاة سيستخلف من خلفه ويتأخر هو ليتوضأ مثلاً.

وإذا أساء في الصلاة سوف يعرف كيف يتصرف في صلاته، ولا يحصل هرج ومرج بين الناس؛ لأن الذي يؤمهم يفقه كتاب الله، ويفقه سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

إذا عمل الناس بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون الأمر فيه راحة للجميع، حتى لو كنت أنا أرى في نفسي أنني أفضل منه ولكن الشرع قدمه علي، فأنا أحكم بالظاهر، وأمر الباطن إلى الله عز وجل يحكم فيه يوم القيامة.

فإذا استووا في العلم بالقرآن والسنة وحفظها، فأقدمهم هجرة، وهذا لما كانت الهجرة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم إن استويا في الهجرة، فالأكبر سناً، فليست البداية بالسن، بل بالعلم بكتاب الله عز وجل والحفظ والإتقان.

قال: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).

هذا من الأدب الشرعي: أن المسلم لا يؤم الرجل في سلطانه، وسلطان الرجل هو المسجد الذي يصلي فيه، أو المكان الذي يصلي فيه إن كان مصلى في مكان عمل أو غيره واعتاد الناس أن فلاناً وهو أقرؤهم هو الذي يصلي بهم الصلوات، في هذا المكان، فهو أحق به، وإذا جاء غيره فلا ينحيه ولا يتقدم عليه، لأن الشريعة قدمت إنساناً فهو يحترم ذلك، فإذا أذن له أن يتقدم عليه جاز له أنه يتقدم عليه.

والأولى ألا يعود الإنسان نفسه على أنه كلما ذهب إلى مكان يريد أن يكون إماماً، فلا تكن طبيعة في نفسك أنك كلما ذهبت إلى مكان تنتظر من الناس أن يقدموك، الأفضل ألا تفعل ذلك، واترك الناس يؤمهم إمامهم الراتب في هذا المكان؛ لأن نفس الإنسان أمارة بالسوء، تهيج الإنسان، أنا أحسن من فلان، أنا أؤم أكثر منه، أنا أولى منه بهذه الإمامة، فإن الأنانية تهلك الإنسان!

عود نفسك إذا كنت إماماً في مكان وذهبت إلى مكان آخر وكان الإمام أقل منك في العلم أو الحفظ أو السن أن تصلي وراءه، وكان الصحابة يفعلون ذلك، مثل مولى أبي أسيد رضي الله عنه كان ابن عمر يذهب للمكان الذي هو فيه ومعه بعض الصحابة ويقدمهم فلا يتقدمون عليه، وهم أفضل منه وأقدم في الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن بعدهم، ولكن عرفوا قدر صاحب المكان.

لو أصر الإمام على أن يقدم هذا الآخر جاز له أنه يتقدم ويصلي بالناس، لكن الأمر أن كل إنسان يحتاج لأن يربي نفسه على التواضع.

وإذا وجدت أنك إمام في مكان والناس يكرهونك فلا داعي لهذه الإمامة ولا تحدث نفسك بأنك أفضلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: أن من الذين لا ترفع صلاتهم ولا تقبل صلاتهم (من أم قوماً وهم له كارهون). فعلى المؤمن أن يصلي لله عز وجل حتى تقبل صلاته، وإذا لم تقبل صلاته إلا وهو مأموم فليكن مأموماً، فليكن الأمر على الوجه الذي يريده الله سبحانه وتعالى.

في الحديث ذكر لنا أدباً آخر، قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) السلطان هو مكان إمامته سواء كانت إمامة كبرى كالحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فيؤمهم وإن لم يكن أحفظ الناس، هذا في الولاية الكبرى.

الإمام في الولاية الصغرى هو الإنسان في مسجده، أو من فاتته الصلاة في الجماعة فصلى في بيته بأضيافه مثلاً، هنا قد يكون الضيوف أحفظ من صاحب البيت، ولكن السنة قدمت صاحب البيت.

فمثلاً: صاحب البيت يحفظ الفاتحة وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لا غير، وأنت تحفظ القرآن كله، فصاحب البيت أولى منك، ولا تحدث نفسك بأنه سوف يقدمك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه عليك لأنه صاحب المكان، لكن لو أنه ألح عليك بأن تتقدم فلا حرج.

فإن كان صاحب البيت لا يحفظ الفاتحة فلا يجوز أن يكون لك إماماً، بل يصلي وحده وصل وحدك إذا أصر أن يكون هو الإمام، ولكن إذا قدمك فتقدم لأنه لا يحفظ الفاتحة، وكذلك إذا كان يلحن فيها، واللحن هو أن يقرأ قراءة تغير معنى الكلام، وقد شرحنا ذلك في فقه الصلاة، وأنه القراءة التي تغير المعنى في فاتحة الكتاب خاصة.

قال: (ولا يقعد في بيته على تكرمته):

أدب آخر من الآداب العظيمة: المسلم متواضع في نفسه، والإنسان كلما تواضع رفعه الله عز وجل، وكلما استكبر وضعه الله سبحانه وتعالى.

التواضع من الضعة، وهو أن يحقر نفسه، وكل إنسان يرى أن نفسه لها منزلة، لكن مطلوب منك شرعاً أن ترى نفسك عبداً لله عز وجل، وأن تتواضع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله).

مطلوب من الإنسان أن ينظر إلى خلقه، فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:5-7].

انظر مما خلقت حتى لا تستكبر، تعلم من نفسك أنك كنت نطفة تستقذرها أنت، فلذلك يذكرك ربنا حتى لا تنسى نفسك أبداً، فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:5-8].

فإذا ذهبت لإنسان في بيته فلا تر لنفسك فضلاً عليه، وقد تكون من أهل الفضل، ولكن قد دخلت بيته فصار له فضل عليك، هو الذي دعاك حتى تأكل وتشرب في بيته.

الإنسان عندما يتذكر في نفسه أن فلاناً دعاه، وفلاناً تفضل عليه بذلك، يعرف فضله عليه، فعندما يدخل بيته يغض البصر، ويستأذن عليه في بيته ولا يزعج أهل البيت، ولا يستعمل جرس البيت حتى يسمع الشارع كله.

إذا دخلت بيته تغض البصر، وتنتظر أين سيدخلك؟ لا تسبقه، لا تجلس حتى يجلسك، واجلس حيث يجلسك، أقل شيء اجلس واجعل ظهرك للباب، ولا تبقى وجهك للباب تنظر للداخل والخارج.

فيقول هنا: (لا يقعد في بيته على تكرمته) يعني: في المكان الذي هو يحب أن يجلس فيه لا تقعد أنت فيه إلا إذا أذن لك.

الأمر بتسوية الصفوف في الصلاة

هذا أيضاً أبو مسعود البدري يروي هذا الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة) ، يمر عليهم يسويهم صلوات الله وسلامه عليه بحيث إن الكل يستوي مع بعض في الصلاة.

وقد وفضلنا على الناس بثلاث كما جاء في صحيح مسلم ، ومن هذه الثلاث أن جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، فإن الملائكة يستوون عند ربهم ويتراصون في الصفوف فتشبهنا بهم في صلاتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لنا المغانم).

الغرض: أن من ضمن الأشياء التي نتعلمها من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح مناكب أصحابه فيسويهم في الصلاة، ويقول صلى الله عليه وسلم: استووا ولا تختلفوا. كأن استواءك في الصلاة مع صاحبك مدعاة لألفة القلوب والمحبة بينك وبين صاحبك، وإذا اختلفت صفوفكم اختلفت قلوبكم، عندما يبرز إنسان ويتقدم على غيره، كأنه رأى في نفسه شرفاً على غيره، وهذا مغرور، وكم من المغرورين في الصلوات -والحمد لله في مسجدنا لا نرى ذلك بفضل الله وبرحمته سبحانه وتعالى- أو ترى آخر فاتحاً ما بين رجليه بحيث إن الشيطان يمر بينه وبين صاحبه، وإذا أمرته بالمعروف أو نهيته عن المنكر رفع صوته عليك.

فالحمد لله نحن في نعم عظيمة بهذه الصلاة، لذلك ينبغي علينا أن نحافظ عليها، وينبغي علينا أن نتواضع كباراً وصغاراً، أحياناً بعض كبار السن عندما ينصح تثور ثائرته ولا يهدأ، لا. تعلموا أدب النبي صلى الله عليه وسلم، نوقر الكبير، لكن الكبير أيضاً يحترم القرآن ويحترم السنة ويحترم بيت الله سبحانه وتعالى.

بعض الناس يضع كرسياً في مكان ما ويقول: أنا لا أصلي إلا هنا! فنقول: المسجد مسجد الله سبحانه وتعالى، صل مثل غيرك من الناس في أي مكان، ولا تظن لنفسك فضلاً على الناس، احذر الغرور وأن تتطاول على المسلمين بأنك صاحب سن، أو صاحب لحية بيضاء، أو أنك أقدم منهم، بل تواضع لله عز وجل صغيراً كنت أو كبيراً، ومن تواضع لله رفعه الله سبحانه وتعالى.

هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر على المسلمين في الصلاة ويعدل الصفوف، واليوم توجد خطوط تنظر إليها ومن السهل أن تعدل الصف، لكن بعض الناس لا يعجبه الخط فيرجع إلى الخط الأخير ليوسع لنفسه في الصلاة ويضيق على غيره.

أحياناً في صلاة الجنازة تجد الصف الأول مكتملاً، والصف الثاني غير مكتمل، والثالث والرابع مكتملين، وصفوفاً أخرى فارغة، والناس خارج المسجد مزدحمة وما هو إلا هؤلاء زحموا المكان إلى باب المسجد.

وأعظم خطوة تخطوها لتسد فرجة، وقبل أن تصف في مكان انظر هل الصف الأول قد اكتمل أو لا؟ الصف الثاني اكتمل أو لا؟ وهكذا تسد الفرج فتكون متشبهاً بالملائكة في أنهم يكملون الصف الأول فالذي يليه.

قال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم). إذا اختلفتم في الصلاة اختلفت القلوب، وإذا اختلفت القلوب صار المسلمون متنافرين، فلابد أن نتعلم إذا كنا في الصلاة كيف نستوي فيها.

صفة من يلي الإمام في الصلاة

قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).

هذا حكم آخر من الأحكام التي نتعلمها، أي: لو كان الإمام أقرأ الناس فمن يلي الإمام؟ قال: أولوا الأحلام والنهى.

وأصحاب الأحلام يعني: البالغين، لا يأتي مجنون يصلي وراء الإمام، وإذا وجد حفاظ للقرآن فهم الذين يكونون وراء الإمام، ولا يتهاون حفاظ القرآن بهذا الشيء، كل منهم يصلي في مكان والإمام يخطئ فلا يجد من يرد عليه، أو تأتي الأصوات من آخر المسجد، فيحصل تشويش وإزعاج، فليكونوا خلف الإمام ليفتحوا على الإمام إذا أخطأ.

وإذا حصل للإمام عذر خرج من الصلاة وقدم واحداً من أولي الأحلام والنهى، أي: إنساناً عاقلاً كبيراً في السن، عالماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة يعرفون ذلك فيقدمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم من يكون أقرب وأحق بالإمامة بعده صلوات الله وسلامه عليه.

وبعد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصنعون ذلك، يذكر رجل من التابعين أنه أتى المدينة وكان أحب شخص إليه في المدينة أبي بن كعب رضي الله عنه، وما كان يعرفه، وكان شاباً حدثاً في السن، فصلى هذا الشاب خلف الإمام، قال: فجاء رجل وتقدم ونظر فعرف القوم إلا أنا فما عرفني، فأخرني للصف الثاني وصلى في مكاني.

فالرجل كأنه في الصلاة حصل في نفسه شيء، كيف يردني ويرجعني، فلما انتهت الصلاة قال لي: لا يسؤك الله يا غلام، ولكن هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، إذاً: يكون الذي وراء الإمام حافظاً للقرآن، أو الذي يصلح أن يكون إماماً.

فيتعلم الإنسان أنه إذا وجد من هو أفضل منه في الخلف وهو خلف الإمام أن يترك هذا المكان له.

الأمر الثاني: أنه قد يكون الإنسان الذي خلف الإمام لا يعرف فقه الصلاة، فيحدث شيء فيخرج من الصلاة وليس من حقه أنه يخرج، ويزعج الإمام وهو خلفه، وأحياناً بعض الناس يكون في عقولهم شيء من خبل أو غيره، وأحياناً يتركه الناس يصلي خلف الإمام، وهو أثناء الصلاة يتحرك أو يرفع صوته بالكلام، وهذا ليس مكانه أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).

أحياناً يكون الذي خلف الإمام طفلاً صغيراً، فإذا أحدث الإمام أو نابه شيء، فلا يليق أن يصلي بالناس طفل صغير، فنتعلم أن الذي خلف الإمام لا يكون من الصغار في السن، حتى تحفظ ثم تأتي خلف الإمام عندما تكبر.

الذي يصلي خلف الإمام هو الأحق بالإمامة، فحفاظ القرآن يكونون خلف الإمام بحيث يفتحون عليه، وينبهونه إذا أخطأ في الصلاة.

(ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم):

الإمام يقف في وسط المسجد، وهذا أشرف مكان في المسجد، وهو الذي جعل لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وبعده اليمين ثم الشمال، بعض الناس لا يعرف ذلك، فتجده يأتي المسجد ويذهب إلى جهة اليمين ولو وصل لآخر المسجد أو خرج للشارع ليصبح في اليمين.

وأحياناً تدخل المسجد فتجد أن المصلين في ناحية من الصف والباقي فارغ، هذا لا يجوز، لأنه لابد من وصل الصفوف كما أمر صلى الله عليه وسلم، فأفضل شيء أن تبدأ الصفوف من خلف الإمام.

الأمر بغض الأصوات في المساجد

ثم يقول: (إياكم وهيشات الأصوات).

أي: ضجيج الأسواق ورفع الصوت، والأسواق أماكن وجود الشياطين براياتها، فلا يصير المسجد مثل السوق، برفع الصوت، بل نتعلم أدب المسجد في عدم رفع الصوت فيه، وأحياناً نستحيي من كبار السن عندما تكون أصواتهم عالية.

وبعض إخواننا أحياناً يصلون جماعة ثانية، والجماعة الثانية مختلف فيها، والجمهور على جوازها، والإمام الشافعي على عدم جواز الجماعة الثانية، والفضيلة في الجماعة الأولى، والجماعة الثانية لها فضيلة ولكنها ليست كالأولى.

أحياناً يصلي في الجماعة الثانية ثلاثة رجال فيرفع الإمام صوته حتى يسمع الدنيا كلها، لماذا تسمع الناس؟ لست إمام المسجد، أنت إمام لإثنين فقط لا أكثر من ذلك، والبعض أحياناً يعلل رفع صوته لكي يسمعه من أتى متأخراً فيصلي معه، فنقول له: ليس بفرض عليه أن يصلي معك، ولكن إذا علم صلى معك وإلا فلا، وهو معذور.

فنحن نصلي السنة والمسجد ممتلئ وصاحبنا يرفع صوته: الله أكبر، كأنه يقول للناس كلهم: اسكتوا فأنا موجود! وهذا خطأ، ولكن إذا كنت تقرأ فأسمع من خلفك فقط، ولا تزعج الناس.

أو دخلت المسجد وفيه درس علمي في الدور الأول فلا تحدث جماعة في الدور الأول وتشوش على الناس ويشوشون عليك، واصعد الدور الثاني إذا كان فارغاً وصل فيه أو في الثالث إذا كنت تقدر على ذلك.

وإذا لم تصعد وصليت فإنك تسمع من معك فقط، ولا تلزم الناس أن يسكتوا لك، أنت الذي أسأت بالتأخر عن الجماعة، فصل وأسمع من معك فقط ولا تشوش على غيرك، وأيضاً غيرك لا يشوشون عليك بقدر المستطاع.

وقوله: (إياكم) تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن تشبه المسجد بالسوق، ويا حبذا أن يذكر بعضنا بعضاً، فعندما تسمع أحدهم يرفع صوته تنبهه، وأنا أفعل ذلك بحسب المستطاع، أحياناً قبل الصلاة أجد من يشغل غيره بذلك فأقول له: انشغل بالدعاء أفضل، هذا وقت إجابة دعاء إلا لحاجة من الحاجات فصوتك تسمع به من بجوارك فقط.

بعض الناس تقول له: اخفض صوتك، يقول: صوتي هكذا، كذلك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يأكل بشماله، فقال: (كل بيمينك. قال الرجل: لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا عليه قال: (لا استطعت) .

إما أنك صادق فلا عليك أو كاذب فتستحق العقوبة، قال: (فما رفعها إلى فيه)، وشلت يده.

إذاً: اغضض من صوتك، وتذكر قول الله: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] .

اخفض صوتك ولا ترفعه فتزعج الناس به في المساجد، والطرقات، والبيوت، بل تعود أن يكون صوتك منخفضاً، فإذا كنت تحتاج لرفع الصوت في خطبة أو غيرها فبحسبها، لا تخطب والخطبة كلها من أولها إلى آخرها صياح، ولكن الخطب مواقف، لا تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته في الخطبة كلها، فإن راوي الحديث يقول: (كان إذا ذكر الموت صلوات الله وسلامه عليه علا صوته، واشتد غضبه، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)، فليست الخطبة من أولها إلى آخرها إزعاج، ولكن يرفع صوته عند الاحتياج إلى ذلك، ويخفض صوته عند عدم الاحتياج للرفع، والخطبة المقصود منها عظة وتعليم الناس لا إزعاج الناس برفع الصوت.

تقديم الأكبر في السن في الحديث

من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث يرويه سهل بن أبي حثمة يقول: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا وذهب كل واحد وحده في خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً)، اليهود لا عهد لهم ولا ذمة ولا أمان أبداً، اليهودي إذا وجد غيره في مكان يحدث نفسه بقتله؛ لأنه يتعبد بذلك، سواء وجد مسلماً أو نصرانياً، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82] فبدأ بهم. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].

أتى محيصة إلى عبد الله بن سهل فوجده يتشحط في دمه، يعني: ينزف ويتخبط ويضطرب في دمه قتيلاً فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ أخو القتيل يتكلم، ولكن علمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتكلم الأكبر في السن، فلو كانت هناك مجموعة وقدمت أحدهم للكلام فهو مقدمهم، لكن إذا لم يقدموا أحداً فإن كبير السن هو الذي يبدأ بالكلام.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، يعني: يتكلم الأكبر في السن.

الموقف هنا موقف صعب، ومع ذلك يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الأدب الشرعي، وأن يتكلم الكبير، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتحلفون وتستحقون قاتلكم؟) وفيها قصة القسامة، لكن الغرض: بيان تقديم الكبير في الكلام.

أيضاً قال جابر بن عبد الله : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في القبر، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) لأن قتلى أحد كانوا سبعين، ويصعب الحفر لهم كلهم، والصحابة كانوا مثخنين بالجراح، فلذلك كانوا يحفرون القبر ويدفن في القبر الواحد الاثنان والثلاثة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الأحفظ إلى القبلة، ثم الثاني، فهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد).

فالقرآن سبب للتقدم في الدنيا وسبب للتقديم في القبر، فما بالك بيوم القيامة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).

يقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، والصيام يقول: أي رب منعته الطعام بالنهار، فيشفعان له.

وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر).

هنا الأدب حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما عملها في الواقع، فقد كان في الواقع يكبر الكبير، ولكن في المنام علم صلى الله عليه وسلم في منامه ذلك، (فقيل له: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)، نتعلم كيف نفاضل بين الناس بمنازلهم، وجاء في الحديث: (أنزلوا الناس منازلهم).

نسأل الله عز وجل أن يؤدبنا ويفقهنا في ديننا، ويؤدبنا بشرعه العظيم.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [1] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net