إسلام ويب

نعم الله سبحانه على عباده كثيرة، وآياته عظيمة ومشاهدة في خلقه، ولذلك أمر الله تعالى بالسير في الأرض والنظر في آثار من خلوا من قبل للعظة والعبرة، ومن أنكر آيات الله فلينظر في هلاك من قبله من الأمم الذين هم أشد قوة وآثاراً، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك لما جاءهم بأس الله سبحانه؛ لأنهم فرحوا بما آتاهم الله واستكبروا وجحدوا، وكفروا بالله سبحانه، وهكذا كل من كفر بالله وعصاه فعاقبته وخيمه في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها... )

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:79-85].

في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة غافر يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن دلائل قدرته ووحدانيته، وعن صنعه بالقرون السابقة، ما الذي صنعوه؟ وكيف صنع الله عز وجل بهم؟ فيرينا هذه الآيات حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد ما بين ووضح في كتابه سبحانه.

قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) آية من آيات الله سبحانه أن سخر لكم بهيمة الأنعام، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، هذه بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، منها الذكور ومنها الإناث، تستفيدون منها من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، منها تأكلون وعليها تحملون، وعلى الفلك أيضاً تحملون.

قال الله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أي: خلق لكم الله عز وجل الأنعام وجعلها لكم لمنافعكم، ولمعايشكم، لتأكلوا منها، ولتركبوا عليها، فمن الأنعام ما تركبون عليها، وهي الإبل خاصة، قال تعالى: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من الإبل وغيرها، فبهيمة الأنعام تأكلون منها، وتنتفعون بألبانها، وتنتفعون بلحمها وبنسلها.

تفسير قوله تعالى: (ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم...)

قال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر:80] فجعل الله عز وجل لكم فيها منافع، تنتفعون للتجارة بها، وتنتفعون بأخذ أصوافها وأوبارها وأشعارها، وأخذ كسائكم من أصوافها وغير ذلك، وبأن تصنعوا بيوتاً ترحلون عليها في يوم ضعنكم وترحالكم، وتنتفعون منها منافع كثيرة، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

قال تعالى: (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي: لتقطعوا عليها مسافات واسعة وأراضي شاسعة، تريدون أن تسافروا من قطر إلى قطر لحاجة في نفوسكم وفي صدوركم، فتركبون عليها فتوصلكم، وتقطع بكم الفيافي والصحراء، وتسير بكم من بلاد إلى بلاد؛ لتبلغوا عليها ما تحتاجونه من أشياء، وما تهتمون لأمره وتكنونه في صدوركم، ولتبلغوا عليها حاجة قد لا تخبرون بها الناس، ولكن هي في صدوركم، والله عز وجل يبلغكم بذلك.

قال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي: ليست وحدها فقط التي تركبون عليها، ولكن أيضاً كما جعلها في البر جعل في البحر الفلك، وسخرها لكم، وصنعتم السفن وبنيتموها وركبتموها وانتقلتم عليها من مكان إلى مكان بفضل الله سبحانه، فهذه من نعم الله سبحانه.

والإنسان ضعيف، ومع ذلك سخر الله عز وجل له هذا الحيوان القوي، ولو شاء الله عز وجل لجعل الحيوان شرساً ليس أليفاً، ولجعله نافورة لا يطيع، ولكن الله سبحانه بفضله وبكرمه يسره لكم، وذلل لكم هذه الأشياء، ويرينا ربنا سبحانه في هذا الكون أشياء أخر، حتى لا يتطاول الإنسان ويقول: أنا أقدر على كل شيء، يريه من خلقه سبحانه ما لا يقدر الإنسان عليه، يريه الأسد، ويريه النمر فلا يستطيع الإنسان أن يركبه أو يسافر عليه من مكان إلى مكان، لا يقدر مهما روضه، فالإنسان لا يزال خائفاً منه، فتراه يأخذ الأسد ويخلع أسنانه، ويجعله في السرك ليلعب به، ويري الناس أنه قوي، وفجأة يأتي الأسد على رقبته ويعضها، أو يأكل الإنسان فيخيف صاحبه، ويرينا الله سبحانه وتعالى آياته.

فليس كل شيء في الكون تقدر عليه أو تقدر على ترويضه، ولكن الله سبحانه هو الذي يسخر ما يشاء، فسخر بهيمة الإنعام لكم لتأكلوا منها ولتركبوا عليها، وجعل لكم فيها من الحرث ومن الزرع ما تستفيدون به، فهذا من فضله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون ...)

قال تعالى: وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ [غافر:81] كما جعل لكم الفلك في البحر ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وعلمه كيف يصنع المركب، وكيف يصنع السيارة، وكيف يصنع الطائرة، وكيف يصنع الصاروخ، وكيف يصنع مركبة الفضاء، يعلم الله عز وجل عباده ويفتح عليهم من فضله، ويريهم نعمه عليهم تبارك وتعالى.

قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، فالذي خلق هو الله سبحانه، والذي خلقك هو الله سبحانه، والذي دلك على ما تصنعه وعلى ما تفكر فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بقوتك، ولا تغتر بأنك استطعت أن تصنع الصاروخ، وتصعد إلى الفضاء، فالذي أمكنك من ذلك هو الله سبحانه، قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:33-34]، فعندما يتطاول الإنسان ويقول: أنا أفعل، فربنا سبحانه يريه، ويحرق له مركبة الفضاء، فلا تصل إلى المكان الذي يريد.

قال تعالى: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) فهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فإذا علمكم من فضله فاحمدوه سبحانه واشكروه، ولا تنسبوا النعمة إلى أنفسكم، بل انسبوها إلى خالقها وصاحبها وهو الله سبحانه الذي يريكم آياته.

قال تعالى: (فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) أي: ما الذي تنكرونه من آيات الله سبحانه؟ وما الذي تزعمون أن الله لم يخلقه سبحانه وتعالى؟ أو أن غير الله شاركه في ذلك؟! حاشا له سبحانه وتعالى، وأي نعمة من نعم الله تظنون أن الله عز وجل جعلكم أنتم شركاء له فيها؟ قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136].

هؤلاء المشركون بإفكهم وباطلهم وكذبهم وتخرصهم على الله سبحانه قسموا بهيمة الأنعام، قالوا: هذه لله بزعمهم وهذه لشركائنا، فالله عز وجل هو الذي خلق الجميع، وهو الذي أباح لكم أن تأكلوا هذه الأشياء، وهو الذي حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فمن الذي جعل هذه الميتة في هذه الحالة حلالاً وهذه الميتة حراماً؟ ومن الذي جعل ما في بطون هذه الأنعام حلالاً للذكور دون الإناث وهذه يشترك فيها الجميع؟ من الذي قسم هذه التقسيمات؟ من الذي شارك الله في ملكه حتى يحكم في هذه الأشياء؟ وأي آيات الله تنكرون أنه خلقها؟ ومن هذا الذي يخلق غير الله سبحانه، قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:17-18].

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ...)

قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [غافر:82] يأمر الله عز وجل عباده أن يتفكروا ويمشوا في الأرض، ويسيروا فيها، قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ[الملك:15] وتفكروا في نعم الله وفي آياته سبحانه.

قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: كيف كانت نهاية السابقين، وهؤلاء كانت آخرتهم ماذا؟ كيف كانت العاقبة والنهاية لهؤلاء المكذبين؟ قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي: كانوا أكثر من هؤلاء القرشيين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن السابقين قوم عاد، وقوم نوح، وقوم صالح، فأين ذهب هؤلاء الذين كانوا كثرة كاثرة؟ أين ذهب فرعون وجنوده وقومه؟ قال سبحانه: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي: كانوا عدداً ضخماً جداً، قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ)[غافر:82]، أي: كانت قوتهم أشد، وانظر إلى عاد إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8] فقد كانوا طوال الأجساد عراضها، أقوياء في بنيانهم، قال تعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ[الفجر:9] أي: نحتوا الصخر فصنعوا منه بيوتاً، وكانت بيوتهم داخل الجبال منحوتة، فضاعت هذه البيوت وتهدمت، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وترك الله المساكن آية وعبرة حتى يقال: هنا كان قوم ثمود الذين صنعوا هذه البيوت من الجبال، فذهب قوم ثمود، وبقيت البيوت لتدل على أن الله أفنى هؤلاء وأذهبهم، ولتدل على قوته سبحانه وتعالى وفعله بمن عصى.

قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) أي: جعلوا الآثار في الأرض وهم يتكبرون على الخلق، قال الله سبحانه في قوم عاد: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:128-131].

فقوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي: في كل مكان من أماكن بلدانكم وعلى كل طريق تبنون قصراً شاهقاً عظيماً لا تحتاجون إليه، ولكن ليرى الناس قوتكم وقدرتكم على ذلك، زخارف وزينة، وإظهار القوة والاستكبار، تبدون شيئاً عظيماً، نصباً عالياً؛ ليرى الناس أنكم على قدرة عظيمة.

وقوله تعالى: (تَعْبَثُونَ) أي: عبثاً ولعباً ولهواً، ليس لاحتياجهم لهذه القصور، ولا لهذه الأعمدة العالية، ولكن عبثاً، فقوله: (تَعْبَثُونَ) أي: تلعبون.

قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: قصوراً عظيمة، أو منابع للمياه عظيمة تجمعون فيها المياه، حتى تروا الناس قدرتكم على ذلك، فتقولون: نحن الذين عندنا الماء، ونحن الذين نفعل هذا الشيء، فمن الذي أعطاكم هذه القدرة سوى الله سبحانه الذي أوجب عليكم أن تعبدوه، فقوم عاد تركوا عبادته، وعبدوا غيره، وأشركوا بالله سبحانه، ورفضوا كلام رسله، فعاقبهم الله سبحانه.

قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) إنها دعوة للتفكر في آثار السابقين، فهؤلاء تركوا هذه الآثار التي صنعوها بطراً وأشراً، وارتفاعاً وكبراً، فأذاقهم الله عز وجل العذاب في الدنيا فضلاً عما يذوقونه في الآخرة، قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (ما) إما نافية بمعنى: الجحد، أي: لم يغن عنهم ما كانوا يكسبون، أو بمعنى: الاستفهام فيها، (فما أغنى عنهم) أي: فأي شيء أغنى عنهم هذا الذي كانوا يكسبونه؟ بمعنى: ماذا أغنى عنهم هذا الذي صنعوه؟ فما كانوا يكسبون من أموال، ومن عتاد، ومن قصور، ومن أعمال، ومن أولاد، ومن أتباع، أين ذهبت هذه الأشياء؟ هل انتفعوا بها؟ فأي شيءٍ أغنت عنهم هذه التي كسبوها؟

والجواب: ما أغنى عنهم، أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً، بل لما جاءهم الهلاك أهلكهم الله وعذبهم سبحانه، وذهبوا ولم يرجعوا.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ...)

قال سبحانه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83] أي: لما جاءت الرسل هؤلاء المكذبين؛ قوم لوط، وقوم عاد، وقوم ثمود، وأصحاب الأيكة، وفرعون وجنوده، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه، فرحوا بما عندهم من العلم، وعلم هؤلاء إنما هو الجهل، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] هذا هو ما عندهم من العلم، فهم لا يعلمون شيئاً عن الدار الآخرة، ولا يعلمون شيئاً عن ربهم إلا ما يفترونه ويكذبونه، أما أن تأتيهم الرسل وتنبئهم وتخبرهم فيرفضون ويفرحون، ويقولون: نحن الذين عندنا العلم، تحذرهم الرسل من الموت ومن البعث فيقولون: لا يوجد بعث، قال تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الجاثية:24]؛ لذلك ذكر الله عز وجل هؤلاء أنهم عن الآخرة هم غافلون، وأنهم لا يعلمون فهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولا يعلمون شيئاً عن الآخرة، إنما غاية علمهم في الدنيا، يعلمون في الدنيا ما يصنعونه ويأكلونه ويشربونه، ولا يتجاوز علمهم الحياة الدنيا، فهذا علمهم الذي هو جهل فيهم، لا يعلمون شيئاً عن ربهم، ولا عن قدرته سبحانه، فيكذبون رسلهم؛ ولذلك أخبر سبحانه أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، كالإنسان الجاهل إذا أتاه عالم يعلمه شيئاً يقول له: أنا أعلم كل شيء، تقول له: تعال أحفظك القرآن أو تعال أعلمك أن تقرأ القرآن، فأنت لا تعرف أن تقرأ القرآن، فيقول لك: أنا أقرأ أفضل منك، وكل إنسان يجهل شيئاً يعادي هذا الذي يجهله، وقد قيل: ومن جهل شيئاً عاداه.

كذلك هؤلاء ليس عندهم علم، فالذي عندهم هو الجهل؛ ولذلك عادوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وفرحوا بما عندهم من العلم في زعمهم من علم الدنيا، وهو الجهل بالله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)، لقد كانوا يستهزئون بعذاب الله سبحانه وبقدرته، فحاق بهم أي: نزل بهم نزولاً وإحاطة، فقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) أي: أحاط بهم العذاب فلم يفلتوا من عذاب الله سبحانه، ونزل بهم قدر الله سبحانه، فلم يقدروا على الهروب من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ...)

قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84] أي: لما جاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه على هؤلاء ورأوا بأسنا، والبأس: هو العذاب، وقدرة الله سبحانه وتعالى عليهم، خافوا ورجعوا إلى أنفسهم فتابوا، قال تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) قالوا مثل فرعون لما جاءه الهلاك والعذاب وهو فرح بنفسه وبجنوده، ولما دخل في اليم وانطبق عليه البحر قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] فلا تنفعه التوبة الآن، وكذلك هؤلاء، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، فالقرية الوحيدة والقوم الوحيدون الذين نفعتهم توبتهم عند الله عز وجل هم قوم يونس، أما غيرهم من الأقوام فلن تنفعهم توبتهم، وقوم يونس لما خرج نبيهم من بلدهم وظنوا أن العذاب آتيهم رجعوا إلى الله قبل أن يأتي العذاب، فلم يأت العذاب، فقد وجدوا أن نبيهم خرج وتركهم فقالوا: سوف ينزل العذاب علينا، سنتوب إلى الله عز وجل، فتابوا فنفعتهم توبتهم.

فالإيمان إنما يكون غيباً، أما إذا كان العذاب مشاهداً ثم يقول: آمنت الآن، فلا ينفعه إيمانه الآن، فالله سبحانه يقول: (فَلَمَّا رَأَوْا) أي: عاينوا، (بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي: رجعنا إلى التوحيد، وكفرنا بما كنا به مشركين، كفرنا بالأصنام وبالأوثان، وبالآلهة التي عبدناها من دون الله.

تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ...)

قال الله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85] أي: لما جاء البأس وجاء العذاب من عند الله لم ينفعهم الإيمان الآن.

قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ) أي: سن الله سنة وجعلها عادة مطردة من عوائده سبحانه، ومن سيرته في خلقه وحكمه وأمره فيهم سبحانه.

قال سبحانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ) والتقدير: سن الله سنته سبحانه، فنصبت على المصدرية، أو نصبت على التحذير، أي: احذروا سنة الله في خلقه سبحانه وتعالى.

إذاً: هذه كانت سنة الله وعادته المطردة في خلقه أنه يملي، فإذا أخذ لم يفلت، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) وسنته أنه إذا جاء العذاب لا ينفع الإيمان بعد مجيء العذاب لمن كان يكفر قبل ذلك.

قال تعالى: (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي: مضت في عباده.

قال تعالى: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) أي: حين نزول العذاب خسر هنالك الكافرون، أي: هلك من جحدوا ربهم سبحانه، ومن أشركوا بالله سبحانه، فأهلكهم فلم ينفعهم إيمانهم.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة غافر [79 - 85] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net