إسلام ويب

آيات الله الكونية كثيرة، وكلها تدعو لعبادته والسجود له سبحانه، ومن هذه الآيات: النجوم التي في السماء والشمس والقمر، ومنها: اختلاف الليل والنهار، وقد جعلها الله خلفة لمن أراد أن يتذكر فيهما ويشكر الله في أوقاتهما.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن...)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الفرقان: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:60-62] .

في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن كفر المشركين وتعنتهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أنه رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكن دفعتهم العصبية والجاهلية إلى أن يعاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجيبوا له، يقول الله عز وجل عن هؤلاء أنهم إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، اسجدوا لله سبحانه، والرحمن: اسم من أسمائه سبحانه وتعالى، أي: ذو الرحمة العظيمة الواسعة سبحانه وتعالى، والرحمن والرحيم صفتان على وزن المبالغة، فالرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، فالرحمن ذو الرحمة بجميع خلقه المؤمنين والكافرين، فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فمن رحمته أن أنزل الكتب لهداية الخلق جميعهم، وأرسل الرسل لهداية الناس إلى دين رب العالمين، فهو الرحمن سبحانه، ورحمته واسعة عظيمة، يرزق المؤمن ويرزق الكافر، يعطي هذا ويعطي ذاك سبحانه وتعالى، والرحيم ذو الرحمة العظيمة المختصة بالمؤمنين، ولذلك يقول: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، فهو رحمن رحيم.

فإذا قيل لهؤلاء الكافرين: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان:60]، يعني: أي شيء هذا؟ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [الفرقان:60]، يعني: هل نعمل بما تأمرنا به؟ ويتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويتهمونه بأنه ينهاهم عن الشرك وأنه يقع فيه بحجج غبية تليق بأمثال هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] ، فيقولون: يأمرنا بالتوحيد وينهانا أن نشرك وهو يقول: الله الرحمن، فهو يشرك وينهانا عن الشرك! وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يقع في الشرك، ولكن غباء المشركين يدفعهم لهذا القول، مع أن الرجل منهم له اسم، وله كنية، وله لقب، ولم يقولوا: إنه ثلاثة بل هو واحد عندهم، فما الذي جعل ذلك واحداً عندهم وفهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم يشرك بالله سبحانه؟! فالله سبحانه الواحد، وهذه أسماؤه وصفاته سبحانه وتعالى لا شريك له.

فإذا قيل لهؤلاء الكفرة: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:60]، أبوا ورفضوا وعاندوا وقالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [الفرقان:60]، يخاطبونه صلى الله عليه وسلم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي : (أنسجد لما يأمرنا) بالغيب، وكأنهم يخاطبون بعضهم بعضاً: هل ننفذ ما يأمرنا به هذا الرجل ونسجد لما يأمرنا؟ ثم يكذبون ويقولون: إنه يعلمه رجل في اليمامة اسمه الرحمن! فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبون على الله سبحانه، قال الله سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعني: لا يعتقدون أنك كذاب في أنفسهم، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكنهم يجحدون بآيات الله، والجحد أن يجحد الإنسان الشيء وينكره وهو يعلم وجوده، فهذا جاحد، وهو أشد من الكاذب.

يقول الله سبحانه: وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60]، يعني: زادهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن يسجدوا لله سبحانه، وأن يطيعوا، وأن يخضعوا، وأن يصلوا لله ويسجدوا؛ زادهم هذا الأمر نفوراً وابتعاداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبعداً عن الدين.

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ..)

قال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61].

فقوله: تَبَارَكَ [الفرقان:61]، أي: كثرت بركته، وكثر خيره، وتمجد وتعالى سبحانه، الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان:61]، يعني: جعل في السماء النجوم والكواكب والمجرات، وفيها خلق لله سبحانه أعظم من هذا الإنسان الضعيف، وهذه الكائنات التي خلقها الله سبحانه تسجد له، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فتبارك الله سبحانه الذي جعل في السماء بروجاً وهي منازل النجوم، ومنازل الكواكب.

وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا [الفرقان:61]، وهي الشمس، وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61]، وهذه قراءة الجمهور: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا [الفرقان:61] على التوحيد ومعناها: الشمس، وقراءة حمزة والكسائي وخلف : (وجعل فيها سُرُجاً وقمراً منيراً) فليست شمساً واحدة ولكن شموس، ولكنكم لا ترون كل هذه الشموس التي خلقها الله عز وجل، فالله جعل شموساً وجعل أقماراً، وجعل مجرات فيها كواكب ونجوم وشموس، وجعل فيها ما يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل هذه الأشياء تسجد له، وتطيعه ولا تعصي الله أبداً، ولكن المشرك ينفر من طاعة الله سبحانه، ويأبى ويرفض!

هذا الكون كله يطيع ربنا سبحانه، فلما ذكر الله أن الكافر أعرض ونفر وبعد عن الطاعة؛ ذكر أن الشمس والقمر والبروج كلها تطيع رب العالمين سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل خلقه يطيعونه كما يشاء سبحانه، وإذا أبى الإنسان فقد قال لنا ربنا سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18]، يعني: الكثير يدخلون في دين الله عز وجل، وكثيرون آخرون لا يدخلون في دين الله ويعصون ربهم سبحانه، فالمؤمنون أطاعوا الله مع باقي خلق الله سبحانه، فصار الكون موافقاً في طاعة الله سبحانه، والمؤمن مع هذا الكون المطيع، فانظر المؤمن يسجد لله، والشمس والقمر والجبال والنجوم والبحار والأشجار كل شيء يسجد لله سبحانه ويطيعه وينفذ أمره سبحانه وتعالى.

قال: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61] ، والبرج هو: المنزل الذي ينزل فيه القمر، وتنزل الشمس في هذه المنزلة في كل ثلاثة عشر يوماً، فهذه منازل الشمس ومنازل القمر.

قال: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61]، وصف القمر بأنه منير، وما قال: وقمراً مضيئاً، وفرق بين الإنارة والإضاءة: فالإضاءة تحتاج إلى إشعال وفيها احتراق، وفيها نار، أما الإنارة فلا تحتاج إلى ذلك، فالشمس تضيء والقمر ينير، فالقمر مظلم ولكن ضوء الشمس ينير الأرض ويضيء القمر؛ ولذلك قال الله سبحانه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء:12] ، فالله جعل الليل آية، وجعل النهار آية، وجعل آية النهار الشمس ترونها، وجعل آية الليل القمر، قال: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [الإسراء:12] ، يعني محا من القمر نوره، وعلماء الفلك يقولون: كان القمر يوماً من الأيام مشتعلاً متوهجاً كالشمس، قالوا ذلك الآن، وقالها قبلهم ابن عباس قبل ألف وأربعمائة سنة، قال ذلك مفسراً هذه الآية يقول: كان القمر مضيئاً كالشمس فمحا الله عز وجل النور الذي كان فيه، قال الله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، بينة مضيئة يراها كل ذي عينين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر آيتان من آيات الله سبحانه وتعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ، فهما يسجدان لله سبحانه، ويطيعان الله سبحانه وتعالى، فالشمس والقمر والمجرة وأصغر الأشياء وأكبر الأشياء وكل المخلوقات تطيع ربها سبحانه، والإنسان الكافر يطيع الله إذا أجبره الله سبحانه وتعالى بقضائه وقدره، وإذا جاء الاختيار فكثيرون يطيعون، وكثيرون يعصون الله سبحانه، ولن يفروا من قضائه وقدره سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله طاعة الشمس والقمر بعد ذكر نفور هؤلاء ليبين طاعة الكائنات لله سبحانه، فكل شيء في الكون يطيع ربه ويصرفه كما يشاء، والذي ينظر في آيات الله سبحانه وتعالى وفي علم الفلك وما يذكره العلماء في ذلك يعلم أن منظومة الكون كلها على نظام وقانون سنه الله عز وجل لها لا تشذ عنه أبداً، ويوافقها في ذلك المؤمنون فقط، فالمؤمن يطيع الله عز وجل ويسجد لله سبحانه وتعالى مختاراً طائعاً مريداً لذلك، والشمس والقمر والنجوم والأفلاك وكل شيء يجري لمستقر له إلى قضائه وقدره الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، وتجد الأرض تدور ولا تخرج عن مدارها أبداً، ولا تغير اتجاهها أبداً، وتدور من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، والشمس كذلك تجري، والأرض تدور على الشمس بهذه الطريقة عكس عقارب الساعة، والمجموعة الشمسية كلها تدور حول نفسها وحول المجرة بنفس هذه الطريقة، والمجرة نفسها تدور في الكون بنفس هذه الطريقة، منظومة عجيبة جداً! كل الكون من أكبر شيء إلى أصغر شيء حتى الذرة الصغيرة لها نواة حولها الإلكترونات تدور حولها عكس عقارب الساعة من الشمال إلى اليمين، مثل المجرة تدور بهذه الطريقة من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، ويوافقهم في هذا الدوران المسلمون وهم يطوفون حول الكعبة، فهم يدورون عكس عقارب الساعة!

قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] .

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الفرقان [60 - 61] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net