إسلام ويب

إن الدعاة إلى الله وعلى رأسهم أنبياء الله لا يأخذون على دعوتهم أجراً ولا يسألونه، فمن العجب أن يتنكر الناس لدعوتهم، كيف لا وهم يدعون إلى صراط رب العالمين، ومن ثم يعرض عنهم المعرضون الذين لم يؤمنوا بالآخرة، الذين علم الله أنهم قد استحقوا العذاب الأليم في الآخرة، بل قد أصابهم بشيء من ذلك في الدنيا فلم يرتدعوا عن غيهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم.

تفسير قوله تعالى: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

ثم أما بعد:

قال الله عز وجل في سورة المؤمنون:

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [المؤمنون:72-80].

في هذه الآيات من سورة المؤمنون يخبر الله سبحانه وتعالى أنه أتى عباده بهذا الحق العظيم من عنده، قال سبحانه: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون:70] يريد بالحق في الآية: القرآن العظيم، إلا أن أكثرهم عن القرآن معرضون كراهية له.

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ...)

وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، ذكرنا أن الله عز وجل أنزل هذا القرآن بالحق، فيه الشريعة وفيه المنهج وفيه البيان، وفيه إرشاد القوم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم كانوا يحبون الابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به من حق من عند رب العالمين، فقالوا كما حكى الله عنهم في سورة ص: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فتعجبوا من غير عجب، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم من غير سبب، ولكن كان الهوى في أنفسهم هو الذي يدفعهم إلى ذلك؛ لأنهم لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فسيتركون الرئاسة التي هم فيها، ولأن كل إنسان يريد إتباع نفسه هواها يظن أنه لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تنازل عما كان عليه، وذلك لأن عقولهم بعدت عن ربهم سبحانه وتعالى، فتجدهم يقولون ما لا يعرفون، ويتكلمون بأشياء مفتراة، ومن ثم عندما يسلمون بعد ذلك يتبين لهم ما كانوا فيه من باطل، فتجد من يدخل الإسلام منهم يعجب من نفسه: كيف كان يعبد غير الله سبحانه! وكيف كان يتعجب من النبي صلى الله عليه وسلم! ويعلم أنه كان خليقاً به أن يتعجب من نفسه في إنكاره على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم، قال سبحانه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فتجد أن الأبصار لا ترى الحجج، وأن القلوب لا تعقل ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما جاءهم الحق كرهوه حسداً وبغياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقلد بعضهم بعضاً، وطلبوا أن يكون هذا الذي يأتي به القرآن مثل الذي هم عليه، وأرادوا وقوع الشرك في هذا القرآن.

قال سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، أي: لو كان الأمر بحسب أهواء هؤلاء، فإن أهواءهم متباينة ومتعارضة، وكل منهم يشتهي شيئاً قد لا يشتهيه الآخر ولا يطلبه، فلو نزل القرآن على ما يشتهيه هؤلاء فستفسد السماوات والأرض، ولأن كل شيء قام بالعدل، فلو نزل القرآن بالهوى الذي هم عليه لجاء بالباطل، وحاشا لكلام الله عز وجل أن يكون فيه باطل.

قال سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، ولكن الوقع أنها لم تفسد السماوات ولا الأرض ولا من فيهن، فعلى ذلك ما يقول هؤلاء هو الباطل، فأما القرآن فلم يأت إلا بالحق؛ لأنه لو جاء بباطل لفسدت السماوت والأرض ومن فيهن.

إن التذكير مهمة القرآن،إذ إنه كتاب ذكر، قال تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71]، أي: أتيناهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه الذكر، وفيه شرف لهؤلاء لو أنهم اتبعوه، ولكنهم أعرضوا فأنى لهم الشرف.

قال تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، أي: هم عن شرفهم المنوط باتباع هذا القرآن قد أعرضوا، كما هم عن ذكر الله سبحانه وتعالى معرضون، وإعراضهم ليس بسبب أنك أثقلت عليهم أجر دعوتك فأنت لم تسألهم مالاً على دعوتك، قال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72]، (أم) هي المنقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أتسألهم خرجاً؟ والخرج هو الرزق.

وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] أي: قل لهم يا محمد: لا أريد منكم أجراً ولا رزقاً، وإنما أطلب منكم أن تراعوني في قرابتي، فتدركوا أن بيني وبينكم قرابة ورحماً فارعوا هذه الرحم، ولا تؤذوني، ودعوني أبلغ رسالة الله سبحانه، أما الخراج فإن ربي قد أغناني.

تفسير قوله تعالى: (... بل أتيناهم بذكرهم ...)

قال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] أي: رزق ربك خير وأبقى، فأنت لا تنتظر إلا الأجر من الله فإنه: هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72].

و(خرج) و(خراج) فيها للقراء ثلاث قراءات:

قراءة الجمهور منهم: المدنيون نافع وأبو جعفر ، والبصريون: يعقوب وأبو عمرو وابن كثير المكي وكذلك عاصم الكوفي يقرءونها: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين).

وقرأها ابن عامر : (أم تسألهم خرجاً فخرج ربك خير وهو خير الرازقين).

وقراءة باقي القراء وهم: حمزة والكسائي وخلف : (أم تسألهم خراجاً فخراج ربك خير).

والخرج والخراج بمعنى: الرزق، وبمعنى المال، وبمعنى الأجر من هؤلاء، وإن فرق البعض بينهما، كما فرق أبو عمرو بن العلاء في المعنى فقال: الخرج: ما لم يلزم من النفقة، أي: ما كان من الصدقة، والخراج: ما يلزمك من النفقة ومن الصدقة، وعلى المعنيين سيكون معنى الآية: هل تسألهم خرجاً، أو هل تسألهم خراجاً، أي: هل تسألهم شيئاً لزمهم؟! فأنت لم تسألهم شيئاً، لا شيئاً على وجه اللزوم، ولا شيئاً على وجه التطوع منهم؛ لأنك لم تسألهم أجراً أصلاً؛ إذ إنك تطلب من الله سبحانه وتعالى الأجر، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72].

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)

قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، في هذه الآية بيان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يدعو هؤلاء بل ويدعو العالمين جميعهم إلى الدين القويم وإلى الصراط المستقيم، الطريق القيم العظيم، والصراط: هو طريق رب العالمين سبحانه وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى جنة رب العالمين، ولا ينحرف بصاحبه يميناً ولا شمالاً كالطرق المنحرفة التي تقود أصحابها إلى النار.

وفي قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73] قراءات، وهذه القراءات هي ذاتها التي في سورة الفاتحة وقد تقدمت، ولمزيد بيان فإنها كالتالي: (إلى صراط) و(إلى سراط) و(إلى زراط مستقيم)، فيقرؤها بالسين قنبل عن ابن كثير ويقرؤها أيضاً رويس عن يعقوب فتكون: (إلى سراط مستقيم).

ويقرؤها جمهور القراء: (إلى صراط مستقيم) بالصاد.

ويقرؤها خلف وخلاد بالإشمام، ومعنى الإشمام: أن يشابه الصاد الزاي في النطق به، فيصبح كأنه يشبه حرف الزاي فيها لتكون: (إلى زراط مستقيم).

والمعنى واحد على اختلاف القراءات، فالصراط: الطريق، والمعنى: إلى طريق مستقيم.

تفسير قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)

قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، وهذه الآية فيها قراءات، وإن وجد خلاف فيها لـخلاد عن حمزة في الإشمام، فسيكون فيها قراءة السين: سراط، وصراط، والإشمام بالزاي، أما معنى قوله سبحانه: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74] أي: عن طريق رب العالمين متنكبين راجعين القهقرى، مولين ظهورهم لطريق رب العالمين سبحانه، ومعنى النكوب: من نكب الطريق نكوباً إذا عدل عن الطريق ومال عنها إلى غيرها، وإليه نسبت الريح إذا خرجت عن مجرى ورجعت إلى مجرى آخر، ومعنى الآية: أن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن طريق رب العالمين متنكبون، أي: مائلون زائغون أو مرتدون راجعون عن طريق رب العالمين، وهم بذلك إنما يتبعون أهواءهم.

تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ...)

قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] أي: بعد أن مات المعرضون عن طريق رب العالمين وأدخلهم الله رب العالمين نار جهنم والعياذ بالله، يتضرعون لله أن يعودوا إلى الدنيا، ولأن الله يعلم أنهم حتى ولو عادوا فلن يؤمنوا فقد قال سبحانه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] والمعنى: أن الله عز وجل علم من هؤلاء أنهم لا يؤمنون، وأنهم ينتفعون بدعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام حين يدعوهم إلى رب العالمين، فلو أنهم بعد الممات ردوا إلى الدنيا مرة أخرى فسيرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل، فقد علم الله عز وجل ما هم عاملون، قال سبحانه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، واللج: التمادي، ومعنى قوله: (للجوا في طغيانهم) أي: لتمادوا في طغيانهم، والطغيان: مجاوزة الحد، فمعنى: طغى الإنسان أي: جاوز حده، وعليه فسيكون معنى الآية: (للجوا في طغيانهم) أي: علو واستكبروا وتمادوا في ضلالهم، وقوله: يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] أي: يتذبذبون ويتخبطون، ومنه العمى -عمى البصر- فإن الأعمى حين يمشي فإنه لا يعرف طريقه إلا أن يقوده إنسان، والعمه أشد من ذلك؛ لأنه يشمل عمى قلب الإنسان، ولذا فإن المصابين بالعمه متذبذبون متحيرون، فقد أعميت قلوبهم فهم لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون طريقاً ولا يهتدون إلى سبيل.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب...)

تقدم قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ [المؤمنون:75] أي: من عذاب الآخرة، إلا أنهم قد استحقوا عذاب الآخرة، ولكن الله قبل ذلك قد أذاقهم شيئاً من العذاب في الدنيا، ثم كشفه عنهم، ولذا قال مذكراً: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ [المؤمنون:76] أي: أخذناهم بالعذاب الدنيوي، فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، أي: لم يخضعوا لرب العالمين، ولم يتضرعوا ولم يخشعوا لله، ولم يرجعوا إلى طريق رب العالمين سبحانه.

جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في قصة ثمامه بن أثال، فإنه لما أسرته سرية النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وكان ثمامة من اليمامة، وهي على طريق قريش فأخذ على نفسه عهداً ألا يأخذ الكفار من أرضهم شيئاً لا غلالاً ولا شعيراً ولا غيرها إلا أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم حقق عهده ومنع كفار مكة من الحبوب.

قال ابن عباس رضي الله عنه: وأخذ الله قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ إذ أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الله سبحانه وتعالى على قريش بأن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف، ولم يكن دعاؤه من أجل تعذيبهم فحسب؛ بل أيضاً من أجل أن يتأدب هؤلاء ولعلهم يرجعون عن غيهم، فكان هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ [المؤمنون:76]، فجاعوا وعطشوا، واشتد عليهم الحر حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز، وقد سئل ابن عباس: ما العلهز؟ قال: كانوا يأكلون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه. وإنما أكلوا هذا الشيء على خسته من شدة الجوع.

فقال أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله والرحم أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى. قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع، فنزل قول الله عز وجل: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75])، وجاءت روايات أخرى بمثل هذا المعنى، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فاستجاب الله سبحانه، وجعل عليهم أياماً فيها قحط شديد، فجاعوا حتى أكلوا الميتة والكلاب والجلود والعلهز، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ادع ربك أن يكشف عنا. فدعا لهم الله سبحانه وتعالى، فلما كشف عنهم ذلك تمادوا في غيهم، ولم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى بهؤلاء وقد عرفوا أنه دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم، ودعا لهم صلى الله عليه وسلم فانكشف عنهم ما هم فيه، كان الأولى أن يؤمنوا، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك علم الله عز وجل أن هؤلاء لا يستحقون إلا الجزاء الذي استحقه من مات منهم على الكفر، وهو أن يدخلوا نار جهنم ولا يرجعون إلى الدنيا مرة أخرى.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد ...)

الأصل في الإنسان الذي يبتليه الله سبحانه وتعالى بشيء من المصائب في العادة أن يستكين لله سبحانه، ويتضرع له، أما أن يبتليه بالمصائب في الدنيا ويضل على عجرفته وبعده عن الله سبحانه، فهذا يستحق أن يقصمه الله، ولذا قال سبحانه: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77].

أي: إذا جاءهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى سواء بالقتل أو بالموت والرجوع إلى رب العالمين أو عذاب يوم القيامة، سترى أنهم إذا جاءهم هذا العذاب سيبلسون، قال تعالى: إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، أبلس الإنسان، أي: يئس من الرحمة، وتحير في مكانه لا يدري ما الذي يصنعه، فالمبلس: المتحير اليائس، فهؤلاء ييئسون وهم في نار جهنم والعياذ بالله من الرحمة، وخاصة إذا نادوا ربهم سبحانه بالرجوع، فقال: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].

وقد جاء في تفسر الباب الذي يفتح عليهم بالعذاب المذكور في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ [المؤمنون:77] أثر عن عكرمة أنه قال هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ...)

قال سبحانه مذكراً بنعمه: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78].

قوله: أَنشَأَ لَكُمُ [المؤمنون:78] أي: خلق لكم سبحانه، السَّمْعَ [المؤمنون:78] أي: جعلكم تسمعون، وَالأَبْصَارَ [المؤمنون:78] أي: جعلكم تبصرون وتنظرون، وَالأَفْئِدَةَ [المؤمنون:78] أي: جعل فيكم قلوباً تعقلون بها، ومع ذلك القليل من يشكر قال سبحانه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78].

وحري بكل إنسان أن ينظر إلى هذه النعم وينظر إلى مدى شكره لربه، وهل هو من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل أنهم: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78] ؟ أم أنه ممن يشكر نعم الله سبحانه وتعالى عليه؟

والحق أن نعم الله لا تحصى، ومن نعمه سبحانه على الإنسان أنه يعقل، فلم يجعله مجنوناً، وجعل الإنسان ينظر ولو شاء لجعله أعمى، وجعله سميعاً يسمع ولو شاء لجعله أصم، فهذه من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فهل يشكر ربه أم ينسى هذه النعم؟ بل لعله يستغل هذه النعم في غير ما خلقها الله عز وجل له، كأن يوجه سمعه إلى الغيبة والنميمة.. وإلى غير ذلك مما حرم الله سبحانه، ويوجه بصره إلى النظر إلى ما لا يحل له، ويوجه قلبه إلى التشكك وإلى الشهوات وإلى الشبهات، بل يجب على الإنسان أن يشكر نعم الله عز وجل عليه، فيستخدم هذه النعم فيما أحل الله سبحانه وتعالى، ويديم شكر ربه ليل نهار على ما أعطاه من السمع والأبصار ومن الأفئدة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت...)

قال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80]، من نعم الله سبحانه وتعالى العظيمة على العباد: أنه هو الذي خلقهم وأحياهم ليبتليهم، ثم يميتهم ليأجر المؤمنين الأجر الحسن ويدخلهم الجنة، ويحاسب الكفار والمفسدين ويدخلهم النار.

ومن نعمه كذلك الليل والنهار، قال سبحانه: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[المؤمنون:80]، فقد خلق الله الليل والنهار، ويملك سبحانه وتعالى ما في الليل وما في النهار، وكل ما يأتي عليه الليل والنهار، ومعنى اختلاف الليل والنهار: أن هذا مختلف عن هذا، فالنهار فيه نور، والليل فيه ظلمة، والليل يكون بارداً، والنهار يكون حاراً، وقد يفسر اختلافهما كذلك بالزيادة والنقصان، وقد يفسر كذلك بالتكرار، تقول: اختلفت في شيء: تكرر مني الذهاب إليه.

وقد فسر قوله تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[المؤمنون:80] بتواصل الليل والنهار خلف بعضهما بعض حتى يأتي يوم القيامة، وفسرت الآية أيضاً: بأن له ما مضى فيهما من سعادة الناس ومن شقاوة آخرين.

ثم أنكر عليهم عدم الاعتبار بآياته فقال: أَفَلا تَعْقِلُونَ[المؤمنون:80]، فقد جعل لكم الحواس التي تعقلون بها، وجعل لكم آيات في الكون فهل تعتبرون بذلك؟ إذ إن من اعتبر فقد عرف الله سبحانه وتعالى وعبده، فيذكره ويشكره، ومن لم يعتبر فذاك الشقي الذي كتبت عليه الشقاوة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون [70 - 80] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net